فصل: تفسير الآيات (32- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (32- 33):

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} إطفاءُ النار عبارةٌ عن إزالة لَهبِها الموجبةِ لزوال نورِها لا عن إزالة نورِها كما قيل، لكن لما كان الغرضُ من إطفاء نارٍ لا يراد بها إلا النورُ كالمصباح إزالةَ نورِها جُعل إطفاؤُها عبارةً عنها ثم شاع ذلك حتى كان عبارةً عن مطلق إزالةِ النور وإن كان لغير النار، والسرِّ في ذلك انحصارُ إمكانِ الإزالةِ في نورها والمرادُ بنور الله سبحانه إما حجتُه النيرةُ الدالةُ على وحدانيته وتنزُّهِه عن الشركاء والأولادِ أو القرآن العظيمِ الناطقِ بذلك أي يريد أهلُ الكتابين أن يردّوا القرآنَ ويكذِّبوه فيما نطَق به من التوحيد والتنزُّه عن الشركاء والأولادِ والشرائعِ التي من جملتها ما خالفوه من أمر الحِلِّ والحُرمة {بأفواههم} بأقاويلهم الباطلةِ الخارجةِ منها من غير أن يكونَ لها مصداقٌ تنطبقُ عليه أو أصلٌ تستند إليه حسبما حُكي عنهم. وقيل: المرادُ به نُبوةُ النبي صلى الله عليه وسلم، هذا وقد قيل: مُثِّلت حالُهم فيما ذكر بحال مَنْ يريد طمسَ نورٍ عظيم منبثَ في الآفاق بنفخة {ويأبى الله} أي لا يريد {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} بإعلاء كلمةِ التوحيدِ وإعرازِ دينِ الإسلامِ وإنما صح الاستثناءُ المفرَّغُ من الموجَب لكونه بمعنى النفي كما أشير إليه لوقوعه في مقابلة قوله تعالى: {يُرِيدُونَ} وفيه من المبالغة والدِلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادةِ، أي لا يريد شيئاً من الأشياء إلا إتمامَ نورِه فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلاً عن الإطفاء، وفي إظهار النورِ في مَقام الإضمارِ مضافاً إلى ضميره عز وجل زيادةُ اعتناءٍ بشأنه وتشريفٌ له على تشريف وإشعارٌ بعِلة الحُكم {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} جوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه، والجملةُ معطوفةٌ على جملة قبلها مقدرةٍ وكلتاهما في موقع الحال، أي لا يريد الله إلا إتمامَ نورِه لو لم يكرَهِ الكافرون ذلك ولو كرهوه، أي على كل حال مفروضٍ وقد حُذفت الأولى في الباب حذفاً مطرداً لدلالة الثانيةِ عليها دَلالةً واضحةً لأن الشيء إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في أن ولو الوصليتين من التأكيد وقد مر زيادةُ تحقيق لهذا مراراً.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ملتبساً {بالهدى} أي القرآن الذي هو هدى للمتقين {وَدِينِ الحق} الثابتِ وهو دينُ الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} أي رسولُه {عَلَى الدين كُلّهِ} أي على أهل الأديانِ كلِّهم أو ليُظهرَ الدينَ الحقِّ على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحِكمةُ، والجملةُ بيانٌ وتقريرٌ لمضمون الجملةِ السابقة، والكلامُ في قوله عز وجل: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} كما فيما سبق خلاً أن وصفَهم بالشرك بعد وصفِهم بالكفر للدلالة على أنهم ضمُّوا الكفرَ بالرسول إلى الكفر بالله.

.تفسير الآيات (34- 35):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
{يأيها الذين آمنوا} شروعٌ في بيان حال الأحبارِ والرهبانِ في إغوائهم لأراذلهم إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الأتباع في اتخاذهم {لهم} أرباباً يُطيعونهم في الأوامر والنواهي واتباعِهم لهم فيما يأتون وما يذرون {إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} يأخذونها بطريق الرِّشوةِ لتغيير الأحكامِ والشرائعِ والتخفيفِ والمسامحة فيها، وإنما عبِّر عن ذلك بالأكل بناءً على أنه معظمُ الغرَضِ منه وتقبيحاً لحالهم وتنفيراً للسامعين عنهم {وَيَصُدُّونَ} الناس {عَن سَبِيلِ الله} عن دين الإسلامِ أو عن المسلك المقرَّر في التوراة والإنجيل إلى ما افتَرَوْه وحرَّفوه بأخذ الرشا ويصُدُّون عنه بأنفسهم بأكلهم الأموالَ بالباطل {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} أي يجمعونهما ويحفَظونهما سواءٌ كان ذلك بالدفن أو بوجه آخرَ والموصولُ عبارةٌ إما عن الكثير من الأحبار والرهبانِ فيكون مبالغةً في الوصف بالحِرْص والضّنِّ بهما بعد وصفِهم بما سبق من أخذ الرشا والبراطيلِ في الأباطيل وإما عن المسلمين الكانزين غيرِ المنفقين وهو الأنسبُ بقوله عز وجل: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} فيكون نظمُهم في قَرْن المرتشين من أهل الكتابِ تغليظاً ودِلالةً على كونهم أسوةً لهم في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم، فالمرادُ بالإنفاق في سبيل الله الزكاةُ لما رُوي أنه لما نزل كبُرَ ذلك على المسلمين فذكر عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله تعالى لم يفرِض الزكاةَ إلا ليُطيِّبَ بها ما بقيَ من أموالكم» ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز» أي بكنزٍ أوُعد عليه فإن الوعيدَ عليه مع عدم الإنفاقِ فيما أمر الله بالإنفاق فيه. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ تَرَكَ صفراءَ أو بيضاءَ كُوي بها» ونحوُه فالمرادُ بها ما لم يؤدِّ حقَّها لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما من صاحب ذهبٍ ولا فضة لا يؤدّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحَتْ له صفائحُ من نار فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه» {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبرٌ للموصول والفاءُ لتضمنه معنى الشرطِ ويجوز أن يكون الموصولُ منصوباً بفعل يفسِّره فبشرهم {يَوْمَ} منصوبٌ بعذاب أليمٍ أو بمضمر يدلُّ عليه ذلك أي يعذّبون أو باذكر {يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي يوم توقد النارُ ذاتُ حَمْيٍ شديدٍ عليها، وأصلُه تُحمى النارُ فجعل الإحماءُ للنار مبالغةً ثم حُذفت النارُ وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرور تنبيهاً على المقصود فانتقل من صيغة التأنيثِ إلى التذكير كما تقول: رُفعت القصةُ إلى الأمير فإن طرحْتَ القِصةَ قلت: رُفع إلى الأمير وإنما قيل: عليها والمذكورُ شيآن لأن المرادَ بهما دنانيرُ ودراهمُ كثيرةٌ كما قال علي رضي الله عنه: أربعةُ آلافٍ وما دونها نفقةٌ، وما فوقها كنزٌ وكذا الكلام في قوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} وقيل: الضميرُ للأموال والكنوزِ فإن الحُكمِ عامٌّ وتخصيصُهما بالذكر لأنهما قانونُ التموّلِ، أو للفضة وتخصيصُها لقربها ودَلالة حكمِها على أن الذهبَ كذلك بل أولى {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} لأن جمعَهم لها وإمساكَهم كان لطلب الوجاهةِ بالغنى والتنعُّم بالمطاعم الشهيةِ والملابس البهيةِ أو لأنهم ازوَرُّوا عن السائل وأعرضوا عنه وولَّوْه ظهورَهم أو لأنها أشرفُ الأعضاءِ الظاهرةِ فإنها المشتملةُ على الأعضاء الرئيسيةِ التي هي الدماغُ والقلبُ والكبِدُ أو لأنها أصولُ الجهات الأربعةِ التي هي مقاديمُ البدن ومآخِرُه وجنباه {هذا مَا كَنَزْتُمْ} على إرادة القول {لانفُسِكُمْ} لمنفعتها فكان عينَ مَضرَّتها وسببَ تعذيبها {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي وبالَ كنزِكم أو ما تكنِزونه وقرئ بضم النون.

.تفسير الآية رقم (36):

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}
{إِنَّ عِدَّةَ الشهور} أي عددَها {عَندَ الله} أي في حكمه وهو معمولٌ لها لأنها مصدرٌ {اثنا عَشَرَ} خبرٌ لإن {شَهْراً} تمييزٌ مؤكدٌ كما في قولك: عندي من الدنانير عشرون ديناراً والمرادُ الشهورُ القمريةُ إذ عليها يدور فلكُ الأحكام الشرعية {فِى كتاب الله} في اللوحِ المحفوظِ أو فيما أثبته وأوجبه، وهو صفةُ اثنا عشر أي اثنا عشر شهراً مُثبتاً في كتاب الله، وقولُه عز وجل: {يَوْمَ خَلَقَ السموات والارض} متعلقٌ بما في الجارِّ والمجرور من معنى الاستقرار أو بالكتاب على أنه مصدرٌ والمعنى إن هذا أمرٌ ثابتٌ في نفس الأمرِ منذ خلق الله تعالى الأجرامَ والحركاتِ والأزمنة {مِنْهَا} أي من تلك الشهورِ الاثنىْ عشر {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هي ذو القَعدة وذو الحِجة والمحرَّم ورجبٌ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في خُطبته في حجة الوداع: «ألا إن الزمانَ قد استدار كهيئته يومَ خلقَ الله السمواتِ والأرضَ السنةُ اثنا عشرَ شهراً منها أربعةٌ حرُمٌ ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعدةِ وذو الحِجة والمحرَّم، ورجبُ مُضَرَ الذي بين جمادى وشعبانَ» والمعنى رجعت الأشهرُ إلى ما كانت عليه من الحِل والحُرمة وعاد الحجُّ إلى ذي الحِجّة بعد ما كانوا أزالوه عن محله بالنسيءِ الذي أحدثوه في الجاهلية وقد وافقت حَجةُ الوَداعِ ذا الحِجة، وكانت حَجةُ أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القَعدة {ذلك} أي تحريم الأشهرِ الأربعة المعينة المعدودةِ، وما في ذلك من معنى البُعد لتفخيم المشار إليه هو {الدين القيم} المستقيمُ دينُ إبراهيَم وإسماعيلَ عليهما السلام وكانت العرب قد تمسكت به وراثةً منهما وكانوا يعظّمون الأشهرَ الحرمَ ويكرهون القتال فيها حتى إنه لو لقيَ رجلٌ قاتلَ أبيه أو أخيه لم يَهِجْهُ وسمَّوا رجباً الأصمَّ ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسيء فغيروا {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} بهتك حرمتِهن وارتكابِ ما حرّم فيهن، والجمهورُ على أن حرمةَ القتال فيهن منسوخةٌ وأن الظلم ارتكابُ المعاصي فيهن فإنه أعظمُ وزراً كارتكابها في الحرَم وعن عطاء أنه لا يحِلّ للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرُم إلا أن يقاتلَوا وما نسخت ويؤيد الأولَ أنه عليه الصلاة والسلام حصرَ طائفاً وغَزَا هَوازنَ بحُنين في شوال وذي القعدة.
{وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً} أي جميعاً وهو مصدرُ كفّ عن الشيء فإن الجميع مكفوفٌ عن الزيادة وقع موقعَ الحال {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي معكم بالنصر والإمداد فيما تباشِرونه من القتال وإنما وضع المُظهرُ موضعَه مدحاً لهم بالتقوى وحثاً للقاصرين عليه وإيذاناً بأنه المدارُ في النصر وقيل: هي بشارةٌ وضمانٌ لهم بالنصرة بسبب تقواهم.

.تفسير الآية رقم (37):

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}
{إِنَّمَا النسىء} هو مصدرُ نسَأَه إذا أخَّره نسْأً ونَساءً ونسيئاً نحوُ مسَّ مسّاً ومَساساً ومسيساً وقرئ بهن جميعاً وقرئ بقلب الهمزة ياءً وتشديدِ الياء الأولى فيها كانوا إذا جاء شهرٌ حرامٌ وهم محارِبون أحلُّوه وحرَّموا مكانه شهراً آخر حتى رفضوا خصوصَ الأشهر واعتبروا مجردَ العددِ وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثةَ عشرَ أو أربعةَ عشَر ليتسعَ لهم الوقت ويجعلوا أربعةَ أشهر من السنة حُرُماً ولذلك نصّ على العدد المعين في الكتاب والسنة أي إنما تأخيرُ حرمةِ شهرٍ إلى شهر آخر {زِيَادَةٌ فِي الكفر} لأنه تحليلُ ما حرمه الله وتحريمُ ما حلله فهو كفرٌ آخرُ مضمومٌ إلى كفرهم {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} ضلالاً على ضلالهم القديم، وقرئ على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفعلَ لله سبحانه أي يخلُق فيهم الضلال عند مباشرتِهم لمباديه وأسبابِه وهو المعنيُّ على القراءة الأولى أيضاً، وقيل: المُضِلّون حينئذ رؤساؤُهم والموصولُ عبارةٌ عن أتباعهم، وقرئ {يَضَلُّ} بفتح الياء والضاد من ضَلِل ونُضِلّ بنون العظمة {يُحِلُّونَهُ} أي الشهرَ المؤخر {عَاماً} من الأعوام ويحرِّمون مكانه شهراً آخرَ مما ليس بحرام {وَيُحَرّمُونَهُ} أي يحافظون على حُرمته كما كانت، والتعبيرُ عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالِهم له في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء {عَاماً} آخرَ إذا لم يتعلقْ بتغييره غرضٌ من أغراضهم. قال الكلبي: أولُ من فعل ذلك رجلٌ من كنانة يقال له نُعيم بنُ ثعلبة وكان إذا همّ الناسُ بالصدَر من الموسم يقوم فيخطب ويقول: لا مردَّ لما قضيْتُ وأنا الذي لا أُعاب ولا أُجاب فيقول له المشركون: لبيك ثم يسألونه أن يَنْسئَهم شهراً يغيِّرون فيه فيقول: إن صفرَ العامَ حرامٌ فإذا قال ذلك حلّوا الأوتارَ ونزعوا الأسنةَ والأزِجّة وإن قال: حلالٌ عقدوا الأوتار وشدّوا الأزجةَ وأغاروا، وقيل: هو جُنادةُ بنُ عوفٍ الكنانيُّ وكان مطاعاً في الجاهلية كان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوتِه: إن آلهتَكم قد أحلت لكم المحرَّم فأحِلّوه ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتَكم قد حرمت عليكم المحرَّمَ فحرِّموه، وقيل: هو رجلٌ من كنانةَ يقال له القَلمّسُ قال قائلهم:
ومنا ناسىءُ الشهرِ القَلَمَّسْ

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أولُ من سنَّ النسيءَ عمرُ بنُ قُمعةَ بن خندِفَ والجملتان تفسيرٌ للضلال أو حالٌ من الموصول والعاملُ عاملُه {لّيُوَاطِئُواْ} أي ليوافقوا {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} من الأشهر الأربعةِ واللام متعلقةٌ بالفعل الثاني أو بما يدل عليه مجموعُ الفعلين {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} بخصوصه من الأشهر المعينة {زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم} وقرئ على البناء للفاعل وهو الله سبحانه والمعنى جَعلَ أعمالَهم مشتهاةً للطبع محبوبةً للنفس وقيل: خَذَلهم حتى حسِبوا قبيحَ أعمالِهم حسناً فاستمروا على ذلك {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} هدايةً موصلةً إلى المطلوب البتةَ وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكِه وهم قد صدّوا عنه بسوء اختيارِهم فتاهوا في تيه الضلال.

.تفسير الآيات (38- 39):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
{يأيها الذين آمنوا} رجوعٌ إلى حث المؤمنين وتجريدِ عزائمِهم على قتال الكفرةِ إثرَ بيان طرَفٍ من قبائحهم الموجبةِ لذلك {مَا لَكُمْ} استفهامٌ فيه معنى الإنكارِ والتوبيخ {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم} تباطأتم وتقاعستم أصلهُ {تثاقلتم} وقد قرئ كذلك، أي أيُّ شيءٍ حصل أو حاصلٌ لكم أو ما تصنعون حين قال لكم النبيُّ صلى الله عليه وسلم انفِروا أي اخرُجوا إلى الغزو في سبيل الله متثاقلين، على أن الفعلَ ماضٍ لفظاً مضارعٌ معنىً كأنه قيل: تتثاقلون، فالعاملُ في الظرف الاستقرارُ المقدرُ في لكم أو معنى الفعلِ المدلولِ عليه بذلك ويجوز أن يعملَ فيه الحالُ أي ما لكم متثاقلين حين قيل لكم: انفِروا وقرئ {أَثّاقلتم} على الاستفهام الإنكاريِّ التوبيخيِّ، فالعاملُ في الظرف حينئذ إنما هو الأول {إِلَى الارض} متعلقٌ باثاقلتم على تضمينه معنى المَيْلِ والإخلادِ أي اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتِها الفانيةِ عما قليل، وكرِهتم مشاقَّ الغزوِ ومتاعبَه المستتبِعةَ للراحة الخالدة، كقوله تعالى: {أَخْلَدَ إِلَى الارض واتبع هَوَاهُ} أو إلى الإقامة بأرضكم وديارِكم وكان ذلك في غزوة تبوكَ في سنة عشرٍ بعد رجوعِهم من الطائف استُنفِروا في وقت عُسرةٍ وقَحطٍ وقَيْظ، وقد أدركت ثمارُ المدينة وطابت ظلالُها مع بعد الشُّقةِ وكثرةِ العدوِّ فشق عليهم ذلك، وقيل: ما خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا ورَّى بغيرها إلا في غزوة تبوكَ فإنه عليه الصلاة والسلام بيّن لهم المقصِدَ فيها ليستعدوا لها {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وغرورِها {مِنَ الاخرة} أي بدلَ الآخرة ونعيمِها الدائم {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا} أظهر في مقام الإضمارِ لزيادة التقرير أي فما التمتعُ بها وبلذائذها {فِى الاخرة} أي في جنب الآخرة {إِلاَّ قَلِيلٌ} أي مستحقَرٌ لا يُؤبَه له، وفي ترشيح الحياةِ الدنيا بما يُوذِن بنفاستها ويستدعي الرغبةَ فيها وتجريدِ الآخرة عن مثل ذلك مبالغةٌ في بيان حقارة الدنيا ودناءتِها وعِظَمِ شأن الآخرةِ وعلوِّها {إِلاَّ تَنفِرُواْ} أي إن لا تنفِروا إلى ما استُنفرتم إليه {يُعَذّبُكُم} أي الله عز وجل {عَذَاباً أَلِيماً} أي يُهلكْكم بسبب فظيعٍ هائل كقَحط ونحوِه {وَيَسْتَبْدِلْ} بكم بعد إهلاكِكم {قَوْماً غَيْرَكُمْ} وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيدِ والتشديد في التهديد بالدِلالة على المغايرةِ الوصفيةِ والذاتيةِ المستلزِمة للاستئصال، أي قوماً مطيعين مُؤْثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامِكم كأهل اليمنِ وأبناءِ فارسَ، وفيه من الدِلالة على شدة السُّخط ما لا يخفى {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} أي لا يقدح تثاقلُكم في نُصرة دينِه أصلاً فإنه الغنيُّ عن كل شيءٍ في كل شيءٍ، وقيل: الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل وعده بالعصمة والنصرةِ وكان وعدُه مفعولاً لا محالة {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدر على إهلاككم والإتيانِ بقوم آخرين.