فصل: تفسير الآيات (48- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (48- 49):

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}
{ثُمَّ يَأْتِى} وهو عطفٌ على تزرعون فلا وجه لجعله بمعنى الأمر حثاً لهم على الجد والمبالغة في الزراعة، على أنه يحصل بالإخبار بذلك أيضاً {مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد السنين السبعِ المذكوراتِ وإنما لم يقل من بعدهن قصداً إلى الإشارة إلى وصفهن فإن الضمير ساكتٌ عن أوصاف المرجعِ بالكلية {سَبْعٌ شِدَادٌ} أي سبعُ سنينَ صعابٌ على الناس {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} من الحبوب المتروكةِ في سنابلها، وفيه تنبيهٌ على أن أمرَه عليه السلام بذلك كان لوقت الضرورة وإسنادُ الأكل إليهن مع أنه حالُ الناس فيهن مجازيٌّ كما في نهارُه صائمٌ، وفيه تلويحٌ بأنه تأويلٌ لأكل العجافِ السمانَ واللام في لهن ترشيحٌ لذلك فكأن ما ادُّخر في السنابل من الحبوب شيءٌ قد هُيِّيء وقُدِّم لهن كالذي يقدَّم للنازل وإلا فهو في الحقيقة مقدَّمٌ للناس فيهن {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ} تُحرِزون مبذوراً للزراعة.
{ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد السنين الموصوفةِ بما ذكر من الشدة وأكلِ الغلال المدَّخرة {عَامٌ} لم يعبّر عنه بالسنة تحاشياً عن المدلول الأصليِّ لها من عام القحط وتنبيهاً من أول الأمرِ على اختلاف الحالِ بينه وبين السوابق {فِيهِ يُغَاثُ الناس} من الغيث أي يُمطَرون يقال: غِيثت البلادُ إذا مُطرت في وقت الحاجة أو من الغوث، يقال: أغاثنا الله تعالى أي أمدنا برفع المكاره حين أظلّتنا {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي ما مِن شأنه أن يُعصر من العنب والقصَب والزيتون والسمسم ونحوِها من الفواكه لكثرتها. والتعرضُ لذكر العصر مع جواز الاكتفاءِ عنه بذكر الغيث المستلزمِ له عادة كما اكتُفي به عن ذكر تصرِفهم في الحبوب إما لأن استلزامَ الغيثِ له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكوراتُ يتوقف صلاحُها على مبادٍ أخرى غيرِ المطر، وإما لمراعاة جانبِ المستفتي باعتبار حالتِه الخاصة به بشارةً له وهي التي يدور عليها حسنُ موقع تغليبِه على الناس في القراءة بالفوقانية، وقيل: معنى يعصرون يحلبون الضروعَ، وتكريرُ فيه إما للإشعار باختلاف أوقاتِ ما يقع فيه من الغيث والعصر زماناً وهو ظاهرٌ وعنواناً فإن الغيثَ والغوثَ من فضل الله تعالى والعصرُ من فعل الناس، وإما لأن المقام مقامُ تعداد منافعِ ذلك العام ولأجله قُدّم في الموضعين على الفعلين فإن المقصودَ الأصليَّ بيان أنه يقع في ذلك العام هذا النفعُ وذاك النفعُ لا بيانُ أنهما يقعان في ذلك العام يفيده التأخير، ويجوز أن يكون التقديمُ للقصر على معنى أن غيثهم وعصرَهم في سائر السنين بمنزلة العدمِ بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعاة الفواصلِ وفي الأول لرعاية حالِه، وقرئ {يُعصَرون} على البناء للمفعول من عصره إذا أنجاه وهو المناسبُ للإغاثة ويجوز أن يكون المبنيُّ للفاعل أيضاً منه كأنه قيل: فيه يغاث الناسُ وفيه يُغيثون أي يغيثهم الله ويغيثُ بعضُهم بعضاً، وقيل: معنى يُعصَرون يمطَرون من أعصرت السحابةُ إما بتضمين أعصرت معنى مطرَت وتعديتِه وإما بحذف الجارِّ وإيصالِ الفعل، على أن الأصلَ أعصرت عليهم، وأحكامُ هذا العام المبارك ليست مستنبَطةً من رؤيا الملكِ وإنما تلقاها عليه السلام من جهة الوحي فبشَّرهم بها بعد ما أوّل الرؤيا بما أول وأمرَهم بالتدبير اللائقِ في شأنه إبانةً لعلو كعبِه ورسوخِ قدمِه في الفضل وأنه محيطٌ بما لم يخطُر ببال أحدٍ فضلاً عما يُرى صورتُه في المنام على نحو قوله لصاحبيه عند استفتائِهما في منامهما: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} وإتماماً للنعمة عليهم حيث لم يشاركه عليه السلام في العلم بوقوعها أحدٌ ولو برؤية ما يدل عليها في المنام.

.تفسير الآيات (50- 51):

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)}
{وَقَالَ الملك} بعد ما جاءه السفيرُ بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقِطمير {ائتونى بِهِ} لِما علم من علمه وفضله {فَلَمَّا جَاءهُ} أي يوسفَ {الرسول} واستدعاه إلى الملك {قَالَ ارجع إلى رَبّكَ} أي سيدك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي ففتشه عن شأنهن وإنما لم يقل: فاسأله أن يفتش عن ذلك حثاً للملك على الجد في التفتيش ليتبين براءتُه ويتضح نزاهتُه إذ السؤالُ مما يهيج الإنسانَ على الاهتمام في البحث للتفصّي عما توجه إليه وأما الطلب فمما قد يتسامح ويُتساهل فيه ولا يبالى به وإنما لم يتعرض لامرأة العزيزِ مع ما لقِيَ من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجانِ محافظةً على مواجب الحقوق واحترازاً عن مكرها حيث اعتقدها مقيمةً في عُدوة العداوة، وأما النسوةُ فقد كان يطمع في صَدْعهن بالحق وشهادتِهن بإقرارها بأنها راودتْه عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرّح بمراودتهن له وقولِهن: أطع مولاتك واكتفي بالإيماء إلى ذلك بقوله: {إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} مجاملةً معهن واحترازاً عن سوء قالتِهن عند الملكِ وانتصابِهن للخصومة مدافعةً عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد {قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملكُ إثَر ما بلّغه الرسولُ الخبر وأحضرهن: {مَا خَطْبُكُنَّ} أي شأنكن وهو الأمرُ الذي يحِق لعُظْمه أن يخاطِبَ المرءُ فيه صاحبه {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ} وخادعتُنّه {عَن نَّفْسِهِ} ورغبتُنّه في إطاعة مولاته هل وجدتُن فيه شيئاً من سوء وريبة؟ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهاً له وتعجباً من نزاهته وعفته {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} بالغْن في نفي جنس السوءِ عنه بالتنكير وزيادة من {قَالَتِ امرأت العزيز} وكانت حاضرةً في المجلس وقيل: أقبلت النسوةُ عليها يقرِّرنها، وقيل: خافت أن يشهَدْن عليها بما قالت لهن: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين} فأقرت قائلة: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي ثبت واستقرَّ أو تبيّن وظهر بعد خفاء، قاله الخليل، وقيل: هو مأخوذ من الحِصة وهي القطعة من الجملة أي تبين حصةُ الحقِّ من حصة الباطل كما تتبين حِصصُ الأراضي وغيرها، وقيل: بان وظهر من حصّ شعرَه إذا استأصله بحيث ظهرت بشرةُ رأسه، وقرئ على البناء للمفعول من حَصحَص البعيرُ مباركَه أي ألقاها في الأرض للإناخة قال:
فحصحَص في صُمّ الصفا ثفَناتِه ** وناء بسلمى نوأةً ثم صمّما

والمعنى أُقرَّ الحقُّ في مقرّه ووُضع في موضعه ولم ترِدْ بذلك مجردَ ظهور ما ظهر بشهادتهن من مطلق نزاهتِه عليه السلام فيما أحاط به علمُهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطنِ خصوصاً فيما وقع فيه التشاجرُ بمحضر العزيز، ولا بحثٍ عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهورَ ما هو متحققٌ في نفس الأمر وثبوتِه من نزاهته عليه السلام في محل النزاعِ وخيانتِها فقالت: {أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ} لا أنه راودني عن نفسي {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي في قوله حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وأرادت بالآن زمانَ تكلّمها بهذا الكلام لا زمانَ شهادتِهن فتأمل أيها المنصفُ هل ترى فوق هذه المرتبةِ نزاهةً حيث لم تتمالك الخُصماء من الشهادة بها، والفضلُ ما شهدت بهِ الخصماءُ وإنما تصدى عليه السلام لتمهيد هذه المقدمة قبل الخروج ليُظهر براءةَ ساحتِه مما قُذف به لاسيما عند العزيزِ قبل أن يحُلّ ما عقَده كما يُعرب عنه قوله عليه السلام لما رجع إليه الرسولُ وأخبره بكلامهن.

.تفسير الآيات (52- 53):

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}
{ذلك} أي ذلك التثبيتُ المؤدي إلى ظهور حقيقة الحال {لِيَعْلَمَ} أي العزيز {أَنّى لَمْ أَخُنْهُ} في حرمته كما زعمه لا علماً مطلقاً فإن ذلك لا يستدعي تقديمَ التفتيشِ على الخروج من السجن بل قبل ما ذكر من نقص ما أبرمه ولعله لمراعاة حقوقِ السيادةِ لأن المباشرَة للخروج من حبسه قبل ظهورِ بُطلانِ ما جعله سبباً له وإن كان ذلك بأمر الملك مما يوهم الافتياتَ على رأيه، وأما أن يكون ذلك لئلا يُتمكن من تقبيح أمرِه عند ذلك تمحلاً لإمضاء ما قضاه فلا يليق بشأنه عليه السلام في الوثوق بأمره والتوكل على ربه جل جلاله {بالغيب} أي بظهر الغيبِ وهو حالٌ من الفاعل أو المفعول أي لم أخُنه وأنا غائبٌ عنه أو وهو غائبٌ عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراءَ الأستار والأبوابِ المغلقة، وأياً ما كان فالمقصودُ بيانُ كمالِ نزاهتِه عن الخيانة وغايةِ اجتنابه عنها عند تعاضد أسبابِها {وَأَنَّ الله} أي وليعلم أنه تعالى {لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} أي لا يُنفِذه ولا يسدّده بل يُبطله ويُزهِقه أو لا يهديهم في كيدهم إيقاعاً للفعل على الكيد مبالغة كما في قوله تعالى: {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ} أي يضاهئونهم في قولهم، وفيه تعريضٌ بامرأته في خيانتها أمانتَه وبه في خيانته أمانةَ الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا آياتِ نزاهتِه عليه السلام ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وأحسن عاقبتَه.
{وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى} أي لا أنزّهها عن السوء قاله عليه السلام هضماً لنفسه الكريمة البريئةِ عن كل سوء وربأً بمكانها عن التزكية والإعجاب بحالها عند ظهورِ كمالِ نزاهتِها على أسلوب قوله عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أو تحديثاً بنعمة الله عز وجل عليه وإبرازاً لسره المكنونِ في شأن أفعال العبادِ أي لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي، ولا أُسند هذه الفضيلةَ إليها بمقتضى طبعِها من غير توفيقٍ من الله عز وعلا {أَنَّ النفس} البشريةَ التي من جملتها نفسي في حد ذاتِها {لامَّارَةٌ بالسوء} مائلةٌ إلى الشهوات مستعمِلةٌ للقوى والآلاتِ في تحصيلها بل إنما ذلك بتوفيق الله وعصمته ورحمتِه كما يفيده قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك ومن جملتها نفسي أو هي أمارةٌ بالسوء في كل وقت إلا وقتَ رحمةِ ربي وعصمتِه لها، وقيل: الاستثناءُ منقطعٌ أي لكنْ رحمةٌ بي هي التي تصرِف عنها السوء كما في قوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً} {إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} عظيمُ المغفرة لما يعتري النفوسَ بموجب طباعِها ومبالِغٌ في الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك، وإيثارُ الإظهار في مقام الإضمارِ مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لتربية مبادئ المغفرةِ والرحمة، وقيل: إلى هنا من كلام امرأةِ العزيز، والمعنى ذلك الذي قلتُ ليعلم يوسفُ عليه السلام أني لم أخُنه ولم أكذِب عليه في حال الغَيبة وجئت بما هو الحقُّ الواقعُ وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت في حقه ما قلت وفعلتُ به ما فعلت، إن كل نفس لأمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي أي إلا نفساً رحِمها الله بالعصمة كنفس يوسفَ إن ربي غفورٌ لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيمٌ له، فعلى هذا يكون تأنّيه عليه السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه عليه السلام بملاقاة الملكِ وأمرُه بَيْنَ بينَ ففعل ما فعل حتى يتبين نزاهتُه وأنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من الفضل ونباهةِ الشأن ليتلقاه الملك بما يليق به من الإعظام والإجلال وقد وقع.

.تفسير الآيات (54- 55):

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
{وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ} أجعله خالصاً {لِنَفْسِى} وخاصاً بي {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي فأتَوا به، فحُذف للإيذان بسرعة الإتيانِ به فكأنه لم يكن بين الأمرِ بإحضاره والخطابِ معه زمانٌ أصلاً، والضميرُ المستكنُّ في {كلّمه} ليوسف، والبارزُ للملك أي فلما كلّمه يوسفُ إثرَ ما أتاه فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد {قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ} ذو مكانةٍ ومنزلةٍ رفيعة {أَمِينٌ} مؤتمنٌ على كل شيء، {واليومَ} ليس بمعيار لمدة المكانةِ والأمانةِ بل هو آنُ التكلم والمرادُ تحديد مبدئهما احترازاً عن احتمال كونِهما بعد حين. روي أنه عليه السلام لما جاءه الرسولُ خرج من السجن ودعا لأهله واغتسل ولبِس ثياباً جُدُداً فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتِك من شرّه وشرِّ غيره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسانُ؟ قال: لسانُ آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لساناً فكلّمه بها فأجابه بجميعها فتعجّب منه فقال: أحب أن أسمعَ منك رؤياي فحكاها ونعت له البقراتِ والسنابلَ وأماكنَها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوّض إليه أمرَه، وقيل: توفي قطفيرُ في تلك الليالي فنصّبه منصِبه وزوجه راعيل فوجدها عذراءَ وولدت له إفراييم وميشا ولعل ذلك إنما كان بعد تعيينِه عليه السلام لِما عُيّن له من أمر الخزائنِ كما يعرب عنه قوله عز وجل: {قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الارض} أي أرض مصرَ أي ولِّني أمرَها من الإيراد والصرف {إِنّى حَفِيظٌ} لها ممن لا يستحقها {عَلِيمٌ} بوجوه التصرّفِ فيها، وفيه دليل على جواز طلبِ الولايةِ إذا كان الطالبُ ممن يقدر على إقامة العدلِ وإجراءِ أحكامِ الشريعة وإن كان من يد الجائرِ أو الكافر.
وعن مجاهد أنه أسلم الملكُ على يده عليه السلام، ولعل إيثارَه عليه السلام لتلك الولايةِ خاصة إنما كان للقيام بما هو أهمُّ أمورِ السلطنة إن ذاك من تدبير أمرِ السنين حسبما فُصل في التأويل لكونه من فروع تلك الولايةِ لا لمجرد عمومِ الفائدة كما قيل، وإنما لم يُذكر إجابةُ الملكِ إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرضِ إيذاناً بأن ذلك أمرٌ لا مردَّ له غنيٌّ عن التصريح به لاسيما بعد تقديمِ ما يندرج تحته من أحكام السلطنةِ بحذافيرها من قوله: إنك اليوم لدينا مكين أمين للتنبه على أن كلَّ ذلك من الله عز وجل وإنما الملكُ آلة في ذلك كما قيل.

.تفسير الآيات (56- 58):

{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}
{وكذلك} أي مثلَ ذلك التمكينِ البليغ {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي جعلنا له مكاناً {فِى الارض} أي أرض مصرَ. روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين وفي التعبير عن الجعل المذكورِ بالتمكين في الأرض مسنداً إلى ضميره عزّ سلطانُه من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايتِه، والإشارةِ إلى حصول ذلك من أول الأمرِ لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا} ينزل من بلادها {حَيْثُ يَشَاء} ويتخذه مباءةً وهو عبارةٌ عن كمال قدرته على التصرف فيها ودخولها تحت ملكتِه وسلطانه فكأنها منزلُه يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله. وقرأ ابن كثير بالنون. روي أن الملك توّجهُ وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال عليه السلام: أما السريرُ فأشدُّ به مُلكك، وأما الخاتمُ فأدبّر به أمرك، وأما التاجُ فليس من لباسي ولا لباس آبائي، فقال: قد وضعتُه إجلالاً لك وإقراراً بفضلك فجلس على السرير ودانت له الملوكُ وفوّض إليه الملكُ أمرَه وأقام العدلَ بمصر وأحبتْه الرجالُ والنساء وباع من أهل مصر في سِني القحطِ الطعامَ في السنة الأولى بالدنانير والدراهم، وفي الثانية بالحِليِّ والجواهر، وفي الثالثة بالدوابّ ثم بالضِّياع والعَقار ثم برقابهم حتى استرقّهم جميعاً فقالوا: ما رأينا كاليوم ملكاً أجلَّ وأعظمَ منه ثم أعتقهم وردّ إليهم أموالَهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثرَ من حمل بعير تقسيطاً بين الناس {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} بعطائنا في الدنيا من المُلك والغِنى وغيرهما من النعم {مَّن نَّشَاء} بمقتضى الحكمةِ الداعية إلى المشيئة {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} بل نوفّيه بكماله، وفيه إشعارٌ بأن مدارَ المشيئةِ المذكورةِ إحسانُ مَنْ تصيبه الرحمة المرموقةُ وأنها أجرٌ له ولدفع توهم انحصارِ ثمرات الإحسانِ فيما ذكر من الأجر، قيل على سبيل التوكيد: {وَلأَجْرُ الاخرة} أي أجرهم في الآخرة فالإضافة للملابسة وهو النعيمُ المقيم الذي لا نفاد له {خَيْرٌ} لهم أي للمحسنين المذكورين وإنما وضع موضعَه الموصولُ فقيل: {لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} تنبيهاً على أن المراد بالإحسان إنما هو الإيمانُ والثباتُ على التقوى المستفادُ من جمع صيغتي الماضي والمستقبل.
{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ} ممتارين لما أصاب أرضَ كنعانَ وبلادَ الشام ما أصاب أرضَ مصر وقد كان أرسلهم يعقوبُ عليه السلام جميعاً غيرَ بنيامين {فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي على يوسف وهو في مجلس ولايته {فَعَرَفَهُمْ} لقوة فهمِه وعدم مباينةِ أحوالِهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم وهم رجالٌ وتشابُه هيئاتهم وزِيِّهم في الحالين ولكون هِمَّته معقودةً بهم وبمعرفة أحوالهم لاسيما في زمن القحط، وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرّفوا له {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي والحالُ أنهم منكرون له لطول العهدِ وتبايُنِ ما بين حاليه عليه السلام في نفسه ومنزلته وزِيِّه ولاعتقادهم أنه هلك وحيث كان إنكارُهم له أمراً مستمراً في حالتي المحضَر والمَغيب أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ بخلاف عرفانِه عليه السلام إياهم.