فصل: تفسير الآيات (121- 122):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (121- 122):

{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}
{وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً} ولو تمرةً أو علاقةَ سَوْط {وَلاَ كَبِيرَةً} كما أنفق عثمانُ رضى الله عنه والترتيب باعتبار ما ذُكر من كثرة الوقوعِ وقلته وتوسيطُ لا للتنصيص على استبداد كلَ منهما بالكتْب والجزاءِ لا لتأكيد النفي كما في قوله عز وجل: {وَلاَ يَقْطَعُونَ} أي لا يجتازون في مسيرهم {وَادِيًا} وهو في الأصل كلُّ منفرَجٍ من الجبال والآكامِ يكون منفذاً للسيل، اسمُ فاعلٍ من ودَى إذا سال ثم شاع في الأرض على الإطلاق {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} ذلك الذي فعلوه من الإنفاق والقطع {لِيَجْزِيَهُمُ الله} بذلك {أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أحسنَ جزاءِ أعمالِهم أو جزاءَ أحسنِ أعمالِهم.
{وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} أي ما صح وما استقام لهم أن ينفِروا جميعاً لنحو غزْوٍ أو طلب علمٍ كما لا يستقيم لهم أن يتثبّطوا جميعاً فإن ذلك مُخِلٌّ بأمر المعاش.
{فَلَوْلاَ نَفَرَ} فهلا نفَر {مِن كُلّ فِرْقَةٍ} أي طائفة كثيرة {مِنْهُمْ} كأهل بلدةٍ أو قبيلةٍ عظيمة {طَائِفَةٌ} أي جماعة قليلة {لّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} أي يتكلفوا الفَقاهةَ فيه ويتجشموا مشاقَّ تحصيلِها {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} أي وليجعلوا غايةَ سعيِهم ومرمى غرضِهم من ذلك إرشادَ القومِ وإنذارَهم {إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} وتخصيصُه بالذكر لأنه أهم، وفيه دليلٌ على أن التفقهَ في الدين من فروض الكفايةِ وأن يكون غرضُ المتعلمِ الاستقامةَ والإقامةَ لا الترفعَ على العباد والتبسّط في التلاد كما هو ديدن أبناء الزمان والله المستعان {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} إرادةَ أن يحذروا عما ينذَرون واستدلوا به على أن أخبارَ الآحادِ حجةٌ لأن عمومَ كلِّ فرقةٍ يقتضي أن ينفِرَ من كل ثلاثةٍ تفردوا بقرية طائفةٌ إلى التفقه لتنذر قرقتَها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الإخبارُ ما لم يتواتر لم يُفِدْ ذلك، وقد قيل: للآية وجهٌ آخرُ وهو أن المؤمنين لما سمعوا ما نزل في المتخلفين سارعوا إلى النفير رغبةً ورهبةً وانقطعوا عن التفقه فأُمروا أن ينفِر من كل فرقةٍ طائفةٌ إلى الجهاد ويبقى أعقابُهم يتفقهون حتى لا ينقطع الفقهُ الذي هو الجهادُ الأكبرُ لأن الجدالَ بالحجة هو الأصلُ والمقصودُ من البعثة، فالضميرُ في ليتفقهوا ولينذِروا لبواقي الفِرَق بعد الطوائفِ النافرةِ للغزو، وفي رجعوا للطوائف، أي ولينذر البواقي قومَهم النافرين إذا رجَعوا إليهم بما حصلوا في أيام غَيبتهم من العلوم.

.تفسير الآيات (123- 124):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} أُمروا بقتال الأقربِ منهم فالأقرب كما أُمر عليه الصلاة والسلام أولاً بإنذار عشيرتِه فإن الأقربَ أحقُّ بالشفقة والاستصلاحِ. قيل: هم اليهودُ حوالي المدينة كبني قرُيظةَ والنَّضير وخيبَر، وقيل: الرومُ فإنهم كانوا يسكنون الشامَ وهو قريبٌ من المدينة بالنسبة إلى العراق وغيره {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي شدة وصبراً على القتال وقرئ بفتح الغين كسَخْطة وبضمها وهما لغتان فيها {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} بالعصمة والنصرة والمرادُ بهم إما المخاطَبون، ووضعُ الظاهرِ موضعَ الضمير للتنصيص على أن الإيمانَ والقتالَ على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادةِ بكونه من ومرة المتقين، وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ، وقد ذُكر وجهُ دخولِ مع على المتبوع في قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَنَا} {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من سور القرآن {فَمِنْهُمْ} أي من المنافقين {مَن يِقُولُ} لإخوانه ليثبِّتهم على النفاق أو لعوامّ المؤمنين وضعفتِهم ليصُدّهم عن الإيمان {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه} السورةُ {إيمانا} وقرئ بنصب أيَّكم على تقدير فعلٍ يفسِّره المذكورُ أي أيُّكم زادتْه هذه الخ، وإيرادُ الزيادةِ مع أنه لا إيمانَ فيهم أصلاً باعتبار اعتقادِ المؤمنين حسبما نطَق به قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته زَادَتْهُمْ إيمانا} {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ} جوابٌ من جهته سبحانه وتحقيقٌ للحق وتعيينٌ لحالهم عاجلاً وآجلاً أي فأما الذين آمنوا بالله تعالى وبما جاء من عنده {فَزَادَتْهُمْ إيمانا} بزيادة العلمِ اليقينيِّ الحاصلِ من التدبر فيها. والوقوفِ على ما فيها من الحقائق وانضمامِ إيمانِهم بما فيها بإيمانهم السابق {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بنزولها وبما فيه من المنافع الدينيةِ والدنيوية.

.تفسير الآيات (125- 127):

{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)}
{وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي كفرٌ وسوءُ عقيدة {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} أي كُفراً بها مضموماً إلى الكفر بغيرها وعقائدَ باطلةً وأخلاقاً ذميمةً كذلك {وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون} واستحكم ذلك إلى أن يموتوا عليه {أَوْ لاَ يَرَوْنَ} الهمزةُ للإنكار والتوبيخ والواوُ للعطف على مقدر أي ألا ينظُرون ولا يرَوْن {أَنَّهُمْ} أي المنافقين {يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ} من الأعوام {مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} والمرادُ مجردُ التكثيرِ لا بيانُ الوقوع حسب العدِّ المزبورِ، أي يُبتلَوْن بأفانينِ البليات من المرض والشدةِ وغيرِ ذلك مما يذكّر الذنوبَ والوقوفَ بين يدي رب العزة فيؤدي إلى الإيمان به تعالى أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعاينون ما ينزل عليه من الآيات لاسيما القوارعُ الزائدةُ للإيمان الناعيةُ عليهم ما فيهم من القبائح المخزيةِ لهم {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} عطف على لا يَرَوْن داخلٌ تحت الإنكار والتوبيخِ وكذا قوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} والمعنى أو لا يَرَون افتتانَهم الموجبَ لإيمانهم ثم لا يتوبون عما هم عليه من النفاق ولا هم يتذكرون بتلك الفِتن الموجبةِ للتذكر والتوبة، وقرئ بالتاء والخطابُ للؤمنين والهمزةُ للتعجيب أي ألا تنظرون ولا ترَوْن أحوالَهم العجيبة التي هي افتتانُهم على وجه التتابعِ وعدمَ التنبّهِ لذلك فقوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} وما عطف عليه معطوفٌ على يفتنون.
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} بيان لأحوالهم عند نزولِها وهم في مجال تبليغِ الوحي كما أن الأولَ بيانٌ لمقالاتهم وهم غائبون عنه {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} تغامزوا بالعيون إنكاراً لها أو سخريةً بها أو غيظاً لما فيها من مخازيهم {هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ} أي قائلين: هل يراكم أحدٌ من المسلمين لننصرف، مظهرين أنهم لا يصطبرون على استماعها ويغلبُ عليهم الضحِكُ فيفتَضِحون أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروجِ والانسلال لِواذاً يقولون: هل يراكم من أحد إن قمتم من المجلس، وإيرادُ ضمير الخطابِ لبعث المخاطَبين على الجد في انتهاز الفرصةِ فإن المرءَ بشأنه أكثرُ اهتماماً منه بشأن أصحابِه كما في قوله تعالى: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} وقيل: المعنى وما أنزلت سورةٌ في عيوب المنافقين {ثُمَّ انصرفوا} عطفٌ على نظَر بعضُهم والتراخي باعتبار وُجدانِ الفرصةِ والوقوفِ على عدمِ رؤيةِ أحدٍ من المؤمنين، أي انصرفوا جميعاً عن محفِل الوحيِ خوفاً من الافتضاح أو غير ذلك {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} أي عن الإيمان حسَب انصرافِهم عن المجلس، والجملةُ اختباريةٌ أو دعائية {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} لسوء الفهم أو لعدم التدبّر.

.تفسير الآيات (128- 129):

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
{لَقَدْ جَاءكُمْ} الخطابُ للعرب {رَّسُولٌ} أي رسول عظيمُ الشأن {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم عربيٌّ قرشيٌّ مثلُكم وقرئ بفتح الفاء أي أشرفِكم وأفضِلكم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي شاقٌّ شديدٌ عليه عَنَتُكم ولقاؤكم المكروهَ فهو يخاف عليكم سوءَ العاقبةِ والوقوعَ في العذاب، وهذا من نتائج ما سلف من المجانسة {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} في إيمانكم وصلاحِ حالِكم {بالمؤمنين} منكم ومن غيركم {رَءوفٌ رَّحِيمٌ} قدِّم الأبلغُ منهما وهي الرأفةُ التي هي عبارةٌ عن شدة الرحمةِ محافظةً على الفواصل {فَإِن تَوَلَّوْاْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسليةً له أي إن أعرضوا عن الإيمان بك {فَقُلْ حَسْبِىَ الله} فإنه يكفيك ويُعينك عليهم {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} استئناف مقرِّرٌ لمضمون ما قبله {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فلا أرجو ولا أخاف إلا منه {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} أي المُلك العظيمِ أو الجِسم الأعظمِ المحيط الذي تنزل منه الأحكامُ والمقادير، وقرئ {العظيمُ} بالرفع. وعن أبي هريرة أن آخِرَ ما نزل هاتان الآيتان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نزل القرآنُ إلا آيةً آيةً وحرفاً حرفاً ما خلا سورةَ براءةٌ وسورةَ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فإنهما أُنزلتا عَليّ ومعهما سبعون ألفَ صفٍ من الملائكة».

.سورة يونس عليه السلام:

مكية وهي مائة وتسع آيات.

.تفسير الآية رقم (1):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)}
{الر} بتفخيم الراءِ المفتوحةِ وقرئ بالإمالة إجراءً للأصلية مُجرى المنقلبة عن الياء وقرئ بينَ بين وهو إما مسرودٌ على نمط التعديدِ بطريق التحدّي على أحد الوجهين المذكورين في فاتحة سورة البقرة فلا محلَّ له من الإعراب وإما اسمٌ للسورة كما عليه إطباقُ الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذه السورةُ مسماةٌ بألر، وهو أظهرُ من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلمِ بالتسمية بعدُ، فحقُّها الإخبارُ بها لا جعلُها عنوانَ الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب كما مر. والإشارةُ إليها قبل جَرَيانِ ذكرها لِما أنها باعتبار كونِها على جناح الذكْرِ وبصدده صارت في حكم الحاضِر كما يقال: هذا ما اشترى فلان، أو النصب بتقدير فعل لائقٍ بالمقام نحوُ اذكر أو اقرأ، وكلمةُ {تِلْكَ} إشارةٌ إليها إما على تقدير كونِ الر مسرودةً على نمط التعديدِ فقد نُزّل حضورُ مادتِها التي هي الحروفُ المذكورةُ منزلةَ ذكِرها فأشير إليها كأنه قيل: هذه الكلماتُ المؤلفةُ من جنس هذه الحروفِ المبسوطةِ الخ، وأما تقدير كونِه اسماً للسورة فقد نوّهتُ بالإشارة إليها بعد تنويهِها بتعيين اسمِها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلِتها في الفخامة ومحلُّه الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه قوله تعالى: {آيَات الكتاب} وعلى تقدير كون الر مبتدأً فهو مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول والمعنى هي آياتٌ مخصوصةٌ منه مترجمةٌ باسم مستقلٍ والمقصودُ ببيانِ بعضيَّتِها منه وصفُها بما اشتهر اتصافُه به من النعوت الفاضلةِ والصفاتِ الكاملةِ، والمرادُ بالكتاب إما جميعُ القرآنِ العظيم وإن لم ينزل الكلُّ حينئذ إما باعتبار تعيّنِه وتحققِه في علم الله عز وعلا أو في اللوح أو باعتبار أنه أُنزل جملةً إلى السماء الدنيا كما هو المشهورُ فإن فاتحةَ الكتاب كانت مسماةً بهذا الاسم وبأم القرآن في عهد النبوة ولمّا يحصُلِ المجموعُ الشخصي إذ ذاك فلابد من ملاحظة كلَ من الكتاب القرآن بأحد الاعتباراتِ المذكورةِ وما جميعُ القرآنِ النازلِ وقتئذ المتفاهَمِ بين الناسِ إذ ذاك فإنه كما يُطلق على المجموع الشخصيّ يُطلق على مجموع ما نزل في كل عصرٍ، ألا يُرى إلى ما رُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحُدٍ في ثوب واحد ثم يقول: «أيُّهم أكثرُ أخذاً للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد فإن ما يفهمه الناسُ من القرآن في ذلك الوقت ويحافظون على التفاوت في أخذه إنما هو المجموعُ النازلُ حينئذ من غير ملاحظةٍ لتحقق المجموعِ الشخصيِّ في علم الله سبحانه أو في اللوح ولا لنزوله جملةً إلى السماء الدنيا.
{الحكيم} ذي الحِكمة وصُف به لاشتماله على فنون الحِكَم الباهرةِ ونُطقِه بها، أو هو من باب وصفِ الكلامِ بصفة صاحبِه أو من باب الاستعارة المكنيةِ المبنيةِ على تشبيه الكتابِ بالحكيم الناطق بالحكمة، هذا وقد جعل الكتابُ عبارةً عن نفس السورةِ، وكلمةُ تلك إشارةٌ إلى ما في ضمنها من الآي فإنها في حكم الحاضرِ لاسيما بعد ذكر ما يتضمنها من السورة عند بيان اسمِها أو الأمرِ بذكرها أو بقراءتها، وينبغي أن يكون المشارُ إليه حينئذ كلَّ واحدةٍ منها لا جميعَها من حيث هو جميعٌ لأنه عينُ السورةِ فلا يكون للإضافة وجهٌ ولا لتخصيص الوصفِ بالمضاف إليه حكمةٌ فلا يتأتى ما قُصد من مدح المضافِ بما للمضاف إليه من صفات الكمال ولأن في بيان اتصافِ كلَ منها بالكمال من المبالغة ما ليس في بيان اتصافِ الكلِّ بذلك، والمتبادرُ من الكتاب عند الإطلاقِ وإن كان كلُّه بأحد الوجهين المذكورين لكنّ صحةَ إطلاقِه على بعضه أيضاً مما لا ريب فيها، والمعهودُ المشهورُ وإن كان اتصافُ الكل بأحد الاعتبارين بما ذُكر من نعوت الكمالِ إلا أن شهرةَ اتصافِ كل سورةٍ منه بما اتصف به الكلُّ مما لا ينكر، وعليه يدور تحققُ مدحِ السورةِ بكونها بعضاً من القرآن الكريم إذ لولا أن بعضَه منعوتٌ بنعت كلِّه داخلٌ تحت حكمهِ لما تسنى ذلك، وفيه ما لا يخفى من التكلف والتعسف.

.تفسير الآية رقم (2):

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)}
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} الهمزةُ لإنكار تعجّبِهم ولتعجب السامعين منه لكونه في غير محلِّه، والمرادُ بالناس كفارُ مكةَ، وإنما عبِّر عنهم باسم الجِنسِ من غير تعرُّضٍ لكفرهم مع أنه المدارُ لتعجبهم كما تُعُرِّض له في قوله عز وجل: {قَالَ الكافرون} إلخ لتحقيق ما فيه الشركةُ بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعيينِ مدارِ التعجبِ في زعمهم ثم تبيينِ خطئِهم وإظهارِ بطلانِ زعمِهم بإيراد الإنكارِ والتعجيب، واللامُ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من عجباً وقيل: بعجباً على التوسع المشهورِ في الظروف، وقيل: المصدرُ إذا كان بمعنى اسم الفاعلِ أو اسمِ المفعول جاز تقديمُ معمولِه عليه، وقيل: متعلقةٌ بكان وهو مبنيٌّ على دلالة كان الناقصةِ على الحدث {أَنْ أَوْحَيْنَا} اسمُ كان قُدِّم عليه خبرُها اهتماماً بشأنه لكونه مدارَ الإنكارِ والتعجيبِ وتشويقاً إلى المؤخَّر ولأن في الاسم ضربَ تفصيلٍ ففي مراعاة الأصلِ نوعُ إخلالٍ يتجاوب أطرافِ الكلام، وقرئ برفع عجب على أنه الاسمُ وهو نكرةٌ والخبرُ أن أوحينا وهو معرفةٌ لأن أن مع الفعل في تأويل المصدرِ المضافِ إلى المعرفة البتةَ والمختارُ حينئذ أن تجعل كان تامةٌ وأن أوحينا متعلقاً بعجبٌ على حذف حرف التعليل أي أحدث للناس عجبٌ لأن أوحينا أو من أن أوحينا، أو بدلاً من عجبٌ لكن لا على توجيه الإنكارِ والتعجيب إلى حدوثه بل إلى كونه عجباً، فإن كونَ الإبدال في حكم تنحيةِ المبدَلِ منه ليس معناه إهدارَه بالمرة وإنما قيل: للناس لا عند الناس للدِلالة على أنهم اتخذوه أعجوبةً لهم، وفيه من زيادة تقبيحِ حالِهم ما لا يخفى {إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} أي إلى بشر من جنسهم كقولهم: أبعث الله بشراً رسولاً أو من حيث المال لا من عظمائهم كقولهم: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} وكلا الوجهين من ظهور البطلانِ بحيث لا مزيد عليه. أما الأولُ فلأن بعثَ الملَكِ إنما يكون عند كون المبعوثِ إليهم ملائكةً كما قال سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ فِي الارض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً} وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملكية كيف لا وهي منوطةٌ بالتناسب والتجانس، فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها يدور فلكُ التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يُبعث الملكُ من بينهم إلى الخواصّ المختصين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القدسيةِ المتعلّقين بكلا العالَمين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوْا من جانب ويُلْقوا إلى جانب. وأما الثاني فلما أن مناطَ الاصطفاء للنبوة والرسالةِ هو التقدُم في الاتصاف بما ذكر من النعوت الجميلةِ والصفاتِ الجليلة والسبْقِ في إحراز الفضائلِ العلية وحيازةِ الملَكات السنية جِبِلّةً واكتساباً، ولا ريب لأحد منهم في أنه عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأنِ في غاية الغاياتِ القاصيةِ ونهايةِ النهاياتِ النائيةِ، وأما التقدمُ في الرياسات الدنيويةِ والسبْقِ في نيل الحظوظِ الدنية فلا دخلَ له في ذلك قطعاً بل له إخلالٌ به غالباً قال عليه الصلاة والسلام:
«لو كانت الدنيا تزنُ عند الله جَناحَ بعوضةٍ ما سقى الكافرَ منها شربةَ ماء».
{أَنْ أَنذِرِ الناس} أن مصدريةٌ لجواز كونِ صلتِها أمراً كما في قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} وذلك لأن الخبرَ والإنشاءَ في الدلالة على المصدر سيانِ فساغ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسبَ وقوعِ الفعل فلا يجرد عند ذلك عن معنى الأمرِ والنهي نحوَ تجرُّدِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيِّ والاستقبالِ، ووجوبُ كونِ الصلةِ في الموصول الاسميِّ خبريةً إنما هو للتوصل بها إلى وصف المعارفِ بالجمل لا لقصور في دلالة الإنشاءِ على المصدر، أو مفسرةٌ إذ الإيحاءُ فيه معنى القولِ وقد جوز كونُها مخفّفة من المثقّلة على حذف ضميرِ الشأنِ والقولِ من الخبر والمعنى أن الشأنَ قولُنا: أنذر الناسَ، والمرادُ به جميعُ الناسِ كافةً لا ما أريد بالأول وهو النكتةُ في إيثار الإظهارِ على الإضمار، وكونُ الثاني عينَ الأولِ عند إعادة المعرفةِ ليس على الإطلاق {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} بما أوحيناه وصدّقوه {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم {قَدَمَ صِدْقٍ} أي سابقةً ومنزلةً رفيعة {عِندَ رَبّهِمْ} وإنما عبر عنها بها إذ بها يحصُل السبْقُ والوصولُ إلى المنازل الرفيعةِ كما يعبر عن النعمة باليد لأنها تعطى بها، وقيل: مقامَ صدقٍ، والوجهُ أن الوصولَ إلى المقام إنما يحصُل بالقدم وإضافتُها إلى الصدق للدلالة على تحققها وثباتِها، وللتنبيه على أن مدارَ نيلِ ما نالوه من المراتب العليةِ هو صدقُهم فإن التصديقَ لا ينفك عن الصدق {قَالَ الكافرون} هم المتعجبون، وإيرادُهم هاهنا بعنوان الكفر مما لا حاجة إلى ذكر سببِه، وتركُ العاطفِ لجرَيانه مَجرى البيانِ للجملة التي دخلت عليها همزةُ الإنكار أو لكونه استئنافاً مبنياً على السؤال، كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجبِ هل بقُوا على التردد والاستبعادِ أو قطعوا فيه بشيء؟ فقيل: قال الكافرون على طريقة التأكيدِ: {إِنَّ هَذَا} يعنون به ما أوحيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن الحكيم المنطوي على الإنذار والتبشير {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ وقرئ {لساحْر} على أن الإشارةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرئ {ما هذا إلا سحرٌ مبينٌ}، وهذا اعترافٌ من حيث لا يشعرون بأن ما عاينوه خارجٌ عن طَوْق البشر نازلٌ من جناب خلاق القُوى والقدَر ولكنهم سمَّوه بما قالوا تمادياً في العناد كما هو ديدنُ المكابرِ اللَّجوجِ ودأبُ المُفحَمِ المحجوج.