فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (50):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}
{قُلْ} لهم غِبَّ ما بيّنتَ كيفيةَ جريانِ سنةِ الله عز وجل فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتَهم على أن عذابَهم أمرٌ مقررٌ محتومٌ لا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلومِ إيذاناً بكمال دنوِّه وتنزيلاً له منزلةَ إتيانِه حقيقة {أَرَءيْتُمْ} أي أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} الذي تستعجلون به {بَيَاتًا} أي وقتَ بياتٍ واشتغالٍ بالنوم {أَوْ نَهَارًا} أي عند اشتغالِكم بمشاغلكم حسبما عُيِّن لكم من الأجل بمقتضى المشيئةٍ التابعةِ للحكمة كما عيّن لسائر الأممِ المهلَكة، وقوله عز وجل: {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} جوابٌ للشرط بحذف الفاءِ كما في قولك: إن أتيتُك ماذا تطعمني؟ والمجرمون موضوعٌ موضعَ المضمر لتأكيد الإنكارِ ببيان مباينةِ حالِهم للاستعجال، فإن حقَّ المجرمِ أن يَهلك فزَعاً من إتيان العذابِ فضلاً عن استعجاله، والجملةُ الشرطيةُ متعلقةٌ بأرأيتم، والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابُه تعالى أيَّ شيءٍ تستعجلون منه سبحانه والشيءُ لا يمكن استعجالُه بعد إتيانِه، والمرادُ به المبالغةُ في إنكار استعجالِه بإخراجه عن حيز الإمكانِ، وتنزيلُه في الاستحالة منزلةَ استعجالِه بعد إتيانِه بناءً على تنزيل تقرر إتيانِه ودنوِّه منزلةَ إتيانه حقيقةً كما أشير إليه، وهذا الإنكارُ بمنزلة النهي في قوله عز وعلا: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} خلا أن التنزيلَ هناك صريحٌ وهنا ضمنيٌّ كما في قول من قال لغريمه الذي يتقضّاه حقَّه: أرأيتَ إن أعطيتُك حقَّك فماذا تطلُب مني؟ يريد المبالغةَ في إنكار التقاضي بنظمه في سلك التقاضي بعد الإعطاءِ بناءً على تنزيل تقرّرِه منزلةَ نفسِه.

.تفسير الآيات (51- 52):

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)}
وقوله عز وجل: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ} إنكارٌ لإيمانهم بنزول العذابِ بعد وقوعِه حقيقةً داخلٌ مع ما قبله من إنكار استعجالِهم به بعد إتيانِه حكماً تحت القولِ المأمورِ به أي أبعد ما وقع العذابُ وحل بكم حقيقةً آمنتم به حين لا ينفعُكم الإيمانُ إنكاراً لتأخيره إلى هذا الحد وإيذاناً باستتباعه للندم والحسرةِ ليُقلعوا عما هم عليه من العناد ويتوجهوا نحوَ التدارُك قبل فوتِ الوقتِ، فتقديمُ الظرفِ للقصر، وقيل: ماذا يستعجل منه متعلِّقٌ بأرأيتم، وجوابُ الشرطِ محذوفً أي تندموا على الاستعجال أو تعرِفوا خطأه، والشرطيةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون الاستخبار، وقيل: الجوابُ قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} الخ، والاستفهاميةُ الأولى اعتراضٌ والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابُه آمنتم به بعد وقوعِه حين لا ينفعكم الإيمانُ ثم جيء بكلمة التراخي دِلالةً على الاستبعاد، ثم زيد أداةُ الشرطِ دِلالةً على استقلاله بالاستبعاد وعلى أن الأولَ كالتمهيد له وجيء {بإذا} مؤكداً {بما} ترشيحاً لمعنى الوقوعِ وزيادةً للتجهيل وأنهم لم يؤمنوا إلا بعد أن لم ينفعْهم الإيمانُ البتةَ وقوله تعالى: {آلْآنَ} استئنافٌ من جهته تعالى غيرُ داخل تحت القول الملقن مَسوقٌ لتقرير مضمونِ ما سبق على إرادة القولِ، أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوعِ العذاب: آلآن آمنتم به؟ إنكاراً للتأخير وتوبيخاً عليه ببيان أنه لم يكن ذلك لعدم سبق الإنذارِ به ولا للتأمل والتدبرِ في شأنه ولا لشيء آخرَ مما عسى يُعدّ عذراً في التأخير، كان ذلك على طريق التكذيبِ والاستعجالِ به على وجه الاستهزاءِ، وقرئ {آلان} بحذف الهمزةِ وإلقاء حركتِها على اللام وقوله تعالى: {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي تكذيباً واستهزاءً، جملةٌ وقعت حالاً من فاعل آمنتم المقدرِ لتشديد التوبيخِ والتقريعِ وزيادةِ التنديمِ والتحسيرِ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصلِ دون القصرِ، وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ} الخ، تأكيدٌ للتوبيخ والعتابِ بوعيد العذابِ والعقابِ وهو عطفٌ على ما قدّر قبل آلآن {لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} إن وضعوا الكفرُ والتكذيبُ موضعَ الإيمان والتصديقِ، أو ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب والهلاكِ، ووضعُ الموصول موضع الضمير لذمهم بما في حيز الصلة والإشعارِ بعلّيته لإصابة ما أصابهم {ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد} المؤلمَ على الدوام {هَلْ تُجْزَوْنَ} اليوم {إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا من أصناف الكفر والمعاصي التي من جملتها ما مرّ من الاستعجال.

.تفسير الآيات (53- 54):

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)}
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} أي يستخبرونك فيقولون على طريقة الاستهزاءِ أو الإنكار: {أَحَقٌّ هُوَ} أحقٌّ خبرٌ قُدم على المبتدإ الذي هو الضميرُ للاهتمام به ويؤيده قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} أو مبتدأٌ والضميرُ مرتفعٌ به سادٌّ مسدَّ الخبر، والجملةُ في موقع النصب بيستنبئونك، وقرئ {أألحقُّ هو}، تعريضاً بأنه باطلٌ كأنه قيل: أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحقَّ؟ {قُلْ} لهم غيرَ ملتفتٍ إلى استهزائهم مغضياً عما قصدوا وبانياً للأمر على أساس الحكمة {إِى وَرَبّى} {إي} من حروف الإيجابِ بمعنى نعم في القسم خاصةً كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصةً، ولذلك يوصل بواوه {إِنَّهُ} أي العذابُ الموعودُ {لَحَقُّ} لثابتٌ البتةَ، أُكّد الجوابُ بأتم وجوهِ التأكيدِ حسب شدةِ إنكارِهم وقوتِه، وقد زيد تقريراً وتحقيقاً بقوله عز اسمُه: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين العذابَ بالهرب وهو لاحقٌ بكم لا محالة وهو إما معطوفٌ على جواب القسم أو مستأنفٌ سيق لبيانِ عجزِهم عن الخلاص مع ما في من التقدير المذكور {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} بالشرك أو التعدّي على الغير أو غيرِ ذلك من أصناف الظلمِ ولو مرةً حسبما يفيده كونُ الصفةِ فعلاً {مَّا فِي الارض} أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالِها ومنافعها قاطبةً بما كثُرت {لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي لجعلتْه فديةً لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه {وَأَسَرُّواْ} أي النفوسُ المدلولُ عليها بكل نفسٍ، والعدولُ إلى صيغة الجمعِ مع تحقق العمومِ في صورة الإفرادِ أيضاً لإفادة تهويلِ الخطبِ بكون الإسرارِ بطريق المعيةِ والاجتماع، وإنما لم يُراعَ ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كونِ جميعِ ما في الأرض لكل واحدةٍ من النفوس، وإيثارُ صيغةِ جمعِ المذكرِ لحمل لفظ النفسِ على الشخص أو لتغليب ذكورِ مدلولِه على إناثه {الندامة} على ما فعلوا من الظلم أي أخفَوْها ولم يظهروها لكن لا للاصطبار والتجلد هيهاتَ ولاتَ حينَ اصطبارٍ بل لأنهم بُهتوا {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي عند معاينتِهم من فظاعة الحالِ وشدةِ الأهوالِ ما لم يكونوا يحتسبوا فلم يقدروا على أن ينطِقوا بشيء، {فلما} بمعنى حين منصوبٌ بأسرّوا أو حرفُ شرطٍ حذف جوابُه لدِلالة ما تقدم عليه، وقيل: أسرها رؤساؤُهم ممن أضلوهم حياءً منهم وخوفاً من توبيخهم، ولكن الأمرَ أشدُّ من أن يعترِيَهم هناك شيءٌ غيرَ خوفِ العذاب، وقيل: أسروا الندامةَ أخلصوها لأن إسرارها إخلاصُها أو لأن سرَّ الشيءِ خالصتُه حيث تخفى ويُضَنّ بها، ففيه تهكمٌ بهم. وقيل: أظهروا الندامةَ من قولهم: أسرَّ الشيء وأشره إذا أظهره حين عيل صبرُه وفنِيَ تجلُّده {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي أُوقع القضاءُ بين الظالمين من المشركين وغيرِهم من أصناف أهل الظلمِ بأن أُظهر الحقُّ سواءٌ كان من حقوق الله سبحانه أو من حقوق العبادِ من العباد من الباطل، وعومل أهلُ كل منهما بما يليق به {بالقسط} بالعدل، وتخصيصُ الظلم بالتعدي وحملُ القضاء على مجرد الحكومةِ بين الظالمين والمظلومين من غير أن يُتعرَّضَ لحال المشركين وهم أظلمُ الظالمين لا يساعدُه المقامُ فإن مقتضاه كونُ الظلم عبارةً عن الشرك أو عما يدخُل فيه دخولاً أولياً {وَهُمْ} أي الظالمون {لاَ يُظْلَمُونَ} فيما فعل بهم من العذاب بل هو من مقتضيات ظلمِهم ولوازمِه الضرورية.

.تفسير الآيات (55- 57):

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)}
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات والارض} أي ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما، وكلمةُ ما لتغليب غيرِ العقلاءِ على العقلاء، فهو تقريرٌ لكمال قدرتِه سبحانه على جميع الأشياءِ وبيانٌ لاندراج الكلِّ تحت ملكوتِه يتصرف فيه كيفما يشاء إيجاداً وإعداماً وإثابةً وعقاباً.
{أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله} إظهارُ الاسمِ الجليلِ لتفخيم شأنِ الوعدِ والإشعارِ بعلة الحكم، وهو إما بمعنى الموعودِ أي جميعِ ما وُعد به كائناً ما كان فيندرج فيه العذابُ الذي استعجلوه وما ذُكر في أثناء بيان حالِه اندراجاً أولياً، أو بمعناه المصدريِّ أي وعدَه بجميع ما ذكر فمعنى قولِه تعالى: {حَقٌّ} على الأول ثابتٌ واقعٌ لا محالة وعلى الثاني مطابقٌ للواقع، وتصديرُ الجملتين بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ للتسجيل على تحقق مضمونِها المقرِّر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيهِ على وجوب استحضارِه والمحافظةِ عليه {ولكن أَكْثَرَهُمْ} لقصور عقولِهم واستيلاءِ الغفلة عليهم والفهمِ بالأحوال المحسوسةِ المعتادة {لاَّ يَعْلَمُونَ} ذلك فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون {هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ} في الدنيا من غير دخلٍ لأحد في ذلك {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة بالبعث والحشرِ {يأَيُّهَا الناس} التفاتٌ ورجوعٌ إلى استمالتهم نحوَ الحق واستنزالِهم إلى قَبوله واتباعه غِبَّ تحذيرِهم من غوائل الضلالِ بما تُليَ عليهم من القوارع الناعيةِ عليهم سوءَ عاقبتِهم وإيذانٌ بأن جميعَ ذلك مسوقٌ لمصالحهم ومنافعِهم {قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} هي والوعظُ والوعظة التذكيرُ بالعواقب سواءٌ كان بالزجر والترهيبِ أو بالاستمالة والترغيبِ وكلمة من في قوله تعالى: {مّن رَّبّكُمْ} ابتدائيةٌ متعلقةٌ بجاءتكم أو تبعيضيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لموعظة أي موعظةٌ كائنةٌ من مواعظ ربِّكم، وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ من حسن الموقِع ما لا يخفى {وَشِفَاء لِمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} أي كتاب جامعٌ لهذه الفوائد والمنافِع فإنه كاشفٌ عن أحوال الأعمالِ حسناتِها وسيئاتِها مرغب في الأولى ورادِعٌ عن الأخرى ومبينٌ للمعارف الحقةِ التي هي شفاءٌ لما في الصدور من الأدواء القلبيةِ كالجهل والشكِّ والشِّرْكِ والنفاق وغيرِها من العقائد الزائغةِ وهادٍ إلى طريق الحقِّ واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ وفي مجيئه رحمةً للمؤمنين حيث نجَوا به من ظلمات الكفرِ والضلال إلى نور الإيمانِ وتخلصوا من دركاتِ النيرانِ وارتقَوا إلى درجات الجنانِ، والتنكيرُ في الكل للتفخيم.

.تفسير الآيات (58- 59):

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}
{قُلْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرَ الناسَ بأن يغتنموا ما في مجيء القرآن العظيمِ من الفضل والرحمة {بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} المرادُ بهما إما ما في مجيء القرآنِ من الفضل والرحمةِ وإما الجنسُ وهما داخلان فيه دخولاً أولياً، والباء متعلقةٌ بمحذوف، وأصلُ الكلام ليفرَحوا بفضل الله وبرحمته للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرحِ ثم قُدّم الجارُّ والمجرورُ على الفعل لإفادة القصرِ ثم أُدخل عليه الفاءُ لإفادة معنى السببيةِ فصار بفضل الله وبرحمته فليفرَحوا ثم قيل: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} للتأكيد والتقريرِ ثم حُذف الفعلُ الأول لدلالة الثاني عليه والفاءُ الأولى جزائيةٌ والثانيةُ للدلالة على السببية والأصلُ إن فرِحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخرَ، ثم أُدخل الفاءُ للدلالة على السببية ثم حذف الشرطُ، ومعنى البُعد في اسم الإشارةِ للدلالة على بُعد درجةِ فضل الله تعالى ورحمتِه ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فلْيعتنوا فبذلك فليفرحوا، ويجوز أن يتعلق الباءُ بجاءتكم أي جاءتكم موعظةٌ بفضل الله وبرحمته فبذلك أي فبمجيئها فليفرَحوا وقرئ {فلتفرحوا} وقرأ أُبيّ: {فافرَحوا}، وعن أُبي بن كعب «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تلا: {قل بفضلِ الله وبرحمتِهِ} فقالَ: بكتاب الله والإسلامِ»، وقيل: فضلُه الإسلامُ ورحمتُه ما وعَد عليه.
{هُوَ} أي ما ذكر من فضل الله ورحمته {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من حُطام الدنيا وقرئ {تجمعون} أي فبذلك فليفرَحِ المؤمنون هو خير مما تجمعون أيها المخاطَبون.
{قُلْ أَرَءيْتُمْ} أي أخبروني {مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ} {ما} منصوبةُ المحلِّ بما بعدها أو بما قبلها واللامُ للدِلالة على أن المرادَ بالرزق ما حل لهم، وجعلُه منزلاً لأنه مقدّرٌ في السماء محصّلٌ هو أو ما يتوقف عليه وجوداً أو بقاءً بأسباب سماويةٍ من المطر والكواكبِ في الإنضاج والتلوين {فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ} أي جعلتم بعضَه {حَرَامًا} أي حكمتم بأنه حرامٌ {وَحَلاَلاً} أي وجعلتم بعضَه حلالاً أي حكمتم بحِلّه مع كون كلِّه حلالاً وذلك قولُهم: {هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} الآية، وقولهم: {مَا فِي بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} ونحوُ ذلك، وتقديمُ الحرامِ لظهور أثرَ الجعلِ فيه ودورانِ التوبيخِ عليه {قُلْ} تكريرٌ لتأكيد الأمرِ بالاستخبار أي أخبروني {الله أَذِنَ لَكُمْ} في ذلك الجعلِ فأنتم فيه ممتثلون بأمره تعالى {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} أم متصلةٌ والاستفهامُ للتقرير والتبكيتِ لتحقق العلمِ بالشق الأخير قطعاً كأنه قيل: أم لم يأذنْ لكم بل تفترون عليه سبحانه، فأظهر الاسمَ الجليلَ وقدّم على الفعل دِلالةً على كمال قبحِ افترائِهم وتأكيداً للتبكيت إثرَ تأكيدٍ مع مراعاة الفواصلِ، ويجوز أن يكون الاستفهامُ للإنكار وأمْ منقطعةً، ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقال من التوبيخ والزجرِ بإنكار الإذنِ إلى ما تفيده همزتُها من التوبيخ على الافتراء عليه سبحانه وتقريرِه، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على هذا يجوز أن يكون للقصر كأنه قيل: بل أعلى الله تعالى خاصة تفترون.

.تفسير الآيات (60- 61):

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)}
{وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} كلامٌ مسوقٌ من قِبَله تعالى لبيان هولِ ما سيلقَونه غيرُ داخلٍ تحت القولِ المأمورِ به والتعبيرُ عنهم بالموصول في موقع الإضمارِ لقطع احتمالِ الشق الأولِ من التردد والتسجيلِ عليهم بالافتراء وزيادةِ الكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذباً لإظهار كمالِ قبحِ ما افتعلوا وكونِه كذباً في اعتقادهم أيضاً، وكلمةُ {ما} استفهاميةٌ وقعت مبتدأً وظن خبرُها ومفعولاه محذوفان وقوله عز وجل: {يَوْمُ القيامة} ظرفٌ لنفس الظنِّ، أي أيُّ شيءٍ ظنُّهم في ذلك اليوم، يومَ عرضِ الأفعال والأقوالِ والمجازاة عليها مثقالاً بمثقال، والمرادُ تهويلُه وتفظيعُه بهول ما يتعلق به مما يُصنع بهم يومئذ، وقيل: هو ظرفٌ لما يتعلق به ظنُّهم اليومَ من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلاً له ولِما فيه من الأحوال لكمال وضوحِ أمرِه في التقرير والتحققِ منزلةَ المسلم عندهم أي أيُّ شيء ظنُّهم لما سيقع يوم القيامة؟ أيحسبون أنهم لا يُسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاءً يسيراً ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون؟ كلا إنهم لفي أشدِّ العذاب لأن معصيتَهم أشدُّ المعاصي، ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، وقرئ على لفظ الماضي، أي أيُّ ظنَ ظنوا يوم القيامة؟ وإيرادُ صيغةِ الماضي لأنه كائنٌ فكأنه قد كان {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} أي عظيم لا يُكتنه كنهُه {عَلَى الناس} أي جميعاً حيث أنعم عليهم بالعقل المميّز بين الحقِّ والباطلِ والحسَنِ والقبيحِ ورحِمهم بإنزال الكتبِ وإرسالِ الرسلِ وبيّن لهم الأسرارَ التي لا تستقلُ العقولُ في إدراكها وأرشدهم إلى ما يُهمّهم من أمر المعاشِ والمعاد {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} تلك النعمةَ الجليلةَ فلا يصرِفون قُواهم ومشاعرَهم إلى ما خُلقت له ولا يتبعون دليلَ الشرعِ فيما لا يدرك إلا به، وقد تفضل عليهم ببيان ما سيلقَوْنه يوم القيامة فلا يلتفتون إليه فيقعون فيما يقعون فهو تذييلٌ لما سبق مقرِّرٌ لمضمونه.
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} أي في أمر، من شأنْتُ شأْنه أي قصدتُ قصدَه مصدر بمعنى المفعول {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ} الضميرُ للشأنِ والظرفُ صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي تلاوةً كائنةً من الشأن إذ هي معظمُ شؤونِه عليه السلام أو للتنزيل، والإضمارُ قبل الذكر لتفخيم شأنِه، ومن ابتدائيةٌ أو تبعيضيةٌ أو لله عز وجل ومن ابتدائيةٌ والتي في قوله تعالى: {مِن قُرْءانٍ} مزيدةٌ لتأكيد النفيِ أو ابتدائيةٌ على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضيةٌ على الثاني والثالث {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} تعميمٌ للخطاب إثرَ تخصيصِه بمقتضى الكلِّ وقد رُوعي في كل من المقامين ما لا يليق به حيث ذُكر أولاً من الأعمال ما فيه فخامةٌ وجلالةٌ وثانياً ما يتناول الجليلَ والحقيرَ {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابِسون بشيء منها حال من الأحوال إلا حالَ كونِنا رُقباءَ مطّلعين عليه حافظين له {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تخوضون وتندفعون فيه، وأصلُ الإفاضة الاندفاعُ بكثرة أو بقوة، وحيث أريد بالأفعال السابقةِ الحالةُ المستمرَّةُ الدائمةُ المقارنةُ للزمان الماضي أيضاً أوثر في الاستثناء صيغةُ الماضي وفي الظرف كلمةُ إذ التي تفيد المضارعَ معنى الماضي {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ} أي لا يبعُد ولا يغيب على علمه الشامل، وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ من الإشعار باللطف ما لا يخفى وقرئ بكسر الزاءِ {مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ} كلمةُ مِنْ مزيدةٌ لتأكيد النفي أي ما يعزُب عنه ما يساوي في الثقل نملةً صغيرةً أو هباءً {فِي الارض وَلاَ فِي السماء} أي في دائرة الوجودِ والإمكان فإن العامة لا تعرِف سواهما ممكناً ليس في أحدهما أو متعلِّقاً بهما، وتقديمُ الأرضِ لأن الكلامَ في حال أهلِها والمقصودُ إقامةُ البرهانِ على إحاطة علمِه تعالى بتفاصيلها وقوله تعالى: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} كلامٌ برأسه مقرِّرٌ لما قبله ولا نافيةٌ للجنس و{أصغرَ} اسمُها و{في كتاب} خبرُها وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر {في كتاب}.
ومن عطفَ على لفظ مثقالِ ذرةٍ وجعل الفتحَ بدلَ الكسرِ لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعلَ الاستثناءَ منقطعاً كأنه قيل: لا يعزُب عن ربك شيءٌ ما، لكنْ جميعُ الأشياء في كتاب مبين فكيف يعزُب عنه شيٌ منها؟ وقيل: يجوز أن يكون الاستثناءُ متصلاً ويعزُب بمعنى يَبينُ ويصدُر والمعنى لا يصدُر عنه تعالى شيءٌ إلا وهو في كتابٌ مبين. والمراد بالكتاب المبين اللوحُ المحفوظ.