فصل: تفسير الآيات (88- 91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (88- 91):

{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91)}
{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} لا تطمَحْ ببصرك طُموحَ راغب ولا تُدِمْ نظرك {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} من زخارفِ الدنيا وزينتها ومحاسنِها وزَهْرتِها {أزواجا مّنْهُمْ} أصنافاً من الكفرة فإن ما في الدنيا من أصناف الأموالِ والذخائر بالنسبة إلى ما أوتيتَه مستحقَرٌ لا يُعبأ به أصلاً، وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه: مَنْ أوتيَ القرآنَ فرآى أن أحداً أوتيَ أفضل مما أوتي فقد صغّر عظيماً وعظّم صغيراً وروي أنه وافَتْ من بصرى وأذْرِعاتَ سبعُ قوافلَ ليهود بني قُريظةَ والنّضِير فيها أنواعُ البَزِّ والطيب والجواهر وسائرُ الأمتعة فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموالُ لنا لتقوَّيْنا بها وأنفقناها في سبيل الله، فقيل لهم: قد أُعطِيتم سبعَ آياتٍ وهي خير من هذه القوافل السبْع {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} حيث لم يؤمنوا ولم ينتظِموا أتباعك في سلك ليتقوى بهم ضعفاءُ المسلمين، وقيل: أو أنهم المتمتعون به ويأباه كلمة على فإن تمتّعهم به لا يكون مداراً للحزن عليهم {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تواضَعْ لهم وارفُق بهم وألِنْ جانبك لهم وطِبْ نفساً من إيمان الأغنياء.
{وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين} أي المنذِرُ المُظْهِر لنزول عذاب الله وحلولِه {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} قيل: إنه متعلق بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتيناك} الخ، أي أنزلنا عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب.
{الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ} أي قسَموه إلى حق وباطل، حيث قالوا عِناداً وعدواناً: بعضُه حقٌّ موافقٌ للتوراة والإنجيل، وبعضُه باطلٌ مخالفٌ لهما، أو اقتسموه لأنفسهم استهزاءً حيث كان يقول بعضُهم: سورةُ البقرة لي، وبعضُهم: سورةُ آلِ عمران لي وهكذا، أو قسموا ما قرأوا من كتبهم وحرّفوه فأقرّوا ببعضه وكذبوا ببعضه، وحُمل توسيطُ قوله تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} على إمداد ما هو المرادُ بالكلام من التسلية، وعُقّب ذلك بأنه جلّ المقامُ عن التشبيه، ولقد أوتيَ عليه الصلاة والسلام ما لم يؤتَ أحدٌ قبله ولا بعده مثلَه، وقيل: إنه متعلق بقوله: {إِنّى أَنَا النذير المبين} فإنه في قوة الأمرِ بالإنذار، كأنه قيل: أنذِرْ قريشاً مثلَ ما أنزلنا على المقتسمين، يعني اليهودَ، وهو ما جرى على بني قريظةَ والنضير بأن جُعل المتوقَّعُ كالواقع وقد وقع كذلك، وأنت خبيرٌ بأن ما يُشبَّه به العذابُ المنذَرُ لابد أن يكون محققَ الوقوعِ معلومَ الحالِ عند المنذَرين إذ به تتحققُ فائدةُ التشبيهِ، وهي تأكيدُ الإنذار وتشديدُه، وعذابُ بني قريظةَ والنضير مع عدم وقوعِه إذ ذاك لم يسبِقْ به وعدٌ ووعيد فهم منه في غفلة محضةٍ وشك مُريب، وتنزيلُ المتوقَّع منزلةَ الواقع له موقعٌ جليلٌ من الإعجاز لكن إذا صادف مقاماً يقتضيه كما في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} ونظائرِه. على أن تخصيصَ الاقتسام باليهود بمجرد اختصاصِ العذاب المذكور بهم مع شِرْكتهم للنصارى في الاقتسام المتفرِّع على الموافقة والمخالفة، وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشاملِ للكتابين بل تخصيصُ العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقتسامِ تخصيصٌ من غير مخصِّص، وقد جُعل الموصولُ مفعولاً أولَ لأنذر أي أنذر المُعَضِّين الذين يجزّئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطيرَ، مثلَ ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشرَ الذين اقتسموا مداخلَ مكة أيام الموسم فقعد كل منهم في مدخل لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضُهم: لا تغترّوا بالخارج منا فإنه ساحرٌ، ويقول الآخر: كذابٌ، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر، وقبله بآفات وفيه مع ما فيه من الاشتراك لما سبق في عدم كون العذابِ الذي شُبه به العذابُ المنذَرُ واقعاً ولا معلوماً للمنذَرين ولا موعودَ الوقوع أنه لا داعيَ إلى تخصيص وصفِ التعضِيةِ بهم وإخراجِ المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوةً لهم في ذلك، فإن وصفهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصفوا من السحر والشعر والكذب متفرعٌ على وصفهم للقرآن بذلك، وهل هو إلا نفسُ التعضيةِ، ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذارِ على ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يُشبه به عذابُ غيرِهم ولا مخصوصاً بهم، بل عامًّا لكلا الفريقين وغيرِهم مع أن بعضَ المنذَرين كالوليد بنِ المغيرةَ والعاصِ بن وائل والأسودِ بن المطلب قد هلكوا قبل مهلِك أكثرِ المقتسمين يوم بدر، ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى، وقيل: إنه وصفٌ لمفعول النذيرِ أقيمَ مُقامه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل مكة كما حرر.
وفيه مع ما مر أن قوله تعالى: {كَمَآ أَنْزَلْنَا} صريحٌ في أنه من قول الله تعالى لا من قول الرسول عليه الصلاة والسلام، والاعتذارُ بأن ذلك من باب ما يقوله بعضُ خواصِّ المَلِك أُمرْنا بكذا وإن كان الأمرُ هو الملكَ حسبما سلف في قوله تعالى: {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} تعسُّفٌ لا يخفى، وأن إعمالَ الوصفِ الموصوف مما لم يجوِّزْه البصريون فلابد من الهرب إلى مسلك الكوفيين، أو المصير إلى جعله مفعولاً غيرَ صريح أي أنا النذيرُ المبين بعذاب مثلِ عذاب المقتسمين، وقيل: المراد بالمقتسمين الرهطُ الذين تقاسموا على أن يبيّتوا صالحاً عليه الصلاة والسلام فأهلكهم الله تعالى، وأنت تدري أن عذابَهم حيث كان متحققاً ومعلوماً للمنذرين حسبما نطق به القرآنُ العظيم صالحٌ لأن يقعَ مشبَّهاً به العذابُ المنذَر، لكن الموصولَ المذكورَ عَقيبَه حيث لم يمكن كونُه صفةً للمقتسمين حينئذ، فسواءٌ جعلناه مفعولاً أول للنذير أو لما دل هو عليه من أنذر لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة، لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلّية الصلة والصفةِ للحكم الثابتِ للموصول والموصوف، فلا يكون هناك وجهُ شبَهٍ يدور عليه تشبيهُ عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكِهم في السبب فإن المُعَضّين بمعزل من التقاسم على التبييت الذي هو السبب لهلاك أولئك، كما أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء، ولا علاقة بين السببين مفهوماً ولا وجوداً تصحّح وقوعَ أحدِهما في جانب والآخرِ في جانب، واتفاقُ الفريقين على مطلق الاتفاقِ على الشر المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييتُ المدلولُ المدلولُ عليه بالتقاسم غيرُ مفيد إذ لا دِلالةَ لعنوان التعضيةِ على ذلك وإنما يدل عليه اقتسامُ المداخِلِ، وجعلُ الموصولِ مبتدأً على أن خبرَه الجملةُ القسَميةُ لا يليق بجزالة التنزيلِ وجلالة شأنِه الجليل.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأقربَ من الأقوال المذكورةِ أنه متعلِّق بالأول، وأن المرادَ بالمقتسمين أهلُ الكتابين، وأن الموصولَ مع صلته صفةٌ مبينة لكيفية اقتسامِهم، ومحلُّ الكاف النصبُ على المصدرية، وحديثُ جلالة المقام عن التشبيه من لوائح النظرِ الجليل، والمعنى لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآنَ العظيم إيتاءً مماثلاً لإنزال الكتابين على أهلهما، وعدمُ التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرضَ بيانُ المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلَّقَيهما، والعدولُ عن تطبيق ما في جانب المشبَّه به على ما في جانب المشبَّه بأن يقال: كما آتينا المقتسِمين حسبما وقع في قوله تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب} الخ، للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فإن الأول على وجه التكرِمة والامتنان وشتان بينه وبن الثاني.
ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبَّهاً به، فإن ذلك إنما هو لمُسلَّميته عندهم وتقدمِ وجودُه على المشبه زماناً لا لمزيةٍ تعود إلى ذاته كما في الصلاة الخليلية، فإن التشبيه فيها ليس لكون رحمة الله تعالى الفائضةِ على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله أتمَّ وأكملَ مما فاض على النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما ذلك للتقدم في الوجود والتنصيصِ عليه في القرآن العظيم، فليس في التشبيه شائبةُ إشعار بأفضلية المشبَّه به من المشبه، فضلاً عن إيهام أفضليةِ ما تعلق به الأولُ مما تعلق به الثاني، وإنما ذُكروا بعنوان الاقتسام إنكاراً لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكورِ، وإيذاناً بأنه كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانِهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراكِ في العلة والاتحادِ في الحقيقة التي هي مطلقُ الوحي، وتوسيطُ قوله تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ} الخ، لكمال اتصالِه بما هو المقصودُ من بيان حالِ ما أوتيَ النبي عليه الصلاة والسلام، ولقد بُيِّن أولاً علوُّ شأنِه ورفعة مكانِه بحيث يستوجب اغتباطَه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءَه به عما سواه، ثم نُهي عن الالتفات إلى زَهرة الدنيا، وعُبّر عن إيتائها لأهلها بالتمتيع المنْبىءِ عن وشك زوالِها عنهم ثم عن الحزَن بعدم إيمانِ المنهمكين فيها، وأُمر بمراعاة المؤمنين والاكتفاءِ بهم عن غيرهم وبإظهار قيامِه بمواجب الرسالة ومراسمِ النذارة حسبما فُصّل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم، ثم رُجِع إلى كيفية إيتائه على وجه أُدمج فيه ما يُزيح شُبَهَ المنكِرين ويستنزِلهم عن العِناد من بيان مشاركتِه لما لا ريب لهم في كونه وحياً صادقاً فتأمل، والله عنده علم الكتاب، هذا وقد قيل: المعنى وقل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً، على أن المقتسِمين أهلُ الكتاب انتهى.
يريد أن ما في (كما) موصولةٌ، والمراد بالمشابهة المستفادة من الكاف الموافقةُ وهي مع ما في حيزها في محل النصبِ على الحالية من مفعول قل، أي قل هذا القولَ حالَ كونِه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقاً لذلك، فالأنسبُ حينئذ حملُ الاقتسام على التحريف ليكون وصفُهم بذلك تعريضاً بما فعلوا من تحريفهم وكِتمانهم لنعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {عِضِينَ} جمعُ عِضة وهي الفِرقة، أصلها عِضْوَةٌ، فِعْلة من عضَّى الشاةَ تعضيةً إذا جعلها أعضاءَ، وإنما جُمعت جمع السلامةِ جبراً للمحذوف كسنينَ وعِزينَ، والتعبيرُ عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريقُ الأعضاء من ذي الروح المستلزمُ لإزالة حياتِه وإبطالِ اسمِه دون مطلق التجزئةِ والتفريق اللذَيْن ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيضُ من المِثليات، للتنصيص على كمال قبحِ ما فعلوه بالقرآن العظيم، وقيل: هي فِعلة من عضهتُه إذا بهتُّه. وعن عكرِمةَ: العضه السحرُ بلسان قريشٍ، فنقصانها على الأول واو وعلى الثاني هاء.

.تفسير الآيات (92- 96):

{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)}
{فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي لنسألن يوم القيامة أصنافَ الكفرة من المقتسمين وغيرهم سؤالَ توبيخٍ وتقريع.
{عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا من قول وفعل وترْكٍ، فيدخُل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضيةِ دخولاً أولياً، ولنجزيّنهم بذلك جزاءاً موفوراً، وفيه من التشديد وتأكيدِ الوعيدِ ما لا يخفى، والفاءُ لترتيب الوعيدِ على أعمالهم التي ذكر بعضها، وفي التعرض لوصف الربوبيةِ مضافاً إليه عليه الصلاة والسلام إظهارُ اللطف به عليه الصلاة والسلام.
{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} فاجهر به، من صَدَع بالحجة إذا تكلم بها جِهاراً، أو افرُق بين الحق والباطل، وأصلُه الإبانةُ والتمييزُ، وما مصدرية أو موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ، أي ما تؤمر به من الشرائع المودعة في تضاعيف ما أوتيتَه من المثاني السبعِ والقرآنِ العظيم {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبالِ بهم ولا تتصدَّ للانتقام منهم.
{إِنَّا كفيناك المستهزءين} بقمعهم وتدميرهم، قيل: كانوا خمسةً من أشراف قريش: الوليدُ بن المغيرة، والعاصِ بنُ وائل، والحارثُ بن قيس بن الطَلاطِلةَ، والأسودُ بنُ عبدِ يغوثَ، والأسودُ بنُ المطلب، يبالغون في إيذاءِ النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به، فنزل جبريلُ عليه الصلاة والسلام فقال: قد أُمرت أن أكفيكَهم، فأومأ إلى ساق الوليد، فمرَّ بنِبال، فتعلق بثوبه سهمٌ، فلم ينعطف تعظماً لأخذه، فأصاب عِرقاً في عَقِبه، فقطعه، فمات، وأومأ إلى أخمَص العاص، فدخلت فيه شوكةٌ، فقال: لُدغتُ، وانتفخت رجلُه حتى صارت كالرّحى، فمات، وأشار إلى عيني الأسودِ بن المطلب، فعمِيَ، وإلى أنف الحارث، فامتخط قيحاً، فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوثَ وهو قاعدٌ في أصل شجرةٍ، فجعل ينطح برأسه الشجرةَ ويضرب وجهه بالشوك حتى مات.
{الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} وصفهم بذلك تسليةً لرسوله صلى الله عليه وسلم وتهويناً للخطب عليه بإعلام أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام، بل اجترأوا على العظيمة التي هي الإشراك بالله سبحانه {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبةَ ما يأتون ويذرون.

.تفسير الآيات (97- 99):

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} من كلمات الشِّرك والطعنِ في القرآن والاستهزاء به وبك، وتحليةُ الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيقِ ما تتضمنه من التسلية، وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم حسب استمرارِ متعلَّقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة.
{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فافزَع إلى الله تعالى فيما نابك من ضيق الصدرِ والحرَج بالتسبيح والتقديس ملتبساً بحمده، وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإشعارِ بعلة الحُكم، أعني الأمرَ بالتسبيح والحمد {وَكُنْ مّنَ الساجدين} أي المصلّين يكفِك ويكشِفِ الغمَّ عنك، أو فنزِّهْه عما يقولون ملتبساً بحمده على أنْ هداك للحق المبين، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه إذا حزَبه أمرٌ فزِع إلى الصلاة.
{واعبد رَبَّكَ} دُمْ على ما أنت عليه من عبادته تعالى، وإيثارُ الإظهار بالعنوان السالف آنفاً لتأكيد ما سبق من إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإشعارِ بعلة الأمرِ بالعبادة. {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} أي الموتُ، فإنه مُتيقَّنُ اللحوق بكل حي مخلوق، وإسنادُ الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجِّهٌ إلى الحيّ طالبٌ إليه، والمعنى دم على العبادة ما دمت حيًّا من غير إخلالٍ بها لحظة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورةَ الحِجْر كان له من الأجر عشرُ حسنات بعدد المهاجِرين والأنصارِ والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم».

.سورة النحل:

.تفسير الآية رقم (1):

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)}
{أتى أَمْرُ الله} أي الساعةُ أو ما يعُمها وغيرَها من العذاب الموعود للكفرة، عبّر عن ذلك بأمر الله للتفخيم والتهويل وللإيذان بأن تحققَه في نفسه وإتيانِه منوطٌ بحكمه النافذِ وقضائِه الغالب، وإتيانُه عبارةٌ عن دنوّه واقترابِه على طريقة نظمِ المتوقَّعِ في سلك الواقع، أو عن إتيان مباديه القريبةِ على نهج إسنادِ حال الأسبابِ إلى المسبَّبات. وأياً ما كان ففيه تنبيهٌ على كمال قربِه من الوقوع واتصالِه وتكميلٌ لحسن موقع التفريعِ في قوله عز وجل: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فإن النهيَ عن استعجال الشيءِ وإن صح تفريعُه على قرب وقوعِه أو على وقوع أسبابه القريبة لكنه ليس بمثابة تفريعِه على وقوعه، إذ بالوقوع يستحيل الاستعجالُ رأساً لا بما ذكر من قرب وقوعِه ووقوعِ مباديه، والخطابُ للكفرة خاصة كما يدل عليه القراءةُ على صيغة نهي الغائبِ، واستعجالُهم وإن كان بطريق الاستهزاءِ، لكنه حُمل على الحقيقة ونُهوا عنه بضرب من التهكم لا مع المؤمنين، سواءٌ أريد بأمر الله ما ذُكر أو العذابُ الموعود للكفرة خاصة، أما الأولُ فلأنه يتصور من المؤمنين استعجالُ الساعة أو ما يعمها وغيرَها من العذاب حتى يعمهم النهيُ عنه، وأما الثاني فلأن استعجالَهم له بطريق الحقيقةِ واستعجالَ الكفرة بطريق الاستهزاءِ كما عرَفْته فلا ينتظمُهما صيغةٌ واحدة، والالتجاءُ إلى إرادة معنىً مجازيَ يعمهما معاً من غير أن يكون هناك رعايةُ نكتة سرّية تعسفٌ لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ، وما روي من أنه لما نزلت {اقتربت الساعة} قال الكفار فيما بينهم: إن هذا يزعُم أن القيامة قد قرُبت، فأمسِكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائنٌ، فلما تأخّرت قالوا: ما نرى شيئاً فنزلت {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} فأشفقوا وانتظروا قُربها، فلما امتدت الأيامُ قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزلت {أتى أَمْرُ الله} فوثب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرفع الناسُ رؤوسَهم فلما نزل {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} اطمأنوا، فليس فيه دِلالةٌ على عموم الخطاب كما قيل لا لما تُوهم من أن التصديرَ بالفاء يأباه، فإنه بمعزل عن إبائه حسبما تحققْتَه بل لأن مناطَ اطمئنانِهم إنما هو وقوفُهم، على أن المرادَ بالإتيان هو الإتيانُ الادّعائي لا الحقيقيُّ الموجبُ لاستحالة الاستعجالِ المستلزِمةِ لامتناع النهي عنه، لِما أن النهيَ عن الشيء يقتضي إمكانَه في الجملة، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزمِ لإمكانه المقتضي لعدم وقوعِ المستعجَل بعدُ، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجِل كائناً مَنْ كان بل فيه دَلالةٌ واضحة على عدم العمومِ لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعةُ، وقد عرفت استحالةَ صدور استعجالِها عن المؤمنين، نعم يجوز تخصيصُ الخطاب بهم على تقدير كونِ أمر الله عبارةً عن العذاب الموعودِ للكفرة خاصة، لكن الذي يقضي به الإعجازُ التنزيليُّ أنه خاصٌّ بالكفرة كما ستقف عليه، ولمّا كان استعجالُهم ذلك من نتائج إشراكِهم المستتبعِ لنسبة الله عز وجل إلى ما لا يليق به من العجز والاحتياج إلى الغير، واعتقادِ أن أحداً يحجُزه عن إنجاز وعدِه وإمضاء وعيدِه، وقد قالوا في تضاعيفه: إن صح مجيءُ العذاب فالأصنامُ تخلّصنا عنه بشفاعتها، رُدَّ ذلك فقيل بطريق الاستئناف: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه وتقدّس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدِّي إلى صدور أمثالِ هذه الأباطيلِ عنهم، أو عن أن يكون له شريكٌ فيدفعَ ما أراد بهم بوجه من الوجوه، وصيغةُ الاستقبالِ للدلالة على تجدد إشراكِهم واستمرارِه، والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان باقتضاء ذكرِ قبائحِهم للإعراض عنهم وطرحِهم عن رتبة الخطاب، وحكايةِ شنائعهم لغيرهم، وعلى تقدير تخصيصِ الخطابِ بالمؤمنين تفوت هذه النُّكتةُ كما يفوت ارتباطُ المنهيِّ عنه، وقرئ على صيغة الخطاب.