فصل: تفسير الآيات (103- 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (103- 107):

{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)}
{وَمَا أَكْثَرُ الناس} يريد به العمومَ أو أهلَ مكة {وَلَوْ حَرَصْتَ} أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآياتِ القاطعةِ الدالةِ على صدقك {بِمُؤْمِنِينَ} لتصميمهم على الكفر وإصرارِهم على العناد، روي أن اليهود وقريشاً لما سألوا عن قصة يوسفَ وعدوا أن يُسْلموا فلما أخبرهم بها على موافقة التوراةِ فلم يسلموا حزِن النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقيل له ذلك {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي على الإنباء أو على القرآن {مِنْ أَجْرٍ} من جُعْل كما يفعله حَمَلةُ الأخبار {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} عظةٌ من الله تعالى {للعالمين} كافة لا أن ذلك مختصٌّ بهم.
{وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ} أي كأي عددٍ شئت من الآيات والعلاماتِ الدالةِ على وجود الصانِع ووحدتِه وكمال علمِه وقدرتِه وحكمته غيرِ هذه الآيةِ التي جئتَ بها {فِي السموات والارض} أي كائنةٍ فيهما من الأجرام الفلكية وما فيها من النجوم وتغيّر أحوالها ومن الجبال والبحار وسائرِ ما في الأرض من العجائب الفائتةِ للحصر {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} أي يشاهدونها ولا يعبأون بها، وقرئ برفع {الأرضِ} على الابتداء ويمرّون خبره وقرئ بنصبها على معنى ويطؤون الأرضَ يمرون عليها وفي مصحف عبد اللَّه {والأرض يَمْشُونَ عَلَيْهَا} والمراد ما يرَون فيها من آثار الأمم الهالكةِ وغيرُ ذلك من الآيات والعبر {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} غيرُ ناظرين إليها ولا متفكّرين فيها {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله} في إقرارهم بوجوده وخالقيته {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} بعبادتهم لغيره أو باتخاذهم الأحبارَ والرهبانَ أرباباً أو بقولهم باتخاذه تعالى ولداً سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، أو بالنور والظلمة، وهي جملةٌ حالية أي لا يؤمن أكثرُهم إلا في حال شركِهم، قيل: نزلت الآيةُ في أهل مكة، وقيل: في المنافقين، وقيل: في أهل الكتاب.
{أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله} أي عقوبةٌ تغشاهم وتشمَلُهم {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} فجأةً من غير سابقةِ علامة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانها غير مستعدّين لها.

.تفسير الآيات (108- 110):

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}
{قُلْ هذه سَبِيلِى} وهي الدعوةُ إلى التوحيد والإيمان بالإخلاص وفسّرها بقوله: {أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} بيانٍ وحجةٍ واضحةٍ غيرِ عمياءَ أو هي حالٌ من الضمير في سبيلي والعاملُ فيها معنى الإشارة {أَنَاْ} تأكيدٌ للمستكن في أدعو أو على بصيرة لأنه حال منه، أو مبتدأ خبرُه على بصيرة {وَمَنِ اتبعنى} عطف عليه {وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} رد لقولهم {وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة} {نُّوحِى إِلَيْهِمْ} كما أوحينا إليك وقرئ بالياء {مّنْ أَهْلِ القرى} لأنهم أعلمُ وأحلم، وأهلُ البوادي فيهم الجهلُ والجفاءُ والقسوة.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} من المكذبين بالرسل والآياتِ فيحذَروا تكذيبك {وَلَدَارُ الاخرة} أي الساعةُ أو الحياة الآخرة {خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا} الشركَ والمعاصيَ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتستعملوا عقولَكم لتعرِفوا خيريةَ دارِ الآخرة، وقرئ بالياء على أنه غيرُ داخل تحت قل. {حتى إِذَا استيئس الرسل} غايةٌ لمحذوف دل عليه السياقُ أي لا يغُرّنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فإن مَنْ قبلهم قد أُمهلوا حتى أيِسَ الرسل عن النصر عليهم في الدنيا أو عن إيمانهم لانهماكم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} كذَّبتْهم أنفسُهم حين حدثتْهم بأنهم يُنْصرون عليهم أو كذّبهم رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب والمعنى أن مدة التكذيبِ والعداوة من الكفار وانتظارَ النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القُنوطَ وتوهّموا أن لا نصر لهم في الدنيا {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} فجأة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أُخلِفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطُر بالبال من شبه الوسوسة وحديثِ النفس، وإنما عبر عنه بالظن تهويلاً للخطب، وأما الظنُّ الذي هو ترجّحُ أحدِ الجانبين على الآخر فلا يُتصوّر ذلك من آحاد الأمة فما ظنُّك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم ومنزلتُهم في معرفة شؤونِ الله سبحانه منزلتُهم، وقيل: الضميران للمُرسل إليهم. وقيل: الأول لهم، والثاني للرسل، وقرئ بالتشديد أي ظن الرسلُ أن القوم كذّبوهم فيما وعدوهم وقرئ بالتخفيف على بناء الفاعل على أن الضميرين للرسل أي ظنوا أنهم كذَبوا عند قومهم فيما حدّثوا به لِما تراخى ولم يرَوا له أثراً أو على أن الأول لقومهم {فَنُجّىَ مَن نَّشَاء} هم الرسلُ والمؤمنون بهم وقرئ {فننجّي} على لفظ المستقبل بالتخفيف والتشديد وقرئ {فنجا} {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} إذا نزل بهم وفيه بيانٌ لمن تعلق بهم المشيئة.

.تفسير الآية رقم (111):

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} أي قَصص الأنبياء وأممِهم، وينصره قراءةُ من قرأ بكسر القاف أو قصص يوسفَ وإخوتِه {عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالباب} لذوي العقول المبرّأةِ عن شوائب أحكام الحِس {مَا كَانَ} أي القرآنُ المدلولُ عليه بما سبق دَلالة واضحةً {حَدِيثًا يفترى ولكن} كان {تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب السماوية، وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديقُ الذي بين يديه {وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء} مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر دينيّ إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط {وهدى} من الضلالة {وَرَحْمَةً} ينال بها خيرُ الدارين {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي يصدّقونه لأنهم المنتفعون به، وأما مَنْ عداهم فلا يهتدون بهداه ولا ينتفعون بجدواه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علّموا أرقاءَكم سورةَ يوسف فإنه أيُّما مسلمٍ تلاها وعلّمها أهلَه وما ملكت يمينَه هوّن الله عليه سكراتِ الموتِ وأعطاه القوة أن لا يحسُد مسلماً».

.سورة الرعد:

.تفسير الآيات (1- 3):

{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)}
{المر} اسمٌ للسورة ومحلُّه إما الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذه السورةُ بهذا الاسمِ وهو أظهرُ من الرفع على الابتداء إذ لم يسبِق العلَم بالتسمية كما مر مراراً وقوله تعالى: {تِلْكَ} على الوجه الأول مبتدأ مستقلٌ وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثانٍ أو بدل من الأول أشير به إليه إيذاناً بفخامته. وإما النصبُ بتقدير فعلٍ يناسب المقامَ نحوُ اقرأ أو اذكر، فتلك مبتدأٌ كما إذا جعل آلمر مسروداً على نمط التعديدِ أو بمعنى أنا الله أعلمُ وأرى على ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، والخبر على التقادير قوله تعالى: {آياتِ الكتاب} أي الكتابِ العجيب الكامل الغنيِّ عن الوصف به المعروفِ بذلك من بين الكتب الحقيقِ باختصاص اسم الكتابِ فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزّل حينئذ حسبما مر في مطلع سورةِ يونُسَ إذ هو المتبادرُ من مطلق الكتابِ المستغني عن النعت، وبه يظهر ما أريد من وصف الآياتِ بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ بخلاف ما إذا جُعل عبارةً عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك، المغنية عن التصريح بالوصف على أنها عبارةٌ عن جميع آياتِها فلابد من جعل {تلك} إشارةً إلى كل واحدةٍ منها، وفيه ما لا يخفى من التعسف الذي مر تفصيلُه في سورة يونس.
{والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} أي الكتابَ المذكور بكماله لا هذه السورةُ وحدها {الحق} الثابتُ المطابق للواقع في كل ما نطق به، الحقيقُ بأن يُخَصّ به الحقّيةُ لعراقته فيها، وليس فيه ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلاً على أن حقّيتَه مستتبِعةٌ لحقية سائرِ الكتبِ السماوية لكونه مصدّقاً لما بين يديه ومهيمِناً عليه، وفي التعبير عنه بالموصول وإسنادِ الإنزال إليه بصيغة المبنيِّ للمفعول والتعرّضِ لوصف الربوبية مضافاً إلى ضميره عليه السلام من الدلالة على فخامة المنزَّل التابعةِ لجلالة شأنِ المنزَّل وتشريفِ المنزَّل إليه والإيماءِ إلى وجه بناءِ الخبر ما لا يخفى {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك الحقِّ المبين، لإخلالهم بالنظر والتأملِ فيه، فعدمُ إيمانهم متعلقٌ بعنوان حقّيتِه لأنه المرجِعُ للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونِه منزلاً كما قيل ولأنه واردٌ على طريقة الوصفِ دون الإخبار.
{الله الذي رَفَعَ السموات} أي خلقهن مرتفعاتٍ على طريقة قولِهم: سبحان من كبّر الفيل وصغّر البعوض، لا أنه رفعها بعد أن لم تكن كذلك، والجملةُ مبتدأ وخبرٌ كقوله: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} {بِغَيْرِ عَمَدٍ} أي بغير دعائمَ جمع عِماد كإهاب وأَهَب وهو ما يُعمَد به أي يُسند، يقال: عمَدتُ الحائطَ أي أدعمته، وقرئ {عُمُد} على جمع عَمود بمعنى عماد كرُسُل ورسول، وإيرادُ صيغةِ الجمع لجمع السموات، لا لأن المنفيَّ عن كل واحدة منها عَمدٌ لا عماد {تَرَوْنَهَا} استئنافٌ استُشهد به على ما ذكر من رفع السموات بغير عمد، وقيل: صفة لعَمَدٍ جيء بها إيهاماً لأن لها عمداً غيرَ مرئيةٍ هي قدرة الله تعالى.
{ثُمَّ استوى} أي استولى {عَلَى العرش} بالحفظ والتدبير أو استوى أمرُه وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ لله عز وجل بلا كيف، وأياً ما كان فليس المرادُ به القصدَ إلى إيجاد العرش وخلقِه فلا حاجة إلى جعل كلمة ثم للتراخي في الرتبة {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} ذللهما وجعلهما طائعَين لما أريد منهما من الحركات وغيرها {كُلٌّ} من الشمس والقمر {يَجْرِى} حسبما أريد منها {لاِجَلٍ مُّسَمًّى} لمدة معينةٍ فيها تتم دورتُه كالسنة للشمس والشهر للقمر، فإن كلاًّ منهما يجري كلَّ يوم على مدار معينٍ من المدارات اليوميةِ أو لمدة ينتهي فيها حركاتُهما ويخرج جميعُ ما أريد منهما من القوة إلى الفعل، أو لغاية يتم عندها ذلك والجملةُ بيانٌ لحكم تسخيرهما.
{يُدَبّرُ} بما صنع من الرَّفْع والاستواء والتسخير أي يقضي ويقدّر حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة {الأمر} أمرَ الخلق كلَّه وأمرَ ملكوتِه وربوبيتِه {يُفَصّلُ الآيات} الدالةَ على كمال قدرتِه وبالغِ حكمتِه أي يأتي بها مفصلةً وهي ما ذكر من الأفعال العجيبةِ وما يتلوها من الأوضاع الفلكيةِ الحادثةِ شيئاً فشيئاً المستتبعةِ للآثار الغريبة في السُّفليات على موجب التدبيرِ والتقديرِ، فالجملتان إما حالان من ضمير استوى وقوله: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} من تتمة الاستواءِ وإما مفسّرتان له أو الأولى حالٌ منه والثانية من الضمير فيه أو كلاهما من ضمائر الأفعالِ المذكورة وقوله: {كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى} من تتمة التسخيرِ أو خبران عن قوله: الله خبراً بعد خبر، والموصولُ صفةٌ للمبتدأ جيء به للدلالة على تحقيق الخبرِ وتعظيمِ شأنِه كما في قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماءَ بنى لنا ** بيتاً دعائمُه أعزُّ وأطول

{لَعَلَّكُمْ} عند معاينتِكم لها وعثورِكم على تفاصيلها {بِلِقَاء رَبّكُمْ} بملاقاته للجزاء {تُوقِنُونَ} فإن من تدبّرها حقَّ التدبر أيقن أن من قدَر على إبداع هذه الصنائعِ البديعةِ على كل شيء قديرٌ وأن لهذه التدبيراتِ المتينة عواقبَ وغاياتٍ لابد من وصولها وقد بُيّنتْ على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام أن ذلك ابتلاءٌ للمكلفين ثم جزاؤهم حسب أعمالِهم فإذن لابد من الإيقان بالجزاء، ولمّا قرر الشواهدَ العلوية أردفها بذكر الدلائلِ السفلية فقال: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} أي بسطها طولاً وعَرضاً، قال الأصم: المد هو البسطُ إلى ما لا يدرك منتهاه فيه دَلالةٌ على بعد مداها وسَعةِ أقطارها {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابتَ في أحيازها من الرُّسوّ وهو ثباتُ الأجسام الثقيلة، ولم يُذكر الموصوفُ لإغناء غلبة الوصفِ بها عن ذلك، وانحصارُ مجيءِ فواعل جمعاً لفاعل في فوارسَ وهوالكَ ونواكسَ إنما هو في صفات العقلاءِ وأما في غيرهم فلا يراعى ذلك أصلاً كما في قوله تعالى: {أَيَّامًا معدودات} وقوله: {الحج أَشْهُرٌ معلومات} إلى غير ذلك، فلا حاجة إلى أن يُجعل مفردُها صفةً لجمع القلة أعني أجبُلاً ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالاً انتظامُها لطائفة من جموع القلة وتنزيلُ كلَ منها منزلة مفردِها كما قيل على أنه لا مجال لذلك فإن جمعيةَ كلَ من صيغتي الجمعَين إنما هي باعتبار الأفرادِ التي تحتها لا باعتبار انتظام جمعِ القلةِ للأفراد وجمعِ الكثرة لجموع القِلة فكلٌّ منهما جمعُ جبلٍ لا أن جبالاً جمعُ أجبل، كما أن طوائفَ جمعُ طائفة ولا إلى أن يُلتجأَ إلى جعل الوصفِ المذكور بالغلبة في عداد الأسماءِ التي تُجمع على فواعل كما ظن، على أنه لا وجه له لما أن الغلبةَ إنما هي في الجمع دون المفردِ، والتعبيرُ عن الجبال بهذا العنوانِ لبيان تفرّعِ قرارِ الأرض على ثباتها {وأنهارا} مجاريَ واسعةً، والمرادُ ما يجري فيها من المياه، وفي نظمها مع الجبال في مفعولية فعلٍ واحد إشارةٌ إلى أن الجبالَ منشأٌ للأنهار وبيانٌ لفائدة أخرى للجبال غيرِ كونها حافظةً للأرض عن الاضطراب المُخِلّ بثبات الأقدام وتقلّب الحيوان متفرّعةً على تمكنه وتقلّبه وهي تعيُّشُه بالماء والكلأ.
{وَمِن كُلّ الثمرات} متعلقٌ بجعل في قوله تعالى: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} أي اثنيْنيّةً حقيقيةً وهما الفرادنِ اللذان كلٌّ منهما زوجُ الآخر وأكّد به الزوجين لئلا يُفهم أن المرادَ بذلك الشفْعان إذ يطلق الزوجُ على المجموع ولكنْ اثنينيةً اعتبارية، أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصِنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحُلو والحامض. أو في القدر كالصغير والكبير، أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك، ويجوز أن يتعلق بجعَلَ الأولِ، ويكونَ الثاني استئنافاً لبيان كيفيةِ ذلك الجعْل {يُغْشِى اليل النهار} استعارةٌ تبعيةٌ تمثيليةٌ مبنيَّةٌ على تشبيه إزالةِ نورِ الجو بالظلمة بتغطية الأشياءِ الظاهرةِ بالأغطية، أي يستر النهارَ بالليل. والتركيب وإن احتمل العكسَ أيضاً بالحمل على تقديم المفعولِ الثاني على الأول فإن ضوء النهار أيضاً ساترٌ لظلمة الليلِ إلا أن الأنسبَ بالليل أن يكون هو الغاشي، وعدُّ هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقُه بالآيات العلوية ظاهراً باعتبار أن ظهورَه في الأرض فإن الليل إنما هو ظلُّها وفيما فوق موقعِ ظلها لا ليلَ أصلاً ولأن الليل والنهار لهما تعلقٌ بالثمرات من حيث العقدُ والإنضاج على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلُها وقرئ {يُغشّي} من التغشية {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما ذكر من مد الأرضِ وإيتادِها بالرواسي وإجراءِ الأنهار وخلق الثمرات وإغشاءِ الليل النهارَ، وفي الإشارة بذلك تنبيهٌ على عظم شأنِ المشار إليه في بابه {لآَيَاتٍ} باهرةً وهي آثارُ تلك الأفاعيل البديعةِ جلت حكمةُ صانعِها، {ففي} على معناها فإن تلك الآثارَ مستقرةٌ في تلك الأفاعيل منوطةٌ بها، ويجوز أن يُشار بذلك إلى تلك الآثار المدلولِ عليها بتلك الأفاعيل {ففي} تجريدية {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن التفكر فيها يؤدّي إلى الحكم بأن تكوين كلَ من ذلك على هذا النمط الرائِق والأسلوب اللائق لابد له من مكوّن قادرٍ حكيم يفعل ما يشاء ويختار ما يريد لا معقِّبَ لحكمه وهو الحميد المجيد.