فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (46):

{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}
وقوله عز وجل: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعاً، وإنما قُدّم عليه قوله تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال} لشدة ارتباطِه بما قبله أي فعلنا، والحالُ أنهم قد مكروا في إبطال الحقِّ وتقديرِ الباطل مكرَهم العظيمَ الذي استفرغوا في عمله المجهودَ وجاوزوا فيه كل حد معهود، بحيث لا يقدِر عليه غيرُهم، فالمرادُ بيانُ تناهيهم في استحقاق ما فُعل بهم أو قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادئ البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ، فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي جزاءُ مكرِهم الذي فعلوه، على أن المكرَ مضافٌ إلى فاعله، أو أخذُه تعالى بهم على أنه مضاف إلى مفعوله، وتسميتُه مكراً لكونه بمقابلة مكرِهم وجوداً وذِكراً أو لكونه في صورة المكرِ في الإتيان من حيث لا يشعرون، وعلى التقديرين فالمرادُ به ما أفاده قوله عز وجل: {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} لا أنه وعيدٌ مستأنفٌ، والجملةُ حالٌ من الضمير في مكروا أي مكروا مكرَهم وعند الله جزاؤه أو ما هو أعظمُ منه، والمقصودُ بيانُ فسادِ رأيِهم حيث باشروا فعلاً مع تحقق ما يوجب تركَه {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} في العِظَم والشدة {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ، وعبّر عن ذلك بكونه مسوًّى ومُعدًّا لإزالة الجبال عن مقارّها لكونه مثلاً في ذلك، والجملةُ المصدرةُ بأن الوصليةِ معطوفةٌ على جملة مقدرة والمعنى وعند الله جزاءُ مكرهم أو المكرُ الذي يحيق بهم إن لم يكن مكرُهم لتزولَ منه الجبال وإن كان الخ، وقد حُذف ذلك حذفاً مطرداً لدِلالة المذكور عليه دَلالةً واضحةً فإن الشيء إذا تحقق عند وجودِ المانعِ القويِّ فلأن يتحققَ عند عدمِه أولى، وعلى هذه النُكتة يدور ما في أن الوصليةِ من التأكيد المعنوي، والجواب محذوفٌ دل عليه ما سبق وهو قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} وقيل: إنْ نافية واللامُ لتأكيدها كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ} وينصره قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرُهم، فالجملة حينئذ حالٌ من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي مكروا مكرَهم والحالُ أن مكرهم لم يكن لتزولَ منه الجبال على أنها عبارةٌ عن آيات الله تعالى وشرائعِه ومعجزاتِه الظاهرة على أيدي الرسلِ السالفةِ عليهم السلام التي هي بمنزلة الجبالِ الراسياتِ في الرسوخ، وأما كونُها عبارةً عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمرِ القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلَكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خُصّ الخطاب بالمنذرين، وقيل: هي مخففةٌ من إنّ، والمعنى إنه كان مكرُهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات مما ذكر في الآيات والشرائعِ والمعجزات والجملةُ كما هي حال من ضمير مكروا أي مكروا مكرَهم المعهودَ وإنّ الشأنَ كان مكرُهم لإزالة الآياتِ والشرائعِ على أنه لم يكن يصحّ أن يكون منهم مكرٌ كذلك، وكان شأنُ الآياتِ والشرائعِ مانعاً من مباشرة المكرِ لإزالته، وقد قرأ الكسائي: {لَتزولُ} بفتح اللام على أنها الفارقة، والمعنى تعظيمُ مكرِهم فالجملةُ حالٌ من قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي عنده تعالى جزاءُ مكرهم أو المكرُ بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبالُ أي في غاية الشدة، وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ {وإن كاد مكرهم} هذا هو الذي يقتضيه النظمُ الكريم وينساق إليه الطبعُ السليم.
وقد قيل إن الضمير في مكروا للمنذَرين والمرادُ بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} الآية، وغيرُه من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل الوجهَ حينئذ أن يكون قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُواْ} الخ، حالاً من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحالُ أنهم مع ما فعلوا من الإقسام المذكورِ، مع ما ينافيه من السكون في مساكن المهلَكين وتبيّن أحوالُهم وضرْبُ الأمثال قد مكروا مكرَهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجردَ الإقسام الذي وُبِّخوا به بل اجترؤا على مثل هذه العظيمة، وقوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} حالٌ من ضمير مكروا حسبما ذكرنا من قبل، وقوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} مسوقٌ لبيان عدم تفاوتِ الحال في تحقيق الجزاءِ بين كون مكرِهم قوياً أو ضعيفاً كما مر هناك وعلى تقدير كون إنْ نافيةً فهو حال من ضمير مكروا، والجبالُ عبارةٌ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أي وقد مكروا، والحالُ أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائعُ والآياتُ التي هي في القوة كالجبال، وعلى تقدير كونها مخففةً من الثقيلة واللامُ مكسورةٌ يكون حالاً منه أيضاً على معنى أن ذلك المكرَ العظيم منهم كان لهذا الغرض، على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكرٌ كذلك المكر لِما أن شأنَ الشرائعِ أعظم من أن يمكُرَ بها ماكرٌ، وعلى تقدير فتح اللام فهو حالٌ من قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} كما ذكرنا من قبل فليُتأمل.

.تفسير الآية رقم (47):

{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}
{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} لم يرَدْ به والله سبحانه أعلم ما وعده بقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} الآية، وقولِه: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} كما قيل فإنه لا اختصاصَ له بالتعذيب لاسيما الأخرويُّ، بل ما سلف آنفاً من وعده بتعذيب الظالمين بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ} الآية، كما يُفصح عنه الفاءُ الداخلة على النهي الذي أريد به تثبيتُه عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى والتيقّن بإنجاز وعدِه المذكور المقرونِ بالأمر بإنذارهم يوم إتيانِ العذاب المتضمِّنِ لذكر تعذيبِ الأممِ السالفة، بسبب كفرِهم وعصيانِهم رسلَهم بعد ما وعدهم بذلك كما فُصّلت قصةُ كل منهم في القرآن العظيم، فكأنه قيل: وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة، وأخبرناك بما يلقَوْنه من الشدائد، وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا، وبما أجَبْناهم به وقرَعناهم بعدم تأملِهم في أحوال من سبَقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلَهم بإهلاكهم، فدُمْ على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافِنا رسلَنا وعدَنا {أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ لا يماكَر وقادرٌ لا يقادَر {ذُو انتقام} لأوليائه من أعدائه، والجملةُ تعليلٌ للنهي المذكور وتذييلٌ له، وحيث كان الوعدُ عبارةً عما ذكرنا من تعذيبهم خاصة لم يذيَّل بأن يقال: إن الله لا يخلف الميعاد، بل تعرض لوصف العزة والانتقامِ المُشعِرَين بذلك، والمرادُ بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبّر عنه بالمكر.

.تفسير الآيات (48- 49):

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)}
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} ظرفٌ لمضمر مستأنفٌ ينسحب عليه النهيُ المذكور أي ينجزه يوم الخ، أو معطوفٌ عليه نحوُ وارتقب يومَ تبدّل الأرض غيرَ الأرض، أو الانتقام وهو يوم يأتيهم العذابُ بعينه ولكن له أحوالٌ جمّة يُذكر كلَّ مرة بعنوان مخصوص، والتقييدُ به مع عموم انتقامِه للأوقات كلها للإفصاح عما هو المقصودُ من تعذيب الكفرة المؤخرِ إلى ذلك اليوم بموجب الحكمةِ الداعيةِ إليه، وقيل: بدلٌ من {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} أو نُصب باذكرْ أو إضمارِ لا يخلف وعده يوم تبدل الخ، وفيه أيضاً ما في الوجه الثالث من الحاجة إلى الاعتذار، ولا يجوز أن ينتصب بقوله: مخلَف وعدِه لأن ما قبل إنّ لا يعمل فيما بعده، وقيل: هو غيرُ مانع لأن قوله تعالى: {إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام} جملةٌ اعتراضية فلا يبالى بها فاصلاً.
واعلم أن التبديلَ قد يكون في الذات كما في: بدلتُ الدراهمَ دنانيرَ وعليه قوله عز وجل: {بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا} وقد يكون في الصفات كما في قولك: بدلتُ الحلْقةَ خاتماً إذا غيّرتَ شكلها ومنه قوله تعالى: {يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} على بعض الأقوال، والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين. فعن علي رضي الله عنه: تبدل أرضاً من فضة وسمواتٍ من ذهب وعن ابن مسعود رضي الله عنه: تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاءَ نقيةٍ لم يُسفك فيها دمٌ ولم يعمَلْ عليها خطيئة وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي تلك الأرضُ وإنما تُغيّر صفاتُها وأنشد:
وما الناسُ بالناس الذين عهِدتهم ** وما الدارُ بالدار التي كنت تعلمُ

وتبدّلُ السموات بانتثار كواكبها وكسوفِ شمسِها وخسوفِ قمرِها وانشقاقها وكونها أبواباً، ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «تبدل الأرضُ غيرَ الأرض فتبسطُ وتمد مدَّ الأديمِ العُكَاظِيِّ لا ترى فيها عِوجاً ولا أمْتاً» {والسماوات} أي وتبدل السمواتُ غيرَ السموات حسبما مر من التفصيل، وتقديمُ تبديلِ الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظمَ أثراً بالنسبة إلينا.
{وَبَرَزُواْ} أي الخلائق أو الظالمون المدلولُ عليهم بمعونة السباق، والمرادُ بروزُهم من أجداثهم التي في بطون الأرضِ أو ظهورُهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرًّا ويزعُمون أنها لا تظهر، أو يعملون عمل من يزعمُ ذلك، ولعل إسنادَ البروز إليهم مع أنه لأعمالهم للإيذان بتشكّلهم بأشكال تناسبها، وهو معطوفٌ على تبدل، والعدولُ إلى صيغة الماضي للدِلالة على تحقق وقوعِه، أو حالٌ من الأرض بتقدير قد والرابطُ بينها وبين صاحبِها الواو {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} للحساب والجزاء، والتعرُّضُ للوصفين لتهويل الخطبِ وتربيةِ المهابة وإظهار بطلانِ الشركِ، وتحقيقُ الانتقامِ في ذلك اليوم على تقدير كونِه ظرفاً له، وتحقيقُ إتيان العذاب الموعودِ على تقدير كونِه بدلاً من يوم يأتيهم العذاب فإن الأمرَ إذا كان لواحد غلاّبٍ لا يعار وقادر لا يُضارّ ولا يغار كان في غاية ما يكون من الشدة والصعوبة.
{وَتَرَى المجرمين} عطف على برزوا، والعدولُ إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على الاستمرار، وأما البروزُ فهو دفعيٌّ لا استمرار فيه وعلى تقدير حاليةِ برزوا فهو معطوفٌ على تبدل ويجوز عطفُه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونِه ينجزه {يَوْمَئِذٍ} يومَ إذ برزوا له عز وجل أو يوم إذ تبدل الأرضُ أو يوم يُنجِز وعدَه {مُقْرِنِينَ} قُرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في الجرائم والجرائر، أو قُرنوا مع الشياطين الذين أغوَوْهم أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملَكات الردِيّة والأعمال السيئة غِبَّ تصور كلَ منها وتشكلهما بما يناسبهما من الصور الموحشة والأشكال الهائلة، أو قرنت أيديهم وأرجلُهم إلى رقابهم وهو حال من المجرمين {فِى الأصفاد} في القيود أو الأغلال، وهو إما متعلقٌ بقوله تعالى: {مُقْرِنِينَ} أو حال من ضميره أي مصفّدين.

.تفسير الآيات (50- 51):

{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)}
{سَرَابِيلُهُم} أي قُمصانهم {مّن قَطِرَانٍ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر محلُّها النصبُ على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم في مقرنين رابطتها الضمير فقط كما في كلمتُه فوه إلى فيَّ، أو مستأنفة، والقطران ما ينحلب من الأيهل فيطبخ فتُهنَأُ به الإبلُ الجربى فيحرق الجرَبَ بما فيه من الحِدّة الشديدة، وقد تصل حرارتُه إلى الجوف وهو أسودُ منتِنٌ يسرع فيه اشتعالُ النار يطلى به جلودُ أهل النار حتى يعودَ طلاؤُه لهم كالسراويل ليجتمع عليهم الألوانُ الأربعة من العذاب لذعُه وحرقتُه وإسراعُ النار في جلودهم واللونُ الموحش والنتَنُ على أن التفاوت بينه وبين ما نشاهده وبين النارين لا يكاد يقادَر قدرُه فكأن ما نشاهده منهما أسماءُ مسمَّياتِها في الآخرة، فبِكَرمه العميمِ نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ ويحتمل أن يكون ذلك تمثيلاً لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديةِ والهَنات الوحشية فتجلُب إليها الآلام والغموم بل وأن يكون القطِرانُ المذكور عينَ ما لابسوه في هذه النشأة وجعلوا شعاراً لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسّدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعةِ لاشتداد العذاب عصَمنا الله سبحانه عن ذلك بمنه ولُطفه، وقرئ: {قطرآنٍ} أي نحاس مُذابٍ مُتناهٍ حرُّه.
{وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} أي تعلوها وتحيط بها النارُ التي تمس جسدَهم المسَرْبلَ بالقطِران، وتخصيصُ الوجوه بالحكم المذكورِ مع عمومه لسائر أعضائِهم لكونها أعزَّ الأعضاء الظاهرةِ وأشرفَها كقوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب} الخ، ولكونها مجمعَ المشاعرِ والحواسّ التي خُلقت لإدراك الحق وقد أعرضوا عنه ولم يستعملوها في تدبره، كما أن الفؤادَ أشرفُ الأعضاء الباطنةِ ومحلُّ المعرفة وقد ملؤوها بالجهالات، ولذلك قيل: {تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة} أو لخلوّها عن القطِران المغني عن ذكر غشيانِ النار لها، ولعل تخليتَها عنه ليتعارفوا عند انكشافِ اللهب أحياناً ويتضاعف عذابُهم بالخزي على رؤوس الأشهاد، وقرئ: {تَغَشَّى} أي تتغشى بحذف إحدى التاءين، والجملةُ نصبٌ على الحالية لا على أن الواو حاليةٌ لأنه مضارعٌ مثبَتٌ بل على أنها معطوفةٌ على الحال قاله أبو البقاء.
{لّيَجْزِىَ الله} متعلقٌ بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزِيَ {كُلُّ نَفْسٍ} مجرمةٍ {مَّا كَسَبَتْ} من أنواع الكفرِ والمعاصي جزاءً موافقاً لعملها، وفيه إيذانٌ بأن جزاءَهم مناسبٌ لأعمالهم، أو بقوله: برزوا على تقدير كونِه معطوفاً على تُبدّل، والضمير للخلق، وقوله: وترى المجرمين الخ، اعتراضٌ بين المتعلِّق والمتعلَّق به أي برزوا للحساب ليجزيَ الله كلَّ نفس مطيعةٍ أو عاصية ما كسبت من خير أو شر، وقد اكتُفي بذكر عقاب العُصاة تعويلاً على شهادة الحال لاسيما مع ملاحظة سبق الرحمةِ الواسعة {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} إذ لا يشغَله شأنٌ عن شأن فيُتمُّه في أعجل ما يكون من الزمان فيوفّي الجزاءَ بحسبه، أو سريعُ المجيء يأتي عن قريب، أو سريعُ الانتقام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب}

.تفسير الآية رقم (52):

{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}
{هذا} أي ما ذكر من قوله سبحانه: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا} إلى قوله: {سَرِيعُ الحساب} {بَلاَغٌ} كفايةٌ في العظة والتذكيرِ من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورةُ الكريمة أو كلُّ القرآن المجيدِ من فنون العظات والقوارعِ {لِلنَّاسِ} للكفار خاصةً على تقدير اختصاصِ الإنذار بهم في قوله تعالى: {وَأَنذِرِ الناس} أو لهم وللمؤمنين كافةً على تقدير شمولِه لهم أيضاً وإن كان ما شرح مختصاً بالظالمين {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} عطفٌ على مقدر واللامُ متعلقةٌ بالبلاغ أي كفاية لهم في أن يُنصَحوا أو ينذَروا به، أو هذا بلاغٌ لهم ليفهموه ولينذَروا به، على أن البلاغَ بمعنى الإبلاغ كما في قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} أو متعلقة بمحذوف أي ولينذَروا به أُنزل أو تُليَ، وقرئ: {لينذروا به} من نذر بالشيء إذا علِمه وحذِره واستعدّ له.
{وَلِيَعْلَمُواْ} بالتأمل فيما فيه من الدلائل الواضحةِ هي إهلاكُ الأمم وإسكانُ آخرين في مساكنهم، وغيرُهما مما سبق ولحِق {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} لا شريكَ له، وتقديمُ الإنذار لأنه الداعي إلى التأمل المؤدِّي إلى ما هو غايةٌ له من العلم المذكور والتذكر في قوله تعالى: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي ليتذكروا ما كانوا يعملونه من قبلُ من التوحيد وغيرِه من شؤون الله عز وجل ومعاملتِه مع عباده فيرتدعوا عما يُرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفارُ ويتدرعوا بما يُحظيهم من العقائد الحقةِ والأعمال الصالحةِ، وفي تخصيص التذكرِ بأولي الألباب تلويحٌ باختصاص العلمِ بالكفار ودَلالةٌ على أن المشارَ إليه بهذا ما ذكرنا من القوارع المَسوقةِ لشأنهم لا كلُّ السورةِ المشتملةِ عليها على ما سيق للمؤمنين أيضاً، فإن فيه ما يفيدهم فائدةً جديدةً، وحيث كان ما يفيده البلاغُ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمراً حادثاً وبالنسبة إلى أولي الألباب الثباتَ على ذلك حسبما أُشير إليه عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكر، ورُوعيَ ترتيبُ الوجودِ مع ما فيه من الختم بالحسنى والله سبحانه أعلم.. ختم الله لنا بالسعادة والحسنى ورزقنا الفوز بمرضاته في الأولى والعقبى آمين.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورةَ إبراهيمَ أعطيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بعدد مَنْ عبدَ الأصنامَ ومن لم يعبُدْ» والحمد لله وحده.