فصل: تفسير الآية رقم (15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (15):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ} التفاتٌ من خطابهم إلى الغَيبة إعراضاً عنهم وتوجيهاً للخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعديد جناياتِهم المضادةِ لما أريد منهم بالاستخلاف، من تكذيب الرسولِ والكفر بالآيات البيناتِ وغيرِ ذلك كدأب مَنْ قبلهم من القرون المهلَكة، وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على تجدد جوابِهم الآتي حسبَ تحددِ التلاوة {آياتنا} الدالةُ على حقية التوحيدِ وبُطلانِ الشركِ، والإضافةُ لتشريف المضافِ والترغيبِ في الإيمان به والترهيبِ عن تكذيبه {بينات} حالَ كونِها واضحاتِ الدِلالةِ على ذلك، وإيرادُ فعل التلاوةِ مبنياً للمفعول مسنداً إلى الآيات دون رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدمِ الحاجةِ لتعيّن التالي وللإيذان بأن كلامَهم في نفس المتلوِّدون التالي {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} وضعَ الموصولُ موضعَ الضميرِ إشعاراً بعلّية ما في حيز الصلةِ العظيمةِ المحكيةِ عنهم وأنهم إنما اجترءوا عليها لعدم خوفِهم من عقابه تعالى يوم اللقاءِ لإنكارهم له ولما هو من مباديه من البعث وذماً لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وإنما لم يذكر إيذاناً بتعينه {ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا} أشاروا بهذا إلى القرآنِ المشتملِ على تلك الآياتِ لا إلى نفسها فقط قصداً إلى إخراج الكلِّ من البين أي ائت بكتاب آخرَ نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والحسابِ والجزاءِ وما نكرهه من ذم آلهتِنا ومعايبِها والوعيدِ على عبادتها {أَوْ بَدّلْهُ} بتغيير ترتيبِه بأن تجعلَ مكانَ الآيةِ المشتملةِ على ذلك آيةً آخرى خاليةً عنها وإنما قالوه كيداً وطمعاً في المساعدة ليتوسلوا به إلى الإلزام والاستهزاء به {قُلْ} لهم {مَا يَكُونُ لِى} أي ما يصح وما يستقيم لي ولا يمكنني أصلاً {أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى} أي من قبل نفسي وهو مصدرٌ استعمل ظرفاً، وقرئ بفتح التاءِ وقصر الجواب ببيان امتناعِ ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالةَ ما اقترحوه أولاً من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها وأن التصدّيَ لذلك مع كونه ضائعاً ربما يُعد من قبيل المجاراةِ مع السفهاء إذ لا يصدُر مثلُ ذلك الاقتراحِ عن العقلاء، ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأولِ بالطريق الأولى.
{إِنْ أَتَّبِعُ} أي ما أتبع في شيء مما آتي وأذَرُ {إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} من غير تغيير له في شيء أصلاً على معنى قصرِ حالِه عليه السلام على اتباع ما يوحى إليه لا قصرِ اتباعِه على ما يوحى إليه كما هو المتبادرُ من ظاهر العبارةِ كأنه قيل: ما أفعل إلا اتباعَ ما يوحى إلي وقد مر تحقيقُ المقامِ في سورة الأنعام، وهو تعليلٌ لصدر الكلامِ، فإن مَنْ شأنُه اتباعُ الوحي على ما هو عليه لا يستبد بشيء دونه قطعاً، وفيه جوابٌ للنقض بنسخ بعضِ الآياتِ ببعض وردٌّ لما عرّضوا به عليه الصلاة والسلام بهذا السؤال من أن القرآنَ كلامُه عليه الصلاة والسلام ولذلك قيّد التبديلُ في الجواب بقوله: {مِن تِلْقَاء نَفْسِى} وسماه عصياناً عظيماً مستتبِعاً لعذاب عظيم بقوله تعالى: {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فإنه تعليلٌ لمضمون ما قبله من امتناع التبديلِ واقتصارِ أمرِه عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي، أي أخاف إن عصيتُه تعالى بتعاطي ما ليس لي من التبديل من تلقاء نفسي والإعراضِ عن اتباع الوحي عذابَ يوم عظيم هو يومُ القيامة أو يومُ اللقاءِ الذي لا يرجونه، وفيه إشعارٌ بأنهم استوجبوه بهذا الاقتراحِ.
والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتهويل أمرِ العصيان وإظهارِ كمالِ نزاهتِه عليه السلام عنه، وإيرادُ اليوم بالتنوين التفخيميّ ووصفُه بالعظم لتهويل ما فيه من العذاب وتفظيعِه، ولا مساغَ لحمل مُقترَحِهم على التبديل والإتيانِ بقرآن آخرَ من جهة الوحي بتفسير قوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى} بأنه لا يتسهّلُ لي أن أبدلَه بالاستدعاء من جهة الوحي، ما أتبع إلا ما يوحى إليّ من غير صنعٍ ما من الاستدعاء وغيرِه من قِبلي، لأنه يرده التعليلُ المذكورُ لا لأن المقترَحَ حينئذٍ ليس فيه معصيةٌ أصلاً كما تُوُهم، فإن استدعاءَ تبديلِ الآياتِ النازلِة حسبما تقتضيه الحكمةُ التشريعيةُ بعضِها ببعض، لاسيما بموجب اقترحِ الكفرة مما لا ريبَ في كونه معصيةً بل لأنه ليس فيه معصيةُ الافتراءِ مع أنها المقصودةُ بما ذُكر في التعليل، ألا يُرى إلى ما بعده من الآيتين الكريمتين فإنه صريحٌ في أن مقترحَهم الإتيانُ بغير القرآنِ وتبديلُه بطريق الافتراءِ وأن زعمَهم في الأصل أيضاً كذلك.

.تفسير الآية رقم (16):

{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}
وقوله عز وجل: {قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} تحقيقٌ لحقية القرآنِ وكونِه من عند الله تعالى إثرَ بيانِ بطلانِ ما اقترحوا الإتيانَ به واستحالتِه عبارةً ودلالةً، وإنما صدر بالأمر المستقلِّ مع كونه داخلاً تحت الأمرِ السابقِ إظهاراً لكمال الاعتناءِ بشأنه وإيذاناً باستقلاله مفهوماً وأسلوباً، فإنه برهانٌ دالٌّ على كونه بأمر الله تعالى ومشيئتِه كما سيأتي، وما سبق مجردُ إخبارٍ باستحالة ما اقترحوه، ومفعولُ شاء محذوفٌ ينبىء عنه الجزاءُ لا غيرُ ذلك كما قيل فإن مفعولَ المشيئةِ إنما يحذف إذا وقعت شرطاً وكان مفعولُها مضمونَ الجزاءِ ولم يكن في تعلقها به غرابةٌ كما في قوله:
لو شئتُ أن أبكي دماً لبكَيتُه

حيث لم يحُذف لفقدان الشرطِ الأخيرِ ولأن المستلزِمَ للجزاء أعني عدمَ تلاوتِه عليه الصلاة والسلام للقرآن عليهم إنما هو مشيئتُه تعالى له لا مشيئتُه لغير القرآن، والمعنى أن الأمرَ كلَّه منوطٌ بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء قط، ولو شاء عدمَ تلاوتي له عليكم لا بأن شاء عدمَ تلاوتي له من تلقاء نفسي بل بأن يُنزِلْه عليّ ولم يأمُرْني بتلاوته كما ينبىء عنه إيثارُ التلاوة على القراءة ما تلوتُه عليكم {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أعلمَكم به بواسطتي، والتالي وهو عدمُ التلاوةِ والإدراءِ منتفٍ فينتفي المقدّم أعني مشيئتَه عدمَ التلاوة، ولا يخفى أنها مستلزمةٌ لعدم مشيئتِه التلاوة قطعاً، فانتفاؤُها مستلزمٌ لانتفائه حتماً وانتفاءُ عدمِ مشيئتِه التلاوةَ إنما يكون بتحقق مشيئةِ التلاوةِ فثبت أن تلاوتَه عليه الصلاة والسلام للقرآن بمشيئته تعالى وأمرِه، وإنما قيدنا الإدراءَ بكونه بواسطته عليه الصلاة والسلام لأن عدمَ الإعلامِ مطلقاً ليس من لوازم الشرطِ الذي هو مشيئةُ عدمِ تلاوتِه عليه السلام فلا يجوز نظمُه في سلك الجزاءِ، وفي إسناد عدمِ الإدراءِ إليه تعالى المنبىءِ عن استناد الإدراءِ إليه تعالى إيذانٌ بأنْ لا دخلَ له عليه السلام في ذلك حسبما يقتضيه المقامُ، وقرئ {ولا أدرَأْنُكم} {ولا أدرَأَكم} بالهمزة فيهما على لغة من يقول: أعطأتُ وأرضأتُ في أعطيت وأرضيتُ أو على أنه من الدرء بمعنى الدفعِ أي ولا جعلتُكم بتلاوته عليكم خصَماءَ تدرَؤُني بالجِدال، وقرئ {ولا أنذرتُكم به} وقرئ {لأدْرَاكم} بلام الجوابِ، أي لو شاء الله ما تلوتُه عليكم أنا ولأَعلَمكم به على لسان غيري، على معنى أنه الحقُّ الذي لا محيصَ عنه، لو لم أُرسل به أنا لأُرسل به غيري البتة، أو على معنى أنه تعالى يمُنّ على من يشاء فخصّني بهذه الكرامة.
{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً} تعليلٌ للملازمة المستلزِمةِ لكون تلاوتِه بمشيئة الله تعالى وأمره حسبما بيّن آنفاً، لكن لا بطريق الاستدلالِ عليها بعدم تلاوتِه عليه الصلاة والسلام فيما سبق بسبب مشيئتِه تعالى إياه بل بطريق الاستشهادِ عليها بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام في تلك المدةِ الطويلةِ من الأمور الدالةِ على استحالة كونِ التلاوةِ من جهته عليه الصلاة والسلام بلا وحيٍ، وعمراً نُصب على التشبيه بظرف الزمانِ، والمعنى قد أقمتُ فيما بينكم دهراً مديداً مقدارَ أربعين سنةً تحفظون تفاصيلَ أحوالي طرّاً وتحيطون بما لديّ خبراً {مِن قَبْلِهِ} أي من قبل نزولِ القرآن لا أتعاطى شيئاً مما يتعلق به لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشفُ عن أسرار الحقائقِ وأحكامِ الشرائع {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تلاحِظون ذلك فلا تعقلون امتناعَ صدورِه عن مثلي، ووجوبَ كونِه منزلاً من عند الله العزيز الحكيم فإنه غيرُ خافٍ على من له عقلٌ سليمٌ.
والحق الذي لا محيدَ عنه أن مَنْ له أدنى مَسَكةٍ من العقل إذا تأمل في أمره عليه الصلاة والسلام وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهرَ الطويلَ من غير مصاحبةِ العلماء في شأن من الشؤون ولا مراجعةٍ إليهم في فن من الفنون ولا مخالطةِ البلغاءِ في المفاوضة والحِوار ولا خوضٍ معهم في إنشاء الخُطبِ والأشعار ثم أتى بكتاب بهَرتْ فصاحتُه كلَّ فصيح فائقٍ وبزّت بلاغتُه كلَّ بليغٍ رائقٍ أو علا نظمُه كلَّ منثور ومنظومٍ وحوى فحواه بدائعَ أصنافِ العلومِ، كاشفٌ أسرارَ الغيبِ من وراء أستارِ الكمُون ناطقٌ بأخبار ما قد كان وما سيكون، مصدقٌ لما بين يديه من الكتب المنزلةِ مهيمنٌ عليها في أحكامها المُجْملة والمفصّلة لا يبقى عنده شائبةُ اشتباهٍ في أنه وحيٌ منزلٌ من عند الله، هذا هو الذي اتفقت عليه كلمةُ الجمهور، ولكن الأنسبَ ببناء الجوابِ فيما سلف على مجرد امتناعِ صدورِ التغيير والتبديلِ عنه عليه الصلاة والسلام لكونه معصيةً موجبةً للعذاب العظيم واقتصارِ حالِه عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي وامتناعِ الاستبدادِ بالرأي من غير تعرضٍ هناك ولا هاهنا لكون القرآنِ في نفسه أمراً خارجاً عن طَوْق البشرِ ولا لكونه عليه الصلاة والسلام غيرَ قادرٍ على الإتيان بمثله أن يُستشهدَ هاهنا على المطلب بما يلائم ذلك من أحواله المستمرةِ في تلك المدةِ المتطاولةِ من كمال نزاهتِه عليه الصلاة والسلام عما يوهم شائبةَ صدورِ الكذبِ والافتراءِ عنه في حق أحدٍ كائناً مَنْ كان كما ينبىء عنه تعقيبُه بتظليم المفتري على الله تعالى، والمعنى قد لبثتُ فيما بين ظَهْرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدالٍ ولا أحوم حولَ مقالٍ فيه شائبةُ شبهةٍ فضلاً عما فيه كذبٌ أو افتراءٌ، ألا تلاحظون فلا تعقِلون أن مَنْ هذا شأنُه المطردُ في هذا العهد البعيدِ مستحيلٌ أن يقتريَ على الله عز وجل ويتحكم على كافة الخلقِ بالأوامر والنواهي الموجبةِ لسلب الأموالِ وسفكِ الدماءِ ونحو ذلك، وأن ما أتى به وحيٌ مبينٌ تنزيلٌ من رب العالمين.

.تفسير الآيات (17- 18):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}
وقوله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} استفهامٌ إنكاريٌّ معناه الجحدُ أي لا أحدَ أظلمُ منه على معنى أنه أظلم من كل ظالم، وإن كان سبكُ التركيب مفيداً لإنكار أن يكون أحدٌ أظلم منه من غير تعرضٍ لإنكار المساواةِ ونفيها، فإنه إذا قيل: مَنْ أفضلُ من فلان أو لا أعلمَ منه يُفهم منه حتماً أنه أفضلُ من كل فاضل وأعلمُ من كل عالم، وزيادةُ قوله تعالى: {كَذِبًا} مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما أضافوه إليه ضِمْناً وحملوه عليه الصلاة والسلام صريحاً مع كونه افتراءً على الله تعالى كذبٌ في نفسه، فربّ افتراءٍ يكون كذبُه في الإسناد فقط كما إذا أسند ذنبُ زيدٍ إلى عمرو، وهذا للمبالغة منه عليه الصلاة والسلام في التفادي عما ذُكر من الافتراء على الله سبحانه {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} فكفر بها، وهذا تظليمٌ للمشركين بتكذيبهم للقرآن وحملِهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام، والفاءُ لترتيب الكلامِ على ما سبق من بيان كونِ القرآنِ بمشيئته تعالى وأمرِه، فلا مجال لحمل الافتراءِ باتخاذ الولدِ والشريك، أي وإذا كان الأمرُ كذلك فمن افترى عليه تعالى بأن يختلقَ كلاماً فيقول: هذا من عند الله أو يبدل بعضَ آياتِه تعالى ببعض كما تجوّزون ذلك في شأني، وكذلك مَن كذب بآياته تعالى كما تفعلونه أظلمُ من كل ظالم {إِنَّهُ} الضمير للشأن وقع اسماً لإن والخبرُ ما يعقُبه من الجملة، ومدارُ وضعِه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المغنيةِ عن ذكره، وفائدةُ تصديرِها به الإيذانُ بفخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإن الضميرَ لا يُفهم منه من أول الأمرِ إلا شأنٌ مبْهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه فيتمكن عند ورودِه عليه فضلُ تمكنٍ، فكأنه قيل: إن الشأنَ هذا أي {لاَ يُفْلِحُ المجرمون} أي لا ينجُون من محذور ولا يظفَرون بمطلوب، والمرادُ جنسُ المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجاً أولياً.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} حكايةٌ لجناية أخرى لهم نشأتْ عنها جنايتُهم الأولى معطوفةٌ على قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ} الآية، عطفَ قصةٍ على قصة، ومن دون متعلقٌ بيعبدون ومحلُّه النصبُ على الحالية من فاعله أي متجاوزين الله سبحانه لا بمعنى تركِ عبادتِه بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاءِ بها وجعلها قريناً لعبادة الأصنامِ كما يُفصح عنه سياقُ النظمِ الكريم {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} أي ما ليس من شأنه الضرُّ والنفعُ من الأصنام التي هي جمادات، وما موصولةٌ أو موصوفةٌ، وتقديمُ نفي الضررِ لأن أدنى أحكامِ العبادةِ دفعُ الضررِ الذي هو أولُ المنافع، والعبادةُ أمرٌ حادث مسبوقٌ بالعدم الذي هو مظِنّةُ الضرر فحيث لم تقدِر الأصنامُ على الضرر لم يوجد لإحداث العبادة سببٌ، وقيل: لا يضرّهم إن تركوا عبادتَها ولا ينفعهم إن عبدوها.
كان أهلُ الطائفِ يعبُدون اللاتَ وأهلُ مكةَ عزى ومَناةَ وهُبَل وإسافاً ونائلةً {وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} عن النضْر بن الحارثِ إذا كان يوم القيامة يشفع لى اللاتُ. قيل: إنهم كانوا يعتقدون أن المتوليَ لكل إقليمٍ روحٌ معينٌ من أرواح الأفلاكِ فعيّنوا لذلك الروحِ صنماً معيناً من الأصنام واشتغلوا بعبادته ومقصودُهم ذلك الروحُ ثم اعتقدوا أن ذلك الروحَ يكون عند الإله الأعظمِ مشتغلاً بعبوديته وقيل: إنهم كانوا يعبدون الكواكبَ فوضعوا لها أصناماً معينة واشتغلوا بعبادتها قصداً إلى عبادة الكواكبِ، وقيل: إنهم وضعوا طلسماتٍ معينةً على تلك الأصنام ثم تقربوا إليها، وقيل: إنهم وضعوا هذه الأصنامَ على صور أنبيائِهم وأكابرِهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيلِ فإن أولئك الأكابرَ يشفعون لهم عند الله تعالى.
{قُلْ} تبكيتاً لهم {أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ} أي أتخبرونه بما لا وجودَ له أصلاً وهو كونُ الأصنامِ شفعاءَهم عند الله تعالى إذ لولاه لعلمه علامُ الغيوبِ، وفيه تقريعٌ لهم وتهكّمٌ بهم وبما يدعونه من المُحال الذي لا يكاد يدخُل تحت الصحة والإمكانِ، وقرئ {أتنبِّيون} بالتخفيف وقوله تعالى: {فِي السموات وَلاَ فِي الارض} حالٌ من العائد المحذوفِ في يعلم مؤكدةٌ للنفي، لأن ما لا يوجد فيهما فهو منتفٍ عادة {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراكهم المستلزمِ لتلك المقالةِ الباطلةِ أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاءَهم عند الله تعالى وقرئ {تُشركون} بتاء الخطاب على أنه من جملة القولِ المأمورِ به، وعلى الأول هو اعتراضٌ تذييليٌّ من جهته سبحانه وتعالى.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)}
{وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} بيانٌ لأن التوحيدَ والإسلامَ ملةٌ قديمةٌ أجمعت عليها الناسُ قاطبة فطرةً وتشريعاً وأن الشركَ وفروعَه جهالاتٌ ابتدعها الغواةُ خلافاً للجمهور وشقاً لعصا الجماعةِ، وأما حملُ اتحادِهم على الاتفاق على الضلال عند الفترةِ واختلافُهم على ما كان منهم من الاتباع والإصرارِ فمما لا احتمالَ له، أي وما كان الناسُ كافةً من أول الأمرِ إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلافٍ، وذلك من عهد آدمَ عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيلُ هابيلَ، وقيل: إلى زمن إدريسَ عليه السلام وقيل: إلى زمن نوحٍ عليه السلام وقيل: من حينِ الطوفانِ حينَ لم يذر الله من الكافرين دياراً إلى أن ظهر فيما بينهم الكفرُ، وقيل: من لدُنْ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام إلى أن أظهر عمْرُو بنُ لحيَ عبادةَ الأصنام، فالمرادُ بالناس العربُ خاصةً وهو الأنسب بإيراد الآيةِ الكريمة إثرَ حكايةِ ما حُكي عنهم من الهَنات وتنزيهِ ساحةِ الكبرياء عن ذلك {فاختلفوا} بأن كفرَ بعضُهم وثبت آخرون على ما هم عليه فخالف كلٌّ من الفريقين الآخرَ لا أن كلاًّ منهما أحدث ملةً على حدة من ملل الكفرِ مخالفةً لملة الآخر، فإن الكلامَ ليس في ذلك الاختلافِ إذ كلٌّ منهما مبطِلٌ حينئذ فلا يُتصوَّر أن يقضى بينهما بإبقاء المُحقّ وإهلاكِ المبطل، والفاء التعقيبيةُ لا تنافي امتدادَ زمانِ الاتفاقِ إذ المرادُ بيانُ وقوعِ الاختلاف عقيبَ انصرامِ مدةِ الاتفاقِ لا عقيبَ حدوثِ الاتفاق {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} بتأخير القضاءِ بينهم أو بتأخير العذابِ الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يومُ الفصل {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} عاجلاً {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بتمييز الحقِّ من الباطل بإبقاء الحقِّ وإهلاكِ المبطل. وصيغةُ الاستقبال لحكاية الحالِ الماضيةِ وللدلالة على الاستمرار.