فصل: تفسير الآيات (19- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (19- 20):

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)}
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ} من القرآن الذي مُثّل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالصِ في المنفعة والجدوى {الحق} الذي لا حق وراءه أو الحقُّ الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيبَ له {كَمَنْ هُوَ أعمى} عمَى القلبِ لا يشاهده وهو نارٌ على علَمٍ ولا يقدر قدرَه وهو في أقصى مراتب العلوِّ والعِظَم فيبقى حائراً في ظلمات الجهلِ وغياهبِ الضلال أو لا يتذكر بما ضرب من الأمثال أي كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادةُ تقبيحِ حالِه فعبر عنه بالأعمى، وإيرادُ الفاء بعد الهمزةِ لتوجيه الإنكار إلى ترتيب توهمِ المماثلةِ على ظهور حال كلَ منهما بما ضُرب من الأمثال وبين المصيرِ والمآل، كأنه قيل: أبعد ما بُين حالُ كل من الفريقين ومآلُهما يُتوهّم المماثلةُ بينهما ثم استؤنف فقيل: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} بما ذكر من المذكّرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي {أُوْلُو الألباب} أي العقولِ الخالصةِ المبرّأة من مشايعة الإلْفِ ومعارضةِ الوهم.
{الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} بما عقَدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا: بلى، أو ما عهِد الله عليهم في كتبه {وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} ما وثّقوه على أنفسهم وقبِلوه من الإيمان بالله وغيرِه من المواثيق بينهم وبين الله وبين العبادِ وهو تعميمٌ بعد تخصيصٍ، وفيه تأكيدٌ للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل.

.تفسير الآيات (21- 25):

{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}
{والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الرحِم وموالاةِ المؤمنين والإيمانِ بجميع الأنبياء المجمعين على الحق من غير تفريقٍ بين أحد منهم، ويندرج فيه مراعاةُ جميعِ حقوقِ الناس في حقوق كل ما يتعلق بهم من الهرّ والدَّجاج {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} خشيةَ جلالٍ وهَيْبةٍ فلا يعصونه فيما أمر به {وَيَخَافُونَ سوء الحِسَابِ} فيحاسبون أنفسَهم قبل أن يحاسَبوا، وفيه دَلالةٌ على كمال فظاعتِه حسبما ذكر فيما قبل.
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ} على كل ما تكره النفسُ من الأفعال والتروك {ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ} طلباً لرضاه خاصة من غير أن ينظروا إلى جانب الخلقِ رياءً وسُمعةً ولا إلى جانب النفس زينةً وعُجْباً، وحيث كان الصبرُ على الوجه المذكور مَلاكَ الأمرِ في كل ما ذكر من الصلاة السابقة واللاحقةِ أُورد على صيغة الماضي اعتناءً بشأنه ودِلالةً على وجوب تحققِه فإن ذلك مما لابد منه إما في أنفس الصلات كما فيما عدا الأولى والرابعةِ والخامسةِ أو في إظهار أحكامِها كما في الصلات الثلاثِ المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقةَ على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشيةِ والخوف لكن إظهارَ أحكامِها والجريَ على موجبها غيرُ خالٍ عن الاحتياج إليه {وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ} المفروضة {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي بعضَه الذي يجب عليهم إنفاقُه {سِرّا} لمن لم يُعرفْ بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاةِ أو عند إنفاقِه وإعطائه مَنْ تمنعه المروءةُ من أخذه ظاهراً {وَعَلاَنِيَةً} لمن لم يكن كما ذكر أو الأول في التطوع والثاني في الفرض.
{وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة} أي يُجازون الإساءةَ بالإحسان أو يُتْبعون الحسنةَ السيئة فتمحوها. عن ابن عباس رضي الله عنهما: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سييء غيرِهم. وعن الحسن: إذا حُرموا أعطَوا وإذا ظُلموا عفَوا وإذا قُطعوا وصلوا. وعن ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا. وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره. وتقديمُ المجرور على المنصوب لإظهار كمالِ العنايةِ بالحسنة {أولئك} المنعوتون بالنعوت الجليلةِ والملكات الجميلةِ وهو مبتدأٌ خبُره الجملةُ الظرفية أعني قوله تعالى: {لَهُمْ عقبى الدار} أي عاقبةُ الدنيا وما ينبغي أن يكون مآلُ أمرِ أهلها وهي الجنة، وقيل: الجارُ والمجرور خبرٌ لأولئك و{عقبى الدار} فاعل الاستقرار وأياً ما كان فليس فيه قصرٌ حتى يرِد أن بعضَ ما في حيز الصلةِ ليس من العزائم التي يُخلّ إخلالُها بالموصول إلى حسن العاقبة، والجملةُ خبرٌ للموصولات المتعاطفةِ، صفاتٌ لأولي الألباب عن طريقة المدحِ من غير أن يُقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخلٌ في التذكر.
{جنات عَدْنٍ} بدلٌ من عُقبى الدار أو مبتدأٌ خبرُه {يَدْخُلُونَهَا} والعدْنُ الإقامةُ ثم صار علماً لجنة من الجنات أي جناتٌ يقيمون فيها، وقيل: هو بُطنانُ الجنة {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ} جمعُ أبَوَيْ كل واحد منهم فكأنه قيل: من آبائهم وأمهاتهم {وأزواجهم وذرياتهم} وهو عطفٌ على المرفوع في يدخلون، وإنما ساغ ذلك للفصل بالضمير الآخر، أو مفعولٌ معه، والمعنى إنه يُلحق بهم مَنْ صلح من أهلهم وإن لم يبلُغْ مبلغَ فضلِهم تبعاً لهم تعظيماً لشأنهم، وهو دليلٌ على أنه الدرجةَ تعلو بالشفاعة وأن الموصوفَ بتلك الصفات يُقرن بعضُهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنةِ زيادةً في أُنسهم، وفي التقييد بالصلاح قطعٌ للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ} من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوحِ والتحف قائلين: {سلام عَلَيْكُم} بشارةٌ لهم بدوام السلامة {بِمَا صَبَرْتُمْ} متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامةُ العظمى بما صبرتم أي بسبب صبركم أو بدلُ ما احتملتم من مشاقّ الصبرِ ومتاعبِه، والمعنى لئن تعِبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعةَ، وتخصيصُ الصبر بما ذكر من بين الصلاتِ السابقةِ لما قدّمناه من أن له دخلاً في كل منها ومزيةً زائدةً من حيث إنه ملاكُ الأمر في كل منها وأن شيئاً منها لا يعتد به إلا بأن يكون لابتغاء وجهِ الربّ تعالى وتقدس {فَنِعْمَ عقبى الدار} أي فنعم عقبي الدارِ الجنةُ، وقرئ بفتح النون والأصل نَعَم فسُكّن العين بنقل حركتها إلى النون تارة وبدونه أخرى.
وعن النبي عليه السلام أنه كان يأتي قبورَ الشهداء على رأس كلّ حولٍ فيقول: «سلامٌ عليكم بما صبرتُم فنَعِمَ عُقبى الدَّارِ» وكذا عن الخلفاء الأربعةِ رضوانُ الله عليهم أجمعين.
{والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} أريد بهم مَنْ يقابل الأولين ويعاندهم في الاتصاف بنقائض صفاتِهم {مِن بَعْدِ ميثاقه} من بعدما أوثقوه من الاعتراف والقَبول {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الأيمان بجميع الأنبياءِ المجمعين على الحق حيث يؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعضهم، ومن حقوق الأرحام وموالاةِ المؤمنين وغيرِ ذلك مما لا يراعون حقوقَه من الأمور المعدودةِ فيما سلف، وإنما لم يتعرّض لنفي الخشيةِ والخوفِ عنهم صريحاً لِدلالة النقضِ والقطع على ذلك، وأما عدمُ التعرض لنفي الصبرِ المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققُه في ضمن الحسناتِ المعدودةِ ليقَعْنَ معتدًّا بهن فلا وجه لنفيه عمّن بينه وبين الحسناتِ بعدُ المشرِقين، كما لا وجه لنفي الصلاةِ والزكاة ممن لا يحوم حول أصلِ الإيمان بالله تعالى فضلاً عن فروع الشرائعِ، وإن أريد بالإنفاق التطوعُ فنفيُه مندرجٌ تحت قطعِ ما أمر الله تعالى بوصله، وأما درءُ السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهرٌ مما سبق ولحِق فإن مَنْ يجازي إحسانَه عز وجل بنقض العهد ومخالفةِ الأمر ويباشر الفسادَ بدءاً حسبما يحكيه قوله عز وعلا: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض} أي بالظلم وتهييج الفتنِ كيف يتصور منه مجازاةُ الإساءة بالإحسان على أن ذلك يُشعر بأن له دخلاً في الإفضاء إلى العقوبة التي ينبىء عنها قوله تعالى: {أولئك} الخ، أي أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح {لَهُمْ} بسبب ذلك {اللعنة} أي الإبعادُ من رحمة الله تعالى {وَلَهُمْ} مع ذلك {سُوء الدار} أي سوءُ عاقبة الدنيا أو عذابُ جهنم فإنها دارُهم، لأن ترتيبَ الحكمِ على الموصول مُشعرٌ بعلّية الصلةِ له، ولا يخفى أنه لا دخلَ له في ذلك على أكثر التفاسير، فإن مجازاةَ السيئةِ بمثلها مأذونٌ فيها.
ودفعُ الكلام السييءِ بالحسن وكذا الإعطاءُ عند الظلم والوصلُ عند القطع ليس مما يورِثُ ترْكُه تِبعةً، وأما ما اعتبر اندراجُه تحت الصلةِ الثانيةِ من الإخلال ببعض الحقوقِ المندوبة فلا ضير في ذلك لأن اعتبارَه من حيث إنه من مستتبعات الإخلال بالعزائم بالكفر ببعض الأنبياءِ وعقوقِ الوالدين وتركِ سائر الحقوق الواجبةِ، وتكريرُ لهم للتأكيد والإيذانِ باختلافهما واستقلالِ كل منهما في الثبوت.

.تفسير الآيات (26- 27):

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}
{الله يَبْسُطُ الرزق} أي يوسّعه {لِمَن يَشَاء} من عباده {وَيَقْدِرُ} أي يضيّقه على ما يشاء حسبما تقتضيه الحكمةُ من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في ذلك ولا شعورٌ بحكمته فربما يبسُطه للكافر إملاءً واستدراجاً وربما يضّيقه على المؤمن زيادةً لأجره فلا يُغترَّ ببسطه للكافر كما لا يَقنط بقدره المؤمنُ {وَفَرِحُواْ} أي أهلُ مكة فرَحَ أشَرٍ وبطر، لا فرحَ سرورٍ بفضل الله تعالى {بالحياة الدنيا} وما بُسط لهم فيها من نعيمها {وَمَا الحياة الدنيا} وما يتبعها من النعيم {فِى الاخرة} أي في جنب نعيمِ الآخرة {إِلاَّ متاع} إلا شيءٌ نزْرٌ يُتمتع به كعُجالة الراكب وزادِ الراعي، والمعنى أنهم رضُوا بحظ الدنيا معرِضين عن نعيم الآخرةِ، والحالُ أن ما أشِروا به في جنب ما أعرضوا عنه شيءٌ قليل النفع سريعُ النفاد.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} أي أهلُ مكة، وإيثارُ هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتِهم عقيبَ ذكرِ فرحِهم بالحياة الدنيا لذمهم والتسجيلِ عليهم بالكفر فيما حُكي عنهم من قولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} فإن ذلك في أقصى مراتبِ المكابرةِ والعِناد كأن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات العظامِ الباهرةِ ليس بآية حتى اقترحوا ما تقتضيه الحِكمةُ من الآيات المحسوسةِ التي لا يبقى لأحد بعد ذلك طاقةٌ بعدم القَبول ولذلك أُمر في الجواب بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء} إضلالَه مشيئةً تابعة للحكمة الداعيةِ إليها أي يخلُق فيه الضلال لصرفه اختيارَه إلى تحصيله ويدعُه منهمكاً فيه لعلمه بأنه لا ينجَع فيه اللطفُ ولا ينفعه الإرشاد، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعِناد وشدةِ الشكيمةِ والغلوِّ في الفساد، فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءتْه كلُّ آية {وَيَهْدِى إِلَيْهِ} أي إلى جنابه العليِّ الكبير هدايةً موصِلةً إليه لا دَلالةً مطلقة على ما يوصِل إليه فإن ذلك غيرُ مختصٍ بالمهتدين، وفيه من تشريفهم ما لا يوصف {مَنْ أَنَابَ} أقبل إلى الحق وتأملَ في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحةِ، وحقيقةُ الإنابة الدخولُ في نوبة الخير، وإيثارُ إيرادِها في الصلة على إيراد المشيئةِ كما في الصلة الأولى لا للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعارِ بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة، وفيه حث للكفرة على الأقلاع عما هم عليه من العتو والعِناد، وإيثارُ صيغةِ الماضي للإيماء إلى استدعاء الهدايةِ لسابقة الإنابة كما أن إيثارَ صيغةِ المضارعِ في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئةِ حسب استمرار مكابرتهم.

.تفسير الآيات (28- 30):

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)}
{الذين ءامَنُواْ} بدل ممن أناب فإن أريد بالهداية الهدايةُ المستمرةُ فالأمر ظاهر لظهور كونِ الإيمانِ مؤدياً إليها، وإن أريد إحداثُها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرُهم إلى الإيمان كما في قوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمانُ لا يؤدّي إلى الهداية نفسها، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هم الذين آمنوا أو منصوب على المدح {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} أي تستقر وتسكُن {بِذِكْرِ الله} بكلامه المعجزِ الذي لا ريب فيه كقوله تعالى: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أنزلناه} وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} ويعلمون أن لا آيةَ أعظمُ منه فيقترحوها، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لإفادة دوامِ الاطمئنان وتجدّده حسبَ تجدّدِ الآيات وتعددها {أَلاَ بِذِكْرِ الله} وحده {تَطْمَئِنُّ القلوب} دون غيرِه من الأمور التي تميل إليها النفوسُ من الدنيويات، وهذا ظاهر، وأما سائرُ المعجزات فالقصرُ من حيث إنها ليست في إفادة الطُّمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدْها بمثابة القرآنِ المجيدِ فإنه معجزةٌ باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كلُّ أحد وتطمئن به القلوبُ كافة، وفيه إشعارٌ بأن الكفرةَ ليست لهم قلوبٌ تفقه وأفئدتُهم هواءٌ حيث لم يطمئنوا بذكر الله تعالى ولم يعدّوه آيةً وهو أظهرُ الآياتِ وأبهرُها، وقيل: تطمئن قلوبُهم بذكر رحمتِه ومغفرتِه بعد القلق والاضطرابِ من خشية الله كقوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} أو بذكر دلائلِه الدالةِ على وحدانيته أو بذكره جل وعلا أُنساً به وتبتلاً إليه فالمرادُ بالهداية دوامُها واستمرارُها.
{الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} بدلٌ من القلوب على حذف المضافِ بدلَ الكلِّ حسبما رُمز إليه أي قلوبُ الذين آمنوا، وفيه إيماءٌ إلى أن الإنسان إنما هو القلبُ، أو مبتدأٌ خبرُه الجملة الدعائيةُ على التأويل أعني قوله: {طوبى لَهُمْ} أو خبرُ مبتدإٍ مضمر، أو نُصب على المدح فطوبى لهم حالٌ عاملُها الفعلان وطوبى مصدرٌ من طاب كبُشرى وزُلفى، والواوُ منقلبةٌ من الياء كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي طيبى لتسلم الياء، والمعنى أصابوا خيراً ومحلُّها النصبُ كسلاماً لك أو الرفعُ على الابتداء وإن كانت نكرةً لكونها في معنى الدعاء كسلامٌ عليك، يدل على ذلك القراءة في قوله تعالى: {وَحُسْنُ مَئَابٍ} بالنصب والرفع واللامُ في لهم للبيان مثلها في سُقياً لك.
{كذلك} مثلَ ذلك الإرسالِ العظيمِ الشأن المصحوبِ بهذه المعجزة الباهرة {أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ} أي مضت {مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ} كثيرة قد أُرسل إليهم رسل {لّتَتْلُوَ} لتقرأ {عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من الكتاب العظيمِ الشأن وتهديَهم إلى الحق رحمةً لهم، وتقديمُ المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما في قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}
وفيه ما لا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرِدُ وحسنِ قولها عند ورودِه عليها {وَهُمْ} أي والحالة أنهم {يَكْفُرُونَ بالرحمن} بالبليغ الرحمةِ الذي وسعت كلَّ شيء رحمتُه وأحاطت به نعمتُه. والعدول إلى المُظهر المتعرِّض لوصف الرحمةِ من حيث أن الإرسالَ ناشىءٌ منها كما قال تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} فلم يقدِروا قدرَه ولم يشكروا نِعمَه لاسيما ما أنعم به عليهم بإرسال مثلِك إليهم وأنزل القرآنَ الذي هو مدارُ المنافع الدينية والدنيويةِ عليهم، وقيل: نزلت في مشركي مكةَ حين أُمروا بالسجود فقالوا: وما الرحمن؟
{قُلْ هُوَ} أي الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته {رَبّى} الربُّ في الأصل بمعنى التربية وهي تبليغُ الشيء إلى كمالِه شيئاً فشيئاً ثم وُصف به مبالغةً كالصوم والعدْل، وقيل: هو نعت، أي خالقي ومبلّغي إلى مراتب الكمالِ، وإيرادُه قبل قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي لا مستحقَّ للعبادة سواه تنبيهٌ على أن استحقاقَ العباد منوطٌ بالربوبية، وقيل: «إن أبا جهل سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول: يا الله يا رحمن فرجع إلى المشركين فقال: إن محمداً يدعو إلهين فنزلت»، ونزل قوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} الآية {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري لاسيما في النصرة عليكم لا على أحد سواه {وَإِلَيْهِ} خاصة {مَتَابِ} أي توبتي كقوله تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ} أُمر عليه السلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفةُ الأنبياء وبعثاً للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجهٍ وألطفه فإنه عليه السلام حيث أُمر بها وهو منزّهٌ عن شائبة اقترافِ ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتُهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لابد منه أصلاً وقد فُسّر المتابُ بمطلق الرجوعِ، فقيل: مرجعي ومرجعُكم وزِيد: فيحكُم بيني وبينكم، وقد قيل: فيثيبُني على مصابرتكم فتأمل.