فصل: تفسير الآيات (41- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (41- 42):

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)}
{وَقَالَ} أي نوحٌ عليه الصلاة والسلام لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ولو رجع الضميرُ إلى الله تعالى لناسب أن يقال: إن ربكم، ولعل ذلك بعد إدخالِ ما أُمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل: فحمَلَ الأزواجَ أو أدخلها في الفلك وقال للؤمنين: {اركبوا فِيهَا} كما يأتي مثلُه في قوله تعالى: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ} والركوبُ العلوُّ على شيء متحرّكٍ، ويتعدّى بنفسه، واستعمالُه هاهنا بكلمة في ليس لأن المأمورَ به كونُهم في جوفها لا فوقَها كما ظُن فإن أظهرَ الروايات أنه عليه السلام جعل الوحوشَ ونظائرَها في البطن الأسفلِ والأنعامَ في الأوسطِ وركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانبِ المحلية والمكانيةِ في الفلك، والسرُّ فيه أن معنى الركوبِ العلوُّ على شيء له حركةٌ إما إراديةٌ كالحيوان أو قسريةٌ كالسفينة والعجَلة ونحوهما، فإذا استُعمل في الأول يوفر له حظُّ الأصل فيقال: ركبتُ الفرسَ، وعليه قوله عز من قائل: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا} وإن استُعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال: ركبت في السفينة، وعليه الآيةُ الكريمة وقولُه عز قائلاً: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} وقوله تعالى: {فانطلقا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا} {بِسْمِ اللَّهِ} متعلقٌ باركبوا حالٌ من فاعله أي اركبوا مسمِّين الله تعالى، أو قائلين: بسم الله {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} نصبٌ على الظرفية أي وقتَ إجرائِها وإرسائِها على أنهما اسما زمانٍ أو مصدران كالإجراء والإرساءِ بحذف الوقتِ كقولك: آتيك خفوقَ النجمِ أو اسما مكانٍ انتصبا بما في {بِسْمِ اللَّهِ} من معنى الفعل أو إرادةِ القول، ويجوز أن يكون {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} مستقلةً من مبتدأ وخبر في موضع الحالِ من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مُجراةً ومُرساةً باسم الله بمعنى التقدير كقوله تعالى: {ادخلوها خالدين} أو جملةٌ مقتضبةٌ على أن نوحاً أمرهم بالركوب فيها ثم أخبرهم بأن إجراءَها وإرساءَها باسم الله تعالى فيكونان كلامين له عليه الصلاة والسلام. قيل: كان عليه السلام إذا أراد أن يُجرِيَها يقول: بسم الله فتجري وإذا أراد أن يرسيَها يقول: بسم الله فترسو، ويجوز أن يكون الاسمُ مقْحماً كما في قوله:
إلى الحولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما

ويراد بالله إجراؤُها وإرساؤُها أي بقدرته وأمرِه، وقرئ {مُجرِيها} على صيغة الفاعل مجرورَي المحلِّ صفتين لله عز وجل ومَجراها ومَرْساها بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين من جرى ورسا {إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ} للذنوب والخطايا {رَّحِيمٌ} بعباده ولذلك نجاكم من هذه الطآمّة والداهية العامّة، ولولا ذلك لما فعله وفيه دِلالةٌ على أن نجاتَهم ليست بسبب استحقاقِهم لها بل بمحض فضلِ الله سبحانه وغفرانِه ورحمتِه على ما عليه رأيُ أهل السنة.
{وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ} متعلقٌ بمحذوف دلّ عليه الأمرُ بالركوب أي فركِبوا فيها مُسمّين وهي تجري ملتبسةً بهم {فِى مَوْجٍ كالجبال} وهو ما ارتفع من الماء عند اضطرابِه، كلُّ موجةٍ من ذلك كجبل في ارتفاعها وتراكُمِها، وما قيل من أن الماءَ طبّق ما بين السماء والأرضِ وكانت السفينةُ تجري في جوفه كالحوت فغيرُ ثابتٍ، والمشهورُ أنه علا شوامخَ الجبالِ خمسة عشرَ ذراعاً أو أربعين ذراعاً، ولئن صح ذلك فهذا الجريانُ إنما هو قبل أن يتفاقم الخطبُ كما يدل عليه قوله تعالى: {ونادى نُوحٌ ابنه} فإن ذلك إنما يُتصوَّر قبل أن تنقطِعَ العلاقةُ بين السفينةِ والبرِّ، إذ حينئذ يمكن جرَيانُ ما جرى بين نوحٍ عليه الصلاة والسلام وبين ابنِه من المفاوضة بالاستدعاء إلى السفينة والجوابِ باعتصامٍ بالجبل، وقرئ {ابنَها} و{ابنَه} بحذف الألفِ على أن الضميرَ لأمرأته وكان ربيبَه وما يقال من أنه كان لغير رِشدةٍ لقوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} فارتكابُ عظيمةٍ لا يقادر قدرُها فإن جنابَ الأنبياءِ صلواتُ الله تعالى عليهم وسلامُه أرفعُ من أن يشارَ إليه بأصبَع الطعنِ وإنما المرادُ بالخيانة الخيانةُ في الدين، وقرئ {ابناهْ} على الندبة ولكونها حكايةً سُوّغ حذفُ حرفها. وأنت خبيرٌ بأنه لا يلائمه الاستدعاءُ إلى السفينة فإنه صريحٌ في أنه لم يقع في حياته يأسٌ بعْدُ {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} أي في كان عزَل فيه نفسَه عن أبيه وإخوتِه وقومِه بحيث لم يتناولْه الخطابُ باركبوا، واحتاج إلى النداء المذكورِ، وقيل: في معزل عن الكفار قد انفرد عنهم وظن نوحٌ أنه يريد مفارقتَهم ولذلك دعاه إلى السفينة، وقيل: كان ينافق أباه فظن أنه مؤمنٌ، وقيل: كان يعلم أنه كافرٌ إلى ذلك الوقتِ لكنه عليه الصلاة والسلام ظن أنه عند مشاهدةِ تلك الأهوالِ ينزجرُ عما كان عليه ويقبل الإيمانَ، وقيل: لم يكن الذي تقدّم من قوله تعالى: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} نصاً في كون ابنِه داخلاً تحته بل كان كالمُجمل فحملتْه شفقةُ الأبوة على ذلك {يا بُنَيَّ} بفتح الياء اقتصاراً عليه من الألف المُبْدلةِ من ياء الإضافةِ في قولك: يا بنيا وقرئ بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة أو سقطت الياءُ والألفُ لالتقاء الساكنين لأن الراءَ بعدهما ساكنة {اركب مَّعَنَا} قرأ أبو عمْرو، والكسائيُّ، وحفص، بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج، وإنما أطلق الركوبُ عن ذكر الفُلك لتعينها وللإيذان بضيق المقامِ حيث حال الجريضُ دون القريض مع إغناء المعيةِ عن ذلك {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} أي في المكان وهو وجهُ الأرض خارجَ الفلك لا في الدين وإن كان ذلك مما يوجبه كما يوجب ركوبُه معه عليه الصلاة والسلام كونَه معه في الإيمان لأنه عليه الصلاة والسلام بصدد التحذيرِ عن الهَلَكة فلا يلائمه النهيُ عن الكفر.

.تفسير الآية رقم (43):

{قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}
{قَالَ سَآوِى إلى جَبَلٍ} من الجبال {يَعْصِمُنِى} بارتفاعه {مِنَ الماء} زعماً منه أن ذلك كسائر المياهِ في أزمنة السيولِ المعتادةِ التي ربما يُتّقى منها بالصعود إلى الرُّبى، وأنى له ذلك وقد بلغ السيلُ الزبى وجهلاً بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرةِ وألاّ محيصَ من ذلك الفكر المُحالِ، وكان مقتضى الظاهرِ أن يجيب بما ينطبقُ عليه كلامُه ويتعرّضَ لنفي ما أثبته للجبل من كونه عاصماً له من الماء بأن يقولَ: لا يعصِمُك منه مفيداً لنفي وصفِ العصمةِ عنه فقط من غير تعرضٍ لنفيه عن غيره ولا لنفي الموصوف {بالعصمة} أصلاً لكنه عليه الصلاة والسلام حيث {قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} سلك طريقةَ نفي الجنسِ المنتظِمِ لنفي جميعِ أفرادِ العاصمِ ذاتاً وصفةً كما في قولهم: ليس فيه داعٍ ولا مجيبٌ أي أحدٌ من الناس للمبالغة في نفي كونِ الجبلِ عاصماً بالوجهين المذكورَين وزادَ اليومَ للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيامِ التي تقع فيها الوقائعُ وتُلِمُّ فيها المُلِماتُ المعتادةُ التي ربما يُتخلّص من ذلك بالالتجاء إلى بعض الأسبابِ العادية، وعبّر عن الماء في محلّ إضمارِه بأمرِ الله أي عذابِه الذي أشير إليه حيث قيل: حتى إذا جاء أمرُنا تفخيماً لشأنه وتهويلاً لأمره وتنبيهاً لابنه على خطئه في تسميته ماءً ويوهم أنه كسائر المياهِ التي يُتفصَّى منها بالهرب إلى بعض المهاربِ المعهودةِ وتعليلاً للنفي المذكورِ فإن أمرَ الله لا يغالَب وعذابَه لا يُرَدّ وتمهيداً لحصر العِصمةِ في جناب الله عز جارُه بالاستثناء كأنه قيل: لا عاصمَ من أمر الله إلا هو إنما قيل: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} تفخيماً لشأنه الجليلِ بالإبهام ثم التفسيرِ وبالإجمال ثم التفصيل، وإشعاراً بعلّية رحمتِه في ذلك بموجب سبقِها على غضبه وكلُّ ذلك لكمال عنايتِه عليه الصلاة والسلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنِه ببيان شأنِ الداهيةِ وقطعِ أطماعِه الفارغةِ وصرفِه عن التعليل بما لا يغني عنه شيئاً وإرشادِه إلى العياذ بالمَعاذ الحقِّ عزَّ حِماهُ وقيل: لا مكانَ يعصِم من أمر الله إلا مكانُ من رحمه الله وهو الفُلك، وقيل: معنى لا عاصم لا ذا عصمةٍ إلا من رحمه الله تعالى {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج} أي بين نوحٍ وبين ابنِه فانقطع ما بينهما من المجاوبة لا بين ابنِه وبين الجبل لقوله تعالى: {فَكَانَ مِنَ المغرقين} إذ هو إنما يتفرع على حيلولة الموجِ بينه عليه الصلاة والسلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبلِ لأنه بمعزل من كونه عاصماً وإن لم يحُلْ بينه وبين الملتِجىءِ إليه موجٌ، وفيه دِلالةٌ على هلاك سائرِ الكفرةِ على أبلغ وجهٍ فكان ذلك أمراً مقرَّرَ الوقوعِ غيرَ مفتقِرٍ إلى البيان، وفي إيراد كان دون صار مبالغةٌ في كونه منهم.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}
{وَقِيلَ ياأرض ابلعى} أي انشَفي، استُعير له من ازدراد الحيوان ما يأكلُه للدِلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتادِ التدريجيّ {مَاءكِ} أي ما على وجهك من ماء الطوفانِ دون المياهِ المعهودةِ فيها من العيون والأنهارِ، وعبّر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقامَ مقامُ النقص والتقليلِ لا مقامُ التفخيمِ والتهويلِ {وياسماء أَقْلِعِى} أي أمسِكي عن إرسال المطرِ، يقال: أقلعت السماءُ إذا انقطع مطرُها وأقلعت الحُمّى أي كفّت {وَغِيضَ الماء} أي نقص ما بين السماءِ والأرضِ من الماء {وَقُضِىَ الامر} أي أُنجز ما وعد الله تعالى نوحاً من إهلاك قومِه وإنجائِه بأهله أو أُتِمَّ الأمر {واستوت} أي استقرّت الفلكُ {عَلَى الجودى} هو جبلٌ بالمَوْصِل أو بالشام أو بآمل. روي أنه عليه الصلاة والسلام ركب في الفلك في عاشر رجبٍ ونزل عنها في عاشر المحرَّم فصام ذلك اليوم شكراً فصار سُنّةً {وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} أي هلاكاً لهم، والتعرضُ لوصف الظلمِ للإشعار بعليته للهلاك ولتذكيره ما سبق من قوله تعالى: {وَلاَ تخاطبنى فِي الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} ولقد بلغت الآيةُ الكريمةُ من مراتب الإعجازِ قاصيتَها وملكت من غُرر المزايا ناصيتَها وقد تصدّى لتفصيلها المتقنون، ولعمري إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون فحريٌّ بنا أن نوجزَ الكلامَ في هذا البابِ ونفوّضَ الأمر إلى تأمل أولي الألباب، والله عنده علم الكتاب.

.تفسير الآيات (45- 46):

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)}
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} أي أراد ذلك بدليل الفاء في قوله تعالى: {فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} وقد وعدتني إنجاءَهم في ضمن الأمرِ بحملهم في الفلك أو النداءُ على الحقيقة والفاءُ لفتصيل ما فيه من الإجمال، {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} أي وعدَك ذلك، أو إنّ كلَّ وعدِه حقٌّ لا يتطرق إليه خُلْفٌ فيدخل فيه الوعدُ المعهُود دخولاً أولياً {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} لأنك أعلمُهم وأعدلُهم أو أنت أكثرُ حكمةً من ذوي الحِكَم على أن الحاكمَ من الحِكمة كالدارع من الدِرْع، وهذا الدعاءُ منه عليه الصلاة والسلام على طريقة دعاءِ أيوبَ عليه الصلاة والسلام: {إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} {قَالَ يَا نُوحٌ} لما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتذكير وعدِه جل ذكرُه مبنياً على كون كنعانَ من أهله نُفيَ أولاً كونُه منهم بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي ليس منهم أصلاً لأن مدار الأهليةِ هو القرابةُ الدينية ولا علاقةَ بين المؤمن والكافرِ أو ليس من أهلك الذين أمرتُك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء، وعلى التقديرين ليس هو من الذين وُعد بإنجائهم ثم علل عدمُ كونِه منهم على طريقة الاستئنافِ التحقيقي بقوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} أصله إنه ذو عملٍ غيرِ صالح فجُعل نفسَ العملِ مبالغةً كما في قول الخنساء:
فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ

وإيثارُ غيرُ صالحٍ على فاسد إما لأن الفاسدَ ربما يطلق على ما فسد ومن شأنُه الصلاحُ فلا يكون نصاً فيما هو من قبيل الفاسدِ المحضِ كالقتل والمظالم، وإما للتلويح بأن نجاةَ من نجا إنما هي لصلاحه، وقرأ الكسائي، ويعقوب، {إنه عمِلَ غيرَ صالحٍ} أي عملاً غيرَ صالح، ولما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام مبنياً على ما ذكر من اعتقاد كونِ كنعانَ من أهله وقد نُفيَ ذلك وحُقّق ببيان عِلّته فُرّع على ذلك النهيُ عن سؤال إنجائِه، إلا أنه جيء بالنهي على وجه عامٍ يندرجُ فيه ذلك اندراجاً أولياً فقيل: {فَلاَ تَسْأَلْنى} أي إذا وقفتَ على جلية الحالِ فلا تطلُب مني {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي مطلباً لا تعلم يقيناً أن حصولَه صوابٌ وموافقٌ للحكمة على تقدير كونِ {ما} عبارةً عن المسؤول الذي هو مفعولٌ للسؤال أو طلباً لا تعلم أنه صوابٌ على تقدير كونِه عبارةً عن المصدر الذي هو مفعولٌ مطلقٌ فيكون النهيُ وارداً بصريحه في كلَ من معلوم الفسادِ ومشتبِهِ الحالِ ويُفهم، ويجوز أن يكون المعنى ما ليس لك علمٌ بأنه صوابٌ أو غيرُ صوابٍ فيكون النهيُ وارداً في مشتبِهِ الحالِ ويُفهمُ منه حالُ معلوم الفساد بالطريق الأولى، وعلى التقديرين فهو عامٌ يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرناه، وهذا كما ترى صريحٌ في أن نداءَه عليه الصلاة والسلام ربَّه عز وعلا ليس استفساراً عن سبب عدمِ إنجاءِ ابنِه مع سبق وعدِه بإنجاء أهلِه وهو منهم كما قيل، فإن النهيَ عن استفسار ما لم يُعلم غيرُ موافقٍ للحكمة، إذا عدمُ العلمِ بالشيء داعٍ إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه بل هو دعاءٌ منه لإنجاء ابنِه حين حال الموجُ بينهما ولم يَعلم بهلاكه بعدُ، إما بتقريبه إلى الفُلك بتلاطم الأمواجِ أو بتقريبها إليه، وقيل: أو بإنجائه في قُلّة الجبل، ويأباه تذكيرُ الوعدِ في الدعاء فإنه مخصوصٌ بالإنجاء في الفلك وقوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} ومجرّدُ حيلولةِ الموجِ بينهما لا يستوجب هلاكَه فضلاً عن العلم به لظهور إمكانِ عصمةِ الله تعالى إياه برحمته وقد وعد بإنجاء أهلِه ولم يكن ابنُه مجاهراً بالكفر كما ذكرناه حتى لا يجوز عليه السلام أن يدعوَه إلى الفُلك أو يدعوَ ربّه لإنجائه، واعتزالُه عنه عليه الصلاة والسلام وقصدُه الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جوازِ أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفُلك وزعمِه أن الجبلَ أيضاً يجري مجراه أو لكراهة الاحتباسِ في الفلك بل قوله: {سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} بعد ما قال نوحٌ عليه الصلاة والسلام: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} ربما يُطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل: أكونُ معهم أو سنأوي أو يعصمنا، فإن إفرادَ نفسه بنسبة الفعلين المذكورَيْن بما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزالِه عنهم وامتثالِه ببعض ما أمره به نوحٌ عليه الصلاة والسلام، إلا أنه عليه الصلاة والسلام لو تأمل في شأنه حقَّ التأملِ وتفحّص عن أحواله في كل ما يأتي ويذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه المستثنى من أهله، ولذك قيل: {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} فعبّر عن ترك الأولى بذلك، وقرئ {فلا تسألنِ} بغير ياءِ الإضافةِ وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء.

.تفسير الآية رقم (47):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)}
{قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ} أي أطلب منك من بعدُ {مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} أي مطلوباً لا أعلم أن حصولَه مقتضي الحِكمة أو طلباً لا أعلم أنه صوابٌ سواءٌ كان معلومَ الفسادِ أو مشتبِهَ الحالِ أو لا أعلمُ أنه صوابٌ أو غيرُ صوابٍ على ما مر، وهذه توبةٌ منه عليه السلام مما وقع منه وإنما لم يقُلْ: أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغةً في التوبة وإظهاراً للرغبة والنشاطِ فيها وتبركاً بذكر ما لقّنه الله تعالى، وهو أبلغُ من أن يقول: أتوبُ إليك أن أسألَك لما فيه من الدِلالة على كون ذلك أمراً هائلاً محذوراً لا محيصَ منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرتَه قاصرةٌ عن النجاة من المكاره إلا بذلك {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى} ما صدر عني من السؤال المذكورِ {وَتَرْحَمْنِى} بقَبول توبتي {أَكُن مّنَ الخاسرين} أعمالاً بسبب ذلك، فإن الذهولَ عن شكر الله تعالى لاسيما عند وصولِ مثلِ هذه النعمةِ الجليلةِ التي هي النجاةُ وهلاكُ الأعداءِ والاشتغالَ بما لا يعني خصوصاً بمبادي خلاصِ من قيلَ في شأنه إنه عملٌ غيرُ صالحٍ والتضرّعَ إلى الله تعالى في أمره معاملةٌ غيرُ رابحةٍ أو خسرانٌ مبينٌ.
وتأخيرُ ذكرِ هذا النداءِ عن حكاية الأمرِ الواردِ على الأرض والسماءِ وما يتلوه من زوال الطوفانِ وقضاءِ الأمر واستواءِ الفُلك على الجوديّ والدعاءِ بالهلاك على الظالمين مع أن حقَّه أن يُذكر عَقيبَ قوله تعالى: {فَكَانَ مِنَ المغرقين} حسبما وقع في الخارج إذ حينئذ يُتصوّر الدعاءُ بالإنجاء لا بعد العلمِ بالهلاكِ ليس لما قيل من استقلاله بغرض مُهمَ هو جعلُ قرابةِ الدين غامرةً لقرابة النسبِ، وأن لا يقدّم في الأمور الدينيةِ الأصوليةِ إلا بعد اليقينِ قياساً على ما وقع في قصة البقرةِ من تقديم ذكرِ الأمرِ بذبحها على ذكر القتيلِ الذي هو أولُ القصةِ وكان حقُّها أن يقالَ: وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها فقلنا: اذبحوا بقرةً فاضرِبوه ببعضها كما قُرّر في موضعه فإن تغييرَ الترتيبِ هناك للدِلالة على كمال سوءِ حالِ اليهودِ بتعديد جناياتِهم المتنوعةِ وتثنية التقريعِ عليهم بكل نوع على حدة فقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} الخ، لتقريعهم على الاستهزاء وتركِ المسارعةِ إلى الامتثال وما يتبع ذلك وقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} الخ، للتقريع على قتل النفسِ المحرمةِ وما يتبعه من الأمور العظيمةِ، ولو قُصت القِصةُ على ترتيبها لفات الغرضُ الذي هو تثنيةُ التقريعِ ولظُن أن المجموعَ تقريعٌ واحدٌ وأما ما نحن فيه فليس مما يمكن أن يراعى فيه مثلُ تلك النكتةِ أصلاً، وما ذكر من جعل القرابةِ الدينيةِ غامرةً للقرابة النسبية الخ، لا يفوت على تقدير سَوْقِ الكلامِ على ترتيب الوقوعِ أيضاً بل لأن ذكرَ هذا النداءِ كما ترى مستدعٍ لذكر ما مر من الجواب المستدعي لذكر ما مر من توبته عليه الصلاة والسلام المؤدِّي ذكرُها إلى ذكر قَبولها في ضمن الأمرِ الواردِ بنزوله عليه الصلاة والسلام من الفلك بالسلام والبركاتِ الفائضةِ عليه وعلى المؤمنين حسبما سيجيء مفصلاً، ولا ريب في أن هذه المعانيَ آخذٌ بعضُها بحُجْزةِ بعض بحيث لا يكاد يُفرَّق الآياتُ الكريمة المنطويةُ عليها بعضُها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القِصّة، ولا ريب أن ذلك إنما يكون بتمام الطوفانِ فلا جرم اقتضى الحالُ ذكرَ تمامِها قبلَ هذا النداءِ وذلك إنما يكون عند ذكرِ كونِ كنعانَ من المغرَقين ولهذه النكتة ازداد حسنُ موقعِ الإيجاز البليغِ وفيه فائدةٌ أخرى هي التصريحُ بهلاكه من أول الأمرِ إلى أن يرِد قولُه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أنه ينجو بدعائه عليه الصلاة والسلام فنُص على هلاكه من أول الأمرِ ثم ذُكر الأمرُ الواردُ على الأرض والسماءِ الذي هو عبارةٌ عن تعلق الإرادةِ الربانيةِ الأزليةِ بما ذُكر من الغيض والإقلاعِ وبين بلوغِ أمرِ الله محلَّه وجريانِ قضائِه ونفوذ حُكمِه عليهم بهلاك من هلك ونجاةِ من نجا بتمام ذلك الطوفانِ واستواءِ الفُلكِ على الجوديِّ فقُصّت القِصةُ إلى هذه المرتبةِ وبُيّن ذلك أيَّ بيانٍ ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوحٍ عليه السلام وبين ربِّ العزة جلت حكمتُه فذُكر بعد توبتِه عليه الصلاة والسلام قبولُها بقوله: