فصل: تفسير الآيات (80- 81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (80- 81):

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
{وَقَالُواْ} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من جناياتهم، وفصلُه عما قبله مُشعرٌ بكونه من الأكاذيب التي اختلقوها ولم يكتبوها في الكتاب {لَن تَمَسَّنَا النار} في الآخرة {إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} قليلةً محصورةً عددَ أيام عبادتِهم العجلَ أربعين يوماً مُدةَ غَيْبةِ موسى عليه السلام عنهم. وحَكى الأصمعي عن بعض اليهود أن عددَ أيام عبادتهم العجلَ سبعة. ورُوي عن ابن عباس ومجاهدٍ أن اليهودَ قالوا عُمرُ الدنيا سبعةُ آلاف سنة وإنما نعذَّب بكل ألفِ سنةٍ يوماً واحداً. ورَوى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود زعمت أن ما وجدوا في التوراة أن ما بين طرفي جهنمَ مسيرةُ أربعين سنةً إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، وأنهم يقطعون في كل يوم مسيرةَ سنة فيكملونها {قُلْ} تبكيتاً لهم وتوبيخاً {اتخذتم} بإسقاط الهمزةِ المجتَلَبة لوقوعها في الدَّرْج وبإظهار الذال وقرئ بإدغامها في التاء {عِندَ الله عَهْدًا} خبَراً أو وعداً بما تزعمون، فإن ما تدّعون لا يكون إلا بناءً على وعدٍ قوي ولذلك عَبَّر عنه بالعهد {فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} الفاءُ فصيحة معربة عن شرط محذوفٍ كما في قول من قال:
قالوا خراسانُ أقصى ما يُراد بنا ** ثم القُفولُ فقد جئنا خُراسانا

أي إن كان الأمر كذلك فلن يُخلِفَه، والجملةُ اعتراضيةٌ وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعار بعِلّة الحُكم فإن عدم الإخلاف من قضية الألوهية، وإظهارُ العهدِ مضافاً إلى ضميره عز وجل لما ذكر، أو لأن المرادَ به جميعُ عهوده لعمومه بالإضافة فيدخل فيه العهدُ المعهودُ دخولاً أولياً، وفيه تجافٍ عن التصريح بتحقق مضمونِ كلامِهم وإن كان معلقاً بما لم يكَدْ يشَمُّ رائحةَ الوجود قطعاً أعني اتخاذَ العهد {أَمْ تَقُولُونَ} مفترين {عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقوعَه، وإنما عُلّق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعَه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدمَ وقوعِه للمبالغة في التوبيخ والنكير فإن التوبيخَ على الأدنى مستلزِمٌ للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأَوْلى، وقولُهم المحكيُّ وإن لم يكن تصريحاً بالافتراء عليه سبحانه مستلزِمٌ له، لأن ذلك الجزمَ لا يكون إلا بإسناد سببِه إليه تعالى، وأمْ إما متصلةٌ والاستفهام للتقرير المؤدي إلى التبكيت لتحقق العلم بالشق الأخيرِ كأنه قيل: أم لم تتخذوه بل تتقوّلون عليه تعالى، وإما منقطعةٌ والاستفهام لإنكار الاتخاذِ ونفيِه ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقالُ من التوبيخ بالإنكار على اتخاذ العهدِ إلى ما تفيد همزتُها من التوبيخ على التقوُّل على الله سبحانه، كما في قوله عز وجل: قل آلله أذِنَ لكم أم على الله تفترون {بلى} إلى آخره، جوابٌ عن قولهم المحكيِّ وإبطالٌ له من جهته تعالى وبيانٌ لحقيقة الحالِ تفصيلاً في ضمن تشريعٍ كليَ شاملٍ لهم ولسائر الكَفَرة بعد إظهار كذِبِهم إجمالاً، وتفويضُ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أن المُحاجَّةَ والإلزامَ من وظائفه عليه السلام مع ما فيه من الإشعار بأنه أمرٌ هيِّنٌ لا يتوقف على التوقيف، وبلى حرفُ إيجابٍ مختصٌّ بجواب النفي خبراً واستفهاماً {مَن كَسَبَ سَيّئَةً} فاحشةً من السيئات أي كبيرةً من الكبائر كدأب هؤلاء الكَفَرة، والكسبُ استجلابُ النفعِ، وتعليقُه بالسيئة على طريقة فبشِّرْهم بعذاب أليم {وأحاطت بِهِ} من جميع جوانبِه بحيث لم يبقَ له جانبٌ من قلبه ولسانه وجوارحِه إلا وقد اشتملت واستولت عليه {خَطِيئَتُهُ} التي كسَبها وصارت خاصةً من خواصّه كما تُنبىءَ عنه الإضافةُ إليه، وهذا إنما يتحقق في الكافر، ولذلك فسرها السلفُ بالكفر حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وابنُ جرير عن أبي وائل ومجاهدٌ وقَتادةُ وعطاءٌ والربيعُ وقيل: السيئةُ الكفرُ والخطيئةُ الكبيرة، وقيل: بالعكس وقيل: الفرق بينهما أن الأُولى قد تطلق على ما يُقصَد بالذات والثانيةُ تغلِبُ على ما يُقصَدُ بالعَرَض لأنها من الخطأ.
وقرئ {خَطِيَّتُه} و{خطِيّاتُه} على القلب والإدغام فيهما و{خطيئاتُه} و{خَطاياه} وفي ذلك إيذانٌ بكثرة فنون كفرهم {فَأُوْلَئِكَ} مبتدأ {أصحاب النار} خبرُه والجملةُ خبر للمبتدأ، والفاءُ لتضمُّنه معنى الشرط، وإيرادُ اسمِ الإشارة المنبيءِ عن استحضار المشارِ إليه بما لَه من الأوصاف للإشعار بعلِّيتها لصاحبيّة النار، وما فيه من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلتِهم في الكفر والخطايا، وإنما أشير إليهم بعنوان الجَمْعية مراعاةً لجانب المعنى في كلمة {مَنْ} بعدَ مراعاة جانبِ اللفظ في الضمائر الثلاثةِ لما أن ذلك هو المناسبُ لما أسند إليهم في تَيْنِك الحالتين، فإن كسْبَ السيئة وإحاطة خطيئتِه به في حالة الانفراد، وصاحبيّةَ النارِ في حالة الاجتماع أي أولئك الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات وإحاطة خطاياهم بهم أصحابُ النار أي ملازموها في الآخرة حسب ملازمتهم في الدنيا لما يستوجبُها من الأسباب التي جملتها ما هم عليه من تكذيب آياتِ الله تعالى وتحريفِ كلامِه والافتراءِ عليه وغيرِ ذلك، وإنما لم يُخَصَّ الجوابُ بحالهم بأن يقال مثلاً: بلى إنهم أصحابُ النار إلخ لما في التعميم من التهويل وبيانِ حالِهم بالبرهان والدليل، مع ما مر من قصد الإشعار بالتعليل {هُمْ فِيهَا خالدون} دائماً أبداً فأنَّى لهم التفَصِّي عنها بعد سبعة أيام أو أربعين كما زعموا فلا حجةَ في الآية الكريمة على خلود صاحبِ الكبيرة لما عرفت من اختصاصها بالكافر، ولا حاجة إلى حمل الخلودِ على اللُبْث الطويل على أن فيه تهوينَ الخطب في مقام التهويل.

.تفسير الآيات (82- 83):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} جرت السنةُ الإلهيةُ على شفْع الوعدِ بالوعيد مراعاةً لما تقتضيه الحِكمةُ في إرشاد العبادِ من الترغيب تارةً والترهيبِ أخرى، والتبشيرِ مرةً والإنذارِ أخرى {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إِسْرءيلَ} شروعٌ في تَعداد بعضٍ آخرَ من قبائح أسلافِ اليهودِ مما ينادي بعدم إيمانِ أخلافِهم، وكلمةُ إذ نُصب بإضمار فعلٍ خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ليؤدِّيَهم التأملُ في أحوالهم إلى قطع الطمَع عن إيمانهم، أو اليهودُ الموجودون في عهد النبوة توبيخاً لهم بسوء صنيعِ أسلافِهم أي اذكروا إذ أخذنا ميثاقهم {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لا تعبدون إلخ وهو إخبارٌ في معنى النهي كقوله تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} وكما تقول: تذهب إلى فلان وتقول كيتَ وكيتْ وهو أبلغُ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهيَّ حقُّه أن يسارعَ إلى الانتهاء عما نُهي عنه فكأنه انتهى عنه فيُخبرُ به الناهيَ. ويؤيده قراءةُ {لا تعبدوا} وعطفُ {قولوا} عليه وقيل تقديره أن لا تعبدوا إلخ فحُذِف الناصبُ ورُفع الفعل كما في قوله:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغَى ** وأن أشهدَ اللذاتِ، هل أنت مُخْلِدي؟

ويعضُدُه قراءةُ {ألا تعبُدوا} فيكون بدلاً من الميثاق أو معمولاً له بحذف الجار وقيل: إنه جوابُ قسمٍ دل عليه المعنى كأنه قيل: وحلّفناهم لا تعبدون إلا الله، وقرئ بالياء لأنهم غُيَّبٌ {وبالوالدين إحسانا} متعلق بمضمر أي وتحسنون أو وأحسنوا {وَذِى القربى واليتامى والمساكين} عطفٌ على الوالدين ويتامى جمع يتيم كندامى جمع نديم، وهو قليل، ومسكين مِفْعيل من السكون كأن الفقرَ أسكنه من الحَراك وأثخنه عن التقلب {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولاً حسناً سماه {حُسْناً} مبالغة وقرئ كذلك و{حُسُناً} بضمتين، وهي لغة أهل الحجاز وحُسْنى كبُشرى والمراد به ما فيه تخلّقٌ وإرشاد {وأقيموا الصلاة وآتوا وآتوا الزكاة} هما ما فُرض عليهم في شريعتهم {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} إن جُعل ناصبُ الظرف خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفاتٌ إلى خطاب بني إسرائيلَ جميعاً بتغليب أخلافِهم على أسلافهم لجَرَيان ذِكرِ كلِّهم حينئذ على نهْج الغَيْبة، فإن الخطاباتِ السابقةَ لأسلافهم محْكيةٌ داخلةٌ في حيز القول المقدّر قبل لا تعبدون كأنهم استُحضِروا عند ذكرِ جناياتِهم فنُعيت هي عليهم، وإنْ جعل خِطاباً لليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا تعميمٌ للخطاب بتنزيل الأسلافِ منزلةَ الأخلاف كما أنه تعميمٌ للتولي بتنزيل الأخلافِ منزلةَ الأسلاف للتشديد في التوبيخ أي أعرضتم عن المُضِيِّ على مقتضى الميثاقِ ورفضتموه {إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} وهم من الأسلاف مَنْ أقام اليهوديةَ على وجهها قبل النسخِ، ومن الأخلاف مَنْ أسلم كعبد اللَّه بنِ سلام وأضرابِه {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} جملةٌ تذييلية أي وأنتم قومٌ عادَتُكم الإعراضُ عن الطاعة ومراعاةِ حقوقِ الميثاق، وأصلُ الإعراض الذهابُ عن المواجهة والإقبالُ إلى جانب العَرْض.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} منصوب بفعل مُضمرٍ خوطب به اليهودُ قاطبةً على ما ذكر من التغليب ونُعي عليهم إخلالُهم بمواجب الميثاق المأخوذِ منهم في حقوق العبادِ على طريقة النهي إثرَ بيانِ ما فعلوا بالميثاق المأخوذِ منهم في حقوق الله سبحانه وما يجري مَجراه على سبيل الأمرِ فإن المقصودَ الأصليَّ من النهي عن عبادة غيرِ الله تعالى هو الأمرُ بتخصيص العبادةِ به تعالى أي واذكروا وقت أخذِنا ميثاقَكم في التوراة وقوله تعالى: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم} كما قبله إخبارٌ في معنى النهي غُيِّر السبكُ إليه لما ذَكر من نُكتة المبالغة. والمرادُ به النهيُ الشديدُ عن تعرُّض بعضِ بني إسرائيلَ لبعضٍ بالقتل والإجلاءِ، والتعبيرُ عن ذلك بسفك دماءِ أنفسِهم وإخراجِها من ديارهم بناءً على جَرَيان كلِّ واحدٍ منهم مجرى أنفسِهم لما بينهم من الاتصال القويِّ نسَباً وديناً، للمبالغة في الحمل على مراعاة حقوقِ الميثاق بتصوير المنهيِّ عنه بصورةٍ تكرَهها كلُّ نفس وتنفِرُ عنها كلُّ طبيعةٍ. فضميرُ {أنفسَكم} للمخاطبين حتماً إذ به يتحقق تنزيلُ المخْرِجين منزلتَهم كما أن ضميرَ {ديارِكم} للمخرَجين قطعاً، إذ المحذورُ إنما هو إخراجُهم من ديارهم لا من ديار المخاطَبين من حيث إنهم مخاطبون كما يفصحُ عنه ما سيأتي من قوله تعالى: {مِن ديارهم} وإنما الخطابُ هاهنا باعتبار تنزيلِ ديارِهم منزلةَ ديارِ المخاطَبين بناءً على تنزيل أنفسِهم منزلتَهم لتأكيد المبالغةِ وتشديدِ التشنيع، وأما ضميرُ {دماءَكم} فمحتملٌ للوجهين: مَفادُ الأول كونُ المسفوكِ دماءً ادعائيةً للمخاطَبين حقيقةً، ومَفادُ الثاني كونُه دماءً حقيقيةً للمخاطبين ادعاءً وهما متقاربان في إفادة المبالغةِ فتدَّبرْ.
وأما ما قيل من أن المعنى لا تباشروا ما يؤديّ إلى قتل أنفسِكم قِصاصاً، أو ما يبيح سفكَ دمائِكم وإخراجَكم من دياركم ويصرِفُكم عن دياركم، أو لا تفعلوا ما يُرديكم ويصرِفُكم عن الحياة الأبدية فإنه القتلُ في الحقيقة ولا تقترفوا ما تُحْرَمون به عن الجنة التي هي دارُكم فإنه الجلاءُ الحقيقيُّ فمما لا يساعده سياقُ النظمِ الكريم بل هو نصٌّ فيما قلناه كما ستقف عليه {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أي بالميثاق وما يوجب المحافظةَ عليه، {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} توكيدٌ للإقرار كقولك: أقرَّ فلانٌ شاهداً على نفسه، وقيل: وأنتم أيها الحاضرون تشهدون اليوم على إقرار أسلافِكم بهذا الميثاق.

.تفسير الآية رقم (85):

{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
{ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} خطابٌ خاصٌّ بالحاضرين فيه توبيخ شديدٌ واستبعادٌ قويٌّ لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق والإقرارِ به والشهادةِ عليه، وأنتم مبتدأ هؤلاءِ خبرُه، ومَناطُ الإفادةِ اختلافُ الصفاتِ المنزَّلةِ منزلةَ اختلافِ الذات، والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاءِ المشاهِدون الناقضون المتناقضون حسبما تُعربُ عنه الجملُ الآتية، فإن قوله عز وجل: {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} إلخ بيانٌ له وتفصيلٌ لأحوالهم المُنْكَرة المندرجةِ تحت الإشارةِ ضمناً كأنهم قالوا: كيف نحن؟ فقيل: تقتُلون أنفسَكم أي الجارين مَجرى أنفسِكم كما أشير إليه، وقرئ {تُقتّلون} بالتشديد للتكثير {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم} الضمير إما للمخاطبين والمضافُ محذوفٌ أي من أنفسكم، وإما للمقتولين والخطابُ باعتبار أنهم جُعلوا أنفُسَ المخاطَبين، وإلا فلا يتحقق التكافُؤُ بين المقتولين والمخرجين في ذلك العنوان الذي عليه يدور فلَكُ المبالغة في تأكيد الميثاقِ حسبما نُصَّ عليه، ولا يظهر كمالُ قباحةِ جناياتِهم في نقضه {مِن ديارهم} الضمير للفريق، وإيثارُ الغَيْبة مع جواز الخِطاب أيضاً بناءً على اعتبار العنوان المذكورِ كما مر في الميثاق للاحتراز عن توهّم كونِ المرادِ إخراجَهم من ديار المخاطَبين من حيث هي ديارُهم لا من حيث هي ديارُ المخرِجين، وقيل: هؤلاءِ موصولٌ والجملتان في حيّز الصلةِ، والمجموعُ هو الخبرُ لأنتم {تظاهرون علَيْهِم} بحذف إحدى التاءين، وقرئ بإثباتهما وبالإدغام و{تظّهرون} بطرح إحدى التاءين من تتظهرون ومعنى الكل تتعاونون وهي حالٌ من فاعل تَخرجون أو من مفعوله أو منهما جميعاً، مبينةٌ لكيفية الإخراج دافعةٌ لتوهم اختصاصِ الحُرمة بالإخراج بطريق الأصالةِ والاستقلالِ، دون المظاهرةِ والمعاونة {بالإثم} متعلقٌ بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم وهو الفعلُ الذي يستحق فاعلُه الذمَّ واللومَ، وقيل: وهو ما ينفِرُ عنه النفسُ ولا يطمئن إليه القلب {والعدوان} وهو التجاوزُ في الظلم {وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى} جمعُ أسير وهو من يؤخذ قهراً، فعيل بمعنى مفعول من الأسر أي الشدّ أو جمعُ أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح، وقد قرئ أسْرى، ومحله النصبُ على الحالية {تفادوهم} أي تخرجوهم من الأسر، بإعطاء الفداء وقرئ {تَفْدوهم}.
قال السدي إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيلَ في التوراة الميثاقَ أن لا يقتُلَ بعضُهم بعضاً ولا يُخرجَ بعضُهم بعضاً من ديارهم وأيُّما عبدٍ أو أمةٍ وجدتموه من بني إسرائيلَ فاشترُوه وأعتِقوه، وكانت قريظةُ حلفاءَ الأوسِ والنضيرُ حلفاءَ الخزرج حتى كان بينهما ما كان من العداوة والشَنَآن، فكان كلُّ فريقٍ يقاتل مع حُلفائه فإذا غَلَبوا خرَّبوا ديارَهم وأخرجوهم منها، ثم إذا أُسر رجل من الفريقين جمعوا له مالاً فيَفُدونه، فعيَّرتهم العربُ وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تَفْدونهم؟ فيقولون: أُمرنا أن نفديَهم وحُرِّم علينا قتالُهم، ولكن نستحْيي أن نُذِلَّ حلفاءَنا، فذمهم الله تعالى على المناقضة {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} ضميرُ الشأن وقع مبتدأ ومحرمٌ فيه ضمير قائم مقامَ الفاعلِ وقع خبراً عن إخراجهم والجملة خبرٌ لضمير الشأن، وقيل: محرَّمٌ خبرٌ لضمير الشأن وإخراجُهم مرفوع على أنه مفعولُ ما لم يُسمَّ فاعلُه، وقيل: الضميرُ مُبهم يفسّره إخراجهم، أو راجعٌ إلى ما يدل عليه تُخرجون من المصدر، وإخراجُهم تأكيدٌ أو بيانٌ، والجملةُ حالٌ من الضمير في تخرجون أو من فريقاً أو منهما كما مر بعد اعتبار القيد بالحال السابقة، وتخصيصُ بيان الحرمةِ هاهنا بالإخراج مع كونه قريناً للقتل عند أخذ الميثاقِ لكونه مِظنّةً للمساهلة في أمره بسبب قِلة خَطَره بالنسبة إلى القتل، ولأن مساقَ الكلام لذمّهم وتوبيخِهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معاً، وذلك مختصٌّ بصورة الإخراجِ حيث لم يُنقلْ عنهم تدارُك القتلى بشيءٍ من دِيَةِ أو قِصاصٍ هو السر في تخصيص التظاهرِ به فيما سبق، وأما تأخيرُه من الشرطية المعترضةِ مع أن حقه التقديمُ كما ذكره الواحدي فلأن نظْمَ أفاعيلِهم المتناقضةِ في سَمْطٍ واحدٍ من الذكر أدخَلُ في إظهار بطلانها {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} أي التوراة التي أُخذ فيها الميثاقُ المذكور، والهمزةُ للإنكار التوبيخيّ والفاءُ للعطف على مقدّر يستدعيه المقامُ أي أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب وهو المفاداة، {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو حرمةُ القتالِ والإخراج مع أن مِن قضية الإيمان ببعضه الإيمانُ بالباقي لكون الكلِّ من عند الله تعالى داخلاً في الميثاق، فمناطُ التوبيخ كفرُهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض حسبما يفيده ترتيبُ النظمِ الكريم، فإن التقديمَ يستدعي في المقام الخطابي أصالةَ المقدَّم وتقدُّمَه بوجهٍ من الوجوه حتماً، وإذ ليس ذلك هاهنا باعتبار الإنكارِ والتوبيخ عليه وهو باعتبار الوقوعِ قطعاً لا إيمانُهم بالبعض مع كفرهم بالبعض كما هو المفهومُ لو قيل: أفتكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض؟ ولا مجردُ كفرِهم بالبعض، وإيمانِهم بالبعض كما يفيده أن يقال: أفتَجْمعون بين الإيمان ببعض الكتابِ والكفرِ ببعضٍ أو بالعكس.
{فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك} ما نافية و{مَنْ} إن جُعلت موصولةً فلا محلَّ ليفعلُ من الإعراب وإن جعلت موصوفةً فمحله الجر على أنه صفتُها، وذلك إشارةٌ إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعضٍ أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مُفاداةِ الأسارى {مّنكُمْ} حالٌ من فاعل يفعل {إِلاَّ خِزْىٌ} استثناءٌ مُفرَّغٌ وقع خبراً للمبتدأ، والخزيُ الذلُّ والهوانُ مع الفضيحة، والتنكيرُ للتفخيم، وهو قتلُ بني قُرَيظةَ وإجلاءُ بني النَّضير إلى أذْرِعاتَ وأريحاءَ من الشام وقيل: الجزية {فِي الحياة الدنيا} في حيز الرفع على أنه صفةُ خزيٌ أي خزيٌ كائن في الحياة الدنيا أو في حيز النصب على أنه ظرفُ الخزي، ولعل بيانَ جزائِهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعِهم الفارغةِ من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهارِ أنه لا أثرَ له أصلاً مع الكفر ببعض {وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ} وقرئ بالتاء، أوثرَ صيغةُ الجمع نظراً إلى المعنى {مَنْ} بعد ما أوثِرَ الإفرادُ نظراً إلى لفظها لما أن الردَّ إنما يكون بالاجتماع {إلى أَشَدّ العذاب} لما أن معصيتَهم أشدُّ المعاصي وقيل: أشدُّ العذاب بالنسبة إلى ما لهم في الدنيا من الخزي والصَّغار، وإنما غُيّر سبكُ النظمِ الكريم حيث لم يقُلْ مثلاً وأشدُّ العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافي بين جزاءَي النشأتين وتقديم يوم القيامة على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال من أول الأمر، {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائح التي من جملتها هذا المنكَرُ.
وقرئ بالياء على نهج {يُردّون} وهو تأكيد للوعيد.