فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (4):

{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}
{وَفِى الأرض قِطَعٌ} جملةٌ مستأنفة مشتملةٌ على طائفة أخرى من الآيات أي بقاعٌ كثيرةٌ مختلفة في الأوصاف فمن طيِّبة إلى سَبْخة وكريمة إلى زهيدة وصُلبة إلى رِخْوة إلى غير ذلك {متجاورات} أي متلاصقاتٌ وفي بعض المصاحف {قطعاً متجاوراتٍ} أي جعل في الأرض قطعاً {وجنات مّنْ أعناب} أي بساتينُ كثيرة منها {وَزَرْعٌ} من كل نوع من أنواع الحبوبِ، وإفرادُه لمراعاة أصله، ولعل تقديمَ ذكرِ الجنات عليه مع كونه عمودَ المعاشِ لظهور حالها في اختلافها ومبايَنتِها لسائرها ورسوخ ذلك فيها، وتأخيرُ قوله تعالى: {وَنَخِيلٌ} لئلا يقعَ بينها وبين صفتها وهي قوله تعالى: {صنوان وَغَيْرُ صنوان} فاصلة، والصنوان جمع صِنْو كقِنوان وقِنْو وهي النخلةُ التي لها رأسان وأصلُها واحدٌ وقرئ بضم الصاد على لغة بني تميم وقيس، وقرئ {جناتٍ} بالنصب عطفاً على زوجين وبالجر على كل الثمرات، فلعل عدمَ نظمِ قوله تعالى: {وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات} في هذا السلكِ مع أن اختصاصَ كل من تلك القِطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض جعْل الخالقِ الحكيم جلت قدرتُه حين مد الأرضَ ودحاها للإيماء إلى كون تلك الأحوال صفاتٍ راسخةً لتلك القطع، وقرئ {وزرعٍ ونخيلٍ} بالجر عطفاً على {أعناب} أو {جناتٍ} {يسقى} أي ما ذكر من القِطع والجنات والزرع والنخيل، وقرئ بالتأنيث مراعاةً للّفظ والأول أوفقُ بمقام بيان اتحادِ الكل في حالة السقْي {بِمَاء واحد} لا اختلاف في طبعه سواءٌ كان السقيُ بماء الأمطار أو بماء الأنهار.
{وَنُفَضّلُ} مع تآخذ أسبابِ التشابه بمحض قدرتِنا واختيارنا {بَعْضَهَا على بَعْضٍ} آخرَ منها {فِى الأكل} فيما يحصُل منها من الثمر والطعْمِ، وقرئ بالياء على بناء الفاعل رداً على {يدبّر} و{يفصّلُ} و{يغشي}، وعلى بناء المفعول وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدمَ احتمال استنادِ الفعل إلى فاعل آخرَ مغنٍ عن بناء الفعل للفاعل {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي فُصّل من أحوال القِطع والجنات {لاَيَاتٍ} كثيرةً عظيمةً ظاهرة {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يعلمون على قضية عقولِهم، فإن من عقَل هذه الأحوالَ العجيبةَ لا يتلعثم في الجزم بأن من قدَر على إبداع هذه البدائعِ وخلقَ تلك الثمارَ المختلفة في الأشكال والألوان والطعومِ والروائحِ في تلك القِطع المتباينةِ المتجاورةِ وجعَلَها حدائقَ ذاتَ بهجةٍ قادرٌ على إعادة ما أبداه بل هي أهونُ في القياس وهذه الأحوالُ وإن كانت هي الآياتِ أنفسَها لا أنها فيها إلا أنه قد جُرّدت عنها أمثالُها مبالغةً في كونها آيةً فـ {في} تجريديةٌ مثلها في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} أو المشارُ إليه الأحوالُ الكلية والآياتُ أفرادُها الحادثةُ شيئاً فشيئاً في الأزمنة وآحادُها الواقعةُ في الأقطار والأمكنةِ المشاهدة لأهلها فـ {في} على معناها وحيث كانت دلالةُ هذه الأحوالِ على مدلولاتها أظهرَ مما سبق علق كونُها آياتٍ بمحض التعقّل ولذلك لم يتعرض لغير تفضيل بعضِها على بعض في الأكُل الظاهرِ لكل عاقلٍ مع تحقق ذلك في الخواصّ والكيفيات مما يتوقع العثورُ عليه على نوع تأملٍ وتفكر كأنه لا حاجة في ذلك إلى التفكر أيضاً وفيه تعريضٌ بأن المشركين غيرُ عاقلين.

.تفسير الآيات (5- 6):

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)}
{وَإِن تَعْجَبْ} يا محمد من شيء {فَعَجَبٌ} لا أعجبُ منه حقيقٌ بأن يُقصَرَ عليه التعجب {قَوْلُهُمْ} بعد مشاهدةِ ما عدد لك من الآيات الشاهدةِ بأنه تعالى على كل شيء قدير {أَءذَا كُنَّا تُرَابًا} على طريقة الاستفهامِ الإنكاريِّ المفيدِ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ، وهو في محل الرفعِ على البدلية من {قولهم} على أنه بمعنى المقول أو في محل النصبِ على المفعولية منه على أنه مصدرٌ فالعجبُ على الأول كلامُهم وعلى الثاني تكلّمُهم بذلك والعاملُ في {إذا} ما دل عليه قوله: {إِءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نُبعث أو نعاد، وتقديمُ الظرف لتقوية الإنكارِ بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافيةٍ له، وتكريرُ الهمزة في قولهم: أئنا لتأكيد الإنكارِ، وليس مدارُ إنكارهم كونَهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونِهم تراباً بل كونَهم بعريضة ذلك واستعدادِهم له، وفيه من الدَلالة على عتوّهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى، وقيل: وإن تعجب من قولهم في إنكار البعثِ فعجبٌ قولُهم، والمآلُ وإن تعجبْ فقد تعجّبت في موضع التعجّبِ، وقيل: وإن تعجب من إنكارِهم البعثَ فعجبٌ قولُهم الدالُّ عليه فتأمل.
وقد جُوّز كونُ الخطاب لكل من يصلُح له أي إن تعجبْ يا من ينظُر في هذه الآياتِ من قدرة مَنْ هذه أفعالُه فازددْ تعجباً ممن ينكر مع هذه الدلائلِ قدرتَه تعالى على البعث وهو أهونُ من هذه، والأنسبُ بقوله: ويستعجلونك بالسيئة هو الأولُ وقوله تعالى: {فَعَجَبٌ} خبرٌ قُدّم على المبتدأ للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم ذاك أمراً عجيباً، ويجوز أن يكون مبتدأً لكونه موصوفاً بالوصف المقدر كما أشير إليه فالمعنى وإن تعجب فالعجب الذي لا عجب وراءه قولُهم هذا فاعجب منه، وعلى الأول وإن تعجب فقولُهم هذا عجبٌ لا عجبَ فوقه.
{أولئك} مبتدأٌ والموصولُ خبرُه أي أولئك المنكرون لقدرته تعالى على البعث ريثما عاينوا ما فُصّل من الآيات الباهرةِ المُلْجئة لهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون {الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} وتمادَوْا في ذلك فإن إنكارَهم لقدرته عز وجل كفرٌ به وأيُّ كفر {وَأُوْلئِكَ} مبتدأ خبرُه قوله: {الأغلال فِي أعناقهم} أي مقيّدون بقيود الضلال لا يرجى خلاصُهم أو مغلولون يوم القيامة {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر من الصفات {أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} لا ينفكوّن عنها، وتوسيطُ ضمير الفصلِ ليس لتخصيص الخلودِ بمنكري البعثِ خاصةً بل بالجمع المدلولِ عليه بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ}.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة} بالعقوبة التي أُنذِروها وذلك حين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيَهم بالعذاب استهزاءً منهم بإنذاره {قَبْلَ الحسنة} أي العافيةِ والإحسانِ إليهم بالإمهال {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} أي عقوباتُ أمثالِهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها ولا يحترزون حلولَ مثلها بهم والجملة الحاليةُ لبيان ركاكةِ رأيِهم في الاستعجال بطريق الاستهزاءِ أي يستعجلونك بها مستهزئين بإنذارك منكِرين لوقوع ما أنذرتَهم إياه والحالُ أنه قد مضت العقوباتُ النازلةُ على أمثالهم من المكذبين والمستهزئين، والمُثْلة بوزن السُّمْرة العقوبةُ، سميت بها لما بينها وبين المعاقَب عليه من المماثلة ومنه المِثال للقِصاص، وقرئ {المُثُلات} بضمتين بإتباع الفاء العين، و{المَثْلات} بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال: السَّمْرة، و{المُثْلات} بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المُثُلات جمع مُثْلة كرُكبة ورُكْبات {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ {لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} أنفسهم بالذنوب والمعاصي ومحلُّه النصبُ على الحالية أي ظالمين والعاملُ فيه المغفرة والمعنى إن ربك لغفورٌ للناس لا يعجّل لهم العقوبةَ وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} يعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخيرُ ما استعجلوه ليس للإهمال.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «لولا عفوُ الله وتجاوزُه ما هنأ لأحد العيشُ ولولا وعيدُه وعقابه لأتَّكَلَ كُلُّ أحد».

.تفسير الآيات (7- 8):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)}
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} وهم المستعجلون أيضاً، وإنما عدَل عن الإضمار إلى الموصول ذماً لهم ونعياً عليهم كفرَهم بآيات الله تعالى التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال حيث لم يرفعوا لها رأساً ولم يعُدّوها من جنس الآيات وقالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} مثلَ آياتِ موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام عناداً ومكابرةً، وإلا ففي أدنى آيةٍ أُنزلت عليه عليه الصلاة والسلام غُنيةٌ وعِبرةٌ لأولي الألباب {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ} مرسَلٌ للإنذار من سوء عاقبةِ ما يأتون ويذرون كدأب مَنْ قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيانُ بما يُعلم به نُبوَّتُك، وقد حصل ذلك بما لا مزيدَ عليه ولا حاجة إلى إلزامهم وإلقامِهم الحجرَ بالإتيان بما اقترحوا من الآيات {وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} معينٌ لا بالذات بل بعنوان الهدايةِ يعني لكل قوم نبيٌّ مخصوصٌ له هدايةٌ مخصوصةٌ يقتضي اختصاصُ كلَ منهم بما يختص به حكماً لا يعلمها إلا الله أو لكل قوم هادٍ عظيمُ الشأنِ قادرٌ على ذلك هو الله سبحانه وما عليك إلا إنذارُهم فلا يُهِمَنك عنادُهم وإنكارُهم للآيات المنزّلةِ عليك وازدراؤهم بها ثم عقّبه بما يدل على كمال علمِه وقدرتِه وشمولِ قضائِه وقدَره المبنيَّين على الحِكَم والمصالحِ تنبيهاً على أن تخصيصَ كلِّ قومٍ ينبىء بجنس معين من الآيات إنما هو للحِكَم الداعية إلى ذلك إظهاراً لكمال قدرتِه على هدايتهم لكن لا يهدي إلا من تعلّق بهدايته مشيئتُه التابعةُ لِحكَم استأثر بعلمها فقال: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} أي تحمِله فما موصولةٌ أريد بها ما في بطنها من حين العُلوقِ إلى زمن الولادةِ لا بعد تكاملِ الخلقِ فقط، والعلمُ متعدَ إلى واحد، أو أيَّ شيءٍ تحملُ وعلى أي حال هو من الأحوال المتواردةِ عليه طوراً فطوراً فهي استفهاميةٌ معلقةٌ للعلم أو حملَها فهي مصدرية {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} أي تنقُصه وتزداده في الجُثة كالخَديج والتام وفي المدة كالمولود في أقلِّ مدة الحملِ والمولود في أكثرها وفيما بينهما. قيل: إن الضحاك ولد في سنتين، وهرِمَ ابن حيان في أربع ومن ذلك سُمِّي هرِماً، وفي العدد كالواحد فما فوقه. يروى أن شريكاً كان رابعَ أربعةٍ، أو يعلم نقصَها وازديادها لما فيها فالفعلان متعدّيان كما في قوله تعالى: {وَغِيضَ الماء} وقوله تعالى: {وازدادوا تِسْعًا} وقوله: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أو لازمان قد أسندا إلى الأرحام مجازاً وهما لما فيها {وَكُلَّ شىْء} من الأشياء {عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} بقدر لا يمكن تجاوزُه عنه كقوله: {إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} فإن كل حادثٍ من الأعيان والأعراضِ له في كل مرتبةٍ من مراتب التكوينِ ومباديها وقتٌ معينٌ وحالٌ مخصوص لا يكاد يجاوزه، والمرادُ بالعندية الحضورُ العلميُّ بل العلمُ الحضوريُّ فإن تحقيقَ الأشياءِ في أنفسها في أي مرتبةٍ كانت مراتبُ الوجود والاستعداد لذلك علمٌ له بالنسبة إلى الله عز وجل.

.تفسير الآيات (9- 11):

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}
{عالم الغيب} أي الغائبِ عن الحس {والشهادة} أي الحاضرِ له عبر عنهما بهما مبالغةً، وقيل: أريد بالغيب المعدومُ وبالشهادة الموجودُ وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو خبرٌ بعد خبر، وقرئ بالنصب على المدح وهذا كالدليل على ما قبله من قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ} إلخ {الكبير} العظيمُ الشأنِ الذي كلُّ شيء دونه {المتعال} المستعلي على كل شيء بقدرته أو المنزَّهُ عن نعوت المخلوقات.
وبعد ما بين سبحانه أنه عالم بجميع أحوالِ الإنسان في مراتبِ فطرتِه ومحيطٌ بعالَمي الغيب والشهادة بيّن أنه تعالى عالمٌ بجميع ما يأتون وما يذرون من الأفعال والأقوال وأنه لا فرق بالنسبة إليه بين السرِّ والعلن فقال: {سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول} في نفسه {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} أظهره لغيره {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} مبالغٌ في الاختفاء كأنه مختفٍ {باليل} وطالبٌ للزيادة {وَسَارِبٌ} بارزٌ يراه كلُّ أحد {بالنهار} من سرَب سروباً أي برَز وهو عطفٌ على مَنْ هو مستخفٍ أو على مستخف و{من} عبارةٌ عن الاثنين كما في قوله:
تعالَ فإنْ عاهدتَني لا تخونُني ** نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبانِ

كأنه قيل: سواءٌ منكم اثنان مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار، والاستواءُ وإن أسند إلى من أسرّ ومن جهَر وإلى المستخفي والساربِ لكنه في الحقيقة مسنَدٌ إلى ما أسّره وما جهرَ به أو إلى الفاعل من حيث هو فاعلٌ كما في الأخيرين، وتقديمُ الإسرارِ والاستخفاءِ لإظهار كمالِ علمِه تعالى فكأنه في التعلق بالخفيات أقدمُ منه بالظواهر وإلا فنِسبتُه إلى الكل سواءٌ لما عرَفته آنفاً.
{لَهُ} أي لكلَ ممن أسرّ أو جهر والمستخفي أو السارب {معقبات} ملائكةٌ تعتقِبُ في حفظه جمعُ معقّبة من عقّبه مبالغةُ عقَبه إذا جاء على عقِبه كأن بعضَهم يعقُب بعضاً أو لأنهم يعقُبون أقوالَه وأفعاله فيكتُبونه أو اعتقب فأُدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة، أو المرادُ بالمعقّبات الجماعاتُ، وقرئ {معاقيبُ} جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من إحدى القافين {مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} من جميع جوانبِه أو من الأعمال ما قدَّم وأخَّر {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} من بأسه حين أذنب بالاستمهال والاستغفارِ له أو يحفظونه من المضارّ أو يراقبون أحوالَه من أجل أمر الله تعالى، وقد قرئ به وقيل: {من} بمعنى الباء، وقيل: من أمر الله صفةٌ ثانيةٌ لمعقّبات، وقيل: المعقّبات الحرّاسُ والجلاوِزةُ حولَ السلطان يحفَظونه في توهّمه من قضاء الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والعافية {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الأعمال الصالحةِ أو ملَكاتها التي هي فطرةُ الله التي فطرَ الناس عليها إلى أضدادها {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا} لسوء اختيارِهم واستحقاقِهم لذلك {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} فلا ردَّ له، والعاملُ في {إذا} ما دل عليه الجوابُ {وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يلي أمرَهم ويدفع عنهم السوءَ الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم، وفيه دِلالةٌ على أن تخلّف مرادِه تعالى مُحالٌ، وإيذانٌ بأنهم بما باشروه من إنكار البعثِ واستعجال السيئة واقتراحِ الآية قد غيَّروا ما بأنفسهم من الفطرة واستحقوا لذلك حلولَ غضبِ الله تعالى وعذابِه.

.تفسير الآيات (12- 13):

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)}
{هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا} من الصاعقة {وَطَمَعًا} في المطر، فوجهُ تقديم الخوفِ على الطمع ظاهر لما أن المَخوفَ عليه النفسُ أو الرزق العتيدُ والمطموعُ فيه الرزقُ المترقَّبُ، وقيل: الخوف أيضاً من المطر لكنْ الخائفُ منه غيرُ الطامع فيه كالخزّاف والحرّاث، ويأباه الترتيبُ اللهم إلا أن يتكلف ما أشير إليه من أن المَخوفَ عتيدٌ والمطموعَ فيه مترقَّبٌ، وانتصابُهما إما على المصدرية أي فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً أو على الحالية من البرق أو المخاطبين بإضمار ذوي أو بجعل المصدرِ بمعنى المفعول أو الفاعل مبالغةً أو على العِلّية بتقدير المضاف أي إرادةَ خوفٍ وطمعٍ، أو بتأويل الإخافة والإطماعِ ليتّحد فاعلُ العِلة والفعل المعلّل. وأما جعلُ المعلل هي الرؤية التي تتضمنها الإرادةُ على طريقة قول النابغة:
وحلّت بيوتي في يَفاعٍ ممنَّع ** تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا

حِذاراً على أن لا يُنال معاوني ** ولا نِسوتي حتى يمُتْن حرائرا

أي أحللت بيوتي حِذاراً فلا سبيل إليه لأن ما وقع في معرِض العلةِ الغائية لاسيما الخوفُ لا يصلح علةً لرؤيتهم {وَيُنْشِىء السحاب} الغمامَ المنسحبَ في الجو {الثقال} بالماء وهي جمعُ ثقيلةٍ وُصف بها السحابُ لكونها اسمَ جنسٍ في معنى الجمع والواحدةُ سحابة، يقال: سحابةٌ ثقيلة وسحاب ثِقال، كما يقال: امرأة كريمة ونسوة كرام.
{وَيُسَبّحُ الرعد} أي سامعوه من العباد الراجين للمطر ملتبسين {بِحَمْدِهِ} أي يضِجّون بسبحان الله والحمد لله وإسنادُه إلى الرعد لحمله لهم على ذلك أو يسبح الرعدُ نفسه على أن تسبيحه عبارةٌ عن دلالته على وحدانيته تعالى وفضلِه المستوجبِ لحمده. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «سُبحانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بحمدِهِ» وإذا اشتد يقول: «اللهم لا تقتُلْنا بغضبك ولا تُهلِكنا بعذابك وعافِنا قبل ذلك». وعن علي رضي الله عنه: «سبحان من سبَّحْتَ له». وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود سألت النبيَّ عليه الصلاة والسلام عن الرعد فقال: «ملَكٌ من الملائكة موكلٌ بالسحاب معه مخاريقُ من نار يسوق السحابَ» وعن الحسن: «خلقٌ من خلق الله تعالى ليس بملك» {والملائكة} أي يسبح الملائكة {مِنْ خِيفَتِهِ} من هيبته وإجلالِه جل جلاله، وقيل: الضمير للرعد.
{وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء} فيُهلكه بذلك {وَهُمْ} أي الكفرةُ المخاطبون في قوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق} وقد التُفت إلى الغَيبة إيذاناً بإسقاطهم عن درجة الخِطاب وإعراضاً عنهم وتعديداً لجناياتهم لدى كلِّ من يستحق الخطابَ كأنه قيل: هو الذي يفعل أمثالَ هذه الأفاعيلِ العجيبةِ من إراءة البرقِ وإنشاء السحابِ الثقالِ وإرسالِ الصواعقِ الدالةِ على كمال علمِه وقدرتِه ويعقِلُها مَنْ يعقِلها من المؤمنين، أو الرعدُ نفسه أو الملكُ الموكلُ به والملائكةُ ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوفِ من هيبته تعالى وهم أي الكفرة الذين حُكيت هَناتُهم مع ذلهم وهوانهم وحقارةِ شأنهم {يجادلون فِي الله} أي في شأنه تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من إنكار البعثِ واستعجالِ العذاب استهزاءً واقتراحِ الآيات، فالواو لعطف الجملةِ على ما قبلها من قوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق} الخ، أو على قوله: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ} الخ، وأما العطفُ على قوله تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} كما قيل فلا مجال له لأن قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ} الخ، استئنافٌ لبيان بطلانِ قولهِم ذلك ونظائرِه من استعجال العذابِ وإنكار البعثِ قاطعٌ لعطف ما بعده على ما قبله، وقيل: للحال أي فيصيب بالصواعق من يشاء وهم في الجدال.
وقد أريد به «ما أصاب أربدَ بنَ ربيعةَ أخا لبيد فإنه أقبل مع عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغيانه الغوائلَ فدخلا المسجد وهو عليه الصلاة والسلام جالسٌ في نفر من الأصحاب رضي الله عنهم فاستشرفوا لجمال عامر وكان من أجمل الناسِ وقد كان أوصى إلى أربد أنه إذا رأيتَني أكلم محمداً عليه الصلاة والسلام فدُرْ من خلفه واضرِبْه بالسيف، فجعل يكلمه عليه الصلاة والسلام فدار أربد من خلفه عليه الصلاة والسلام فاخترط من سيفه شبراً فحبسه الله تعالى فلم يقدِر على سلّه وجعل عامرٌ يومىء إليه فرأى النبيُّ عليه الصلاة والسلام الحالَ، فقال: اللهم اكفِنيهما بما شئت فأرسل الله عز وجل على أربد صاعقةً في يوم صحْوٍ صائفٍ فأحرقتْه وولى عامرٌ هارباً فنزل في بيت امرأة سَلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحَه وتغيّر لونُه وركب فرسه فجعل يركُض في الصحراء ويقول: ابرُزْ يا ملكَ الموت، ويقول الشعر، ويقول: واللاتِ لئن أصْحر لي محمد وصاحبُه يعني ملك الموت لأنفُذنَّهما برمحي، فأرسل الله تعالى ملكاً فلطَمه بجناحه فأرداه في التراب فخرجت على ركبته في الوقت غُدةٌ عظيمة فعاد إلى بيت السَّلولية وهو يقول: غُدة كغدة البعير وموتٌ في بيت سَلولية، ثم عاد بفرسه فركبه فأجراه حتى مات على ظهره». وقيل: أريد به ما روي عن الحسن «أنه كان رجلٌ من طواغيت العرب فبعث النبيُّ عليه الصلاة والسلام نفراً من أصحابه يدعونه إلى الله عز وجل، فقال لهم: أخبروني عما تدعونني إليه ما هو ومم هو؟ من ذهب، أم من فضة، أم من نحاس، أم من حديد، أم من دُرّ؟ فاستعظموا مقالتَه فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا رجلاً أكفرَ قلباً ولا أعتى على الله منه، فقال عليه الصلاة والسلام: ارجُعوا إليه، فما زاد إلا مقالتَه الأولى وأخبثَ، فرجعوا إليه عليه الصلاة والسلام وأخبَروه بما صنع، فقال عليه الصلاة والسلام: ارجِعوا إليه، فبينما هم عنده ينازعونه إذ ارتفعت سحابةٌ ورعَدت وبرِقت ورمَتْ بصاعقة فاحترق الكافرُ فجاءوا يسعَوْن ليخبروه عليه الصلاة والسلام بالخبر فاستقبلهم الأصحاب فقالوا: احترق صاحبُكم، قالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أُوحيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم». {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} أي والحالُ أنه شديدُ المماحلة والمماكرةِ لأعدائه من مَحَله إذا كاده وعرّضه للهلاك، ومنه تمحّل إذا تلكف استعمال الحِيل، وقيل: هو مُحالٌ من المَحْل بمعنى القوة، وقيل: مُحوّل من الحول أو الحيلة أُعلَّ على غير قياس، ويعضُده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مَفعَل من حال يحول إذا احتال ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلاً في القوة والقدرة كقولهم: فساعدُ الله أشدُّ وموساه أحدّ.