فصل: تفسير الآيات (68- 69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (68- 69):

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}
{قَالُواْ} استئناف كما مر كأنه قيل: فماذا قالوا بعد ذلك؟ فقيل: توجهوا إلى الامتثال وقالوا {ادع لَنَا} أي لأجلنا {رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} ما مبتدأ وهي خبرُه والجملةُ في حيز النصب يبين أي يبين لنا جوابَ هذا السؤال وقد سألوا عن حالها وصفتها لِما قرَعَ أسماعَهم ما لم يعهدوه من بقرةٍ ميتةٍ يُضرب ببعضها ميتٌ فيحيا، فإن {ما} وإن شاعت في طلب مفهومِ الاسمِ والحقيقة كما في ما الشارحةِ والحقيقية لكنها قد يُطلب بها الصفةُ والحالُ، تقول: ما زيد؟ فيقال: طبيبٌ أو عالم وقيل: كان حقُه أن يُستفهَم بأيَ لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حالة مغايرة لما عليه الجنس أخرجوه عن الحقيقة فجعلوه جنساً على حياله {قَالَ} أي موسى عليه السلام بعد ما دعا ربَّه عز وجل بالبيان وأتاه الوحْيُ {أَنَّهُ} تعالى {يَقُولُ إِنَّهَا} أي البقرةُ المأمورُ بذبحها {بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} أي لا مُسنة ولا فتية يقال: فرَضَت البقرةُ فروضاً أي أسنت من الفرْض بمعنى القطع كأنها قطعَتْ سنها وبلغت آخرَها، وتركيبُ البكر للأولية ومنه البَكرة والباكورة {عَوَانٌ} أي نصَفٌ لاقحم ولا ضَرْع قال:
طِوالٌ مثلُ أعناقِ الهوادي ** نواعمْ بين أبكارٍ وعُونِ

{بَيْنَ ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الفارض والبِكْر ولذلك أضيف إليه {بين} لاختصاصه بالإضافة إلى المتعدد {فافعلوا} أمرٌ من جهة موسى عليه السلام متفرِّع على ما قبله من بيان صفةِ المأمور به {مَا تُؤْمَرونَ} أي ما تؤمرونه بمعنى تؤمَرون به كما في قوله:
أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أمِرْتَ بهِ

فإن حذفَ الجار قد شاع في هذا الفعل حتى لَحِق بالأفعال المتعدية إلى مفعولين، وهذا الأمرُ منه عليه السلام لحثِّهم على الامتثال وزجرِهم عن المراجعة ومع ذلك لم يقتنعوا به. وقوله تعالى: {قَالُواْ} استئنافٌ كما مر كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد هذا البيان الشافي والأمرِ المكرَّرِ؟ فقيل: قالوا: {ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} حتى يتبين لنا البقرةُ المأمور بها {قَالَ} أي موسى عليه السلام بعد المناجاةِ إلى الله تعالى ومجىءِ البيان {أَنَّهُ} تعالى {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} إسنادُ البيان في كل مرةٍ إلى الله عز وجل لإظهار كمالِ المساعدةِ في إجابة مسؤولهم بقولهم {يبينْ لنا} وصيغةُ الاستقبال لاستحضارِ الصورة، والفُقوعُ نصوعُ الصُّفرةِ وخلوصُها، ولذلك يؤكَّد به ويقال: أصفرُ فاقعٌ كما يقال: أسودُ حالكٌ وأحمرُ قانىء، وفي إسناده إلى اللون مع كونِه من أحوال المُلوَّنِ لملابسته به ما لا يخفى من فضل تأكيدٍ كأنه قيل: صفراءُ شديدُ الصُفرةِ صُفرتها كما في جَدّ جِدّه. وعن الحسن رضي الله عنه: سوداءُ شديدةُ السواد، وبه فُسّر قوله تعالى: {جمالة صُفْرٌ} قيل: ولعل التعبير عن السواد بالصُّفرة لما أنها من مقدماته وإما لأن سَواد الإبل يعلوه صُفْرةٌ ويأباه وصفُها بقوله تعالى: {تَسُرُّ الناظرين} كما يأباه وصفُها بفقوع اللون. والسرورُ لذةٌ في القلب عند حصول نفعٍ أو توقُّعِه من السر، عن علي رضي الله عنه: من لبِسَ نعلاً صفراءَ قل همُّه.

.تفسير الآيات (70- 71):

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}
{قَالُواْ} استئنافٌ كنظائره {ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} زيادةُ استكشافٍ عن حالها كأنهم سألوا بيانَ حقيقتها بحيث تمتاز عن جميع ما عداها مما تشاركها في الأوصاف المذكورة والأحوالِ المشروحة في أثناء البيان ولذلك علّلوه بقولهم: {إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا} يعنُون أن الأوصافَ المعدودةَ يشترك فيها كثير من البقر ولا نهتدي بها إلى تشخيص ما هو المأمورُ بها ولذلك لم يقولوا إن البقرَ تشابهت إيذاناً بأن النعوتَ المعدودةَ ليست بمُشخّصة للمأمور بها بل صادقةً على سائر أفرادِ الجنس، وقرئ {إنَّ الباقِرَ} وهو اسمٌ لجماعة البَقر والأباقر والبواقر، ويتشابه بالياء والتاء وَيشّابه بطرح التاء والإدغام على التذكير والتأنيث وتَشَابهت مخففاً ومشدداً وتَشَبَّهُ بمعنى تتشبه ويشبّه بالتذكير ومتشابِهٌ ومتشابهةٌ ومُتَشَبِّهٌ ومُتَشَبِّهَةٌ وفيه دلالة على أنهم ميَّزوها عن بعض ما عداها في الجملة وإنما بقي اشتباهٌ بشرف الزوال كما ينبىء عنه قولهم: {وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ} مؤكداً بوجوه من التوكيد أي لمهتدون بما سألنا من البيان إلى المأمور بذبحها وفي الحديث «لو لم يستثنوا لما بُيِّنَتْ لهم آخرَ الأبد».
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الارض وَلاَ تَسْقِى الحرث} أي لم تُذلَّلْ للكِراب وسقْي الحَرْثَ، و{لا ذلول} صفةٌ لبقرةٌ بمعنى غيرُ ذَلول و{لا} الثانية لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل: لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقية، وقرئ {لا ذلول} بالفتح أي حيث هي كقولك: مررت برجل لا بخيلٍ ولا جبان أي حيث هو وقرئ {تُسْقي} من أسقى {مُّسَلَّمَةٌ} أي سلَّمها الله تعالى من العيوب أو أهّلها من العمل أو خلص لها لونها من سَلِم له كذا إذا خَلَص له، ويؤيده قوله تعالى: {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} أي لا لونَ فيها يخالف لونَ جلدِها حتى قَرْنُها وظِلْفُها وهي في الأصل مصدرُ وشاه وشّياً وشِيةً إذا خلَط بلونه لوناً آخر {قَالُواْ} عندما سمعوا هذه النعوت {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ} أي بحقيقة وصفِ البقرةِ بحيث ميَّزْتها عن جميع ما عداها ولم يبقَ لنا في شأنها اشتباهٌ أصلاً بخلاف المرتين الأوليين فإن ما جئتَ به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة. ولعلهم كانوا قبلَ ذلك قد رأَوْها ووجدوها جامعةً لجميع ما فُصِّل من الأوصاف المشروحةِ في المرات الثلاثِ من غير مشارِكٍ لها فيما عُدَّ في المرة الأخيرة، وإلا فمن أين عرَفوا اختصاصَ النعوت الأخيرةِ بها دون غيرها؟ وقرئ {الآنَ} بالمد على الاستفهام والآنَ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام {فَذَبَحُوهَا} الفاء فصيحة كما في فانفجَرت أي فحصّلوا البقرةَ فذبحوها {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} كادَ من أفعال المقاربة وُضع لدنوِّ الخبر من الحصول، والجملةُ حال من ضمير ذبحوا أي فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه، أو اعتراضٌ تذييلي ومآلُه استثقالُ استعصائِهم واستبطاءٌ لهم وأنهم لفَرْط تطويلِهم وكثرةِ مراجعاتِهم ما كاد ينتهي خيطُ استفهامِهم فيها.
قيل: مضى من أول الأمرِ إلى الامتثال أربعون سنةً وقيل: كادوا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها. رُوي أنه كان في بني إسرائيلَ شيخٌ صالحٌ له عِجْلة فأتى بها الغَيْضة وقال: اللهم إني استَوْدعتُكها لابني حتى يكبَرَ وكان برّاً بوالدَيه فتُوفِّيَ الشيخُ وشبَّتِ العِجْلة فكانت من أحسن البقرِ وأسمنِها فساوَموها اليتيمَ وأمَّه حتى اشتَرَوْها بملء مَسْكِها ذهباً لمّا كانت وحيدةً بالصفات المذكورة وكانت البقرةُ إذ ذاك بثلاثة دنانيرَ. واعلم أنه لا خلافَ في أن مدلولَ ظاهرِ النظمِ الكريم بقرةٌ مطلقةٌ مُبْهمة وأن الامتثالَ في آخرِ الأمرِ إنما وقعَ بذبح بقرةٍ معيّنة حتى لو ذبحوا غيرَها ما خَرَجوا عن عُهدة الأمرِ، لكن اختُلفَ في أن المرادَ المأمورُ به إثرَ ذي أثيرٍ هل هي المعينةُ وقد أُخِّر البيانُ عن وقت الخطاب؟ أو المبهمةُ ثم لَحِقها التغييرُ إلى المعيَّنة بسبب تثاقلِهم في الامتثال وتماديهم في التعمق والاستكشاف؟ فذهب بعضُهم إلى الأول تمسكاً بأن الضمائرَ في الأجوبة أعني أنها بقرةٌ إلى آخره للمعيَّنة قطعاً، ومن قضيته أن يكون في السؤال أيضاً كذلك، ولا ريب في أن السؤالَ إنما هو عن البقرة المأمور بذبحها فتكونُ هي المعينةُ، وهو مدفوعٌ بأنهم لما تعجّبوا من بقرة ميتةٍ يُضربُ ببعضها ميْتٌ فيحيا ظنُّوها معيّنةً خارجةً عما عليه الجنسُ من الصفات والخواصِّ، فسألوا عنها فرجعت الضمائرُ إلى المعيَّنة في زعمهم واعتقادِهم فعيّنها الله تعالى تشديداً عليهم، وإن لم يكن المرادُ من أول الأمرِ هي المعينة. والحقُّ أنها كانت في أول الأمر مُبْهمةً بحيث لو ذَبَحوا أيةَ بقرةٍ كانت لحصل الامتثالُ بدِلالة ظاهرِ النظم الكريمِ وتكرير الأمرِ قبل بيان اللون وما بعدَه من كونها مسلّمةً.. الخ، وقد قال صلى الله عليهوسلم: «لو اعترَضوا أدنى بقرةٍ فذبحوها لكفَتْهم» ورُوي مثلُه عن رئيس المفسرين عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، ثم رجع الحكمُ الأولُ منسوخاً بالثاني، والثاني بالثالث تشديداً عليهم، لكن لا على وجه ارتفاعِ حكمِ المُطْلقِ بالكلية وانتقالِه إلى المعيّن، بل على طريقة تقييدِه وتخصيصِه به شيئاً فشيئاً، كيف لا، ولو لم يكن كذلك لما عُدّت مراجعاتُهم المَحْكيةُ من قَبيل الجنايات بل من قبيل العبادة فإن الامتثالَ بالأمر بدون الوقوفِ على المأمور به مما لا يكاد يتسنّى فتكونُ سؤالاتُهم من باب الاهتمام بالامتثال.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} منصوبٌ بمُضْمر كما مرت نظائرُه، والخطابُ لليهود المعاصِرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإسنادُ القتلِ والتدارُؤ إليهم لما مر من نسبة جنايات الأسلاف إلى الأخلاف توبيخاً وتقريعاً، وتخصيصُهما بالإسناد دون ما مر من جناياتهم لظهور قُبْحِ القتلِ وإسناده إلى الغير أي اذكروا وقت قتلِكم نفساً محرمة {فادرأتم فِيهَا} أي تخاصمتم في شأنها إذ كلُّ واحد من الخصماء يدافع الآخرَ، أو تدافعتم بأن طرَح كلُّ واحد قتلها إلى آخرَ، وأصلُه تَدارأتم فأُدغمت التاءُ في الدال واجتُلبت لها همزةُ الوصل {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر لما تكتمونه لا محالة، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار، وإنما أُعمِلَ {مُخرجٌ} لأنه حكايةُ حالٍ ماضية.

.تفسير الآية رقم (73):

{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
{فَقُلْنَا اضربوه} عطف على فادارأتم وما بينهما اعتراضٌ، والالتفاتُ لتربية المهابةِ، والضميرُ للنفس، والتذكيرُ باعتبار أنها عبارةٌ عن الرجل أو بتأويل الشخصِ أو القتيل {بِبَعْضِهَا} أيْ ببعض البقرة أيِّ بعضٍ كان وقيل: بأصغَرَيها، وقيل: بلسانها وقيل: بفخِذِها اليُمنى وقيل: بأذُنها وقيل: بعُجبها، وقيل: بالعظم الذي يلي الغُضْروف، وهذا أولُ القصة كما ينبىء عنه الضمير الراجعُ إلى البقرة كأنه قيل: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا: اذبحوا بقرةً فاضرِبوه ببعضها، وإنما غُيّر الترتيبُ عند الحكاية لتكرير التوبيخِ وتثنيةِ التقريعِ، فإن كلَّ واحدٍ من قتل النفس المحرَّمة والاستهزاءِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم والافتياتِ على أمره وترك المسارعة إلى الامتثال به جنايةٌ عظيمة حقيقة بأن تنعى عليهم بحيالها، ولو حُكيت القصةُ على ترتيب الوقوعِ لما علم استقلالُ كلَ منها بما يُخَصُّ بها من التوبيخ وإنما حُكي الأمر بالذبح عن موسى عليه السلام مع أنه من الله عز وجل كالأمر بالضرب لما أن جناياتِهم كانت بمراجعتهم إليه عليه السلام والافتياتِ على رأيه {كذلك يُحْىِ الله الموتى} على إرادة قولٍ معطوفٍ على مقدَّر ينسحِبُ عليه الكلام أي فضرَبوه فحَيِيَ وقلنا كذلك يُحيي إلخ فحذفت الفاءُ الفصيحة في فحِييَ مع ما عطف بها، وما عُطف هو عليه لدلالة كذلك على ذلك فالخطابُ في كذلك حينئذ للحاضرين عند حياة القتيل، ويجوزُ أن يكون ذلك للحاضرين عند نزولِ الآيةِ الكريمة فلا حاجة حينئذٍ إلى تقدير القولِ بل تنتهي الحكايةُ عند قوله تعالى: ببعضها مع ما قُدّر بعده، فالجملة معترضة أي مثلَ ذلك الإحياءِ العجيبِ يُحيي الله الموتى يوم القيامة {وَيُرِيكُمْ ءاياته} ودلائلَه الدالةَ على أنه تعالى على كل شيء قدير، ويجوز أن يُراد بالآياتِ هذا الإحياءُ، والتعبيرُ عنه بالجمع لاشتماله على أمورٍ بديعةٍ من ترتّب الحياة على عضو ميتٍ، وإخبارِه بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تكمُلَ عقولُكم وتعلموا أن من قدَرَ على إحياء نفسٍ قدَر على إحياء الأنفس كلِّها أو تعلموا على قضية عقولِكم، ولعل الحكمة في اشتراط ما اشتُرط في الإحياء مع ظُهور كمالِ قُدرته على إحيائه ابتداءً بلا واسطة أصلاً اشتمالُه على التقرب إلى الله تعالى وأداءِ الواجب ونفعِ اليتيم والتنبيهُ على برَكة التوكلِ على الله تعالى والشفقةِ على الأولاد ونفعِ برِّ الوالدين وأن من حق الطالب أن يقدّم قُربة، ومن حق المتقرِّب أن يتحرَّى الأنفسَ ويغاليَ بثمنه كما يُروى عن عمرَ رضي الله عنه أنه ضحّى بنَجيبةٍ اشتراها بثلثمائة دينار، وأن المؤثرّ هو الله تعالى، وإنما الأسبابُ أَماراتٌ لا تأثيرَ لها وأن من رام أن يعرف أعدى عدوِّه الساعي في إماتتِه الموتَ الحقيقيَّ فطريقُه أن يذبَحَ بقرةَ نفسِه التي هي قوتُه الشهويةُ حين زال عنها شَرَهُ الصِّبا ولم يلحَقها ضَعف الكِبَر، وكانت معجِبةً رائقةَ المنظرَ غيرَ مذللةٍ في طلب الدنيا مسلَّمةً عن دنسها لا سمة بها من قبائحها بحيث يتَّصلُ أثرُه إلى نفسه فيحيا بها حياةً طيبةً ويُعربَ عما به ينكشف الحالُ ويرتفعُ ما بين العقل والوهم من التدارُؤ والجدال.

.تفسير الآية رقم (74):

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} الخطاب لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم. والقسوةُ عبارةٌ عن الغِلَظ والجفاء والصَّلابة كما في الحَجَر استُعيرت لنُبوِّ قلوبهم عن التأثر بالعِظات والقوارعِ التي تميعُ منها الجبالُ وتلينُ بها الصخور، وإيرادَ الفعل المفيدِ لحدوث القساوة مع أن قلوبَهم لم تزل قاسيةً لما أن المرادَ بيانُ بلوغِهم إلى مرتبة مخصوصةٍ من مراتبِ القساوة حادثةٍ، وإما لأن الاستمرارَ على شيء بعدَ ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه أمرٌ جديد وصنعٌ حادث. و{ثم} لاستبعاد القسوةِ بعد مشاهدةِ ما يُزيلها كقوله تعالى: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ}
{مِن بَعْدِ ذلك} إشارةٌ إلى ما ذكر من إحياء القتيلِ أو إلى جميع ما عُدِّد من الآيات الموجبة للين القلوبِ وتوجُّهِها نحوَ الحقِّ أيْ من بعد سماعِ ذلك وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِه وعلوِّ طبقتِه. وتوحيدُ حرفِ الخطاب مع تعدُّد المخاطبين إما بتأويل الفريقِ أو لأن المرادَ مجردُ الخطاب لا تعيينُ المخاطَب كما هو المشهور، {فَهِىَ كالحجارة} في القساوة، {أَوْ أَشَدَّ} منها، {قَسْوَةً} أي هي في القسوة مثلُ الحجارة أو زائدةٌ عليها فيها أو أنها مثلُها أو مثلُ ما هو أشدُّ منها قسوةً كالحديد، فحُذِف المضاف وأقيمَ المضاف إليه مُقامه ويعضُده القراءة بالجر عطفاً على الحجارة. وإيرادُ الجملة اسميةً مع كون ما سبق فعليةً للدلالة على استمرارِ قساوةِ قلوبهم، والفاء إما لتفريع مشابَهتِها لها على ما ذكر من القساوة تفريعَ التشبيه على بيان وجه الشبه في قولك: أحمرُ خدُّه فهو كالورد وإما للتعليل كما في قولك: اعبُدْ ربك فالعبادةُ حقٌّ له، وإنما لم يقل أو أقسى منها لما في التصريح بالشدة من زيادةِ مبالغةٍ، ودلالةٍ ظاهرة على اشتراك القسوتين في الشدة واشتمالِ المفضَّل على زيادة، وأو للتخيير أو للترديدِ بمعنى أن مَنْ عرَفَ حالَها شبَّهها بالحجارة أو بما هو أقسى، أو من عَرَفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة، وترْكُ ضميرِ المفضَّل عليه للأمن من الالتباس {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار} بيانٌ لأشَدِّية قلوبِهم من الحجارة في القساوة وعدمِ التأثر واستحالةِ صدورِ الخيرِ منها، يعني أن الحجارةَ ربما تتأثّرُ حتى كان منها ما يتفجر منه المياهُ العظيمة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} أي يتشقق {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء} أي العيونُ {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} أي يتردَّى من الأعلى إلى الأسفل بقضية ما أودعه الله عز وجل فيها من الثِقل الداعي إلى المرْكز، وهو مجازٌ من الانقياد لأمره تعالى، والمعنى أن الحجارةَ ليس منها فردٌ إلا وهو منقادٌ لأمره عز وعلا آتٍ بما خُلق له من غير استعصاء، وقلوبُهم ليست كذلك فتكونُ أشدَّ منها قسوةً لا محالة، واللام في {لَما} لامُ الابتداء دخلت على اسم إن لتقدُّم الخبر وقرئ {أن} على أنها مُخفّفة من الثقيلة، واللامُ فارقةٌ، وقرئ {يهبُط} بالضم {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} (عن) متعلقةٌ بغافل، و(ما) موصولة والعائدُ محذوف أو مصدرية، وهو وعيدٌ شديد على ما هو عليه من قساوة القلوب وما يترتب عليها من الأعمال السيئة، وقرئ بالياء على الالتفات.