فصل: تفسير الآيات (27- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (27- 29):

{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)}
{والجآن} أبا الجن وقيل ابليس ويجوز أ، يراد به الجنس كما هو الظاهر من الانسان لأن تشغب الجنس لما كان من فردواحد مخلوق من مادة واجدة كان الجنس بأسره مخلوقاً منها وقرئ بالهمزة وانتصابه بفعل يفسره {خَلَقْنَاهُ} وهو أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية {مِن قَبْلُ} من قبل خلق الانسان ومن هذا يظهر جواز كون المراد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله منكم للكل {مِن نَّارِ السموم} من نار الجر الشديد النافذ في المسام ولا امتناع من خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا امتناع من خلقها في الجواهر المجردة فضلاً عن الأجسام المؤلفة التي غالب أجزائها الجزء الناري فانها أقبل لها من التي غالب أجزائها الجزء الأرضي وقوله تعالى من نار باعتبار الغالب كقوله تعالى خلقكم من تراب ومساق الآية الكريمة كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر وهو قبول المواد للجميع والاحياء.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} نصب بإضمار ذكر وتذكير الوقت لما مر مراراً من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه من الحوادث وفي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن تبليغ الشيء إلى كماله اللائق به شيئاً فشيئاً مع الاضافة الى ضميره عليه الصلاة والسلام اشعار بعلة الحكم وتشريف له عليه الصلاة والسلام أي اذكر وقت قوله تعالى: {لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ} فيما سيأتي وفيه ما ليس في صيغة الماضرع من الدلالة على أنه تعالى فاعل له البتة من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلونه {بَشَراً} أي انساناً قيل ليس هذا عين العبارة الجارية وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم اني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم وقيل حسماً كثيفاً يلاقي ويباشر وقيل خلقاً بادى البشر بلا صوف ولا شعرة {مِّن صَلْصَالٍ} متعلق بخالق أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله أي بشراً كائناً من صلصال كائن {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} تقدم تفسيره ولا ينافي هذا ما في قوله تعالى في سورة ص من قوله بشراً من طين فإن عدم التعرض عند الحكاية لوصف الطين من التغير والأسود ولما ورد عليه من آثار التكوين لا يستلزم عدم التعرض لذلك عند وقوع المحكى غايته أنه لم يتعرض له هناك اكتفاء بما شرح ههنا.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي صورته بالصورة الانسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} النفخ اجراء الريح الى تجويف جسم صالح لامساكها والامتلاء بها وليس ثمة نفخ ولا منفوخ وانما هو تمثيل لافاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها أي فاذا كملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح التي هي من أمري {فَقَعُواْ لَهُ} أمر من وقع يقع وفيه دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل أي اسقطوا له {سَاجِدِينَ} تحية له وتعظيماً أو اسجدوا لله تعالى على أنه عليه الصلاة والسلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيه تعاجيب آثار قدرته تعالى حكمته كقول حسان رضي الله تعالى عنه:
أليس أول من صلى لقبلتكم ** وأعلم الناس بالقرآن والسنن

.تفسير الآيات (30- 32):

{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)}
{فَسَجَدَ الملائكة} أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد الملائكة {كُلُّهُمْ} بحيث لم يشذ منهم أحد {أَجْمَعُونَ} بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد ولا اختصاص لافادة هذا المعنى بالحالية بل يفيده التأكيد أيضاً فإن الاشتقاق الواضح يرشد الى أن فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع والأصل في الخطاب التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا ريب في أن السجود معاً أكمل أصناف السجود لكن شاع استعماله تأكيداً وأقيم مقام كل في افادة معنى الاحاطة من غير نظر الى الكمال فإذا فهمت الاحاطة من لفظ آخر لم يكن بد من مراعاة الأصل صونا للكلام عن الالغاء وقيل أكد بتأكيدين مبالغة في التعميم هذا وأما ان سجودهم هذا هل ترتب على ما حكى من الأمر التعليقي كما تقتضيه هذه الآية الكريمة والتي في سورة ص أو على الأمر التنجيزي كما يستدعيه ما في غيرهما فقد خرجنا بفضل الله عز وجل عن عهدة تحقيقه في تفسير سورة البقرة.
{إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناء متصل إما لأنه كان جنياً مفرداً مغموراً بألوف من الملائكة فعد منهم تغليباً واما لأن من الملائكة جنساً يتوالدون وهو منهم وقوله تعالى: {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع النردد به علم أنه مع الاباء والاستكبار أو منقطع فيتصل به ما بعده أي لكن ابليس أبى ان يكون معهم وفيه دلالة على كمال ركاكة رأيه حيث أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم عليه الصلاة والسلام ومفارقة الجماعة والاباء عن الانتظام في سلك أولئك المقربين الكرام {قَالَ} استئناف مبنى على سؤال من قال فماذا قال الله تعالى عند ذلك فقيل قال: {يا إبليس مَا لَكَ} اي أي سبب لك لاأي غرض لك كما قيل لقوله تعالى ما منعك {أَلاَّ تَكُونَ} في أن لا تكون {مَعَ الساجدين} لآدم مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم وما كان التوبيخ عند وقوعه لمجرد تخلفه عنهم بل لكل من المعاصي الثلاث المذكورة قال تعالى في سورة الأعراف: {قال ما منعك أن لا تسجد اذ أمرتك} وفي سورة ص: {قال يا ابليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ولكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اجتراء بما ذكر في مواطن آخر واشعار بأن كل واحدة من تلك المعاصي الثلاث كافية في التوبيخ واظهار بطلان ما ارتكبته وقد تركت حكاية التوبيخ رأساً في سورة البقرة وسورة بني اسارئيل وسورة الكهف وسورة طه.

.تفسير الآيات (33- 36):

{قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)}
{قَالَ} أي ابليس وهو أيضاً استئناف مبنى على السؤال الذي ينساق اليه الكلام {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ} اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني لأني مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها أن اسجد {لِبَشَرٍ} أي جسم كثيف {خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} اقتصر هاهنا على الاشارة الاجمالية الى ادعاء الخيرية وشرف المادة اكتفاء بما صرح به حين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يكتف اللعين بمجرد ذكر كونه عليه الصلاة والسلام من التراب الذي هو أخس العناصر وأسفلها بل تعرض لكونه مخلوقاً منه في أخس أحواله من كونه طينا متغيرا وقد اكتفى في سورة الاعراف وسورة ص بما حكى عنه هاهنا فاقتصر على حكاية تعرضه لخلقه عليه الصلاة والسلام من طين وكذا في سورة بنى اسرائيل حيث قيل: {أأسجد لمن خلقت طيناً} وفي جوابه دليل على أن قوله تعالى: {مالك} ليس استفسارا عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قال لم أمتنع عن امتثال الأمر ولا عن الانتظام في سلك الملائكة بل عما لا يليق بشأنى من الخضوع للمفضول ولقد جرى خذله الله تعالى على سنن قياس عقيم وزل عنه أن ما يدور عليه فلك الفضل والكمال هو التحلي بالمعارف الربانية والتخلي عن الملكات الردية التي أقبحها التكبر والاستعصاء على أمر رب العالمين جلا جلاله.
{قَالَ فاخرج مِنْهَا} أي من زُمرة الملائكةِ المعزّزين لا من السماء، فإن وسوسته لآدمَ عليه الصلاة والسلام في الجنة إنما كانت بعد هذا الطرد، وقوله تعالى: {فاهبط مِنْهَا} ليس نصًّا في ذلك، فإن الخروجَ من بين الملإ الأعلى هبوطٌ وأيُّ هبوط، أو من الجنة على أن وسوستَه كانت بطريق النداءِ من بابها كما رُوي عن الحسن البصْري، أو بطريق المشافهة بعد أن احتال في دخولها وتوسّل إليه بالحيّة كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولا ينافي هذا طردَه على رؤوس الأشهاد لما يقتضيه من الحِكَم البالغة {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مطرودٌ من كل خير وكرامةٍ، فإن من يُطرَدْ يُرجَمْ بالحجارة، أو شيطان يُرجَمُ بالشهب وهو وعيدٌ يتضمن الجوابَ عن شبهته، فإن مَن عارض النصَّ بالقياس فهو رجيم ملعون.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة} الإبعادَ عن الرحمة، وحيث كان ذلك من جهة الله سبحانه وإن كان جارياً على ألسنة العبادِ، قيل: في سورة ص {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} {إلى يَوْمِ الدين} إلى يوم الجزاء والعقوبةِ، وفيه إشعارٌ بتأخير عقابِه وجزائِه إليه، وأن اللعنة مع كمال فظاعتِها ليست جزاءً لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ، وفيه من التهويل ما لا يوصف، وجعلُ ذلك أقصى أمدِ اللعنة ليس لأنها تنقطع هنالك، بل لأنه عند ذلك يعذَّب بما يَنسى به اللعنة من أفانين العذابِ، فتصير هي كالزائل.
وقيل: إنما حدت به لأنه أبعدُ غاية يُضَرّ بها الناسُ كقوله تعالى: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} وحيث أمكن كونُ تأخير العقوبةِ مع الموت كسائر من أُخِّرت عقوباتُهم إلى الآخرة من الكفرة، طلب اللعينُ تأخيرَ موتِه كما حُكي عنه بقوله تعالى: {قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى} أي أمهلني وأخِّرْني ولا تُمِتْني، والفاء متعلقٌ بمحذوف ينسحب عليه الكلام، أي إذْ جعلتني رجيماً فأمهلني {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي آدمُ وذريتُه للجزاء بعد فنائِهم، وأراد بذلك أن يجد فُسحة لإغوائهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموت لاستحالته بعد يوم البعث.

.تفسير الآيات (37- 38):

{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} ورودُ الجوابِ بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يُؤذِنُ بكون السائلِ تبعاً لهم في ذلك، دليلٌ على أنه إخبارٌ بالإنظار المقدر لهم أزلاً، لا إنشاءٌ لإنظار خاصَ به وقع إجابةً لدعائه، أي إنك من جملة الذين أُخّرت آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيه حكمةُ التكوين، فالفاءُ ليست لربط نفس الإنظار بالاستنظار بل لربط الإخبارِ المذكور به، كما في قوله:
فإن ترحم فأنت لذاك أهل

فإنه لا إمكان لجعل الفاءِ فيه لربط ما فيه تعالى من الأهلية القديمةِ للرحمة بوقوع الرحمةِ الحادثة، بل هي لربط الإخبار بتلك الأهليةِ للرحمة بوقوعها، وأن استنظاره كان طلباً لتأخير الموتِ إذ به يتحقق كونُه من جملتهم، لا لتأخير العقوبه كما قيل، ونظمه في ذلك في سلك من أُخِّرت عقوبتُهم إلى الآخرة في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحِق من الثقلين لا يلائم مقامَ الاستنظار مع الحياة، ولأن ذلك التأخيرَ معلومٌ من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث كما عرفته، وفي سورة الأعراف: {قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين} بترك التوقيتِ والنداءِ، والفاء في الاستنظار والإنظارِ تعويلاً على ما ذكر هاهنا، وفي سورة ص، فإن إيراد كلامٍ واحد على أساليبَ متعددةٍ غيرُ عزيزٍ في الكتاب العزيز، وأما أن كل أسلوب من أساليب النظم الكريمِ لابد أن يكون له مقامٌ يقتضيه مغايرٌ لمقام غيره، وأن ما حُكي من اللعين إنما صدر عنه مرة وكذا جوابُه لم يقع إلا دَفعةً، فمقامُ المجاورة إن اقتضى أحدَ الأساليبِ المذكورة فهو المطابقُ لمقتضى الحال والبالغُ إلى طبقة الإعجاز وما عداه قاصرٌ عن رتبة البلاغة فضلاً عن الارتقاء إلى معالم الإعجازِ، فقد مر تحقيقه بتوفيق الله تعالى في سورة الأعراف.
{إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} وهو وقتُ النفخة الأولى التي علم أنه يَصْعَق عندها من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله تعالى، ويجوز أن يكون المرادُ بالأيام واحداً، والاختلافُ في العبارات لاختلاف الاعتباراتِ، فالتعبيرُ بيوم البعث لأن غرض اللعين يتحقق، وبيوم الدين لما ذُكر من الجزاء، وبيوم الوقت المعلومِ لما ذُكر أو لاستئثاره تعالى بعلمه فلعل كلاًّ من هلاك الخلق جميعاً وبعثهم وجزائِهم في يوم واحد، يموت اللعينُ في أوله ويُبعث في أواسطه ويعاقب في بقيته. يُروى أن بين موتِه وبعثه أربعين سنةً من سِني الدنيا مقدارَ ما بين النفختين، ونقل عن الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى أنه قال: قدِمتُ المدينة أريد أميرَ المؤمنين عمرَ رضي الله تعالى عنه، فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعبُ الأحبار فيها يحدث الناس وهو يقول: لما حضر آدمَ عليه الصلاة والسلام الوفاةُ قال: يا رب سيشمت بي عدوي إبليسُ إذا رآني ميتاً وهو مُنْظَرٌ إلى يوم القيامة، فأجيب أنْ يا آدمُ إنك سترِد إلى الجنة ويؤخَّر اللعينُ إلى النظرة ليذوقَ ألمَ الموتِ بعدد الأولين والآخِرين، ثم قال لملك الموت: صِفْ كيف تذيقه الموتَ، فلما وصفه قال: يا رب حسبي.
فضجّ الناسُ وقالوا: يا أبا إسحاقَ كيف ذلك؟ فأبى، فألحّوا فقال: يقول الله سبحانه لملك الموت عقِبَ النفخةِ الأولى: قد جعلت فيك قوةَ أهلِ السموات السبع، وأهلِ الأرضينَ السبعِ، وإني ألبستُك اليوم أثوابَ السخط والغضب كلَّها، فانزِلْ بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليسَ فأذِقْه الموتَ واحمِلْ عليه فيه مرارةَ الأولين والأخِرين من الثقلين أضعافاً مضاعفةً، وليكن معك من الزبانية سبعون ألفاً قد امتلأوا غيظاً وغضباً، وليكن مع كل منهم سلسلةٌ من سلاسل جهنم وغُلٌّ من أغلالها، وأنزل روحَه المُنتنَ بسبعين ألفَ كلاب من كلاليبها، ونادِ مالكاً ليفتح أبواب النيران فينزل ملكُ الموت بصورة لو نظر إليها أهلُ السموات والأرضين لماتوا بغتةً من هولها، فينتهي إلى إبليس فيقول: قف لي يا خبيثُ لأُذيقنّك الموت كم من عمر أدركتَ وقرونٍ أضللتَ وهذا هو الوقتُ المعلوم، قال: فيهرُب اللعين إلى المشرِق فإذا هو بملك الموت بين عينيه، فيهرُب إلى المغرِب فإذا هو به بين عينيه، فيغوص البحارَ فتنز منه البحارُ فلا تقبله، فلا يزال يهرُب في الأرض ولا محيصَ له ولا ملاذ، ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدمَ ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط في آدمُ عليه الصلاة والسلام، وقد نَصبت له الزبانية الكلاليبَ وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب، ويبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى، ويقال لآدمَ وحواءَ: اطَّلِعا اليوم إلى عدوكما كيف يذوق الموت، فيطّلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان: ربنا أتممتَ علينا نعمتك.

.تفسير الآيات (39- 40):

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}
{قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} الباء للقسم وما مصدريةٌ والجواب {لأزَيّنَنَّ لَهُمْ} أي أقسم بإغوائك إيايَ لأزينن لهم المعاصيَ {فِى الأرض} أي في الدنيا التي هي دارُ الغرور كقوله تعالى: {أَخْلَدَ إِلَى الأرض} وإقسامُه بعزة الله المفسَّرةِ بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامَه بهذا، فإنه فرْعٌ من فروعها وأثرٌ من آثارها، فلعله أقسم بهما جميعاً فحُكي تارة قسمُه بهذا وأخرى بذاك، أو للسببية، وقوله: لأزينن، جوابُ قسمٍ محذوف، والمعنى بسبب تسبُّبِك لإغوائي أقسم لأفعلن بهم مثلَ ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم بتزيين المعاصي وتسويلِ الأباطيل، والمعتزلةُ أوّلوا الإغواءَ بالنسبة إلى الغيّ أو التسببب له لأمره إياه بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام، واعتذروا عن إمهال الله تعالى وتسليطِه له على إغواء بني آدم بأنه تعالى قد علِم منه وممن تبِعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار، أُمهل أم لم يُمهَل، وأن في إمهاله تعويضاً لمن خالفه لاستحقاق مزيدِ الثواب {وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} لأحمِلنّهم على الغواية.
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} الذين أخلصتَهم لطاعتك وطهَّرتَهم من الشوائب، فلا يعملُ فيهم كيدي، وقرئ بكسر اللام، أي الذين أخلصوا نفوسَهم لله تعالى.