فصل: تفسير الآيات (115- 116):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (115- 116):

{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)}
{واصبر} على مشاقّ ما أُمِرْت به في تضاعيف الأوامرِ السابقةِ وأما ما نُهيَ عنه من الطغيان والركون إلى الذين ظلموا فليس في الانتهاء عنه مشقةٌ فلا وجهَ لتعميم الصبرِ له، اللهم إلا أن يُراد به ما لا يمكن عادة خلوُّ البشرِ عنه من أدنى ميلٍ بحكم الطبيعةِ عن الاستقامة المأمورِ بها، ومن يسير ميلٍ بحكم البشرية إلى من وُجد منه ظلمٌ ما فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي يوفيهم أجورَ أعمالهم من غير بخسٍ أصلاً، وإنما عبِّر عن ذلك بنفي الإضاعةِ مع أن عدمَ إعطاءِ الأجرِ ليس بإضاعةٍ حقيقةً، كيف لا والأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَم من تخلفه عنها ضياعُها، لبيان كمالِ نزاهتِه تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدورُه عنه سبحانه من القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرض الأمورِ الواجبة عليه، وإنما عدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدةٍ عامةٍ لكل من يتصف به، وهو تعليلٌ للأمر بالصبر، وفيه إيماءٌ إلى أن الصبرَ على ما ذكر من باب الإحسان.
{فَلَوْلاَ كَانَ} فهلا كان {مّنَ القرون} الكائنةِ {مِن قَبْلِكُمْ} على رأي من جوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلتِه أو كائنةً من قبلكم {أُوْلُو بَقِيَّةٍ} من الرأي والعقلِ أو أولو فضلٍ وخير، وسُمّيا بها لأن الرجلَ إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجودَه وأفضلَه، فصار مثلاً في الجودة والفضلِ ويقال: فلان من بقيةِ القومِ أي من خيارِهم، ومنه ما قيل: في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا، ويجوز أن تكون البقيةُ بمعنى البقوى كالتقية من التقوى، أي فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط الله تعالى وعقابه، ويؤيده أنه قرئ {أولو بقْيةٍ} وهي المرّةُ من مصدر بقاه يَبقيه إذا راقبه وانتظره أي أولو مراقبةِ وخشيةٍ من عذاب الله تعالى كأنهم ينتظرون نزولَه لإشفاقهم {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الارض} الواقعِ منهم حسبَ ما حُكي عنهم {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناءٌ منقطعٌ أي لكن قليلاً منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفةِ على أن مِنْ للبيان لا للتبعيض لأن جميعَ الناجين ناهون، ولا صحة للاتصال على ظاهر الكلامِ لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي المذكورِ إلا للقليل من الناجين منهم كما إذا قلت هلاّ قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم مريداً لاستثناء الصلحاءِ من المُحضَّضين على القراءة نعم يصح ذلك إن جعل استثناءً من النفي اللازمِ للتحضيض، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقيةٍ إلا قليلاً منهم، لكنَّ الرفعَ هو الأفصحُ حينئذ على البدلية {واتبع الذين ظَلَمُواْ} بمباشرة الفسادِ وتركِ النهي عنه {مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي أُنعموا من الشهوات واهتموا بتحصيلها، وأما المباشرون فظاهرٌ وأما المساهلون فلِما لهم في ذلك من نيل حظوظِهم الفاسدة.
وقيل: المرادُ بهم تاركو النهي، وأنت خبيرٌ بأنه يلزم منه عدمُ دخولِ مباشري الفسادِ في الظلم والإجرام عبارةً {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} أي كافرين فهو بيانٌ لسبب استئصالِ الأمم المُهلَكة وهو فشوُّ الظلمِ واتباعُ الهوى فيهم وشيوعُ ترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقوله: واتّبع عطفٌ على مضمر دل عليه الكلامُ، أي لم ينهَوا واتبع إلخ فيكون العدولُ إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيلِ عليهم بالظلم، وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب، أو على استئنافٍ يترتب على قوله: إلا قليلاً أي إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهَوا عن الفساد وتاركي النهي عنه، فيكون الإظهارُ مقتضى الظاهِرِ، وقوله: وكانوا مجرمين عطفٌ على أترفوا أي اتبعوا الإتراف، وكونُهم مجرمين لأن تابعَ الشهواتِ مغمورٌ بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالُهم للشكر، أو على اتبع أي اتبعوا شهواتِهم وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين، ويجوز أن يكون اعتراضاً وتسجيلاً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون، وقرئ {وأُتْبع} أي أُتبعوا جزاءَ ما أُترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن يُفسَّر به المشهورةُ، ويعضُده تقدم الإنجاء.

.تفسير الآية رقم (117):

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمةِ أن يُهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك أنباؤها ويُعلم من ذلك حالُ باقيها من القرى الظالمةِ واللام لتأكيد النفي وقوله: {بِظُلْمٍ} أي ملتبساً به، قيل: هو حالٌ من الفاعل أي ظالماً لها والتنكيرُ للتفخيم والإيذانِ بأن إهلاكَ المصلحين ظلمٌ عظيم والمرادُ تنزيهُ الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى وإلا فلا ظلمَ فيما فعله الله تعالى بعباده كائناً ما كان لِما تقرّر من قاعدة أهلِ السنة وقد مر تفصيلُه في سورة آل عمرانَ عند قولِه تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} وقوله تعالى: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} حالٌ من المفعول والعاملُ عامله ولكن لا باعتبار تقيّدِه بما وقع حالاً من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقيد نفي الإهلاكِ ظلماً بحال كونِ أهلِها مصلحين، ولا ريب في فساده بل مطلقاً عن ذلك، وقيل: المرادُ بالظلم الشركُ والباء للسببية أي لا يُهلك القرى بسبب إشراك أهلِها وهم مُصلِحون يتعاطَوْن الحقَّ فيما بينهم ولا يضمُّون إلى شركهم فساداً آخرَ، وذلك لفرط رحمتِه ومسامحتِه في حقوقه تعالى، ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ عند تزاحم الحقوقِ حقوقَ العبادِ الفقراءِ على حقوق الله تعالى الغنيِّ الحميد، وقيل: المُلكُ يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم، وأنت تدري أن مقامَ النهي عن المنكرات التي أقبحُها الإشراكُ بالله لا يلائمه، فإن الشركَ داخلٌ في الفساد في الأرض دخولاً أولياً، ولذلك كان ينهي كلٌّ من الرسل الذين قُصّت أنباؤهم أمتَه أولاً عن الإشراك ثم عن سائر المعاصي التي كانوا يتعاطَونها، فالوجهُ حملُ الظلمِ على مطلق الفسادِ الشاملِ للشرك وغيرِه من أصناف المعاصي، وحملُ الإصلاحِ على إصلاحه والإقلاعِ عنه بكون بعضهم متصدّين للنهي عنه وبعضِهم متوجّهين إلى الاتعاظ غيرَ مُصرِّين على ما هم عليه من الشرك وغيرِه من أنواع الفساد.

.تفسير الآيات (118- 120):

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} مجتمعةً على الحق ودين الإسلام بحيث لا يكاد يختلف فيه أحدٌ ولكن لم يشأ ذلك فلم يكونوا متفقين على الحق {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في الحق أي مخالفين له كقوله تعالى: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ} {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} إلا قوماً قد هداهم الله تعالى بفضله إلى الحق فاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه أي لم يخالفوه، وحملُه على مطلق الاختلاف الشاملِ لِما يصدر من المُحق والمُبطل يأباه الاستثناءُ المذكور {ولذلك} أي ولما ذكر من الاختلاف {خَلْقَهُمْ} أي الذين بقُوا بعد الثنيا وهو المختلِفون، فاللامُ للعاقبة أو للترحم فالضميرُ لمن واللام في معناها أو لهما معاً فالضميرُ للناس كافةً واللام بمعنى مجازيَ عامّ لكلا المعنيين {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} أي وعيدُه أو قولُه للملائكة {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} أي من عُصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما، {وَكُلاًّ} أي وكلَّ نبأ فالتنوينُ عوضٌ عن المضاف إليه {نَقُصُّ عَلَيْكَ} نجبرك به وقوله تعالى: {مِنْ أَنْبَاء الرسل} بيانٌ لكُلاًّ وقوله تعالى: {مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بدلٌ منه والأظهر أن يكون المضافُ إليه المحذوفُ في كلاًّ المفعولَ المطلق لنقصُّ أي كلَّ أسلوبٍ من أساليبه نقصُّ عليك من أنباء الرسل، وقوله تعالى: {مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} مفعولُ نقصّ وفائدتُه التنبيهُ على أن المقصودَ بالاقتصاص زيادةُ يقينه عليه السلام وطُمأنينةُ قلبه وثباتُ نفسه على أداء الرسالة واحتمالِ أذية الكفارِ بالوقوف على تفاصيل أحوالِ الأممِ السالفة في تماديهم في الضلال وما لقيَ الرسلُ من جهتهم من مكابدة المشاقّ {وَجَاءكَ فِي هذه} السورة أو الأنباءِ المقصوصة عليك {الحق} الذي لا محيد عنه {وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي الجامعُ بين كونه حقاً في نفسه وكونهِ موعظةً وذكرى للمؤمنين ولكون الوصفِ الأولِ حالاً له في نفسه حُلّي باللام دون ما هو وصفٌ له بالقياس إلى غيره، وتقديمُ الظرفِ أعني {في هذه} على الفاعل لأن المقصودَ بيانُ منافعِ السورةِ أو الأنباءِ المقصوصةِ فيها واشتمالِها على ما ذكر من المنافع المفصلةِ لا بيانُ كونِ ذلك فيها لا في غيرها ولأن عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ تبقى النفسُ مترقبةً إليه فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّنٍ ولأن في المؤخَّر نوعَ طولٍ يُخِلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم.

.تفسير الآيات (121- 123):

{وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}
{وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} بهذا الحقِّ ولا يتعظون به ولا يتذكرون {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالكم وجِهتِكم التي هي عدمُ الإيمان {إِنَّا عَامِلُونَ} على حالنا وهو الإيمانُ به والاتعاظُ والتذكرُ به {وانتظروا} بنا الدوائرَ {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أن ينزل بكم نحوُ ما نزل بأمثالكم من الكفرة {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والارض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ} فيرجع لا محالة أمرُك وأمرُهم إليه وقرئ على البناء للفاعلِ من رجع رجوعاً {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك، والفاءُ لترتيب الأمرِ بالعبادة والتوكلِ على كون مرجعِ الأمور كلِّها إلى الله تعالى، وفي تأخير الأمرِ بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعارٌ بأنه لا ينفع دونها {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيجازيهم بموجبه وقرئ {تعملون} على تغليب المخاطَب أي أنت وهم فيجازي كلاًّ منك ومنهم بموجب الاستحقاق. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورةَ هودٍ أُعطيَ من الأجر عشرُ حسناتٍ بعدد مَنْ صدّق كلَّ واحدٍ من الأنبياء المعدودين فيها عليهم الصلاة والسلام وبعدد مَنْ كذّبهم وكان يوم القيامة من السعداء بفضل الله سبحانه وتعالى».

.سورة يوسف عليه السلام:

مكية إلا الآيات 1 و2 و3 و7 فمدنية وآياتها 111.

.تفسير الآيات (1- 3):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}
{الر} الكلامُ فيه وفي محله وفيما أريد بالإشارة والآياتِ والكتابِ في قوله تعالى: {تِلْكَ ءايات الكتاب} عيْنُ ما سلف في مطلع سورةِ يونسَ {المبين} من أبان بمعنى بان أي الظاهرِ أمرُه في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه بنوعيه لاسيما الإخبارُ عن الغيب، أو الواضحِ معانيه للعرب بحيث لا يشتبه عليهم حقائقُه ولا يلتبس لديهم دقائقُه لنزوله على لغتهم أو بمعنى بيّن أي المبين لِما فيه من الأحكام والشرائعِ وخفايا المُلكِ والملكوتِ وأسرارِ النشأتين في الدارين وغيرِ ذلك من الحِكَم والمعارف والقصص، وعلى تقدير كونِ الكتاب عبارةً عن السورة فإبانتُه إنباؤُه عن قصة يوسفَ عليه السلام، فإنه قد رُوي أن أحبارَ اليهودِ قالوا لرؤساء المشركين: سلوا محمداً صلى الله عليه وسلم لماذا انتقل آلُ يعقوبَ من الشام إلى مصر، وعن قصة يوسفَ عليه السلام ففعلوا ذلك. فيكون وصفُ الكتابِ بالإبانة من قبيل براعةِ الاستهلالِ لما سيأتي ولمّا وُصف الكتابُ بما يدل على الشرف الذاتي عُقِّب ذلك بما يدل على الشرف الإضافي فقيل: {إِنَّا أنزلناه} أي الكتابَ المنعوتَ بما ذكر من النعوت الجليلةِ، فإن كان عبارةً عن الكل وهو الأظهرُ الأنسبُ بقوله تعالى: {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} إذ هو المشهورُ بهذا الاسم المعروفِ بهذا النعت المتسارعِ إلى الفهم عند إطلاقِهما فالأمرُ ظاهرٌ، وإنْ جُعل عبارةً عن السورة فتسميتُها قرآناً لما عَرفته فيما سلف، والسرُّ في ذلك أنه اسمُ جنسٍ في الأصل يقع على الكل والبعضِ كالكتاب، أو لأنه مصدرٌ بمعنى المفعول أي أنزلناه حالَ كونِه مقروءاً بلغتكم {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تفهموا معانيَه طراً وتحيطوا بما فيه من البدائع خُبْراً وتطّلعوا على أنه خارجٌ عن طوق البشر منزَّلٌ من عند خلاق القُوى والقدر. {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي نخبرك ونحدّثك، واشتقاقُه من قصَّ أثرَه إذا اتّبعه لأن مَنْ يقُصّ الحديثَ يتْبع ما حفِظ منه شيئاً فشيئاً كما يقال: تلا القرآن لأنه يتْبع ما حفِظ منه آيةً بعد آية {أَحْسَنَ القصص} أي أحسن الاقتصاص فنصبُه على المصدريه وفيه مع بيان الواقعِ إيهامٌ لما في اقتصاص أهلِ الكتاب من القُبح والخلل، وتركُ المفعولِ إما للاعتماد على انفهامه من قوله عز وجل: {بِمَا أَوْحَيْنَا} أي بإيحائنا {إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} أي هذه السورةَ فإن كونَها مُوحاةً منبىءٌ عن كون ما في ضمنها مقصوصاً، والتعرضُ لعنوان قرآنيتِها لتحقيق أن الاقتصاصَ ليس بطريق الإلهامِ أو الوحي غيرَ المتلوِّ وإما لظهوره من سؤال المشركين بتلقين علماءِ اليهودِ، وأحسنيّتُه لأنه قد اقتُصّ على أبدع الطرائق الرائعةِ الرائقةِ وأعجبِ الأساليب الفائقةِ اللائقةِ كما لا يكاد يخفى على من طالع القصةَ من كتب الأولين والآخرين وإن كان لا يميز الغثّ من السمين، ولا يفرّق بين الشمال واليمين، وفي كلمة هذا إيماءٌ إلى مغايرة هذا القرآنِ لما في قوله تعالى: {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} بأن يكون المرادُ بذلك المجموعَ فتأمل.
أو نقص عليك أحسنَ ما نقص من الأنباء وهو قصةُ آلِ يعقوبَ عليه السلام على أن القَصصَ فَعَلٌ بمعنى المفعول كالنبأ والخبر، أو مصدرٌ سُمّي به المفعولُ كالخلْق والصيد، ونصبُ أحسنَ على المفعولية وأحسنيتُها لتضمنها من الحِكم والعِبر ما لا يخفى كمالُ حسنه {وَإِن كُنتُ} إن مخففةٌ من الثقيلة، وضميرُ الشأنِ الواقعُ اسماً لها محذوفٌ واللامُ فارقةٌ والجملةُ خبرٌ والمعنى وإنّ الشأن {مِن قَبْلِهِ} من قبل إيحائِنا إليك هذه السورةَ {لَمِنَ الغافلين} عن هذه القصة لم تخطُر ببالك ولم تقرَعْ سمعَك قطُّ، وهو تعليلٌ لكونه مُوحى، والتعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأنِ النبيِّ عليه السلام وإن غفَل عنه بعضُ الغافلين.

.تفسير الآية رقم (4):

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)}
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ} نُصب بإضمار اذكرْ وشروعٌ في القصة إنجازاً للوعد بأحسنِ الاقتصاصِ، أو بدلٌ من أحسنَ القصصِ على تقدير كونِه مفعولاً بدلَ اشتمالٍ فإن اقتصاصَ الوقتِ المشتملِ على المقصوص من حيث اشتمالُه عليه اقتصاصٌ للمقصوص، ويوسُفُ اسمٌ عبريٌّ لا عربيٌّ لخلوّه عن سبب آخرَ غيرِ التعريف، وفتح السين وكسرها على بعض القراءات بناءً على التلعّب به لا على أنه مضارعٌ بُني للمفعول أو الفاعلِ من آسَف لشهادة المشهورة بعجمته {لأَبِيهِ} يعقوبَ بنِ إسحاقَ بن إبراهيمَ عليهم الصلاة والسلام، وقد روي عنه عليه السلام: «إن الكريمَ بنَ الكريمِ بنِ الكريمِ بن الكريم يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ» {يا أبت} أصله يا أبي فعوِّض عن الياء تاءُ التأنيثِ لتناسُبهما في الزيادة فلذلك قُلبت هاءً في الوقف على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوبَ، وكسرتُها لأنها عوضٌ عن حرف يناسبها وفتحها ابنُ عامر في كل القرآن لأنها حركةُ أصلها، أو لأن الأصلَ يا أبتا فحُذف الألفُ وبقيت الفتحة، وإنما لم يُجز يا أبتي لأنه جمعٌ بين العِوض والمعوَّض، وقرئ بالضم إجراءً لها مُجرى الألفاظِ المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويضِ وعدم تسكينها كأصلها لأنها حرفٌ صحيحٌ منزلٌ منزلةَ الاسمِ فيجب تحريكها ككاف الخطاب.
{إِنّى رَأَيْتُ} من الرؤيا لا من الرؤية لقوله: {لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ} {هذا تَأْوِيلُ رؤياى} ولأن الظاهرَ أن وقوعَ مثلِ هذه الأمور البديعةِ في عالم الشهادةِ لا يختص برؤية راءٍ دون راءٍ فيكون طامّةً كبرى لا يخفى على أحد من الناس {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر} روي عن جابر رضي الله عنه: «أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسُف عليه السلام، فسكت النبيُّ عليه السلام فنزل جبريلُ عليه السلام فأخبره بذلك فقال عليه السلام: إذا أخبرتك بذاك هل تسلم؟ فقال: نعم، قال عليه السلام: جريانُ والطارقُ والذيال وقابسُ وعمودان والفليقُ والمصبحُ والضّروحُ والفرعُ ووثّابُ وذو الكتفين، رآها يوسف عليه السلام والشمس والقمر ونزلن من السماء وسجَدْن له فقال اليهوديُّ: إي والله إنها لأسماؤها» وقيل: الشمس والقمرُ أبواه، وقيل: أبواه، وقيل: أبوه وخالتُه والكواكبُ إخوتُه، وإنما أُخِّر الشمسُ والقمر عن الكواكب لإظهار مزيتِهما وشرفِهما على سائر الطوالعِ بعطفهما عليهما كما في عطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة عليهم السلام وقد جُوِّز أن تكون الواو بمعنى مع أي رأيت الكواكبَ مع الشمس والقمر، ولا يبعُد أن يكون ذلك إشارةً إلى تأخر ملاقاتِه عليه السلام لهما عن ملاقاته لإخوته. وعن وهب أن يوسفَ عليه السلام رأى وهو ابنُ سبعِ سنين أن إحدى عشرةَ عصاً طِوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الداوة وإذا عصاً صغيرةٌ تثب عليها حتى اقتلعتْها وغلبتْها فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكرَ هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرةَ سنةً الشمسَ والقمرَ والكواكبَ تسجُد له فقصّها على أبيه، فقال: لا تقصَّها عليهم فيبغوا لك الغوائل، وقيل: كان بين رؤيا يوسفَ ومصير إخوتِه إليه أربعون سنةً، وقيل: ثمانون {رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} استئنافٌ ببيان حالِهم التي رآهم عليها كأن سائلاً سأل فقال: كيف رأيتهم؟ فأجاب بذلك، وإنما أُجريت مُجرى العقلاءِ في الضمير لوصفها بوصف العقلاءِ السجود، وتقديمُ الجار والمجرور لإظهار العنايةِ والاهتمام بما هو الأهمُّ مع ما في ضمنه من رعاية الفاصلة.