فصل: تفسير الآيات (11- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (11- 12):

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} مجاراةً معهم في أول مقالتِهم وإنما قيل لهم لاختصاص الكلامِ بهم حيث أريد إلزامُهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوعِ الشكِّ في الله سبحانه فإن ذلك عامٌ وإن اختص بهم ما يعقُبه {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} كما تقولون {ولكن الله يَمُنُّ} بالنبوة {على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} يعنون أن ذلك عطيةٌ من الله تعالى يعطيها من يشاء من عباده بمحض الفضلِ والامتنان من غير داعيةٍ توجبه، قالوه تواضعاً وهضماً للنفس أو ما نحن من الملائكة بل نحن بشرٌ مثلُكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس، ولكن الله يمن بالفضائل والكمالاتِ والاستعدادات على من يشاء المنَّ بها وما يشاء ذلك إلا لعلمه باستحقاقه لها، وتلك الفضائلُ والكمالاتُ والاستعدادات هي التي يدور عليها فلكُ الاصطفاء للنبوة {وَمَا كَانَ} وما صح وما استقام {لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان} أي بحجة من الحجج فضلاً عن السلطان المبين بشيء من الأشياء وسببٍ من الأسباب {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} فإنه أمرٌ يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا {وَعَلَى الله} وحده دون ما عداه مطلقاً {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أمرٌ منهم للمؤمنين بالتوكل ومقصودُهم حملُ أنفسِهم عليه آثرَ ذي أثيرٍ، ألا يُرى إلى قوله عز وجل: {وَمَا لَنَا} أيُّ عذرٍ لنا {أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} أي في أن لا نتوكل عليه، ولإظهار النشاطِ بالتوكل عليه والاستلذاذِ بذكر اسمِه تعالى وتعليلِ التوكل {وَقَدْ هَدَانَا} أي والحالُ أنه قد فعل بنا ما يوجبه ويستدعيه حيث هدانا {سُبُلَنَا} أي أرشد كلاًّ منا سبيله ومنهاجَه الذي شرَع له وأوجب عليه سلوكهَ في الدين، وحيث كانت أذيةُ الكفار مما يوجب القلقَ والاضطرابَ القادح في التوكل، قالوا على سبيل التوكيد القسميِّ مظهرين لكمال العزيمة: {وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا اذَيْتُمُونَا} بالعِناد واقتراحِ الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه {وَعَلَى الله} خاصة {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} فليثبُت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل، والمرادُ هو المرادُ مما سبق من إيجاب التوكلِ على أنفسهم، والمرادُ بالمتوكّلين المؤمنون، والتعبيرُ عنهم بذلك لسبق ذكرِ اتصافِهم به ويجوز أن يُرادَ وعليه فليتوكل مَنْ توكل دون غيره.

.تفسير الآيات (13- 14):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} لعل هؤلاء القائلين بعضُ المتمردين العاتين الغالين في الكفر من أولئك الأممِ الكافرة التي نُقِلت مقالاتُهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيبٍ وأضرابِهم ولذلك لم يُقل وقالوا {لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} لم يقنَعوا بعصيانهم الرسلَ ومعاندتهم الحقَّ بعد ما رأوا البيناتِ الفائتةَ للحصر حتى اجترأوا على مثل هاتيك العظيمةِ التي لا يكاد يحيط بها دائرةُ الإمكانِ فحلفوا على أن يكون أحدُ المُحالَيْن، والعَودُ إما بمعنى مطلق الصيرورة أو باعتبار تغليبِ المؤمنين على الرسل، وقد مر في الأعراف وسيأتي في الكهف {فأوحى إِلَيْهِمْ} أي إلى الرسل {رَّبُّهُمْ} مالكِ أمرهم عند تناهي كفرِ الكفرة وبلوغِهم من العتو إلى غاية لا مطمَعَ بعدها في إيمانهم {لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} على إضمار القولِ أو على إجراء الإيحاءِ مُجراه لكونه ضرباً منه.
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض} أي أرضَهم وديارَهم عقوبةً لهم بقولهم: لنُخرجَنّكم من أرضنا كقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها} {مّن بَعْدِهِمْ} أي من بعد إهلاكِهم، وقرئ: {ليُهلكَن} {وليُسكِنَنّكم} بالياء اعتباراً لأوحى، كقولهم: حلف زيد ليخرُجَنّ غداً {ذلك} إشارةٌ إلى الموحى به وهو إهلاكُ الظالمين وإسكانُ المؤمنين ديارَهم أي ذلك الأمرُ محققٌ ثابت {لِمَنْ خَافَ مَقَامِى} موقفي، وهو الموقفُ الذي يقف فيه العبادُ يوم يقومُ الناسُ لرب العالمين، أو قيامي عليه وحفظي لأعماله، وقيل: لفظُ المقام مُقحَمٌ {وَخَافَ وَعِيدِ} وعيدي بالعذاب أو عذابيَ الموعودَ للكفار، والمعنى أن ذلك حقٌّ للمتقين كقوله: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ}

.تفسير الآيات (15- 17):

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}
{واستفتحوا} أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح} أو استحكموا وسألوه القضاءَ بينهم من الفتاحة وهي الحكومةُ كقوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} فالضميرُ للرسل، وقيل: للفريقين فإنهم سألوا أن يُنصَر المحِقُّ ويهلَك المبطل، وهو معطوفٌ على أوحى إليهم وقرئ بلفظ الأمرِ عطفاً على لنهلكن الظالمين، أي أوحى إليهم ربهم لنُهلِكَنّ، وقال لهم: استفتِحوا {وَخَابَ} أي خسِر وهلك {كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} متّصفٍ بضد ما اتصف به المتقون، أي فنُصروا عنداستفتاحِهم وظفِروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد، وهم قومُهم المعاندون فالخيبةُ بمعنى مطلقِ الحِرمان عن المطلوب، أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعُمون أنهم على الحق، أو استفتح الكفارُ على الرسل وخابوا ولم يُفلحوا، وإنما قيل: وخاب كلُّ جبار عنيد ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبّر والعِناد لا أن بعضَهم ليسوا كذلك وأنه لم يُصبْهم الخيبةُ، أو استفتحوا جميعاً فنُصر الرسلُ وأُنجِز لهم الوعدُ وخاب كلّ عاتٍ متمردٍ، فالخيبةُ بمعنى الحرمان غِبَّ الطلب، وفي إسناد الخيبةِ إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة.
{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} أي بين يديه فإنه مُرصَدٌ لها واقفٌ على شفيرها في الدنيا مبعوثٌ إليها في الآخرة، وقيل: من وراء حياتِه وحقيقتِه ما توارى عنك {ويسقى} معطوف على مقدر جواباً عن سؤال سائلٍ، كأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ فقيل: يلقى فيها ويُسقى {مِن مَّاء} مخصوصٍ لا كالمياه المعهودة {صَدِيدٍ} وهو قيحٌ أو دمٌ مختلط بمِدّة يسيل من الجرح، قال مجاهد وغيره: هو ما يسيل من أجساد أهلِ النار، وهو عطفُ بيانٍ لما أُبهم أولاً ثم بُيّن بالصديد تهويلاً لأمره وتخصيصُه بالذكر من بين عذابِها يدور على أنه من أشدّ أنواعِه.
{يَتَجَرَّعُهُ} قيل: هو صفةٌ لماءٍ أو حالٌ منه والأظهر أنه استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال، كأنه قيل: فماذا يفعل به؟ فقيل: يتجرعه، أي يتكلف جَرْعه مرة بعد أخرى لغلبة العطشِ واستيلاء الحرارة عليه {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإساغة بل يغَصّ به فيشربُه بعد اللتيا والتي جرعةً فيطول عذابُه تارةً بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالِ، فإن السَّوغَ انحدارُ الشراب في الحلق بسهولة وقَبولِ نفس، ونفيُه لا يوجب نفيَ ما ذكر جميعاً، وقيل: لا يكاد يدخُله في جوفه، وعبّر عنه بالإساغة لما أنها المعهودةُ في الأشربة وهو حالٌ من فاعل يتجرّعه أو من مفعوله أو منهما جميعاً {وَيَأْتِيهِ الموت} أي أسبابُه من الشدائد {مّن كُلّ مَكَانٍ} ويُحيط به من جميع الجهات أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعرِه وإبهامِ رجله {وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ} أي والحالُ أنه ليس بميت كما هو الظاهرُ من مجيء أسبابِه لاسيما من جميع الجهاتِ حتى لا يتألمُ بما غشِيه من أصناف المُوبقات {وَمِن وَرَائِهِ} من بين يديه {عَذَابٍ غَلِيظٍ} يستقبل كلَّ وقت عذاباً أشدَّ وأشق مما كان قبله، ففيه دفعُ ما يُتوهم من الخِفّة بحسب الاعتيادِ كما في عذاب الدنيا، وقيل: هو الخلودُ في النار، وقيل: هو حبسُ الأنفاس، وقيل: المرادُ بالاستفتاح والخيبةِ استسقاءُ أهلِ مكةَ في سِنيهم التي أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم في ذلك، وقد وعَد لهم بدلَ ذلك صديدَ أهل النار.

.تفسير الآيات (18- 21):

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)}
{مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} أي صفتُهم وحالُهم العجيبةُ الشأنِ التي هي كالمثل في الغرابة، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} كقولك: صفةُ زيدٍ عرضُه مهتوكٌ ومالُه منهوب، وهو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال من قال: ما بالُ أعمالِهم التي عمِلوها في وجوه البرِّ من صلة الأرحامِ، وإعتاقِ الرقاب، وفداءِ الأسارى، وإغاثةِ الملهوفين، وقرى الأضياف، وغير ذلك مما هو من باب المكارم حتى آل أمرُهم إلى هذا المآل؟ فأجيب بأن ذلك كرماد {اشتدت بِهِ الريح} حملتْه وأسرعتْ الذهاب به {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} العصْفُ اشتدادُ الريحِ وصف به زمانُها مبالغةً، كقولك: ليلةٌ ساكرةٌ وإنما السكورُ لريحها شُبّهت صنائعُهم المعدودةُ لابتنائها على غير أساسٍ من معرفة الله تعالى والإيمان به والتوجّه بها إليه تعالى برماد طيّرته الريحُ العاصفةُ، أو استئنافٌ مسوقٌ لبيان أعمالِهم للأصنام، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ كما هو رأيُ سيبويه أي فيما يتلى عليك مَثلُهم، وقوله: أعمالُهم بدلٌ من مَثَلُ الذين، وقوله: كرماد خبرُه {لاَّ يَقْدِرُونَ} أي يوم القيامة {مِمَّا كَسَبُواْ} من تلك الأعمال {على شَىْء} ما، أي لا يرَوْن له أثراً من ثواب أو تخفيفِ عذابٍ كدأب الرماد المذكور، وهو فذلكةُ التمثيل، والاكتفاءُ ببيان عدمِ رؤيةِ الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوباتٍ هائلةً للتصريح ببطلان اعتقادِهم وزعمِهم أنها شفعاءُ لهم عند الله تعالى وفيه تهكّمٌ بهم {ذلك} أي ما دل عليه التمثيلُ دَلالةً واضحةً من ضلالهم مع حُسبانهم أنهم على شيء {هُوَ الضلال البعيد} عن طريق الصواب أو عن نيل الثواب.
{أَلَمْ تَرَ} خطابٌ للرسول صلى الله عليه وسلم والمرادُ به أمتُه، وقيل: لكل أحد من الكفرة لقوله تعالى: {يُذْهِبْكُمْ} والرؤيةُ رؤيةُ القلب وقوله تعالى: {أَنَّ الله خَلَقَ السموات والأرض} سادٌّ مسدَّ مفعوليها، أي ألم تعلمْ أنه تعالى خلقهما {بالحق} ملتبسةً بالحكمة والوجهِ الصحيح الذي يحِق أن تخلَقَ عليه، وقرئ: {خالقُ السموات والأرض} {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يُعدمْكم بالمرة {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي يخلُق بدلكم خلقاً آخرَ مستأنَفاً لا علاقة بينكم وبينهم، رتب قدرتَه تعالى على ذلك على قدرته تعالى على خلق السموات والأرض على هذا النمط البديعِ إرشاداً إلى طريق الاستدلالِ فإن من قدَر على خلق مثلِ هاتيك الأجرامِ العظيمةِ كان على تبديل خلق آخرَ بهم أقدر ولذلك قال: {وَمَا ذلك} أي إذهابُكم والإتيانُ بخلق جديد مكانكم {عَلَى الله بِعَزِيزٍ} بمتعذر أم متعسر فإنه قادرٌ بذاته على الممكِنات لا اختصاصَ له بمقدور دون مقدورٍ، ومَنْ هذا شأنُه حقيقٌ بأن يؤمَنَ به ويرجى ثوابُه ويُخشى عقابه.
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا} أي يبرُزون يوم القيامة، وإيثارُ صيغة الماضي للدَّلالة على تحقق وقوعِه كما في قوله سبحانه: {وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار} أو لأنه لا مُضِيَّ ولا استقبالَ بالنسبة إليه سبحانه، والمرادُ بروزُهم من قبورهم لأمر الله تعالى ومحاسبته، أو لله على ظنهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابِهم الفواحشَ سراً أنها تخفى على الله سبحانه، فإذا كان يومُ القيامة انكشفوا لله عند أنفسِهم {فَقَالَ الضعفاء} الأتباعُ جمع ضعيف، والمرادُ ضعفُ الرأي، وإنما كتب بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة {لِلَّذِينَ استكبروا} لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغوَوْهم {إِنَّا كُنَّا} في الدنيا {لَكُمْ تَبَعًا} في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراضِ عن نصائحهم، وهو جمعُ تابع كغيب في جمع غائب، أو مصدر نُعت به مبالغةً، أو على إضمار أي ذوي تبع {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ} دافعون {عَنَّا} والفاء للدِلالة على سببية الاتباعِ للإغناء، والمرادُ التوبيخُ والعتابُ والتقريعُ والتبكيت {مِنْ عَذَابِ الله مِن شَىْء} من الأولى للبيان واقعةٌ موقعَ الحال، والثانية للتبعيض واقعةٌ موقعَ المفعول، أي بعضُ الشيء الذي هو عذابُ الله تعالى ويجوز كونُهما للتبعيض أي بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذاب الله والإعراب كما سبق ويجوز أن تكون الأولى مفعولاً والثانية مصدراً أي فهل أنتم مغنون عنا بعضَ العذاب بعضَ الإغناء، ويعضُد الأولَ قوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار}.
{قَالُواْ} أي المستكبرون جواباً عن معاتبة الأتباعِ واعتذاراً عما فعلوا بهم {لَوْ هَدَانَا الله} أي للإيمان ووفّقنا له {لَهَدَيْنَاكُمْ} ولكن ضَلَلْنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا، أو لو هدانا الله طريقَ النجاة من العذاب لهديناكم وأغنينا عنكم كما عرّضناكم له، ولكن سُدّ دوننا طريقُ الخلاص ولاتَ حينَ مناص {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا} مما لقِينا {أَمْ صَبَرْنَا} على ذلك أي مستوٍ علينا الجزَعُ والصبرُ في عدم الإنجاء، والهمزةُ وأم لتأكيد التسويةِ كما في قوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} وإنما أسندوهما ونسبوا استواءَهما إلى ضمير المتكلم المنتظِمِ للمخاطبين أيضاً مبالغةً في النهي عن التوبيخ بإعلام أنهم شركاءُ لهم فيها ابتُلوا به وتسليةً لهم، ويجوز أن يكون قوله: {سَوَاء عَلَيْنَا} الخ، من كلام الفريقين على مِنوال قوله تعالى: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ} ويؤيده ما روي أنهم يقولون: تعالَوا نجزَعْ فيجزعون خمسَمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالَوا نصبِرْ فيصبِرون كذلك فلا ينفعهم فعند ذلك يقولون ذلك، ولما كان عتابُ الأتباع من باب الجزَعِ ذيّلوا جوابَهم ببيان أن لا جدوى في ذلك فقالوا: {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} من منجى ومهربٍ من العذاب، من حاص الحمارُ إذا عدل بالفرار، وهو إما اسمُ مكان كالمبيت والمَصيف، أو مصدرٌ كالمغيب والمشيب وهي جملةٌ مفسِّرة لإجمال ما فيه الاستواءُ فلا محل لها من الإعراب، أو حالٌ مؤكدة، أو بدلٌ منه.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)}
{وَقَالَ الشيطان} الذي أضل كِلا الفريقين واستتْبعَهما عندما عتَباه بما قاله الأتباعُ للمستكبرين {لَمَّا قُضِىَ الأمر} أي أُحكم وفُرغ منه، وهو الحسابُ ودخل أهلُ الجنة الجنةَ وأهلُ النار النارَ خطيباً في محفِل الأشقياء من الثقلين {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} أي وعداً من حقه أن يُنجَز فأنجزه، أو وعداً أنجزه وهو الوعدُ بالبعث والجزاء {وَوَعَدتُّكُمْ} أي وعْدَ الباطلِ وهو أن لا بعثَ ولا جزاء، ولئن كان فالأصنامُ شفعاؤُكم ولم يصرِّح ببطلانه لما دل عليه قولُه: {فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي موعدي على حذف المفعولِ الثاني أي نقضتُه، جَعل خُلفَ وعده كالإخلاف منه كأنه كان قادراً على إنجازه وأنى له ذلك {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان} أي تسلّطٍ أو حجةٍ تدل على صدقي {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} إلا دعائي إياكم إليه وتسويلُه، وهو وإن لم يكن من باب السلطان لكنه أبرزه في مبروزه على طريقة:
تحيةٌ بينِهم ضربٌ وجيع

مبالغةً في نفي السلطان عن نفسه كأنه قال: إنما يكون لي عليكم سلطانٌ إذا كان مجردُ الدعاء من بابه، ويجوز كونُ الاستثناء منقطعاً {فاستجبتم لِى} فأسرعتم إجابتي {فَلاَ تَلُومُونِى} بوعدي إياكم حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر والإلجاءِ كما يدل عليه الفاء، وقرئ بالياء على وجه الالتفاتِ كما في قوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} {وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} حيث استجبتم لي باختياركم حين دعوتُكم بلا حجةٍ ولا دليل بمجرد تزيينٍ وتسويل ولم تستجيبوا ربكم إذْ دعاكم دعوةَ الحق المقرونةَ بالبينات والحجج، وليس مرادُه التنصّلَ عن توجه اللائمةِ إليه بالمرة بل بيانُ أنهم أحقُّ بها منه وليس فيه دَلالةٌ على استقلال العبدِ في أفعاله كما زعمت المعتزلة، بل يكفي في ذلك أن يكون لقدرته الكاسبةِ التي عليها يدور فلكُ التكليف مدخلٌ فيه، فإنه سبحانه إنما يخلُق أفعالَه حسبما يختاره وعليه تترتب السعادةُ والشقاوة، وما قيل من أنه يستدعي أن يقال: فلا تلوموني ولا أنفسَكم فإن الله قضى عليكم الكفرَ وأجبركم عليه مبنيٌّ على عدم الفرق بين مذهب أهلِ الحقِّ وبين مسلك الجبرية {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} أي بمُغيثكم مما أنتم فيه من العذاب {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ} مما أنا فيه، وإنما تعرّض لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمالِ مبالغةً في بيان عدم إصراخِه إياهم وإيذاناً بأنه أيضاً مبتلىً بما ابتُلوا به ومحتاجٌ إلى الإصراخ فكيف من إصراخِ الغير، ولذلك آثرَ الجملةَ الاسميةَ فكأن ما مضى كان جواباً منه عن توبيخهم وتقريعِهم، وهذا جوابٌ عن استغاثتهم واستعانِتهم به في استدفاع ما دهِمهم من العذاب وقرئ بكسر الياء.
{إِنّى كَفَرْتُ} اليوم {بِمَا أشْرَكتمون مِن قَبْلُ} أي بإشراككم إياي بمعنى تبرأتُ منه واستنكرتُه كقوله تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} يعني أن إشراكَكم لي بالله سبحانه هو الذي يَطمِعكم في نُصرتي لكم بأن كان لكم عليّ حقٌّ حيث جعلتموني معبوداً وكنت أوَد ذلك وأرغب فيه، فاليوم كفرتُ بذلك ولم أحمَدُه ولم أقبله منكم بل تبرأتُ منه ومنكم فلم يبقَ بيني وبينكم علاقةٌ، أو كفرتُ من قبل حين أبيتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى كما في قوله: سبحان ما سخرّكن لنا، فيكون تعليلاً لعدم إصراخِه فإن الكافرَ بالله سبحانه بمعزل من الإغاثة والإعانة سواءٌ كان ذلك بالمدافعة أو الشفاعة، وأما جعلُه تعليلاً لعدم إصراخِهم إياه فلا وجهَ له إذ لا احتمالَ له حتى يُحتاج إلى التعليل، ولأن تعليلَ عدم إصراخِهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانعُ من جهته.
{إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تتمةُ كلامِه، أو ابتدءُ كلامٍ من جهة الله عز وجل وفي حكاية أمثالِه لطفٌ للسامعين وإيقاظٌ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبّروا عواقبَهم.