فصل: تفسير الآية رقم (77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (77):

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)}
{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ} يعنون بنيامين {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ} يريدون به يوسفَ عليه السلام وما جرى عليه من جهة عمّتِه على ما قيل من أنه كانت تحضِنه فلما شب أراد يعقوبُ عليه السلام انتزاعَه منها وكانت لا تصبِر عنه ساعةً وكانت لها منطقةٌ ورثتها من أبيها إسحاقَ عليه السلام فاحتالت لاستبقاء يوسفَ عليه السلام فعمَدت إلى المنطقة فحزمَتْها عليه من تحت ثيابه ثم قالت: فقدتُ منطقة إسحاقَ عليه السلام فانظروا مَنْ أخذها فوجدوها محزومةً على يوسف فقالت: إنه لي سَلَم أفعل به ما أشاء فخلاّه يعقوبُ عليه السلام عندها حتى ماتت، وقيل: كان أخذ في صِباه صنماً لأبي أمِّه فكسره وألقاه في الجيف، وقيل: دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبُدونه فدفنه {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ} أي أكنّ الحزازةَ الحاصلة مما قالوا {فِى نَفْسِهِ} لا أنه أسرّها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} لا قولاً ولا فعلاً صفحاً عنهم وحِلماً وهو تأكيد لما سبق.
{قَالَ} أي في نفسه وهو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الإخبار بالإسرار المذكور كأنه قيل: فماذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك الإسرارِ؟ فقيل: قال: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} أي منزلةً حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفِقتم تفترون على البريء، وقيل: بدل من أسرها والضمير للمقالة المفسرة بقوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} {والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} أي عالمٌ علماً بالغاً إلى أقصى المراتب بأن الأمرَ ليس كما تصفون من صدور السرقةِ منا بل إنما هو افتراءٌ علينا فالصيغةُ لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمِه عز وجل على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم.

.تفسير الآيات (78- 80):

{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)}
{قَالُواْ} عندما شاهدوا مخايلَ أخْذِ بنيامين مستعطِفين {قَالُواْ يأَيُّهَا العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا} لم يريدوا بذلك الإخبارَ بأن له أباً ذلك معلومٌ مما سبق وإنما أرادوا الإخبار بأن له أباً {شَيْخًا كَبِيرًا} في السن لا يكاد يستطيع فراقَه وهو عَلالةٌ به يتعلل عن شقيقه الهالك {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} إلينا فأتمم إحسانَك بهذه التتمة أو المتعوّدين بالإحسان فلا تغيّر عادتك.
{قَالَ مَعَاذَ الله} أي نعوذ بالله معاذاً من {أَن نَّأْخُذَ} فحُذف الفعلُ وأُقيم مُقامَه المصدرُ مضافاً إلى المفعول به بعد حذفِ الجارِّ {إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ} لأن أخْذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلالُ بموجبها، وإيثارُ صيغة التكلم مع الغير كون الخطابِ من جانب إخوتِه على التوحيد من باب السلوكِ إلى سنن الملوك، أو للإشعار بأن الأخذَ والإعطاءَ ليس مما يُستبدّ به بل هو منوطٌ بآراء أولي الحلِّ والعقد، وإيثارُ {مَنْ وجدنا متاعنا عنده} دون مَنْ سرق متاعنا لتحقيق الحقِّ والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحمِلون وُجدان الصُّواعِ في الرحل على محمل غيرِ السرقة {إِنَّا إِذَاً} أي إذا أخذنا غيرَ من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه {لظالمون} في مذهبكم وما لنا ذلك، وهذا المعنى هو الذي أريد بالكلام في أثناء الحوارِ، وله معنى باطنٌ هو أن الله عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذَ بنيامينَ لمصالحَ علمها الله في ذلك فلو أخذتُ غيرَه كنت ظالماً وعاملاً بخلاف الوحي.
{فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ} أي يئسوا من يوسف وإجابتِه لهم أشدَّ يأس بدِلالة صيغة الاستفعال، وإنما حصَلت لهم هذه المرتبةُ من اليأس لِما شاهدوه من عَوْذه بالله مما طلبوه الدالِّ على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهةِ وأنه مما يجب أن يُحترز عنه ويُعاذَ منه بالله عز وجل ومن تسميته ظلماً بقوله: {إِنَّا إِذًا لظالمون} {خَلَصُواْ} اعتزلوا وانفردوا عن الناس {نَجِيّاً} أي ذوي نجوى على أن يكون بمعنى النجوى والتناجي أو فوجاً نجياً على أن يكون بمعنى المناجى كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر ومنه قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} ويجوز أن يقال: هم نَجيٌّ، كما يقال: هم صديق لأنه بزنة المصادر من الزفير والزئير {قَالَ كَبِيرُهُمْ} في السن وهو روبيلُ أو في العقل وهو يهوذا أو رئيسهم وهو شمعون {أَلَمْ تَعْلَمُواْ} كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملةً ولم يرضَ به فقال منكِراً عليهم: ألم تعلموا {أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله} عهداً يوثق به وهو حِلفُهم بالله تعالى، وكونُه من الله لإذنه فيه وكونِ الحلف باسمه الكريم {وَمِن قَبْلُ} أي ومن قبل هذا {مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهدَ أبيكم وقد قلتم: وإنا له لناصحون، وإنا له لحافظون، وما مزيدةٌ أو مصدرية، ومحلُّ المصدر النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ألم تعلموا أخذَ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم السابقَ في شأن يوسف عليه السلام، ولا ضير في الفصل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف وقد جوّز النصبُ عطفاً على اسم أن والخبر في يوسف أو من قبل على معنى ألم تعلموا أن تفريطَكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطَكم الكائنَ أو كائناً في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل، وفيه أن مقتضى المقام إنما هو الإخبارُ بوقوع ذلك التفريطِ لا بكون تفريطِهم السابقِ واقعاً في شأن يوسف كما هو مفادُ الأول، ولا بكون تفريطِهم الكائنِ في شأنه واقعاً من قبل كما هو مفادُ الثاني على أن الظرفَ المقطوعَ عن الإضافة لا يقع خبراً ولا صفة ولا صلة ولا حالاً عند البعض كما تقرر في موضعه، وقيل: محلُّه الرفعُ على الابتداء والخبرُ من قبلُ وفيه ما فيه، وقيل: ما موصولةٌ أو موصوفة ومحلها النصبُ أو الرفعُ والحقُّ هو النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ما فرطتموه بمعنى قدمتموه في حقه من الخيانة، وأما النصبُ عطفاً على اسم أن أو الرفعُ على الابتداء فقد عرفتَ حاله {فَلَنْ أَبْرَحَ الارض} متفرِّعٌ على ما ذكَره وذكره إياهم من ميثاق أبيه وقوله: {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أي فلن أفارق أرضَ مصرَ جارياً على قضية الميثاق {حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى} في البَراح بالانصراف إليه وكأن أيمانَهم كانت معقودةً على عدم الرجوعِ بغير إذن يعقوبَ عليه السلام {أَوْ يَحْكُمَ الله لِى} بالخروج منها على وجه لا يؤدّي إلى نقض الميثاقِ أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب. روي أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيلُ: أيها الملك لترُدَّن إلينا أخانا أو لأصِيحن صَيْحةً لا تبقى بمصرَ حاملٌ إلا ألقت ولدها ووقعت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه وكان بنو يعقوب إذا غضِبوا لا يطاقون خلا أنه إذا مس مَنْ غضب واحدٌ منهم سكن غضبُه، فقال يوسف لابنه: قم إلى جنبه فَمُسّه فَمَسَّه فقال روبيل: مَنْ هذا؟ إن في هذا البلد بَذْراً من بَذر يعقوب {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} إذ لا يحكم إلا بالحق والعدل.

.تفسير الآية رقم (81):

{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)}
{ارجعوا} أنتم {إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ} على ظاهر الحالِ وقرئ {سُرق} أي نسب إلى السرقة {وَمَا شَهِدْنَا} عليه {إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} وشاهدنا أن الصُواعَ استُخرجت من وعائه {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ} أي باطن الحال {حافظين} فما ندري أن حقيقةَ الأمرِ كما شاهدنا أم بخلافه، أو وما كنا عالمين حين أعطيناك المَوْثِقَ أنه سيسرِق أو أن نلاقيَ هذا الأمر أو أنك تصاب به كما أُصبت بيوسف.

.تفسير الآيات (82- 84):

{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)}
{واسئل القرية التي كُنَّا فِيهَا} أي مصرَ أو قريةً بقربها لحِقهم المنادي عندها أي أرسلْ إلى أهلها واسألهم عن القصة {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي أصحابَها فإن القصة معروفةٌ فيما بينهم وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوبَ عليه السلام، وقيل: من صنعاء {وِإِنَّا لصادقون} تأكيدٌ في محل القسم {قَالَ} أي يعقوبُ عليه السلام وهو استئنافٌ مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل: فماذا كان عند قولِ المتوقّف لإخوته ما قال؟ فقيل: قال يعقوبُ عندما رجَعوا إليه فقالوا له ما قالوا وإنما حُذف للإيذان بأن مسارعتَهم إلى قبوله ورجوعَهم به إلى أبيهم أمرٌ مسلَّم غنيٌّ عن البيان، وإنما المحتاجُ إليه جوابُ أبيهم {بَلْ سَوَّلَتْ} أي زيّنت وسهّلت وهو إضرابٌ لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون في ذلك عما يتضمنه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدرُ عنهم ما يؤدي إلى ذلك من قول أو فعل كأنه قيل: لم يكن الأمرُ كذلك بل زينت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فُتياهم بأخذ السارق بسرقته {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فأمري صبرٌ جميل أو فصبرٌ جميل أجملُ {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} بيوسف وأخيه والمتوقِّف بمصر {إِنَّهُ هُوَ العليم} بحالي وحالهم {الحكيم} الذي لم يبتلِني إلا لحكمة بالغة.
{وتولى} أي أعرض {عَنْهُمْ} كراهةً لما سمع منهم {وَقَالَ يَا أَسَفاً على يُوسُفَ} الأسفُ أشدُّ الحزن والحسرةُ، أضافه إلى نفسه والألفُ بدلٌ من الياء فناداه أي يا أسفي تعالَ فهذا أوانُك وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادثَ مصيبةٌ أخويه لأن رُزْأَه كان قاعدةَ الأرزاءِ غضاً عنده وإن تقادم عهده آخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقاً بحياتهما عالماً بمكانهما طامعاً في إيابهما، وأما يوسفُ فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلةَ رجائِه سوى رحمةِ الله وفضلِه.
وفي الخبر: (لم تُعطَ أمةٌ من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون إلا أمةُ محمدٍ عليه الصلاة والسلام ألا يُرى إلى يعقوبَ حين أصابه ما أصابه لم يسترجِعْ بل قال ما قال) والتجانسُ بين لفظي الأسَف ويوسف مما يزيد النظمَ الكريم بهجةً كما في قوله عز وجل: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وقوله: {اثاقلتم إِلَى الارض أَرَضِيتُم} وقوله: {ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات} {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} ونظائرها {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} الموجبِ للبكاء فإن العَبْرة إذا كثُرت محقَت سوادَ العين وقلبتْه إلى بياض كدِر. قيل: قد عميَ بصرُه، وقيل: كان يدرك إدراكاً ضعيفاً. روي أنه ما جفّت عينا يعقوبَ من يوم فراقِ يوسفَ إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرمُ على الله عز وجل من يعقوب عليه السلام، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه سأل جبريلَ عليه السلام: ما بلغ من وجد يعقوبَ عليه السلام على يوسف؟ قال: وجْدَ سبعين ثكلى، قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجرُ مائةِ شهيد وما ساء ظنُّه بالله ساعةً قط» وفيه دليل على جواز التأسف والبكاءِ عند النوائبِ فإن الكفَّ عن ذلك مما لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد، ولقد «بكى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ولده آبراهيمَ وقال: القلبُ يحزن والعين تدمَع ولا نقول ما يُسخِط الربَّ وإنا عليك يا إبراهيمُ لمحزونون» وإنما الذي لا يجوز ما يفعله الجهلةُ من الصياح والنياحة ولطْمِ الخدودِ والصدور وشقِّ الجيوبِ وتمزيقِ الثياب، وعن النبي عليه السلام «أنه بكى على ولد بعضِ بناتِه وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله تبكي وقد نَهَيتنا عن البكاء؟ فقال: ما نهيتُكم عن البكاء وإنما نهيتُكم عن صوتين أحمقين صوتٍ عند الفرَح وصوت عند الترَح» {فَهُوَ كَظِيمٌ} مملوءٌ من الغيظ على أولاده مُمسِكٌ له في قلبه لا يُظهره، فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله تعالى: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} من كظمَ السِّقاءَ إذا شده على ملئه أو بمعنى فاعل كقوله: {والكاظمين الغيظ} من كظم الغيظَ إذا اجترعه وأصله كظم البعيرُ جِرَّتَه إذا ردها في جوفه.

.تفسير الآيات (85- 87):

{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}
{قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ} أي لا تفتأ ولا تزال {تَذْكُرُ يُوسُفَ} تفجّعاً عليه فحُذف النفي كما في قوله:
فَقُلْتُ يَمينُ الله أَبْرَحُ قَاعِداً

لعدم الالتباس بالإثبات فإن القسمَ إذا لم يكن معه علامةُ الإثبات يكون على النفي البتةَ {حتى تَكُونَ حَرَضاً} مريضاً مُشْفياً على الهلاك، وقيل: الحَرضُ مَنْ أذابه هم أو مرض وهو في الأصل مصدرٌ ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع والنعت منه بالكسر كدنِف وقد قرئ به وبضمتين كجُنُب وغَرِب {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} أي الميتين {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى} البثّ أصعبُ الهم الذي لا يصبر عليه صاحبُه فيبثّه إلى الناس أي ينشره فكأنهم قالوا له ما قالوا بطريق التسلية والإشكاءِ، فقال لهم: إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدّوا لتسليتي وإنما أشكو همي {وَحُزْنِى إِلَى الله} تعالى ملتجئاً إلى جنابه متضرِّعاً لدى بابه في دفعه وقرئ بفتحتين وضمتين {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من لطفه ورحمته فأرجو أن يرحمني ويلطُفَ بي ولا يُخيِّب رجائي أو أعلمَ وحياً أو إلهاماً من جهته ما لا تعلمون من حياة يوسف. قيل: رأى ملكَ الموتِ في المنام فسأله عنه فقال: هو حي، وقيل: علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنه سيخرّ له أبواه وإخوتُه سجّداً.
{يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ} أي تعرّفوا وهو تفعُّلٌ من الحَسّ وقرئ بالجيم من الجسّ وهو الطلب أي تطلبوا {مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي من خبرهما ولم يذكر الثالثِ لأن غَيبته اختياريةٌ لا يعسُر إزالتها {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} لا تقنَطوا من فرجه وتنفيسه وقرئ بضم الراء أي من رحمته التي يُحيي بها العبادَ وهذا إرشادٌ لهم إلى بعض ما أُبهم في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ثم حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله: {يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن} لعدم علمِهم بالله تعالى وصفاتِه فإن العارفَ لا يقنط في حال من الأحوال.

.تفسير الآيات (88- 89):

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)}
{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمرِ أبيهم وإنما لم يُذكر ذلك إيذاناً بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعاراً بأن ذلك أمرٌ محققٌ لا يفتقر إلى الذكر والبيان {قَالُواْ ياأَيُّهَا العزيز} أي الملكُ القادرُ المتمنع {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} الهُزالُ من شدة الجوع {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} مدفوعةٍ يدفعها كلُّ تاجر رغبةً عنها واحتقاراً لها من أزجَيتُه إذا دفعتُه وطردتُه والريحُ تزجي السحابَ. قيل: كانت بضاعتُهم من متاع الأعراب صوفاً وسمناً، وقيل: الصنوبرَ وحبةَ الخضراء، وقيل: سُويقُ المُقْل والأقِطُ، وقيل: دراهمَ زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة وإنما قدّموا ذلك ليكون ذريعةً إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقةِ وهو العطفُ والرأفة وتحريكُ سلسلة المرحمة.
ثم قالوا {فَأَوْفِ لَنَا الكيل} أي أتممْه لنا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} بردّ أخينا إلينا، قاله الضحاك وابن جريج وهو الأنسبُ بحالهم نظراً إلى أمر أبيهم، أو بالإيفاء أو بالمسامحة وقَبول المُزجاة أو بالزيادة على ما يساويها تفضلاً وإنما سمَّوه تصدقاً تواضعاً أو أرادوا التصدقَ فوق ما يعطيهم بالثمن بناء على اختصاص حُرمة الصدقة بنبينا عليه الصلاة والسلام وإنما لم يبدأوا بما أُمروا به استجلاباً للرأفة وللشفقة ليبعثوا بما قدّموا من رقة الحالِ رقةَ القلب والحنُوَّ على أن ما ساقوه كلامٌ ذو وجهين، فإن قولهم: وتصدّق علينا {إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين} يحتمل الحملَ على المحملين فلعله عليه السلام حمله على المحمل الأول ولذلك {قَالَ} مجيباً عما عرّضوا به وضمّنوه كلامَهم من طلب ردِّ أخيهم {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} وكان الظاهرُ أن يتعرضَ لما فعلوا بأخيه فقط، وإنما تعرض لما فعلوا بيوسف لاشتراكهما في وقوع الفعلِ عليهما، فإن المراد بذلك إفرادُهم له عن يوسف وإذلالُه بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذِلةٍ أي هل تُبتم عن ذلك بعد علمِكم بقبحه؟ فهو سؤالٌ عن الملزوم والمرادُ لازمُه {إِذْ أَنتُمْ جاهلون} بقبحه فلذلك أقدمتم على ذلك أو جاهلون عاقبتَه وإنما قاله نصحاً لهم وتحريضاً على التوبة وشفقةً عليهم لمّا رأى عجزَهم وتمسكنَهم لا معاتبةً وتثريباً، ويجوز أن يكون هذا الكلامُ منه عليه السلام منقطعاً عن كلامهم وتنبيهاً لهم على ما هو حقُّهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحضِ في طلب بنيامين بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه وإرسالِه إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال، وقيل: أعطَوه كتابَ يعقوبَ عليه السلام وقد كتب فيه: كتابٌ من يعقوبَ إسرائيلِ الله بن إسحاقَ ذبيحِ الله بن إبراهيمَ خليل الله إلى عزيز مصرَ أما بعد فإنا أهلُ بيتٍ موكلٍ بنا البلاءُ أما جدّي فشُدت يداه ورجلاه فرُمي به في النار فنجّاه الله تعالى وجُعلت النار له برداً وسلاماً وأما أبي فوُضع السكينُ على قفاه ليُقتل ففداه الله تعالى وأما أنا فكان لي ابنٌ وكان أحبَّ أولادي إلىّ فذهب به إخوتُه إلى البرية ثم أتَوْني بقميصه ملطخاً بالدم فقالوا: قد أكله الذئبُ فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابنٌ وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرَق وأنك حبستَه وإنا أهلُ بيت لا نسرِق ولا نلد سارقاً فإن رددتَه عليَّ وإلا دعوتُ عليك دعوةً تُدرك السابعَ من ولدَك والسلام.
فلما قرأه لم يتمالكْ وعيل صبرُه فقال لهم ما قال، وقيل: لما قرأه بكى وكتب الجواب: اصبِر كما صبروا تظفرْ كما ظفِروا.