فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (32):

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}
{قَالَتْ فذلكن} الفاء فصيحةٌ والخطابُ للنسوة والإشارةُ إلى يوسف بالعنوان الذي وصفْنه به الآن من الخروج في الحسن والجمالِ عن المراتب البشريةِ والانتصار على الملَكية، فاسمُ الإشارة مبتدأٌ والموصولُ خبرُه والمعنى إن كان الأمرُ قلتنّ فذلكنّ الملكُ الكريمُ النائي عن المراتب البشريةِ هو {الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} أي عيَّرْتُنّني في الافتتان به حيث رَبَأْتُن بمحلِّي بنسبتي إلى العزيز ووضعتُنَّ قدرَه بكونه من المماليك أو بالعنوان الذي وصفْنه به فيما سبق بقولهن: امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكَنعاني فهو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي فهو ذلك العبدُ الكنعانيُّ الذي صورتُنّ في أنفسكن وقلتنّ فيه وفيَّ ما قلتن فالآن قد علمتُنّ من هو وما قولُكن فينا، وأما ما يقال تعني أنكن لم تصوِّرْنه بحقِّ صورتِه ولو صوّرتُنّه بما عاينتُنّ لعذرتُنّني في الافتتان به فلا يلائمُ المقام فإن مرادَها بدعوتهن وتمهيدِ ما مهَّدَتْه لهن تبكيتُهن وتنديمُهن على ما صدر عنهن من اللوم وقد فعلت ذلك بما لا مزيدَ عليه، وما ذكر من المقال فحقُّ المعتذر قبل ظهور معذرتِه وقد قيل في تعليل الملَكية: أن الجمعَ بين الجمال الرائقِ والكمال الفائق والعصمةِ البالغةِ من الخواصِّ الملكية وهو أيضاً لا يلائم قولها: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِى فِيهِ} فإن عنوانَ العصمةِ مما ينافي تمشيةَ مرامِها ثم بعدما أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرَها وقد أصابهن من قِبله عليه السلام ما أصابها باحت لهن ببقية سرِّها فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} حسبما قلتنّ وسمعتن {فاستعصم} امتنع طالباً للعصمة وهو بناءُ مبالغةٍ يدل على الامتناع البليغِ والتحفّظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها كما في استمسك واستجمع الرأيَ وفيه برهانٌ نيِّر على أنه لم يصدُر عنه عليه السلام شيء مُخِلٌّ باستعصامه بقوله: معاذ الله من الهمّ وغيرِه. اعترفت لهن أولاً بما كن يسمعنْه من مراودتها له وأكدتْه إظهاراً لابتهاجها بذلك ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون ولم يَمِلْ إليها قط ثم زادت عليه أيضاً أنها مستمرةٌ على ما كانت عليه غير مرغوبة عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب فقالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ} أي آمرُ به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى فحُذف الجارُّ وأوصل الفعلُ إلى الضمير كما في أمرتك الخيرَ فالضميرُ للموصول أو أمري إياه أي موجبَ أمري ومقتضاه، فما مصدرية والضميرُ ليوسف وعبّرت عن مراودتها بالأمر إظهاراً لجريان حكومتِها عليه واقتضاءً للامتثال بأمرها {لَيُسْجَنَنَّ} بالنون المثقلة آثرت بناءَ الفعل للمفعول جرياً على رسم الملوكِ أو إيهاماً لسرعة ترتبِ ذلك على عدم امتثالِه لأمرها كأنه لا يدخُل بينهما فعلُ فاعل {وَلَيَكُونًا} بالمخففة {مِنَ الصاغرين} أي الأذلاء في السجن وقد قرئ الفعلان بالتثقيل ولكن المشهورةَ أولى لأن النونَ كُتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف، واللامُ الداخلة على حرف الشرطِ موطئةٌ للقسم وجوابُه سادٌّ مسدَّ الجوابين ولقد أتتْ بهذا الوعيدِ المنطوي على فنون التأكيدِ بمحضر منهن ليعلم يوسفُ عليه السلام أنها ليست في أمرها على خُفية ولا خفية من أحد فتضيقَ عليه الحيلُ وتعيا به العللُ وينصحن له ويُرشِدْنه إلى موافقتها. ولما كان هذا الإبراقُ والإرعادُ منها مظِنةً لسؤال سائل يقول: فما صنع يوسفُ حينئذ؟ قيل:

.تفسير الآية رقم (33):

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)}
{قَالَ} مناجياً لربه عزَّ سلطانُه {رَبّ السجن} الذي أوعَدَتْني بالإلقاء فيه وقرأ يعقوبُ بالفتح على المصدر {أَحَبُّ إِلَىَّ} أي آثَرُ عندي لأنه مشقةٌ قليلةٌ نافذةٌ إثرَها راحاتٌ جليلةٌ أبديةٌ {مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} من مؤاتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والعذابِ الأليم، وهذا الكلامُ منه عليه السلام مبنيٌّ على ما مر من انكشاف الحقائقِ لديه وبروزِ كلَ منها بصورتها اللائقةِ بها، فصيغةُ التفضيلِ ليست على بابها إذ ليس له شائبةُ محبةٍ لما دعتْه إليه، وإنما هو والسجنُ شران أهونُهما وأقربُهما إلى الإيثار السجنُ. والتعبيرُ عن الإيثار بالمحبة لحسم مادةِ طمعِها عن المساعدة خوفاً من الحبس والاقتصار على ذكر السجنِ من حيث إن الصَّغارَ من فروعه ومستتبعاتِه، وإسنادُ الدعوةِ إليهن جميعاً لأن النسوة رغّبْنه في مطاوعتها وخوَّفْنه من مخالفتها، وقيل: دعَوْنه إلى أنفسهن، وقيل: إنما ابتُلي عليه السلام بالسجن لقوله هذا، وكان الأولى به أن يسألَ الله تعالى العافية، ولذلك ردّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبرَ {وَإِلاَّ تَصْرِفْ} أي إن لم تصرف {عَنّى كَيْدَهُنَّ} في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه لديّ بأن تُثبِّتَني على ما أنا عليه من العِصمة والعِفة {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أمِلْ إلى إجابتهن أو إلى أنفسهن على قضية الطبيعةِ وحكم القوةِ الشهوية، وهذا فزعٌ منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جرياً على سُنن الأنبياءِ والصالحين في قصر نيلِ الخيراتِ والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل وسلبِ القوى والقدر عن أنفسهم، ومبالغةٌ في استدعاء لطفِه في صرف كيدِهن بإظهار أن لا طاقةَ له بالمدافعة كقول المستغيثِ: أدركْنى وإلا هلكتُ لا أنه يطلب الإجبارَ والإلجاءَ إلى العصمة والعفةِ وفي نفسه داعيةٌ تدعوه إلى هواهن، والصبْوةُ الميلُ إلى الهوى ومنه الصَّبا لأن النفوسَ تصبو إليها لطيب نسيمِها ورَوْحِها. وقرئ {أصبّ إليهن} من الصبابة وهي رقةُ الشوق {وَأَكُن مّنَ الجاهلين} الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو والجاهل سواءٌ أو من السفهاء بارتكابِ ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيمَ لا يفعل القبيح.

.تفسير الآيات (34- 35):

{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
{فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} دعاءَه الذين تضمنه قولُه: وإلا تصرف عني كيدهن الخ، فإن فيه استدعاءً لصرف كيدِهن على أبلغ وجهٍ وألطفِه كما مر، وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافاً إليه عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} حسب دعائِه وثبّته على العصمة والعفة {إِنَّهُ هُوَ السميع} لدعاء المتضرعين إليه {العليم} بأحوالهم وما يصلحهم.
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدّين للحل والعقد ريثما اكتفَوا بأمر يوسف بالكتمان والإعراض عن ذلك {مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات} الصارفةَ لهم عن ذلك البداءِ وهي الشواهدُ الدالة على براءته عليه السلام، وفاعل بدا إما مصدرُه أو الرأي المفهوم من السياق أو المصدر المدلول عليه بقوله: {لَيَسْجُنُنَّهُ} والمعنى بدا لهم بداءٌ أو رأيٌ أو سَجنُه المحتومُ قائلين: والله ليسجُنُنّه فالقسم المحذوف وجوابه معمول للقول المقدر حالاً من ضميرهم، وما كان ذلك البداءُ إلا باستنزال المرأةِ لزوجها وقتلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعةً لها تقوده حيث شاءت، قال السدي إنها قالت للعزيز: إن هذا العبدَ العبراني فد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودتُه عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرجَ فأعتذرَ إلى الناس وإما أن تحبِسه فحبسه، ولقد أرادت بذلك تحقيقَ وعيدِها لتُلين به عريكتَه وتنقادَ لها قرونته لمّا انصرمت حبالُ رجائها عن استتباعه بعرض الجمالِ والترغيبِ بنفسها وبأعوانها. وقرئ {لتسجُنُنه} على صيغة الخطاب بأن خاطب بعضُهم العزيزَ ومن يليه أو العزيزَ وحده على وجه التعظيم أو خاطب العزيزَ ومَن عنده مِن أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس {حتى حِينٍ} إلى حين انقطاعِ قالةِ الناسِ وهذا بادي الرأي عند العزيز وذويه، وأما عندها فحتى يذلِّلَه السجنُ ويسخره لها ويحسبَ الناسُ أنه المجرمُ وقرئ {عتى حين} بلغة هذيل.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
{وَدَخَلَ مَعَهُ} أى في صحبته {السجن فَتَيَانَ} من فتيان الملك ومماليكه أحدهما شرابيه والآخر خبازه. روى أن جماعة من أهل مصر ضمنوا لهما مالا ليسما الملك في طعامه وشرابه فأجابهم إلى ذلك ثم إن الساقى نكل عن ذلك ومضى عليه الخباز فسم الخبز فلما حضر الطعام قال الساقى لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم فقال الملك للساقى اشربه فشربه فلم يضره وقال للخباز كله فأبى فجرب بدابة فهلكت فأمر بحبسهما فانفق أن أدخلاه معه وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده عليها فضل تمكن ونظيره تقديم الظرف على المفعول الصريح في قوله تعالى: {فأوجَسَ في نفسه خِيفة} وتأخير السجن عن الظرف لإيهام العكس أن يكون الظرف خبراً مقدما على المبتدأ وتكون الجملة حالا من فاعل دخل فتأمل {قَالَ أَحَدُهُمَآ} استئناف مبنى على سؤال من يقول ما صنعا بعد ما دخلا معه السجن فأجيب بأنه قال أحدهما وهو الشرابى {إني أرانيا} أى رأيتنى والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الماضية {أَعْصِرُ خَمْراً} أى عنباً سماه بما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر وقيل الخبر بلغة عمان اسم للعنب وفى قراءة ابن مسعود رضى الله عنه أعصر عنباً {وَقَالَ الآخر} وهو الخباز {إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً} تأخير المفعول عن الظرف لما مر آنفاً وقوله: {تَأْكُلُ الطير مِنْهُ} أى تنهس منه صفة للخبز أو استئناف مبنى على السؤال {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} بتأويل ما ذكر من الرؤ بين أو ما رئى بإجراء الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما في قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ** كأنه في الجلد توليع البهق

أى كائن ذلك والسر في المصير إلى إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة مع أنه لا حاجة إليه بعد تأويل المرجع بما ذكر أو بما رئى أن الضمير إنما يتعرض لنفس المرجع من حيث هو من غير تعرض لحال من أحواله فلا يتسنى تأويله بأحد الاعتبارين إلا بإجرائه مجرى اسم الإشارة الذي يدل على المشار إليه بالاعتبار الذي جرى عليه في الكلام فتأمل هذا إذا قالاه معاً أو قاله أحدهما من جهتهما ليتعدد المرجع بل عبارة كل منهما نبئنى بتأويله مستفسراً لما رآه وصيغة المتكلم مع الغير واقعة في الحكاية دون المحكى على طريقة قوله عز وجل: {يَأيُّها الرُّسل كُلُوا من الطيبات} فإنَّهم لم يخاطبوا بذلك دفعة بل خوطب كل منهم في زمانه بصيغة مفردة خاصة به {إِنَّا نَرَاكَ} تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارها منه عليه السلام {مِنَ المحسنين} من الذين يحيدون عبارة الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤو لها له تأويلا حسناً أو من العلماء لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله أو من المحسنين إلى أهل السجن أى فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادراً على ذلك.
روى أنه عليه السلام كان إذا مرض منهم رجل قام عليه وإذا ضاق مكانه أوسع له وإذا احتاج جمع له وعن قتادة رضى الله عنه كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا فقالوا بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى فقال أنا يوسف بن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل الله إبراهيم فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك ولكنى أحسن جوارك فكن في أى بيوت السجن شئت وعن الشعبى أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابى أرانى في بستان فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته وقال الخباز إنى أرانى وفوق رأسى ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة وإذا سباع الطير تنهس منها.

.تفسير الآية رقم (37):

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)}
{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في مقامكما هذا حسب عادتِكما المطردةِ {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعامٌ في حال من الأحوال إلا حالَ ما نبأتكما به بأن بينتُ لكما ماهيّتَه وكيفيته وسائرَ أحواله {قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا} وإطلاقُ التأويل عليه إما بطريق الاستعارةِ فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعامِ المُبهمِ بمنزلة التأويلِ بالنظر إلى ما رُئيَ في المنام وشبيهٌ له، وإما بطريق المشاكلة حسبما وقع في عبارتهما من قولهما: {نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} ولا يبعُد أن يراد بالتأويل الشيءُ الآئلُ لا المآلُ فإنه في الأصل جعلُ شيءٍ آئلاً إلى شيء آخرَ فكما يجوز أن يراد به الأولُ فالمعنى إلا نبأتُكما بما يؤول إليه من الكلام والخبرِ المطابق للواقع وكان عليه السلام يقول لهما: اليوم يأتيكما طعامٌ صفتُه كيتَ وكيت فيجدانه كذلك، ومرادُه عليه السلام بذلك بيانُ كلِّ ما يُهمّهما من الأمور المترقَّبة قبل وقوعِها، وإنما تخصيصُ الطعام بالذكر لكونه عريقاً في ذلك بحسب الحال مع ما فيه من مراعاة حسنِ التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيَيَيْن المتعلقتين بالشراب والطعام، وقد جعل الضميرُ لما قصا من الرؤييين على معنى لا يأتيكما طعامٌ ترزقانِه حسب عادتِكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليَّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعامُ الموقت مراداً به الإخبارُ بالاستعجال في التنبئة. وأنت خبيرٌ بأن النظم الكريمَ ظاهرٌ في تعدد إتيانِ الطعام والإخبار بالتأويل وتجدُّدِهما وأن المقام مقامُ إظهارِ فضلِه في فنون العلومِ بحيث يدخل في ذلك تأويلُ رؤياهما دخولاً أولياً، وإنما لم يكتفِ عليه السلام بمجرد تأويلِ رؤياهما مع أن فيه دِلالةً على فضلة لأنهما لما نعتاه عليه السلام بالانتظام في سِمْط المحسنين وأنهما قد علما ذلك حيث قالا: إنا نراك من المحسنين توسّم عليه السلام فيهما خيراً وتوجّهاً إلى قَبول الحق فأريد أن يخرُجَ آثرَ ذي أثيرٍ عما في عُهدته من دعوة الخلقِ إلى الحق فمهّد قبل الخوضِ في ذلك مقدمةً تزيدهما علماً بعظم شأنِه وثقةً بأمره ووقوفاً على طبقته في بدائع العلومِ توسلاً بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه، وقد تخلّص إليها من كلامهما فكأنه قال: تأويلُ ما قصصتماه عليّ في طرف التمام حيث رأيتما مثاله في المنام وإني أبيّن لكما كلَّ جليل ودقيق من الأمور المستقبلة وإن لم يكن هناك مقدمةُ إلمامٍ حتى إن الطعام الموظفَ الذي يأتيكما كلَّ يوم أبيّنه قبل إتيانه، ثم أخبرهما بأن عمله ذلك ليس من قبيل علوم الكهنةِ والعرّافين، بل هو فضلٌ إلهيٌّ يؤتيه من يشاء ممن يصطفيه للنبوة فقال: {ذلكما} أي ذلك التأويلُ والإخبارُ بالمغيّبات ومعنى البُعد في ذلك للإشارة إلى علو درجتِه وبُعد منزلتِه {مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} بالوحي والإلهامِ أي بعضٌ منه أو من ذلك الجنسِ الذي لا يحوم حولَ إدراكِه العقولُ، ولقد دلهما بذلك على أن له علوماً جمةً، ما سمعاه قطعةٌ من جملتها وشُعبةٌ من دوحتها، ثم بين أن نيل تلك الكرامةِ بسبب اتباعِه ملةَ آبائِه الأنبياءِ العظامِ وامتناعِه عن الشرك فقال: {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} وهو استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من قوله: ذلكما مما علمني ربي وتعليلاً له لا للتعليم الواقع صلةً للموصول لتأديته إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيرِه، ولا لمضمون الجملةِ الخبرية لأن ما ذُكر بصدد التعليلِ ليس بعلةٍ لكون التأويلِ المذكورِ بعضاً مما علمه ربُّه أو لكونه من جنسه بل لنفس تعليمِ ما علمه فكأنه قيل: لماذا علمك ربُّك تلك العلومَ البديعة؟ فقيل: لأني تركت ملة الكفرةِ أي دينَهم الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادةِ الأوثان، والمراد بتركها الامتناعُ عنها رأساً كما يفصح عنه قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَىْء} لا تركُها بعد ملابستها، وإنما عبّر عنه بذلك لكونه أدخلَ بحسب الظاهرِ في اقتدائهما به عليه السلام، والتعبيرُ عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به للتنصيص على أن عبادتَهم له تعالى مع عبادة الأوثانِ ليست بإيمان به تعالى كما هو زعمُهم الباطلُ على ما مر في قوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} {وَهُم بالاخرة} وما فيها من الجزاء {هُمْ كافرون} على الخصوص دون غيرِهم لإفراطهم في الكفر.