فصل: تفسير الآية رقم (12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (12):

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)}
{وَسَخَّر لَكُمُ اليل والنهار} يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشِكم ولعقد الثمار وإنضاجها {والشمس والقمر} يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكونات التي من جملتها ما فُصّل وأُجْمل، كلُّ ذلك لمصالحكم ومنافعكم، وليس المرادُ بتسخيرها لهم تمكينَهم من تصريفها كيف شاءوا كما في قوله تعالى: {سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} ونظائرِه، بل هو تصريفُه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعُهم ومصالحُهم كأن ذلك تسخيرٌ لهم وتصرفٌ من قبلهم حسب إرادتِهم، وفي التعبير عن ذلك التصريف بالتسخير إيماءٌ إلى ما في المسخَّرات من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدلالة على أن ذلك أمرٌ واحدٌ مستمر وإن تجددت آثارُه.
{والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ} مبتدأٌ وخبرٌ، أي سائرُ النجومِ في حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوهما مسخراتٌ لله تعالى أو لما خُلقن له بإرادته ومشيئتِه، وحيث لم يكن عَودُ منافعِ النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من المَلَوَين والقمَرَين لم يُنسَبْ تسخيرُها إليهم بأداة الاختصاص بل ذُكر على وجه يفيد كونَها تحت ملكوتِه تعالى من غير دِلالةٍ على شيء آخرَ ولذلك عُدِل عن الجملة الفعليةِ الدالة على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار.
وقرئ برفع الشمسَ والقمرَ أيضاً، وقرئ بنصب النجوم على أنه مفعولٌ أولٌ لفعل مقدر ينبىء عنه الفعلُ المذكور، ومسخراتٌ حالٌ من الكل والعامل ما في (سخّر) من معنى نفعَ أي نفعكم بها حالَ كونها مسخراتٍ لله الذي خلقها ودبرها كيف شاء، أو لما خُلقن له بإيجاده وتقديرِه أو لحكمه، أو مصدرٌ ميميّ جُمع لاختلاف الأنواعِ أي أنواعاً من التسخير، وما قيل من أن فيه إيذاناً بالجواب عما عسى يقال أن المؤثرَ في تكوين النباتِ حركاتُ الكواكب وأوضاعُها بأن ذلك إنْ سَلِم فلا ريب في أنها أيضاً أمورٌ ممكنةُ الذات والصفات، واقعةٌ على بعض الوجوه الممْكِنة فلابد لها من موجد مخصّصٍ مختار واجبِ الوجود دفعاً للدَّوْر والتسَلْسُل، فمبناه حسبانُ ما ذُكر أدلةً على وجود الصانع تعالى وقدرته واختيارِه، وأنت تدري أنْ ليس الأمرُ كذلك فإنه ليس مما ينازَع فيه الخصمُ ولا يتلعثم في قبوله، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله} الآية، وإنما ذلك أدلةُ التوحيد من حيث إن مَنْ هذا شأنُه لا يتوهم أن يشاركه شيءٌ في شيء فضلاً عن أن يشاركه الجمادُ في الألوهية.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما ذكر من التسخير المتعلّق بما ذكر مُجملاً ومفصلاً {لآَيَاتٍ} باهرةً متكاثرة {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وحيث كانت هذه الآثارُ العلويةُ متعددةً ودلالةُ ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمةِ على الوحدانية أظهرَ جُمع الآياتُ وعُلّقت بمجرد العقلِ من غير حاجةٍ إلى التأمل والتفكر، ويجوز أن يكون المرادُ لقوم يعقلون ذلك، فالمشار إليه حينئذ تعاجيبُ الدقائق المُودعةِ في العلويات المدلولِ عليها بالتسخير التي لا يتصدَّى لمعرفتها إلا المهَرةُ من أساطين علماءِ الحكمة، ولا ريب في أن احتياجَها إلى التفكر أكثرُ.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)}
{وَمَا ذَرَأَ} عطفٌ على قوله تعالى: {والنجوم} رفعاً ونصباً على أنه مفعولٌ لجعل أي وما خلق {لَكُمْ فِي الأرض} من حيوان ونبات حالِ كونه {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي أصنافُه، فإن اختلافها غالباً يكون باختلاف اللون مسخرٌ لله تعالى أو لما خُلق له من الخواصّ والأحوال والكيفياتِ، أو جُعل ذلك مختلفَ الألوان أي الأصنافِ لتتمتعوا من ذلك بأي صنف شئتم، وقد عُطف على ما قبله من المنصوبات، وعُقِّب بأن ذكرَ الخلق لهم مغنٍ عن ذكر التسخير، واعتُذر بأن الأولَ يستلزم الثانيَ لزوماً عقلياً لجواز كونِ ما خُلق لهم عزيزَ المرام صعبَ المنال، وقيل: هو منصوبٌ بفعل مقدر أي خلق وأنبت على أن قوله: {مختلفاً ألوانه} حالٌ من مفعوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكر من التسخيرات ونحوها {لآيَةً} بينةَ الدِلالةِ على أن مَنْ هذا شأنُه واحد لا نِدَّ له ولا ضِدّ {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فإن ذلك غيرُ محتاج إلا إلى تذكرِ ما عسى يُغفَل عنه من العلوم الضرورية، وأما ما يقال من أن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع صانعٍ حكيم، فمدارُه ما لوّحنا به من حسبان ما ذُكر دليلاً على إثبات الصانعِ تعالى، وقد عرفتَ حقيقةَ الحال فإن إيراد ما يدل على اتصافه سبحانه بما ذكر من صفات الكمالِ ليس بطريق الاستدلالِ عليه، بل من حيث إن ذلك من المقدِّمات المسلَّمةِ جيء به للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورةُ وحدانيته تعالى واستحالةُ أن يشاركَه شيء في الألوهية.

.تفسير الآيات (14- 15):

{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)}
{وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر} شروعٌ في تعداد النعمِ المتعلقة بالبحر إثرَ تفصيل النعمِ المتعلقة بالبر حيواناً ونباتاً، أي جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به للركوب والغَوْص والاصطياد {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} هو السمك، والتعبيرُ عنه باللحم مع كونه حيواناً للتلويح بانحصار الانتفاعِ به في الأكل، ووصفُه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيهِ على وجوب المسارعةِ إلى أكله كيلا يتسارع إليه الفسادُ كما ينبىء عنه جعلُ البحر مبتدأَ أكلِه، وللإيذان بكمال قدرتِه تعالى في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق، ومن إطلاق اللحمِ عليه ذهب مالكٌ والثوري أن مَنْ حلف لا يأكلُ اللحم حنِث بأكله، والجوابُ أن مبنى الأيمان العُرفُ، ولا ريب في أنه لا يُفهم من اللحم عند الإطلاق، ولذلك لو أمر خادمه بشراء اللحمِ فجاء بالسمك لم يكن ممتثلاً بالأمر، ألا يرى إلى أن الله تعالى سمّى الكافرَ دابة حيث قال: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} ولا يحنَث بركوبه من حلَف لا يركب دابة {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً} كاللؤلؤ والمَرْجان {تَلْبَسُونَهَا} عبر في مقام الامتنان عن لُبس نسائِهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لُبسِهن لأجلهم {وَتَرَى الفلك} السفن {مَوَاخِرَ فِيهِ} جواريَ فيه مُقبلةً ومدبرة ومعترضة بريح واحدة تشقه بحَيزومها، من المخْر وهو شقُّ الماء، وقيل: هو صوتُ جَرْي الفلك {وَلِتَبْتَغُواْ} عطف على تستخرجوا وما عُطف هو عليه، وما بينهما اعتراضٌ لتمهيد مبادي الابتغاءِ ودفعِ توهم كونِه باستخراج الحِلية، أو على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، ذكره ابن الأنباري أو متعلقة بفعل محذوفٍ أي وفعَل ذلك لتبتغوا {مِن فَضْلِهِ} من سَعة رزقِه بركوبها للتجارة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تعرِفون حقوقَ نعمِه الجليلةِ فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيصَ هذه النعمةِ بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلةٍ في مدة قليلة من غير مزاولةِ أسبابِ السفر، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالكِ وعدمُ توسيط الفوزِ بالمطلوب بين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معاً.
{وألقى فِي الأرض رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابتَ، وقد مر تحقيقُه في أول سورة الرعد {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} كراهةَ أن تميل بكم وتضطربَ، أو لئلا تميدَ بكم فإن الأرضَ قبل أن تُخلقَ فيها الجبالُ كانت كرةً خفيفةً بسيطةَ الطبع، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو تتحركَ بأدنى سبب محرِّك، فلما خُلقت الجبال تفاوتت حافّاتُها وتوجهت الجبالُ بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد، وقيل: لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تمورُ فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحدٍ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال {وأنهارا} أي وجعل فيه أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل {وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} بها إلى مقاصدكم.

.تفسير الآيات (16- 17):

{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}
{وعلامات} معالمَ يَستدِلّ بها السابلةُ بالنهار من جبل وسهلٍ وريح، وقد نُقل أن جماعة يشمّون الترابَ ويتعرفون به الطرقات {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل في البراري والبحارِ حيث لا علامة غيرُه، والمرادُ بالنجم الجنسُ، وقيل: هو الثريا والفَرْقدان وبناتُ نعش والجدي، وقرئ بضمتين وبضمة وسكون وهو جمع كرُهْن ورُهُن، وقيل: الأول بطريق حذف الواو من النجوم للتخفيف ولعل الضميرَ لقريش فإنهم كانوا كثيري الترددِ للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم في أسفارهم، وصرفُ النظمِ عن سنن الخطاب وتقديمُ النجم وإقحامُ الضمير للتخصيص، كأنه قيل: وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم.
{أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه المصنوعاتِ العظيمةَ ويفعل هاتيك الأفاعيلَ البديعة، أو يخلق كلَّ شيء {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئاً أصلاً وهو تبكيتٌ للكفرة وإبطالٌ لإشراكهم وعبادتِهم للأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها وبينه سبحانه وتعالى بعد تعدادِ ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهراً، وتعقيبُ الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المشابهةِ المذكورة على ما فصل من الأمور العظيمة الظاهرةِ الاختصاصِ به تعالى المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يُؤذِن به ما تلوناه من قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} الآيتين، والاقتصارُ على ذكر الخلقِ من بينها لكونه أعظمَها وأظهرَها واستتباعِه إياها، أو لكون كلَ منها خلقاً مخصوصاً أي أبعدَ ظهورِ اختصاصِه تعالى بمبدئية هذه الشؤونِ الواضحةِ الدَّلالةِ على وحدانيته تعالى وتفرّدِه بالألوهية واستبدادِه باستحقاق العبادةِ، يُتصوّر المشابهةُ بينه وبين ما هو بمعزل من ذلك بالمرة كما هو قضيةُ إشراكِكم ومدارها وإن كان على نسبةٍ تقوم بالمنتسبين، اختير ما عليه النظمُ الكريم مراعاةً لحقّ سبْقِ الملَكةِ على العدم وتفادياً عن توسيط عدمِها بينها وبين جزئياتها المفصّلة قبلها وتنبيهاً على كمال قبحِ ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجردَ رفعِ الأصنام عن محلها بل هو حطٌّ لمنزلة الربوبيةِ إلى مرتبة الجماداتِ، ولا ريب في أنه أقبحُ من الأول، والمرادُ بمن لا يخلق كلُّ ما هذا شأنُه كائناً ما كان، والتعبير عنه بما يختص بالعقلاء للمشاكلة، أو العقلاءِ خاصة، ويُعرف منه حالُ غيرهم لدِلالة النص فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة العقلاءِ، فما ظنُّك بالجماد وأياً ما كان فدخولُ الأصنام في حكم عدمِ المماثلة والمشابهةِ إما بطريق الاندراجِ تحت الموصولِ العام وإما بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريقة البرهانية، لا بأنها هي المرادةُ بالموصول خاصة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر.

.تفسير الآيات (18- 23):

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله} تذكيرٌ إجمالي لنعمه تعالى بعد تعدادِ طائفة منها، وكان الظاهرُ إيرادَه عقيبَها تكملةً لها على طريقة قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ولعل فصلَ ما بينهما بقوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} للمبادرة إلى إلزام الحجةِ وإلقامِ الحجر إثرَ تفصيلِ ما فُصل من الأفاعيل التي هي أدلةُ الوحدانية مع ما فيه من سر ستقف عليه إن شاء الله، ودَلالتُها عليها وإن لم تكن مقصورةً على حيثية الخلق ضرورةَ ظهور دلالتِها عليها من حيثية الإنعام أيضاً لكنها حيث كانت مستتبعاتِ الحيثيةِ الأولى، استُغنيَ عن التصريح بها ثم بُين حالها بطريق الإجمال أي إن تعدوا نعمته الفائضةَ عليكم مما ذكر وما لم يذكر حسبما يُعرب عنه قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} {لاَ تُحْصُوهَا} أي لا تطيقوا حصرَها وضبطَ عددِها ولو إجمالاً، فضلاً عن القيام بشكرها وقد خرجنا عن عُهدة تحقيقه في سورة إبراهيمَ بفضل الله سبحانه {إِنَّ الله لَغَفُورٌ} حيث يستُر ما فرَط منكم من كفرانها والإخلالِ بالقيام بحقوقها، ولا يعاجلُكم بالعقوبة على ذلك {رَّحِيمٌ} حيث يُفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحِرمان بما تأتون وتذرون من أصناف الكفرِ التي من جملتها عدمُ الفرق بين الخالقِ وغيرِه، وكلٌّ من ذلك نعمةٌ وأيُّما نعمة، فالجملة تعليلٌ للحكم بعدم الإحصاءِ وتقديمُ وصفِ المغفرة على نعت الرحمةِ لتقدم التخلية على التحلية.
{والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} تُضمرونه من العقائد والأعمال {وَمَا تُعْلِنُونَ} أي تظهرونه منهما، وحُذف العائد لمراعاة الفواصلِ أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيطِ سرُّكم وعلنُكم، وفيه من الوعيد والدِلالة على اختصاصه سبحانه بنعوت الإلهية ما لا يخفى، وتقديمُ السرِّ على العلن لما ذكرناه في سورة البقرة وسورة هودٍ من تحقيق المساواة بين عِلْميه المتعلِّقَين بهما على أبلغ وجهٍ كأن عِلمَه تعالى بالسرّ أقدمُ منه بالعلن، أو لأن كلَّ شيء يعلن فهو قبل ذلك مضمرٌ في القلب، فتعلّقُ علمه تعالى بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية.
{والذين يَدْعُونَ} شروع في تحقيق كونِ الأصنام بمعزل من استحقاق العبادةِ وتوضيحُه بحيث لا يبقى فيه شائبةُ ريب بتعديد أوصافِها وأحوالِها المنافية لذلك منافاةً ظاهرةً، وتلك الأحوالُ وإن كانت غنيةً عن البيان لكنها شُرحت للتنبيه على كمال حماقةِ عبدَتِها وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح، أي والآلهةُ الذين يعبدهم الكفار {مِن دُونِ الله} سبحانه، وقرئ على صيغة المبني للمفعول وعلى الخطاب {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} من الأشياء أصلاً أي ليس من شأنهم ذلك، ولما لم يكن بين نفي الخالقية وبين المخلوقية تلازمٌ بحسب المفهومِ وإن تلازما في الصدق أُثبت لهم ذلك صريحاً فقيل: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي شأنُهم ومقتضى ذاتِهم المخلوقيةُ لأنها ذواتٌ ممكنةٌ مفتقرةٌ في ماهياتها ووجوداتها إلى الموجد، وبناء الفعل للمفعول لتحقيق التضادّ والمقابلة بين ما أثبت لهم وبين ما نُفي عنهم من وصفي المخلوقية والخالقية، وللإيذان بعدم الافتقار إلى بيان الفاعلِ لظهور اختصاصِ الفعل بفاعله جل جلاله، ويجوز أن يُجعل الخلقُ الثاني عبارةً عن النحت والتصوير رعايةً للمشاكلة بينه وبين الأول ومبالغةً في كونهم مصنوعين لعبدتهم وأعجز عنهم وإيذاناً بكمال ركاكةِ عقولهم حيث أشركوا بخالقهم مخلوقَهم، وأما جعلُ الأول أيضاً عبارةً عن ذلك كما فعل فلا وجه له، إذ القدرةُ على مثل ذلك الخلقِ ليست مما يدور عليه استحقاقُ العبادة أصلاً، ولِما أن إثباتَ المخلوقية لهم غيرُ مستدعٍ لنفي الحياة عنهم لِما أن بعض المخلوقين أحياءٌ صرح بذلك فقيل: {أَمْوَاتٌ} وهو خبرٌ ثان للموصول لا للضمير كما قيل، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ.
وحيث كان بعضُ الأموات مما يعتريه الحياة سابقاً أو لاحقاً كأجساد الحيوان والنطفِ متى يُنشِئها الله تعالى حيواناً احتُرز عن ذلك فقيل: {غَيْرُ أَحْيَاء} أي لا يعتريها الحياة أصلاً فهي أمواتٌ على الإطلاق وأما قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي ما يشعر أولئك الآلهةُ أيان يُبعث عَبَدتُهم فعلى طريقة التهكمِ بهم لأن شعورَ الجماد بالأمور الظاهرة بديهيُّ الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير وفيه إيذانٌ بأن البعث من لوازم التكليفِ وأن معرفةَ وقته مما لابد منه في الألوهية.
{إلهكم إله واحد} لا يشاركه شيءٌ في شيء، وهو تصريحٌ بالمدعى وتمحيضٌ للنتيجة غِبَّ إقامةِ الحجة {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة} وأحوالِها التي من جملتها ما ذكر من البعث وما يعقُبه من الجزاء المستلزِمِ لعقوبتهم وذِلتهم {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} للوَحدانية جاحدةٌ لها أو للآيات الدالة عليها {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن الاعتراف بها، أو عن الآيات الدالة عليها، والفاء للإيذان بأن إصرارَهم على الإنكار واستمرارَهم على الاستكبار وقعَ موقع النتيجة للدلائل الظاهرةِ والبراهينِ الباهرة، والمعنى أنه قد ثبت بما قُرّر من الحجج والبينات اختصاصُ الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارُهم على ما ذكر من الإنكار والاستكبار، وبناءُ الحكم المذكورِ على الموصول للإشعار بكونه معللاً بما في حيّز الصلة، فإن الكفرَ بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاءِ المتنوِّع إلى الثواب على الطاعة والعقابِ على المعصية يؤدِّي إلى قصر النظر على العاجل، والإعراضِ عن الدلائل السمعية والعقليةِ الموجبِ لإنكارها وإنكارِ مؤدّاها، والاستكبارِ عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وتصديقِه، وأما الإيمانُ بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى التأمل في الآيات والدلائلِ رغبةً ورهبة فيورث ذلك يقيناً بالوحدانية وخضوعاً لأمر الله تعالى.
{لاَ جَرَمَ} أي حقاً وقد مر تحقيقُه في سورة هود {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من إنكار قلوبِهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} من استكبارهم وقولِهم للقرآن أساطيرُ الأولين وغيرِ ذلك من قبائحهم فيجازيهم بذلك {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} تعليلٌ لما تضمنه الكلامُ من الوعيد، أي لا يحب المستكبرين عن التوحيد أو عن الآيات الدالةِ عليها أو لا يحب جنسَ المستكبرين، فكيف بمن استكبر عما ذكر.