فصل: تفسير الآيات (18- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (18- 19):

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله} الكلامُ في إيراد صيغةِ الجمعِ كما مر فيما مر، خلا أن إرادةَ جميعِ المساجدِ وإدراجَ الحرامِ في ذلك غيرُ مخالفةٍ لمقتضى الحال، فإن الإيجابَ ليس كالسلب وقد قرئ بالإفراد أيضاً والمرادُ هاهنا أيضاً قصرُ تحققِ العِمارةِ ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارةً يُعتدّ بها {مَنْ ءامَنَ بالله} وحده {واليوم الاخر} بما فيه من البعد والحساب والجزاءِ حسبما نطَق به الوحيُ {وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} على ما علم من الدين فيندرجُ فيه الإيمانُ بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم حتماً وقيل: هو مندرجٌ تحت الإيمانِ بالله خاصةً فإن أحدَ جُزْأي كلمتي الشهادة علمٌ للكل أي إنما يعمُرها مَنْ جمع هذه الكمالاتِ العلميةَ والعمليةَ، والمرادُ بالعمارة ما يعم مَرَمَّةَ ما استرمّ منها وقمُّها وتنظيفُها وتزيينُها بالفُرُش وتنويرُها بالسُّرُج وإدامةُ العبادة والذكرُ ودراسةُ العلوم فيها ونحوُ ذلك وصيانتُها مما لم تُبنَ له كحديث الدنيا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحديثُ في المسجد يأكلُ الحسناتِ كما تأكل البهيمةُ الحشيش» وقال عليه الصلاة والسلام: «قال الله تعالى: إن بيوتي في أرضي المساجدُ وإن زوّاري فيها عُمّارُها فطوبي لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المَزورِ أن يكرم زائرِه» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من ألِفَ المسجدَ ألِفَه الله تعالى» وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المساجدَ فاشهدوا له بالإيمان» وعن أنس رضى الله عنه: «من أسرج في مسجد سِراجاً لم تزل الملائكةُ وحملةُ العرشِ تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤُه» {وَلَمْ يَخْشَ} في أمور الدين {إِلاَّ الله} فعمِل بموجب أمرِه ونهيه غيرَ آخذٍ له في الله لومةُ لائمٍ ولا خشيةُ ظالم فيندرج فيه عدمُ الخشية عن القتال ونحوُ ذلك، وأما الخوفُ الجِبِليُّ من الأمور المَخوفةِ فليس من هذا الباب ولا مما يدخُل تحت التكليفِ والخطاب، وقيل: كانوا يخشَوْن الأصنام ويرجونها فأريد نفيُ تلك الخشيةِ عنهم {فعسى أُوْلَئِكَ} المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة {أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} إلى مباغيهم من الجنة وما فيها من فنون المطالبِ العليةِ، وإبرازُ اهتدائِهم مع ما بهم من الصفات السنيةِ في معرِض التوقعِ لقطع أطماعِ الكفرةِ عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاعِ بأعمالهم التي يحسَبون أنهم في ذلك محسنون، ولتوبيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون، فإن المؤمنين مع ما بهم من هذه الكمالاتِ، إذا كان أمرُهم دائراً بين لعل وعسى فما بالُ الكفرة وهم هُمْ، وأعمالهم أعمالُهم وفيه لطفٌ للمؤمنين وترغيبٌ لهم في ترجيح جانبِ الخوفِ على جانب الرجاءِ ورفض الاعتذار بالله تعالى.
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} أي في الفضيلة وعلوِّ الدرجة {كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر وجاهد فِي سَبِيلِ الله} السقايةُ والعِمارةُ مصدران لا يتصور تشبيهُهما بالأعيان فلابد من تقدير مضافٍ في أحد الجانبين أي أجعلتم أهلَهما كمن آمن بالله الخ، ويؤيده قراءةُ من قرأ {سُقاةَ الحاجِّ} و{عُمرةَ المسجد الحرام} أو أجعلتموهما كإيمان من آمن الخ، وعلى التقديرين فالخطابُ إما للمشركين على طريقة الالتفاتِ وهو المتبادر من تخصيص ذكرِ الإيمانِ بجانب المشبَّهِ به، وإما لبعض المؤمنين المؤثِرين للسقاية والعِمارةِ ونحوِهما على الهجرة والجهادِ ونظائرِهما وهو المناسبُ للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدمِ مساواتِهم عند الله للفريق الثاني وبيانِ أعظميةِ درجتِهم عند الله تعالى على وجه يُشعر بعدم حِرمانِ الأوّلين بالكلية، وجعلُ معنى التفضيلِ بالنسبة إلى زعم الكفرةِ لا يُجدي كثيرَ نفعٍ لأنه إن لم يُشعِرْ بعدم الحِرمانِ فليس بمُشعر بالحِرمان أيضاً أما على الأول فهو توبيخٌ للمشركين ومدارُه على إنكار تشبيهِ أنفسِهم من حيث اتصافُهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظرِ عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافُهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكار تشبيهِ وصفيهم المذكورين في حد ذاتِهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهادِ، وأما اعتبارُ مقارنتِهما له كما قيل فيأباه المقامُ، كيف لا وقد بيِّن آنفاً حبوطُ أعمالِهم بذلك الاعتبارِ بالمرة وكونُها بمنزلة العدم، فتوبيخُهم بعد ذلك على تشبيههما بالإيمان والجهادِ ثم رَدُّ ذلك بما يُشعر بعدم حِرمانِهم عن أصل الفضيلة بالكلية كما أشير إليه، مما لا يساعده النظمُ التنزيليُّ ولو اعتُبر ذلك لما احتيج إلى تقرير إنكارِ التشبيهِ وتأكيدِه بشيء آخرَ إذ لا شيءَ أظهرُ بطلاناً من تشبيه المعدومِ بالموجود، فالمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ في الفضيلة كمن آمن بالله واليومِ الآخرِ وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهادِ وشتانَ بينهما فإن السقايةَ والعمارةَ وإن كانتا في أنفسِهما من أعمال البرِّ والخيرِ لكنهما وإن خَلَتا عن القوادح بمعزل عن صلاحيةِ أن يُشبَّه أهلُهما بأهل الإيمان والجهادِ أو يُشَّبهَ أنفسُهما بنفس الإيمان والجهادِ، وذلك قوله عز وجل: {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي لا يساوي الفريقُ الأول الثانيَ من حيث اتصافُ كلَ منهما بوصفيهما ومن ضرورته عدمُ التساوي بين الوصفَين الأولين وبين الآخَرَين لأنه المدارَ في التفاوت بين الموصوفَين، وإسنادُ عدمِ الاستواءِ إلى الموصوفين، لأن الأهمَّ بيانُ تفاوتِهم، وتوجيهُ النفي هاهنا والإنكارُ فيما سلف إلى الاستواء والتشبيهِ مع أن دعوى المفتخِرين بالسقاية والعمارةِ من المشركين والمؤمنين إنما هي الأفضليةُ دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفيَ التساوي والتشابهِ نفيٌ للأفضلية بالطريق الأولى، والجملةُ استئنافٌ لتقرير الإنكارِ المذكورِ وتأكيدِه، أو حال من مفعولي الجَعل، والرابطُ هو الضميرُ كأنه قيل: أسوَّيتم بينهم حال كونِهم متفاوتين عنده تعالى وقوله تعالى: {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} حُكمٌ عليهم بأنهم مع ظلمهم بالإشراك ومعاداةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ضالون في هذا الجعلِ غيرُ مهتدين إلى طريق معرفةِ الحقِّ وتمييزِ الراجحِ من المرجوح، وظالمون بوضع كلَ منهما موضعَ الآخَر وفيه زيادةُ تقريرٍ لعدم التساوي بينهم.

.تفسير الآية رقم (20):

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
وقوله تعالى: {الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} استئنافٌ لبيان مراتبِ فضلِهم إثرَ بيانِ عدمِ الاستواءِ وضلالِ المشركين وظلمِهم. وزيادةُ الهجرةِ وتفصيلُ نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهادِ لا أنه اعتُبر بطريق التدارك أمراً لم يُعتبر فيما سلف أي هم باعتبار اتصافِهم بهذه الأوصافِ الجميلة {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} أي أعلى رتبةً وأكثرَ كرامةً ممن لم يتصف بها كائناً مَنْ كان وإن حاز جميعَ ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقايةُ والعمارة {وَأُوْلئِكَ} أي المنعوتون بتلك النعوتِ الفاضلةِ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتِهم في الرفعة {هُمُ الفائزون} المختصون بالفوز العظيمِ أو بالفوز المطلقِ كأن فوزَ مَنْ عداهم ليس بفوزٍ بالنسبة إلى فوزهم، وأما على الثاني فهو توبيخٌ لمن يؤثِر السِّقايةَ والعِمارةَ من المؤمنين على الهجرة والجهاد، روي أن علياً قال للعباس رضي الله عنهما بعد إسلامِه: يا عمّ ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألستُ في أفضلَ من الهجرة أَسقي حاجَّ بيتِ الله وأعمُر المسجدَ الحرام؟ فلما نزلت قال: ما أُراني إلا تاركَ سقايتِنا فقال عليه السلام: «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً» وروى النعمانُ بن بشير قال: كنت عند منبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ: ما أبالي ألا أعملَ عملاً بعد أن أسقي الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أبالي ألا أعملَ عملاً بعد أن أعمُرَ المسجدَ الحرام، وقال آخرُ: الجهادُ في سبيل الله أفضلُ مما قلتم، فزجرهم عمرُ رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتَكم عند منبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليتم استفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه فدخل فأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ، والمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ من المؤمنين في الفضيلة والرفعةِ كمن آمن بالله واليومِ الآخر وجاهد في سبيله، أو أجعلتموهما كالإيمان والجهادِ، وإنما لم يُذكر الإيمانُ في جانب المشبَّه مع كونه معتبَراً فيه قطعاً تعويلاً على ظهور الأمرِ وإشعاراً بأن مدارَ إنكارِ التشبيه هو السقايةُ والعمارةُ دون الإيمانِ وإنما لم يُترك ذكرُه في جانب المشبَّه به أيضاً تقويةً للإنكار وتذكيراً لأسباب الرجحانِ ومبادئ الأفضلية وإيذاناً بكمال التلازمِ بين الإيمان وما تلاه، ومعنى عدمِ الاستواء عند الله تعالى على هذا التقدير ظاهرٌ وكذا أعظميةُ درجةِ الفريقِ الثاني، وأما قوله تعالى: {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} فالمرادُ به عدمُ هدايتِه تعالى إلى معرفة الراجحِ من المرجوح وظلمُهم بوضع كل منهما موضعَ الآخر لا عدمُ الهدايةِ مطلقاً ولا الظلمُ عموماً، والقصرُ في قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون} بالنسبة إلى درجة الفريقِ الثاني، أو إلى الفوز المطلق ادعاءٌ كما مر والله أعلم.

.تفسير الآيات (21- 22):

{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}
{يُبَشّرُهُمْ} وقرئ بالتخفيف {رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ} عظيمة {مّنْهُ ورضوان} كبير {وجنات} عاليةٍ {لَّهُمْ فِيهَا} في تلك الجنات {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} نِعمٌ لا نفادَ لها، وفي التعُّرض لعنوان الربوبيةِ تأكيدٌ للمبشَّر به وتربيةٌ له {خالدين فِيهَا} أي في الجنات {أَبَدًا} تأكيدٌ للخلود لزيادة توضيحِ المرادِ به إذ قد يُراد به المُكث الطويل {إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لا قدرَ عنده لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته، والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً لما سبق.

.تفسير الآيات (23- 24):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء} نهيٌ لكل فردٍ من أفراد المخاطَبين عن موالاة فردٍ من المشركين بقضية مقابلةِ الجمعِ بالجمع الموجبةِ لانقسام الآحادِ إلى الآحاد كما في قوله عز وجل: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} لا عن موالاة طائفةٍ منهم فإن ذلك مفهومٌ من النظم دِلالةً لا عبارةً والآية نزلت في المهاجرين فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا: إنْ هاجرنا قطَعْنا آباءَنا وأبناءَنا وعشيرتَنا وذهبت تجارتُنا وهلكتْ أموالُنا وخَرِبَتْ ديارُنا وبقِينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجلُ يأتيه ابنُه أو أبوه أو أخوه أو بعضُ أقاربه فلا يلتفت إليه ولا يُنزِله ولا يُنفق عليه ثم رُخِّصَ لهم في ذلك. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحِقوا بمكةَ نهياً عن موالاتهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يطعَمُ أحدُكم طعمَ الإيمانِ حتى يُحب في الله أبعدَ الناس منه ويُبغضَ في الله أقربَ الناس إليه» {إِنِ استحبوا الكفر} أي اختاروه {عَلَى الإيمان} وأصرّوا عليه إصراراً لا يُرجى معه الإقلاعُ عنه أصلاً، وتعليقُ النهي عن الموالاة بذلك لما أنها قبلَ ذلك ربما تؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورِهم بمحاسن الدين {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} أي واحداً منهم كما أشير إليه، وإفرادُ الضميرِ في الفعل لمراعاة لفظِ الموصولِ وللإيذان باستقلال كلِّ واحدٍ منهم في الاتصاف بالظلمِ لا أن المرادَ تولي فردٍ واحدٍ، وكلمةُ مِنْ في قوله تعالى: {مّنكُمْ} للجنس لا للتبعيض {فَأُوْلَئِكَ} أي أولئك المتولّون {هُمُ الظالمون} بوضعهم الموالاةَ في غير موضعِها كأنّ ظلمَ غيرِهم كلا ظلمٍ عند ظلمِهم.
{قُلْ} تلوين للخطاب وأمرٌ له عليه الصلاة والسلام بأن يُثبِّت المؤمنين ويقوّيَ عزائمَهم على الانتهاء عما نُهوا عنه من موالاة الآباءِ والإخوانِ ويزهِّدَهم فيهم وفيمن يجري مجراهم من الأبناء والأزواج ويقطعَ علائقَهم عن زخارف الدنيا وزينتِها على وجه التوبيخ والترهيب {إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وَأَزْوَاجُكُم} لم يُذكر الأبناءُ والأزواجُ فيما سلف لأن موالاةَ الأبناءِ والأزواجِ غيرُ معتادةٍ بخلاف المحبة {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي أقرباؤُكم مأخوذ من العِشرة أي الصحبة وقيل: من العشَرة فإنهم جماعةٌ ترجِع إلى عَقد كعقد العشرة، وقرئ {عشيراتكم} و{عشائرُكم} {وأموال اقترفتموها} أي اكتسبتموها وإنما وصفت بذلك إيماءً إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين {وتجارة} أي أمتعةٌ اشتريتموها للتجارة والربح {تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} بفوات وقتِ رواجِها بغَيْبتكم عن مكةَ المعظمةِ في أيام الموسم {ومساكن تَرْضَوْنَهَا} أي منازلُ تعجبكم الإقامةُ فيها من الدور والبساتينِ، والتعرُّضُ للصفات المذكورة للإيذان بأن اللومَ على محبة ما ذكر من زينة الحياةِ الدنيا ليس لتناسي ما فيها من مبادي المحبة وموجباتِ الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسنِ بمعزل عن أن يُؤثَرَ حبُّها على حبه تعالى وحبِّ رسولِه عليه الصلاة والسلام كما في قوله عز وجل: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وعدمُ المفارقةِ لا الحُبُّ الجِبِليُّ الذي لا يخلو عنه البشرُ فإنه غيرُ داخلٍ تحت التكليفِ الدائرِ على الطاقة.
{وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} نُظم حبُّه في سلك حبِّ الله عز وجل وحبِّ رسولِه صلى الله عليه وسلم تنويهاً لشأنه وتنبيهاً على أنه مما يجب أن يُحَبَّ فضلاً عن أن يُكرَه وإيذاناً بأن محبتَه راجعةٌ إلى محبتهما فإن الجهادَ عبارةٌ عن قتال أعدائِهما لأجل عداوتِهم فمَن يحبُّهما يجب أن يحِبَّ قتالَ من لا يحبُّهما {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه فتحُ مكةَ وقيل: هي عقوبةٌ عاجلةٌ أو آجلة {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين أو القومَ الفاسقين كافةً فيدخل في زمرتهم هؤلاءِ دخولاً أولياً، أي لا يرشدهم إلى ما هو خيرٌ لهم وفي الآية الكريمة من الوعيد ما لا يكاد يَتخلّص منه إلا من تداركه لطفٌ من ربه والله المستعان.

.تفسير الآية رقم (25):

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)}
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله} الخطابُ للمؤمنين خاصة {فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} من الحروب وهي مواقُعها ومقاماتها والمرادُ بها وقَعاتُ بدر وقُرَيظةَ والنَّضيرِ والحُدَيبية وخيبَر وفتحُ مكة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطفٌ على محل {في مواطن} بحذف المضافِ في أحدهما أي وموطنِ يوم حنين، أو في أيامِ مواطنَ كثيرةٍ ويومَ حنين ولعل التغييرَ للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثباتِ من أول الأمر وقيل: المرادُ بالموطِن الوقتُ كمقتل الحسين، وقيل: يومَ حنين منصوبٌ بمضمر معطوفٍ على نصركم أي ونصرَكم يومَ حنين.
{إِذَ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} بدلٌ من يومَ حنينٍ ولا منعَ فيه من عطفه على محل الظرفِ بناءً على أنه لم يكن في المعطوف عليه كثرةٌ ولا إعجابٌ إذ ليس من قضية العطفِ مشاركةُ المعطوفين فيما أضيف إليه المعطوفُ، أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ، وحنينٌ وادٍ بين مكةَ والطائفِ كانت فيه الوقعةُ بين المسليمن وهم اثنا عشر ألفاً، عشرةُ آلافٍ منهم ممن شهد فتحَ مكةَ من المهاجرين والأنصار وألفانِ من الطلقاء، وبين هَوازِنَ وثقيفٍ وكانوا أربعةَ آلافٍ فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب وكانوا الجمَّ الغفيرَ فلما التَقْوا قال رجلٌ من المسلمين اسمُه سلمةُ بنُ سلامةَ الأنصاري: لن نُغلَبَ اليومَ من قلة فساءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم المشركون وخلَّوا الذراريَ فأكبَّ المسلمون على الغنائم فتنادى المشركون يا حُماة السوء اذكروا الفضائحَ فتراجعوا فأدركت المسلمين كلمةُ الإعجاب فانكشفوا وذلك قوله عز وجل: {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} والإغناءُ إعطاءُ ما يُدفع به الحاجةُ أي لم تُعطِكم تلك الكثرةُ ما تدفعون به حاجتَكم شيئاً من الإغناء {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ} أي برَحْبها وسَعتها على أن {ما} مصدريةٌ والباء بمعنى مع أي لا تجِدون فيها مفرّاً تطمئنُّ إليه نفوسُكم من شدة الرعبِ ولا تثبُتون فيها كمن لا يسعه مكان {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} رُوي «أنه بلغ فَلُّهم مكةَ وبقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه إلا عمُّه العباسُ آخذاً بلجام بغلته وابنُ عمِّه أبو سفيانَ بنُ الحارث آخذاً بركابه وهو يركُض البغلةَ نحو المشركين وهو يقول: أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابنُ عبد المطلب» روي أنه عليه الصلاة والسلام «كان يحمِلُ على الكفار فيفِرُّون ثم يحمِلون عليه فيقف لهم فعلَ ذلك بضعَ عشْرَةَ مرة قال العباس: كنت أكُفَّ البغلة لئلا تُسرِعَ به نحوَ المشركين، وناهيك بهذه الواحدةِ شهادةَ صدقٍ على أنه عليه الصلاة والسلام كان في الشجاعة ورباطةِ الجأش سبّاقاً للغايات القاصيةِ وما كان ذلك إلا لكونه مؤيداً من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال: يا رب ائتني بما وعدتَني وقال للعباس وكان صيِّتاً: صِحْ بالناس فنادى الأنصارَ فخِذاً فخِذاً ثم نادى يا أصحابَ الشجرةِ يا أصحابَ سورةِ البقرة فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون: لبيك لبيك وذلك».