فصل: تفسير الآيات (106- 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (106- 107):

{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}
{وَءاخَرُونَ} عطفٌ على آخرون قبله أي ومن المتخلفين من أهل المدينةِ ومَنْ حولها من الأعراب قومٌ آخرون غيرُ المعترفين المذكورين {مُرْجَوْنَ} وقرئ {مُرْجَئون} من أرجيتُه وأرجأتُه أي أخرتُه ومنه المُرْجِئة الذين لا يقطعون بقبول التوبة {لاْمْرِ الله} في شأنهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم كعبُ بنُ مالك ومَرارةُ بنُ الربيع وهلالُ بنُ أميةَ لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لُبابةَ وأصحابُه من شد أنفسِهم على السواري وإظهارِ الغمّ والجزَعِ والندمِ على ما فعلوا فوقَفهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونهى أصحابَه عن أن يسلّموا عليهم ويكلموهم وكانوا من أصحاب بدر فهجروهم، والناسُ في شأنهم على اختلاف فمن قائلٍ: هلكوا وقائل: عسى الله أن يغفرَ لهم فصاروا عندهم مُرجَئين لأمره تعالى {إِمَّا يُعَذّبُهُمْ} إن بقوُا على ما هم عليه من الحال وقيل: إن أصروا على النفاق وليس بذاك فإن المذكورين ليسوا من المنافقين {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن خلَصت نيتُهم وصحت توبتُهم والجملةُ في محل النصبِ على الحالية أي منهم هؤلاء إما معذَّبين وإما مَتوباً عليهم، وقيل: آخرون مبتدأٌ ومرجون صفتُه وهذه الجملةُ خبره {والله عَلِيمٌ} بأحوالهم {حَكِيمٌ} فيما فعل بهم من الإرجاء وما بعده وقرئ {والله غفور رحيم} {والذين اتخذوا مَسْجِدًا} عطفٌ على ما سبق أي ومنهم الذين أو نصبٌ على الذم وقرئ بغير واو لأنها قصة على حيالها {ضِرَارًا} أي مضارّةً للمؤمنين وانتصابُه على أنه مفعولٌ ثانٍ لاتخذوا أو على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل مقدر منصوبٍ على الحالية أي يضارّون بذلك ضراراً أو على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعل وقع حالاً من ضمير اتخذوا أي مضارِّين للمؤمنين. روي أن بني عمرو بنِ عَوْف لما بنَوا مسجدَ قُباءَ بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهَم فيصليَ بهم في مسجدهم فلما فعله عليه الصلاة والسلام حسدتْهم إخوتُهم بنو غنم بنِ عوف وقالوا: نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامرٍ الراهب أيضاً إذا قدم من الشام وهو الذي سماه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفاسقَ وقد كان قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتُك معهم فلم يزل يفعل ذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازنُ يومئذ ولّى هارباً إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استعدتم من قوة وسلاح فإني ذاهبٌ إلى قيصرَ وآتٍ بجنود ومخرجٌ محمداً وأصحابَه من المدينة فبنَوا مسجداً إلى جنب مسجد قباءَ وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجةِ والليلةِ المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصليَ لنا فيه وتدعوَ لنا بالبركة فقال عليه الصلاة والسلام:
«إني على جناح سفر وحالِ شُغْلٍ وإذا قدِمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه، فلما قفَل عليه الصلاة والسلام من غزوة تبوكَ سألوه إتيانَ المسجد فنزلت عليه فدعا بمالك بنِ الدخشم ومعنِ بن عدي وعامر بنِ السكن ووحشي فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالمِ أهلُه فاهدِموه وأحرِقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كُناسةٌ تلقى فيها الجيفُ والقُمامة وهلك أبو عامر الفاسقُ بالشام بقِنَّسْرين» {وَكُفْراً} تقوية للكفر الذي يُضمِرونه {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} الذين كانوا يصلون في مسجد قباءَ مجتمعين فيغص بهم فأرادوا أن يتفرقوا وتختلف كلمتُهم {وَإِرْصَادًا} إعداداً وانتظاراً وترقباً {لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} وهو الراهبُ الفاسقُ أي لأجله حتى يجيءَ فيصليَ فيه ويظهرَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم {مِن قَبْلُ} متعلقٌ باتخذوا أي اتخذوا من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك، أو بحارب أي جارٍ بهما قبل اتخاذِ هذا المسجد {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} أي ما أردنا ببناء هذا المسجد {إِلاَّ الحسنى} إلا الخَصلةَ الحسنى وهي الصلاةُ وذكرُ الله والتوسعةُ على المصلين أو إلا الإرادةَ الحسنى {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في حلِفهم ذلك.

.تفسير الآية رقم (108):

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}
{لاَ تَقُمْ} للصلاة {فِيهِ} في ذلك المسجدِ حسبما دعَوْك إليه {أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ} أي بُني أصلُه {عَلَى التقوى} يعني مسجدَ قباءَ أسسه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيامَ مقامِه بقباء وهي يومُ الاثنين والثلاثاءِ والأربعاءِ والخميسِ وخرج يومَ الجمعة، وقيل: هو مسجدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وعن أبي سعيد رضي الله عنه سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أُسس على التقوى فأخذ حصباءَ فضرب بها الأرضَ وقال: «مسجدُكم هذا مسجدُ المدينة»، واللامُ إما للابتداء أو للقسم المحذوفِ أي والله لَمسجدٌ، وعلى التقديرين فمسجدٌ مبتدأٌ وما بعده صفتُه وقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي من أيام تأسيسِه، متعلقٌ بأسس وقوله تعالى: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} أي للصلاة وذكرِ الله تعالى خبرُه وقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ} جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٌ لأحقّيته لقيامه عليه الصلاة والسلام فيه من جهة الحال بعد بيانِ أحقيتِه له من حيث المحلُّ، أو صفةٌ أخرى للمبتدأ أو حالٌ من الضمير في فيه وعلى كل حالٍ ففيه تحقيقٌ وتقريرٌ لاستحقاقه القيامَ فيه والمرادُ بكونه أحق نفس كونه حقيقاً به إذ لا استحقاقَ في مسجد الضرارِ رأساً وإنما عبر عنه بصيغة التفضيلِ لفضله في نفسه أو الأفضلية في الاستحقاق المتناولِ لما يكون باعتبار زعمِ الباني ومن يشايعُه في الاعتقاد وهو الأنسب بما سيأتي {يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} من المعاصي والخصالِ الذميمةِ لمرضاة الله سبحانه وقيل: من الجنابة فلا ينامون عليه.
{والله يُحِبُّ المطهرين} أي يرضى عنهم ويُدْنيهم من جنابه إدناءَ المحبِّ حبيبَه. قيل: «لما نزلت مشى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباءَ فإذا الأنصارُ جلوسٌ فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكت القومُ ثم أعادها فقال عمرُ رضي الله تعالى عنه: يا رسولَ الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال عليه الصلاة والسلام: أترضَوْن بالقضاء؟ قالوا نعم قال أتشكرون في الرخاء؟ قالوا: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: أتصبِرون على البلاء؟ قالوا: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: مؤمنون وربِّ الكعبة فجلس ثم قال: يا معشرَ الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا: نُتبعُ الغائطَ الأحجارَ الثلاثة ثم نتبع الأحجارَ الماءَ، فتلا النبيُّ عليه الصلاة والسلام {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ}» وقرئ {أن يطّهروا} بالإدغام وقيل: هو عام في التطهر عن النجاسات كلِّها وكانوا يُتبعون الماءَ إثرَ البول. وعن الحسن رضي الله عنه هو التطهرُ عن الذنوب بالتوبة وقيل: يحبّون أن يتطهروا بالحُمّى المكفرةِ لذنوبهم فحُمُّوا عن آخرهم.

.تفسير الآية رقم (109):

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} على بناء الفعلِ للفاعل والنصبِ، وقرئ على البناء للمفعول والرفعِ وقرئ {أُسسُ بنيانِه} على الإضافة جمع أساس، وإءَساسُ بالفتح والكسر جمع أُسّ وقرئ {أَساسُ بنيانِه} جمع أُس أيضاً و{أُسُّ بنيانِه}، وهي جملةٌ مستأنفة مبينةٌ لخيرية الرجالِ المذكورين من أهل مسجد قُباء والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي أبعدَ ما عَلِمَ حالَهم: مَنْ أسّس بنيانَ دينِه {على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} أي على قاعدةٍ محكمة هي التقوى من الله وابتغاءُ مرضاتِه بالطاعة، والمرادُ بالتقوى درجتُها الثانية التي هي التوقّي عن كل ما يُؤثِمَ من فعل أو ترك، وقرئ {تقوىً} بالتنوين على أن الألف للإلحاق دون التأنيث {خَيْرٌ أَمِّن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} تركُ الإضمار للإيذان باختلاف البُنيانين ذاتاً مع اختلافهما وصفاً وإضافةً {على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} الشفا الحَرْف والشفير والجُرُف ما جرفه السيلُ أي استأصله واحتفَر ما تحته فبقىَ واهياً يريد الانهدام، والهارُ الهائرُ المتصدِّعُ المشرِفُ إلى السقوط من هار يهورُ ويهار أو هار يهير قُدّمت لامُه على عينه فصار كغازٍ ورامٍ وقيل: حذفت عينه اعتباطاً أي بغير موجب فجرى وجوهُ الإعرابِ على لامه {فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} مثّل ما بنَوا عليه أمرَ دينِهم في البُطلان وسرعةِ الانطماسِ بما ذُكر ثم رشّح بانهياره في النار، ووُضع بمقابلة الرضوانِ تنبيهاً على أن تأسيسَ ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى الرضوان ومقتضياتِه التي أدناها الجنةُ وتأسيسَ هذا على ما هو بصدر الوقوعِ في النار ساعةً فساعة ثم مصيرُهم إليها لا محالة. وقرئ {جُرْف} بسكون الراء {والله لاَ يَهْدِى القوم الظَّالِمِينَ} أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضِعها أي لا يُرشدهم إلى ما فيه نجاتُهم وصلاحُهم إرشاداً موجباً له لا محالة، وأما الدلالةُ على ما يرشدهم إليه إن استرشدوا به فهو متحققٌ بلا اشتباه.

.تفسير الآيات (110- 111):

{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}
{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ} البنيانُ مصدرٌ أُريد به المفعولُ، ووصفُه بالموصول الذي صلتُه فعله للإيذان بكيفية بنائِهم له وتأسيسِه على أوهن قاعدةٍ وأوهى أساسٍ وللإشعار بعلة الحُكم، أي لا يزال مسجدُهم ذلك مبنياً ومهدوماً {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي سببَ ريبةٍ وشكَ في الدين كأنه نفسُ مُريبِه. أما حالَ بنيانه فظاهرٌ لِما أن اعتزالَهم من المؤمنين واجتماعَهم في مجمع على حياله يُظهرون فيه ما في قلوبهم من آثار الكفرِ والنفاقِ ويدبِّرون فيه أمورَهم ويتشاورون في ذلك، ويُلقي بعضُهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكاً في الدين، وأما حالَ هدمِه فلما أنه رسَخ به ما كان في قلوبهم من الشر وتضاعفت آثارُه وأحكامُه أو سبّب ريبةً في أمرهم حيث ضعُفت قلوبُهم ووهَى اعتقادُهم بخفاء أمرِهم على أمر المؤمنين لأنهم أظهروا من أمرهم بعد البناءِ أكثرَ مما كانوا يُظهرونه قبل ذلك وقت اختلاطِهم بالمؤمنين وساءت ظنونُهم بأنفسهم فلما هُدم بنيانُهم تضاعف ذلك الضَّعفُ وتقوّى وصاروا مُرتابين في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتركهم على ما كانوا عليه من قبل أو يأمرُ بقتلهم ونهبِ أموالِهم. وقال الكلبي: معنى ريبةً حسرةً وندامة. وقال السدي وحبيب والمبرد: لا يزال هدمُ بنيانِهم حزازةً وغيظاً في قلوبهم {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ} من التفعل بحذف إحدى التاءين أي إلا أن تتقطع {قُلُوبِهِمْ} قِطعاً وتتفرّقَ أجزاءً بحيث لا يبقى لها قابليةُ إدراكٍ وإضمار قطعاً، وهو استثناءٌ من أعم الأوقاتِ أو أعم الأحوال ومحلُّه النصبُ على الظرفية أي لا يزال بنيانُهم ريبةً في كل الأوقات أو كلِّ الأحوال إلا وقتَ تقطُّع قلوبهم أو حالَ تقطعِ قلوبِهم، فحينئذ يسْلُون عنها وأما ما دامت سالمةً فالريبةُ باقيةٌ فيها فهو تصويرٌ لامتناع زوالِ الريبةِ عن قلوبهم، ويجوزُ أن يكون المرادُ حقيقةً تقطُّعُها عند قتلِهم أو في القبور أو في النار، وقرئ {تُقَطّع} على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تُقطِّع أنت قلوبَهم بالقتل، وقرئ على البناء للمجهول من الثلاثي مذكراً ومؤنثاً وقرئ {إلى تقطُّعِ قلوبهم} و{إلى أن تُقطِّع قلوبَهم} على الخطاب، وقرئ {ولو قُطِّعت قلوبُهم} على إسناد الفعل مجهولاً إلى قلوبهم {ولو قَطَّعتَ قلوبَهم} على الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد يصلُح للخطاب. وقيل: إلا أن يتوبوا توبةً تتقطّع بها قلوبُهم ندماً وأسفاً على تفريطهم {والله عَلِيمٌ} بجميع الأشياءِ التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم {حَكِيمٌ} في جميع أفعالِه التي من زمرتها أمرُه الواردُ في حقهم.
{إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} ترغيبٌ للمؤمنين في الجهاد ببيان فضيلتِه إثرَ بيانِ حالِ المتخلفين عنه، ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيدَ عليه حيث عبّر عن قَبول الله تعالى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابتِه إياهم بمقابلتها الجنةَ بالشراء على طريقة الاستعارةِ التبعية ثم جُعل المبيعُ الذي هو العُمدةُ والمقصِدُ في العقد أنفُسَ المؤمنين وأموالَهم والثمنُ الذي هو الوسيلةُ في الصفقة الجنةُ ولم يُجعل الأمرُ على العكس بأن يقال: إن الله باع الجنةَ من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصِد في العقد هو الجنةُ وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلةٌ إليها إيذاناً بتعليق كمالِ العنايةِ بهم وبأموالهم ثم إنه لم يقل بالجنة بل قيل: {بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} مبالغةً في تقرير وصولِ الثمنِ إليهم واختصاصِه بهم كأنه قيل: بالجنة الثابتةِ لهم المختصةِ بهم.
وأما ما يقال من أن ذلك لمدح المؤمنين بأنهم بذلوا أنفسَهم وأموالَهم بمجرد الوعدِ لكمال ثقتِهم بوعده تعالى وأن تمامَ الاستعارةِ موقوفٌ على ذلك إذ لو قيل: بالجنة لاحتمل كونُ الشراء حقيقةً لأنها صالحةٌ للعِوضية بخلاف الوعيدِ بها فليس بشيء لأن مناطَ دِلالةِ ما عليه النظمُ الكريمُ على الوعد ليس كونُه جملةً ظرفيةَ مصدّرةً بأن فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنةُ التي يستحيل وجودُها في الدنيا ولو سلم ذلك يكون العوضُ الجنةَ الموعودَ بها {يقاتلون فِي سَبِيلِ الله} استئنافٌ لكن لا لبيان ما لأجله الشراءُ ولا لبيان نفسِ الاشتراء لأن قتالَهم في سبيل الله تعالى ليس باشتراء الله تعالى منهم أنفسَهم وأموالَهم بل هو بذلٌ لهما في ذلك بل لبيان البيعِ الذي يستدعيه الاشتراءُ المذكورُ كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسَهم وأموالَهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله وهو بدلٌ منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله سبحانه وتعريضٌ لهما للهلاك وقوله تعالى: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} بيانٌ لكون القتالِ في سبيل الله بذلاً للنفس وأن المقاتِلَ في سبيله باذلٌ لها وإن كانت سالمةً غانمة، فإن الإسنادَ في الفعلين ليس بطريق اشتراطِ الجمعِ بينهما ولا اشتراطِ الاتصافِ بأحدهما البتةَ بل بطريق وصفِ الكلِّ بحال البعضِ فإنه يتحقق القتالُ من الكل سواءٌ وجد الفعلان أو أحدَهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدُرْ منهم أحدُهما أيضاً كما إذا وُجدت المضاربةُ ولم يوجد القتلُ من أحد الجانبين أو لم توجد المضاربةُ أيضاً فإنه يتحقق للجهادُ بمجرد العزيمة والنفير وتكثيرِ السواد، وتقديمُ حالةِ القاتلية على حالة المقتوليةِ للإيذان بعدم الفرقِ بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتالِ بذلاً للنفس وقرئ بتقديم المبنيِّ للمفعول رعايةً لكون الشهادة عريقةً في الباب وإيذاناً بعدم مبالاتِهم بالموت في سبيل الله تعالى بل بكونه أحبَّ إليهم من السلامة كما قيل في حقهم:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم ** قوماً وليسوا مَجازيعاً إذا نِيلوا

لا يقع الطعنُ إلا في نحورِهم ** وما لهم عن حِياض الموتِ تهليلُ

وقيل: في يقاتلون إلخ معنى الأمر كما في قوله تعالى: {وتجاهدون فِي سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} {وَعْدًا عَلَيْهِ} مصدرٌ مؤكدٌ لما يدل عليه كونُ الثمنِ مؤجلاً {حَقّاً} نعتٌ لوعداً والظرفُ حال منه لأنه لو تأخر لكان صفةً له وقوله تعالى: {فِي التوراة والإنجيل والقرءان} متعلقٌ بمحذوف وقعَ صفةً لوعداً أي وعداً مثبتاً في التوراة والإنجيل كما هو مثبتٌ في القرآن {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله من حقية الوعدِ على نهج المبالغةِ في كونه سبحانه أوفى بالعهد من كل وافٍ فإن اختلافَ الميعاد مما لا يكاد يصدُر عن كرام الخلقِ مع إمكان صدورِه عنهم فكيف بجناب الخلاقِ الغنيِّ عن العالمين جل جلاله وسبكُ التركيب وإن كان على إنكارِ أن يكون أحدٌ أوفى بالعهد منه تعالى من غير تعرّضٍ لإنكار المساواةِ ونفيها لكن المقصودَ به قصداً مطرداً إنكارُ المساواةِ ونفيُها قطعاً فإذا قيل: مَنْ أكرمُ من فلان؟ أو لا أفضلَ منه، فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريمٍ وأفضلُ من كل فاضل {فاستبشروا} التفاتٌ إلى الخطاب تشريفاً لهم على تشريف وزيادةً لسرورهم على سرور، والاستبشارُ إظهارُ السرور، والسينُ فيه ليس للطلب، كاستوقَدَ وأوقد، والفاء لترتيب الاستبشارِ أو الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذاك فسُرّوا نهايةَ السرور وافَرحوا غايةَ الفرحِ بما فُزتم به من الجنة، وإنما قيل: {بِبَيْعِكُمُ} مع أن الابتهاجَ به باعتبار أدائِه إلى الجنةِ لأن المرادَ ترغيبُهم في الجهاد الذي عبّر عنه بالبيع وإنما لم يُذكر العقدُ بعنوان الشراءِ لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم، والترغيبُ إنما يكون فيما يتم من قبلهم، وقوله تعالى: {الذى بَايَعْتُمْ بِهِ} لزيادة تقرير بيعِهم وللإشعار بكونه مغايراً لسائر البياعات فإنه بيعٌ للفاني بالباقي ولأن كِلا البدلين له سبحانه وتعالى. عن الحسن رضي الله عنه أنفُساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها. روي «أن الأنصارَ لما بايعوه عليه الصلاة والسلام على العقبة قال عبدُ اللَّه بنُ رواحةَ رضي الله تعالى عنه: اشترِطْ لربك ولنفسك ما شئت. قال عليه الصلاة والسلام: أشترطُ لربي أن تعبُدوه ولا تشرِكوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون به أنفسَكم، قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربِحَ البيعُ لا نُقيل ولا نستقيل». «ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ وهو يقرأها قال: كلامُ مَنْ؟ قال: كلامُ الله عز وجل قال: بيعٌ والله مُربحٌ لا نُقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو واستُشهد». {وَذَلِكَ} أي الجنةُ التي جعلت ثمناً بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالِهم {هُوَ الفوز العظيم} الذي لا فوزَ أعظمُ منه، وما في ذلك من معنى البُعد إشارةٌ إلى بُعد منزلةِ المشارِ إليه وسموِّ رتبتِه في الكمال، ويجوز أن يكون ذلك إشارةً إلى البيع الذي أُمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفسُ الفوز العظيم أو يُجعل فوزاً في نفسه، فالجملةُ على الأول تذييلٌ للآية الكريمة وعلى الثاني لقوله تعالى: {فاستبشروا} مقرِّرٌ لمضمونه.