فصل: تفسير الآية رقم (60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (60):

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}
{إِنَّمَا الصدقات} شروعٌ في تحقيق حقِّيةِ ما صنعه الرسولُ صلى الله عليه وسلم من القسمة ببيان المصارفِ وردٌّ لمقالة القالةِ في ذلك وحسمٌ لأطماعهم الفارغة المبنيةِ على زعمهم الفاسدِ ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق، أي جنسُ الصدقات المشتملةِ على الأنواع المختلفة {لِلْفُقَرَاء والمساكين} أي مخصوصةٌ بهؤلاء الأصنافِ الثمانيةِ الآتية لا تتجاوزهم إلى غيرهم، كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم فما للذين لا علاقةَ بينها وبينهم يقولون فيها ما يقولون وما سوّغ لهم أن يتكلموا فيها وفي قاسمها؟ والفقيرُ من له أدنى شيءٍ والمسكينُ من لا شيء له هو المرويُّ عن أبي حنيفة رضي الله عنه وقد قيل: على العكس ولكل منهما وجهٌ يدل عليه {والعاملين عَلَيْهَا} الساعين في جمعها وتحصليها {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} هم أصنافٌ فمنهم أشرافٌ من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم ليُسلموا فيرضَخ لهم ومنهم قومٌ أسلموا ونيّاتُهم ضعيفةٌ فيؤلّف قلوبَهم بإجزال العطاء كعيينةَ بنِ حصن، والأقرعِ بن حابس، والعباسِ بن مرداس، ومنهم من يُترقَّب بإعطائهم إسلامُ نظرائِهم، ولعل الصنفَ الأولَ كان يعطيهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم من خُمس الخُمسِ الذي هو خالصُ مالَه، وقد عد منهم من يؤلَّف قلبُه بشيء منها على قتال الكفار وما نعي الزكاة وقد سقط سهمُ هؤلاء بالإجماع لما أن ذلك كان لتكثير سوادِ الإسلامِ فلما أعزّه الله عز وعلا وأعلى كلمتَه استُغنيَ عن ذلك {وَفِي الرقاب} أي وللصَّرف في فك الرقاب بأن يُعانَ المكاتَبون بشيء منها على أداء نجومِهم، وقيل: بأن يُفدَى الأُسارى وقيل: بأن يُبتاع منها الرقابُ فتُعتق، وأياً ما كان فالعدولُ عن اللام لعدم ذكرِهم بعنوان مصحّحٍ للمالكية والاختصاص كالذين من قبلهم أو للإيذان بعدم قرارِ ملكِهم فيما أعطوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوتِه رأساً كما في الوجه الأخير أو للإشعار برسوخهم في استحقاق الصدقةِ لما أن {في} للظرفية المنبئةِ عن إحاطتهم بها وكونِهم محلَّها ومركزَها.
{والغارمين} أي الذين تداينوا لأنفسهم في غير معصيةٍ إذا لم يكن لهم نصابٌ فاضلٌ عن ديونهم وكذلك عند الشافعيِّ رضي الله عنه غُرمٍ لإصلاح ذاتِ البين وإطفاءِ الثائرة بين القبيلتين وإن كانوا أغنياء {وَفِى سَبِيلِ الله} أي فقراءِ الغزاةِ والحجيج والمنقطَعِ بهم {وابن السبيل} أي المسافر المنقطِع عن ماله، وتكريرُ الظرف في الأخيرين للإيذان بزيادة فضلِهما في الاستحقاق أو لما ذكر من إيرادهما بعنوان غيرِ مصحَّحٍ للمالكية والاختصاص فهذه مصارفُ الصدقاتِ، فللمتصدق أن يدفع صدقتَه إلى كل واحدٍ منهم وأن يقتصرَ على صنف منهم لأن اللام لبيان أنهم مصارفُ لا تخرُج عنهم لا لإثبات الاستحقاق، وقد روي ذلك عن عمرَ وابنِ عباس وحذيفةَ رضي الله عنهم وعند الشافعيِّ لا يجوز إلا أن يُصرَف إلى ثلاثة من تلك الأصناف {فَرِيضَةً مّنَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ لما دل عليه صدْرُ الآية أي فرَضَ لهم الصدقاتِ فريضةً. ونُقل عن سيبويه أنه منصوبٌ بفعله مقدراً أي فرَض الله ذلك فريضةً أو حالٌ من الضمير المستكنّ في قوله: للفقراء، أي إنما الصدقاتُ كائنةٌ لهم حالَ كونها فريضةً أي مفروضة {والله عَلِيمٌ} بأحوال الناسِ ومراتبِ استحقاقِهم {حَكِيمٌ} لا يفعلُ إلا ما تقتضيه الحِكمةُ من الأمور الحسنةِ التي من جملتها سَوْقُ الحقوقِ إلى مستحقّيها.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}
{وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى} نزلت في فِرقة من المنافقين قالوا في حقه عليه الصلاة والسلام ما لا ينبغي فقال بعضُهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلُغه ذلك فيقعَ بنا فقال الجُلاَسُ بنُ سُوَيْد: نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلِف فيصدقنا بما نقول، إنما محمدٌ أذُنٌ سامعة وذلك قوله عز وجل: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي سمع كلَّ ما قيل من غير أن يتدبَّرَ فيه ويميّزَ بين ما يليق بالقَبول لمساعدة أَمارات الصدقِ له وبين ما لا يليق به، وإنما قالوه لأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ويصفَحُ عنهم حِلماً وكرماً فحملوه على سلامة القلبِ وقالوا ما قالوا {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} من قبيل رجلُ صدقٍ في الدلالة على المبالغة في الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم هو أذنٌ ولكن نِعمَ الأذُنُ، ويجوز أن يكون المرادُ أذناً في الخير والحقِّ وفيما ينبغي سماعُه وقَبولُه لا في غير ذلك كما يدل عليه قراءةُ {رحمةٍ} بالجر عطفاً عليه أي هو أذنُ خيرٍ ورحمةٍ لا يسمع غيرَهما ولا يقبله، وقرئ {أذْن} بسكون الذال فيهما وقرئ {أذن خير} على أنه صفةٌ أو خبرٌ ثان وقوله عز وجل: {يُؤْمِنُ بالله} تفسيرٌ لكونه أذنَ خيرٍ لهم أي يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة الموجبةِ له، وكونُ ذلك خيراً للمخاطَبين كما أنه خيرٌ للعالمين مما لا يخفى {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يصدّقهم لِما علم فيهم من الخلوص، واللامُ مزيدةٌ للتفرقة بين الإيمان المشهورِ وبين الإيمان بمعنى التسليمِ والتصديق كما في قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لَكَ} إلخ وقوله تعالى: {فَمَا ءامَنَ لموسى} الخ.
{وَرَحْمَةً} عطفٌ على أذنُ خيرٍ أي وهو رحمةٌ بطريق إطلاقِ المصدرِ على الفاعل للمبالغة {لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ} أي للذين أظهروا الإيمانَ منكم حيث يقبله منهم لكن لا تصديقاً لهم في ذلك بل رفقاً بهم وترحماً عليهم ولا يكشف أسرارَهم ولا يهتِك أستارَهم، وإسنادُ الإيمان إليهم بصيغة الفعلِ بعد نسبتِه إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئةِ عن الرسوخ والاستمرارِ للإيذان بأن إيمانَهم أمرٌ حادثٌ ما له من قرار، وقرئ بالنصب على أنها علةٌ لفعل دلَّ عليه أذنُ خيرٍ أي يأذن لكم رحمةً {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله} بما نُقل عنهم من قولهم: هو أذنٌ ونحوِه، وفي صيغة الاستقبالِ المُشعِرة بترتب الوعيدِ على الاستمرار على ما هم عليه إشعارٌ بقبول توبتِهم كما أفصح عنه قولُه تعالى فيما سيأتي: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} {لَهُمْ} بما يجترئون عليه من أذيَّته عليه الصلاة والسلام كما ينبىء عنه بناءُ الحُكمِ على الموصول {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا اعتراضٌ مَسوقٌ من قِبَله عز وجل على نهج الوعيدِ غيرُ داخلٍ تحت الخطابِ وفي تكرير الإسنادِ بإثبات العذابِ الأليم لهم ثم جعلِ الجملةِ خبراً للموصول ما لا يخفى من المبالغة، وإيرادُه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ مضافاً إلى الاسم الجليلِ لغاية التعظيمِ والتنبيهِ على أن أذيته راجعةٌ إلى جنابه عز وجل موجبةٌ لكمال السخطِ والغضب.

.تفسير الآيات (62- 63):

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}
{يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ} الخطابُ للمؤمنين خاصةً وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرَهم بالأيمان ليعذُروهم ويرضَوا عنهم أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نُقل إليهم مما يورث أذاةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأما التخلفُ عن الجهاد فليس بداخل في هذا الاعتذارِ {لِيُرْضُوكُمْ} بذلك، وإفرادُ إرضائِهم بالتعليل مع أن عمدةَ أغراضِهم إرضاءُ الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قبِل عليه الصلاة والسلام ذلك منهم ولم يكذّبْهم للإيذان بأن ذلك بمعزل من أن يكون وسيلةً إلى إرضائه عليه الصلاة والسلام وأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يكذبهم رفقاً بهم وستراً لعيوبهم لا عن رضا بما فعلوه كما أشير إليه {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} أي أحقُّ بالإرضاء ولا يتسنى ذلك إلا بالطاعة والمتابعةِ وإيفاءِ حقوقِه عليه الصلاة والسلام في باب الإجلالِ والإعظامِ مَشهداً ومَغيباً وأما ما أتَوا به من الأَيمان الفاجرة فإنما يرضى به من انحصر طريقُ علمِه في الأخبار إلى أن يجيءَ الحقُّ ويزهَقَ الباطلُ. والجملةُ نصبٌ على الحالية من ضمير يحلفون أي يحلفون لكم لإرضائكم والحالُ أنه تعالى ورسولُه أحقُّ بالإرضاء منكم أي يُعرضون عما يُهِمُّهم ويجديهم ويشتغلون بما لا يَعنيهم، وإفرادُ الضمير في يُرْضوه إما للإيذان بأن رضاه عليه الصلاة السلام مندرجٌ تحت رضاه سبحانه وإرضاؤُه عليه الصلاة والسلام إرضاءٌ له تعالى لقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} وإما لأنه مستعارٌ لاسم الإشارةِ الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور كما في قول رؤبة:
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق ** كأنه في الجلد توليعُ البهقْ

أي كأن ذلك. لا يقال أيُّ حاجةٍ إلى الاستعارة بعد التأويل المذكورِ لأنا نقول: لولا الاستعارةُ لم يتسنَّ التأويل لما أن الضميرَ لا يتعرض إلا لذات ما يرجِع إليه من غير تعرضٍ لوصف من أوصافه التي من جملتها المذكوريةُ وإنما المتعرضُ لها اسمُ الإشارةِ وإما لأنه عائدٌ إلى رسوله، والكلامُ جملتان حُذف خبرُ الأولى لدلالة خبرِ الثانية عليه كما ذهب إليه سيبويه، ومنه قولُ من قال:
نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راضٍ والرأيُ مختلف

أو إلى الله على أن المذكورَ خبرُ الجملة الأولى وخبرُ الثانيةِ محذوفٌ كما هو رأي المبرد {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} جوابُه محذوفٌ تعويلاً على دِلالة ما سبق عليه أي إن كانوا مؤمنين فليُرْضوا الله ورسولَه بما ذكر فإنهما أحقُّ بالإرضاء.
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} أي أولئك المنافقون، والاستفهامُ للتوبيخ على ما أقدَموا عليه من العظيمة مع علمهم بسوء عاقبتِها، وقرئ بالتاء على الالتفات لزيادةِ التقريعِ والتوبيخ أي ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارعِ والإنذارات {أَنَّهُ} أي الشأنَ {مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} المحادَّةُ من الحدّ كالمُشاقّة من الشَّق والمعاداةُ من العُدوة بمعنى الجانبِ فإن كلَّ واحدٍ من مباشري كلِّ الأًفعالِ المذكورة في محل غيرِ محلِّ صاحبِه، ومَنْ شرطيةٌ جوابُها قوله تعالى: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} على أن خبرَه محذوفٌ أي فحَقٌّ أن له نارَ جهنم، وقرئ بكسر الهمزةِ والجملةُ الشرطيةُ في محلّ الرفعِ على أنها خبرٌ لأن وهي مع خبرها سادةٌ مسدَّ مفعولي يعلموا، وقيل: المعنى فله، وإنّ تكريرٌ للأولى تأكيداً لطول العهدِ لا من باب التأكيدِ اللفظيِّ المانعِ للأولى من العمل، ودخولُ الفاءِ كما في قول من قال:
لقد علم الحيُّ اليمانُونَ أنني ** إذا قلتُ: أما بعدُ، أني خطيبُها

وقد جوّز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه، وجوابُ الشرط محذوفٌ تقديرُه ألم يعلموا أنه من يحاددِ الله ورسولَه يهلِكْ فإن له الخ، ورُدّ بأن ذلك إنما يجوز عند كونِ فعلِ الشرط ماضياً أو مضارعاً مجزوماً بلم {خَالِداً فِيهَا} حالٌ مقدّرةٌ من الضمير المجرورِ إن اعتُبر في الظرف ابتداءُ الاستقرار وحدوثُه وإن اعتبر مطلقُ الاستقرارِ فالأمرُ ظاهر {ذلك} أشير إلى ما ذكر من العذاب الخالدِ بذلك إيذاناً ببُعد درجتِه في الهول والفظاعةِ {الخزى العظيم} الخزيُ الذلُّ والهوانُ المقارِنُ للفضيحة والندامة، وهي ثمراتُ نفاقِهم حيث يفتضحون على رؤوس الأشهادِ بظهورها ولُحوقِ العذاب الخالدِ بهم، والجملةُ تذييلٌ لما سبق.

.تفسير الآيات (64- 65):

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)}
{يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازلٌ عليهم {سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} من الأسرار الخفيةِ فضلاً عما كانوا يُظهِرونه فيما بينهم من أقاويل الكفرِ والنفاقِ، ومعنى تَنْبئتِها إياهم بما في قلوبهم مع أنه معلومٌ لهم وأن المحذورَ عندهم إطلاعُ المؤمنين على أسرارهم لا إطلاعُ أنفسِهم عليها أنها تُذيع ما كانوا يُخفونه من أسرارهم فتنتشرُ فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجالِ مُذاعةً، فكأنها تخبرهم بها أو المرادُ بالتنبئة المبالغةُ في كون السورة مشتملةً على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنةِ ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعي عليهم قبائحَهم، وقيل: معنى يحذر لِيحذر، وقيل: الضميران الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين ولا يبالى بالتفكيك عند ظهورِ الأمرِ بعَوْد المعنى إليه أي يحذر المنافقون أن تنزَّلَ على المؤمنين سورةٌ تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتِك عليهم أستارَهم. قال أبو مسلم: كان إظهارُ الحذرِ منهم بطريق الاستهزاءِ فإنهم كانوا إذا سمعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يذكر كلَّ شيء ويقول إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به ولذلك قيل: {قُلْ استهزءوا} أي افعلوا الاستهزاءَ وهو أمر تهديد {إِنَّ الله مُخْرِجٌ} أي من القوة إلى الفعل أو من الكُمون إلى البروز {مَّا تَحْذَرُونَ} أي ما تحذرونه من إنزال السورةِ ومن مخازيكم ومثالبِكم المستكنةِ في قلوبكم الفاضحةِ لكم على ملأ الناسِ، والتأكيدُ لرد إنكارِهم بذلك لا لدفع ترددِهم في وقوع المحذورِ إذ ليس حذرُهم بطريق الحقيقة {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} عما قالوا {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} رُوي أنه عليه الصلاة والسلام «كان يسير في غزوة تبوكَ وبين يديه ركبٌ من المنافقين يستهزئون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون: انظُروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتحَ حُصون الشامِ وقصورَها هيهاتَ هيهات. فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فقال: احبِسوا على الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا، وكذا؟ فقالوا: يا نبيَّ الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابِك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركبُ ليقصُرَ بعضنا على بعض السفر» {قُلْ} غيرَ ملتفتٍ إلى اعتذارهم ناعياً عليهم جناياتِهم منزِّلاً لهم منزلةَ المعترفِ بوقوع الاستهزاء موبخاً لهم على أخطائهم موقعَ الاستهزاء {أَبِاللهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَسْتَهْزِئُون} حيث عقب حرف التقرير بالمستهزأ به ولا يستقيم ذلك إلا بعد تحققِ الاستهزاءِ وثبوتِه.

.تفسير الآيات (66- 68):

{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)}
{لاَ تَعْتَذِرُواْ} لا تشتغلوا بالاعتذار وهو عبارةٌ عن محو أثرِ الذنبِ فإنه معلومُ الكذبِ بيِّنُ البطلان {قَدْ كَفَرْتُمْ} أظهرتم الكفر بإيذاء الرسولِ صلى الله عليه وسلم والطعن فيه {بَعْدَ إيمانكم} بعد إظهارِكم له {إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ} لتوبتهم وإخلاصِهم أو تجنّبهم {عن} الإيذاء والاستهزاءِ، وقرئ {إن يعفُ} على إسناد الفعلِ إلى الله سبحانه وقرئ على البناء للمفعول مسنَداً إلى الظرف بتذكير الفعلِ وبتأنيثه أيضاً ذهاباً إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفةٌ {نُعَذّبْ} بنون العظمة وقرئ بالياء على البناء للفاعل وبالتاء على البناء للمفعول مسنداً إلى ما بعده {طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} مصِرِّين على الإجرام وهو غيرُ التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين. قال محمد بن إسحاقَ: الذي عُفي عنه رجلٌ واحدٌ هو يحيى بنُ حُمَيِّر الأشجعيُّ لما نزلت هذه الآيةُ تاب عن نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آيةً تقشعر منها الجلودُ وتجِبُ منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقولُ أحدٌ: أنا غسلتُ أنا كفنتُ أنا دفنتُ فأصيب يومَ اليمامة فما أحدٌ من المسلمين إلا عُرِفَ مصرعُه غيرَه.
{المنافقون والمنافقات} التعرّضُ لأحوال الإناثِ للإيذان بكمال عراقتِهم في الكفر والنفاق {بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} أي متشابهون في النفاق والبُعدِ عن الإيمان كأبعاض الشيء الواحدِ بالشخص، وقيل: أريد به نفيُ أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبُهم في حلفهم بالله إنهم لمنكم وتقريرٌ لقوله تعالى: {وَمَا هُم مّنكُمْ} وقوله تعالى: {يَأْمُرُونَ بالمنكر} أي بالكفر والمعاصي {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} أي عن الإيمان والطاعةِ استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما سبق ومُفصِحٌ عن مضادة حالِهم لحال المؤمنين أو خبرٌ ثان {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي عن المبرات والإنفاق في سبيل الله فإن قبضَ اليد كنايةٌ عن الشح {نَسُواْ الله} أغفلوا ذكرَه {فَنَسِيَهُمْ} فتركهم من رحمته وفضلِه وخذلَهم، والتعبيرُ عنه بالنسيان للمشاكلة {إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون} الكاملون في التمرد والفسقِ الذي هو الخروجُ عن الطاعة والانسلاخُ عن كل خيرٍ والإظهارُ في موقع الإضمار لزيادة التقرير كما في قوله تعالى: {وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات والكفار} أي المجاهرين {نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} مقدرين الخلود فيها {هِىَ حَسْبُهُمْ} عقاباً وجزاءً وفيه دليلٌ على عظم عقابِها وعذابِها {وَلَعَنَهُمُ الله} أي أبعدهم من رحمته وأهانهم، وفي إظهار الاسمِ الجليلِ من الإيذان بشدة السخط ما لا يخفى {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي نوعٌ من العذاب غيرَ عذابِ النار دائمٌ لا ينقطع أبداً أو لهم عذاب مقيمٌ في الدنيا لا ينفك عنهم وهو ما يقاسونه من تعب النفاقِ الذي هم منه في بلية دائمةٍ لا يأمنون ساعةً من خوف الفضيحةِ ونزولِ العذاب إن اطُّلع عن أسرارهم.