فصل: تفسير الآيات (71- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (71- 72):

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}
{والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضلَ مما أعطى مماليكَكم {فَمَا الذين فُضّلُواْ} فيه على غيرهم {بِرَآدّى رِزْقِهِمْ} الذي رزقهم الله {على مَا مَلَكَتْ أيمانهم} على مماليكهم الذين هم شركاؤُهم في المخلوقية والمرزوقية {فَهُمُ} أي المُلاّك والمماليك {فِيهِ} أي في الرزق {سَوَآء} أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم في التصرف ويشاركونهم في التدبير، والفاء للدِلالة على ترتيب التساوي على الرد أي لا يردونه عليهم ردًّا مستتبعاً للتساوي، وإنما يردون عليهم منه شيئاً يسيراً فحيث لا يرضَون بمساواة مماليكِهم لأنفسهم وهم أمثالُهم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانُه في شيء لا يختصّ بهم بل يعُمهم وإياهم من الرزق الذي هم أُسوةٌ لهم في استحقاقه، فما بالُهم يشركون بالله سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به من الألوهية والمعبوديةِ الخاصّة بذاته تعالى لذاته بعضَ مخلوقاته الذي هو بمعزل من درجة الاعتبار وهذا كما ترى مثَلٌ ضُرب لكمال قباحةِ ما فعله المشركون تقريعاً عليهم كقوله تعالى: {هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} الآية {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا نعم الله سبحانه الفائضةَ عليهم إلى شركائهم ويجحدوا كونَها من عند الله تعالى، أو حيث أنكروا أمثالَ هذه الحجج البالغةِ بعد ما أنعم الله بها عليهم، والباء لتضمين الجحودِ معنى الكفر نحوُ {وَجَحَدُواْ بِهَا} والفاء للعطف على مقدر وهي داخلةٌ في المعنى على الفعل أي أيشركون به فيجحدون نعمته، وقرئ: {تجحدون} على الخطاب، أو ليس الموالي برادّي رزقهم على مماليكهم بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا يحسبوا أنهم يعطونهم شيئاً وإنما هو رزقي أُجريه على أيديهم فهم جميعاً في ذلك سواءٌ لا مزيةَ لهم على مماليكهم، ألا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله؟ فهو ردّ على زعم المفضَّلين أو على فعلهم المؤذِن بذلك أو ما المفضَّلون برادّي بعضِ فضلهم على مماليكهم فيتساووا في ذلك جميعاً مع أن التفضيلَ ليس إلا ليبلوَهم أيشكرون أم يكفرون، ألا يعرِفون ذلك فيجحدون نعمةَ الله تعالى؟ كأنه قيل: فلم يردوه عليهم، والجملةُ الاسميةُ للدلالة على استمرارهم على عدم الرد. يحكى عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما هم إخوانُكم فاكسُوهم مما تلبَسون وأطعِموهم مما تَطعَمون فما رؤيَ عبدُه بعد ذلك إلا ورداؤُه رداؤُه وإزارُه إزاره من غير تفاوت».
{والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنسكم {أزواجا} لتأنَسوا بها وتقيموا بذلك جميعَ مصالحِكم ويكون أولادُكم أمثالَكم، وقيل: هو خلقُ حواءَ من ضِلْع آدمَ عليه الصلاة والسلام {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم} وضع الظاهرُ موضعَ المضمر للإيذان بأن المرادَ جعلَ لكل منكم من زوجه لا من زوج غيره {بنيان} وبأن نتيجةَ الأزواج هو التوالد {وَحَفَدَةً} جمعُ حافد وهو الذي يسرع في الخِدمة والطاعة، ومنه قولُ القانت: «وإليك نسعى ونحفد» أي جعل لكم خدماً يسرعون في خدمتكم وطاعتِكم.
وقيل: المرادُ بهم أولادُ الأولاد، وقيل: البناتُ عبّر عنهن بذلك إيذاناً بوجه المنة بأنهن يخْدُمن البيوت أتمَّ خدمة، وقيل: أولادُ المرأة من الزوج الأول، وقيل: البنون، والعطفُ لاختلاف الوصفين، وقيل: الأختان على البنات، وتأخيرُ المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر من التشويق وتقديمُ المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعَود منفعةِ الجعلِ إليهم إمداداً للتشويق وتقويةً له، أي جعل لمصلحتكم مما يناسبكم أزواجاً وجعل لمنفعتكم من جهة مناسبةٍ لكم بنين وحفَدة {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} من اللذائذ أو من الحلالات، ومن للتبعيض إذ المرزوقُ في الدنيا أنموذجٌ لما في الآخرة {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} وهو أن الأصنامَ تنفعهم وأن البحائرَ ونحوها حرامٌ والفاء في المعنى داخلةٌ على الفعل وهي للعطف على مقدر أي أيكفرون بالله الذي شأنُه هذا فيؤمنون بالباطل؟ أو أبعد تحقّقِ ما ذُكر من نعم الله تعالى بالباطل أو أبعد تحققِ ما ذكر من نعم الله تعالى بالباطل يؤمنون دون الله سبحانه {وَبِنِعْمَتِ الله} تعالى الفائضةِ عليهم مما ذكر ومما لا يحيط به دائرةُ البيان {هُمْ يَكْفُرُونَ} حيث يضيفونها إلى الأصنام، وتقديمُ الصلة على الفعل للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغةً أو لرعاية الفواصل، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالِهم للإعراض عنهم وصرفِ الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيباً لهم مما فعلوه.

.تفسير الآيات (73- 75):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)}
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} لعله عطفٌ على يكفرون داخلٌ تحت الإنكار التوبيخيّ، أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون مِن دونه {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والأرض شَيْئاً} إنْ جُعل الرزقُ مصدراً فشيئاً نُصب على المفعولية منه أي ما لا يقدر على أن يرزقَهم شيئاً لا من السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً، وإن جُعل اسماً للمرزوق فنصْبٌ على البدلية منه بمعنى قليلاً، ومن السموات والأرض صفةٌ لرزقاً أي كائناً منهما ويجوز كونه تأكيداً لِلا يملك أي لا يملك رزقاً ما شيئاً من الملك {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أن يملكوه إذ لا استطاعةَ لهم رأساً لأنها مَواتٌ لا حَراك بها، فالضميرُ للآلهة ويجوز أن يكون للكفرة على معنى أنهم مع كونهم أحياءً متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئاً فكيف بالجماد الذي لا حِسّ به.
{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} التفاتٌ إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي أي لا تشركوا به شيئاً، والتعبيرُ عن ذلك بضرب المثَل للقصد إلى النهي عن الإشراك به تعالى في شأن من الشؤون، فإن ضربَ المثلِ مبناه تشبيهُ حالة بحالة وقصةٍ بقصة أي لا تُشَبّهوا بشأنه تعالى شأناً من الشؤون، واللامُ مَثَلُها في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ} {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امرأة فِرْعَوْنَ} لا مثلُها في قوله تعالى: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية} ونظائرِه، والفاءُ للدلالة على ترتب النهي على ما عدّه من النعم الفائضةِ عليهم من جهته سبحانه، وكونِ ما يشركون به تعالى بمعزل من أن يملِك لهم من إمطار السموات والأرض شيئاً من رزق ما، فضلاً عما فُصّل من نعمة الخلق والتفضيل في الرزق ونعمةِ الأزواج والأولاد {أَنَّ الله يَعْلَمُ} تعليلٌ للنهي المذكور ووعيدٌ على المنهيّ عنه، أي إنه تعالى يعلم كنهَ ما تأتون وما تذرون وأنه في غاية العِظم والقبح {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك وإلا لَما فعلتموه أو أنه تعالى يعلم كُنهَ الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيَكم وقِفوا مواقفَ الامتثالِ لِما ورد عليكم من الأمر والنهي، ويجوز أن يُراد فلا تضرِبوا لله الأمثالَ إن الله يعلم كيف تُضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك فتقعون فيما تقعون فيه من مهاوي الردى والضلال ثم علمهم كيفيةَ ضرب الأمثال في هذا الباب فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} أي ذكر وأورد شيئاً يُستدل به على تباين الحالِ بين جنابه عز وجل وبين ما أشركوا به، وعلى تباعدهما بحيث ينادى بفساد ما ارتكبوه نداء جلياً {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} بدلٌ من مثلاً وتفسيرٌ له، والمثَلُ في الحقيقة حالتُه العارضة له من المملوكية والعجزِ التامّ، وبحسَبها ضربُ نفسِه مثلاً، ووصفُ العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدين لله سبحانه وقد أُدمج فيه أن الكل عبيدٌ له تعالى، وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتَب والمأذون اللَّذين لهما التصرّف في الجملة، وفي إبهام المثلِ أولاً ثم بيانِه بما ذكر ما لا يخفى من الفخامة والجزالة {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} مَنْ موصوفةٌ معطوفة على عبداً أي رزقناه بطريق المُلك، والالتفاتُ إلى التكلم للإشعار باختلاف حالَيْ ضرب المثل والرزق {مِنَّا} من جنابنا الكبير المتعالي {رِزْقًا حَسَنًا} حلالاً طيباً أو مستحسَناً عند الناس مرضياً {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ} تفضّلاً وإحساناً، والفاءُ لترتيب الإنفاق على الرزق كأنه قيل: ومَنْ رزقناه منا رزقاً حسناً فأنفق، وإيثارُ ما عليه النظم الكريم من الجلمة الاسميةِ الفعليةِ الخبر للدِلالة على ثبات الإنفاقِ واستمرارِه التجدديّ {سِرّا وَجَهْرًا} أي حالَ السر والجهر أو إنفاقَ سرَ وإنفاقَ جهر، والمرادُ بيانُ عمومِ إنفاقِه للأوقات وشمولِ إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهراً، والإشارةُ إلى أصناف نعمِ الله تعالى الباطنةِ والظاهرةِ وتقديمُ السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، والعدولُ عن تطبيق القرينيتن بأن يقال وحرًّا مالكاً للأموال مع كونه أدلَّ على تباين الحالِ بينه وبين قسميه لتوخّي تحقيقِ الحقِّ بأن الأحرارَ أيضاً تحت ربقة عبوديتِه سبحانه وتعالى وأن مالكيتَهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزُقَهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخلٌ في ذلك مع محاولة المبالغة في الدِلالة على ما قُصد بالمثل من تباين الحالِ بين الممثَّلين فإن العبدَ المملوك حيث لم يكن مثلَ العبد المالكِ فما ظنُّك بالجماد ومالكِ المُلك خلاّق العالمين.
{هَلْ يَسْتَوُونَ} جمعُ الضمير للإيذان بأن المرادَ بما ذكر مَن اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما أي يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيانِ في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه الأحرارُ ليس مما لهم دخلٌ في إيجاده ولا في تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستوِ الفريقان فما ظنُّكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليلَ أذلُّ منه وهو الأصنام {الحمد للَّهِ} أي كلُّه له لأنه مولى جميع النعم لا يستحقه أحدٌ غيرُه وإن ظهرت على أيدي بعض الوسايط فضلاً عن استحقاق العبادة، وفيه إرشادٌ إلى ما هو الحقُّ من أنّ ما يظهر على يد مَنْ ينفق مما ذكر ارجعٌ إليه سبحانه كما لوح به قوله تعالى: {رَّزَقْنَاهُ} {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ما ذكر فيُضيفون نعمَه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها، ونفيُ العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لا يعملون بموجبه عناداً كقوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون}

.تفسير الآيات (76- 77):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)}
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً} أي مثلاً آخرَ يدل على ما دل عليه المثلُ السابقُ على وجه أوضحَ وأظهرَ وبعد ما أبهم ذلك لتنتظرَ النفسُ إلى وروده وتترقبه حتى يتمكّن لديها عند ورودِه (فضل تمكن) بيّن فقيل: {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} وهو من وُلد أخرسَ {لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} من الأشياء المتعلّقةِ بنفسه أو بغيره بحدْس أو فراسة لقِلة فهمِه وسوءِ إدراكِه {وَهُوَ كَلٌّ} ثِقَلٌ وعِيالٌ {على مَوْلاهُ} على مَن يعوله ويلي أمرَه، وهذا بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ نفسه بعد ذكر عدم قدرتِه على شيء مطلقاً، وقوله تعالى: {أَيْنَمَا يُوَجّههُّ} أي حيث يرسله مولاه في أمر، بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ مولاه ولو كانت مصلحةً يسيرة، وقرئ على البناء للمفعول وعلى صيغة الماضي من التوجه {لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} بنُجْح وكفايةِ مُهمّ البتةَ.
{هَلْ يَسْتَوِى هُوَ} مع ما فيه من الأوصاف المذكورةِ {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} أي مَنْ هو مِنطيقٌ فهِمٌ ذو رأي وكفاية ورشد ينفع الناسَ بحثهم على العدل الجامع لمجامعِ الفضائل {وَهُوَ} في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} ومقابلةُ الصفاتِ المذكورة عدمُ استحقاقِ المأمورية، وملخصُ هذين استحقاقُ كمالِ الآمرية المستتبِعِ لحيازة المحاسنِ بأجمعها، وتغييرُ الأسلوب حيث لم يقل: والآخر آمرٌ بالعدل الآية، لمراعاة الملاءمةِ بينه وبين ما هو المقصودُ من بيان التبايُنِ بين القرينتين. واعلم أن كلاًّ من الفعلين ليس المرادُ بهما حكايةَ الضربِ الماضي بل المرادُ إنشاؤُه بما ذُكر عَقيبه، ولا يبعُد أن يقال: إن الله تعالى ضرب مثلاً بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقُهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يشركون، فيكون كلٌّ من الفعلين حكايةً للضرب الماضي.
{وَللَّهِ} تعالى خاصةً لا لأحد غيرِه استقلالاً ولا اشتراكاً {غَيْبَ السموات والارض} أي الأمورُ الغائبةُ عن علوم المخلوقين قاطبةً بحيث لا سبيلَ لهم إليها لا مشاهدةً ولا استدلالاً، ومعنى الإضافةِ إليهما التعلقُ بهما إما باعتبار الوقوعِ فيهما حالاً أو مآلاً وإما باعتبار الغَيبة عن أهلهما، والمرادُ بيانُ الاختصاصِ به تعالى من حيث المعلوميةُ حسبما ينبىء عنه عنوانُ الغيبية لا من حيث المخلوقيةُ والمملوكيةُ وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر، وفيه إشعارٌ بأن علمه سبحانه حضوريٌّ فإن تحقق الغيوبِ في أنفسها عِلمٌ بالنسبة إليه تعالى، ولذلك لم يقل: ولله علمُ غيبِ السموات والأرض {وَمَا أَمْرُ الساعة} التي هي أعظمُ ما وقع في المماراةُ من الغيوب المتعلقة بهما من حيث غيبتُها عن أهلهما أو ظهورُ آثارها فيهما عند وقوعها، فأن وقتَ وقوعها بعينه من الغيوب المختصة به سبحانه وإن كانت آنيّتُها من الغيوب التي نُصبت عليها الأدلة، أي ما شأنُها في سرعة المجيء {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} أي كرجع الطرفِ من أعلى الحدَقة إلى أسفلها {أَوْ هُوَ} أي بل أمرُها فيما ذكر {أَقْرَبُ} من ذلك وأسرعُ زماناً بأن يقع في بعضٍ من زمانه، فإن ذلك وإنْ قصُر حركةٌ آنيةٌ لها هُوِيةٌ اتصاليةٌ منطبقةٌ على زمان له هويةٌ كذلك قابلٌ للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضاً، بل في آن غيرِ منقسمٍ من ذلك الزمان وهو آنُ ابتداءِ تلك الحركةِ، أو ما أمرُها إلا كالشيء الذي يُستقرب ويقال: هو كلمح البصر، أو هو أقرب.
وأياً ما كان فهو تمثيلٌ لسرعة مجيئها حسبما عبّر عنها في فاتحة السورة الشريفة بالإتيان.
{إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} ومن جملة الأشياء أن يجيء بها أسرعَ ما يكون فهو قادرٌ على ذلك، أو وما أمرُ إقامةِ الساعة التي كُنهُها وكيفيتُها من الغيوب الخاصةِ به سبحانه، وهي إماتةُ الأحياءِ وإحياءُ الأمواتِ من الأولين والآخرين، وتبديلُ صورِ الأكوان أجمعين، وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخُل تحت الإمكان في سرعة الوقوعِ وسهولةِ التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الوجهين إن الله على كل شيء قدير فهو قادر على ذلك لا محالة، وقيل: غيبُ السموات والأرض عبارةٌ عن يوم القيامة بعينه لما أن علمه بخصوصه غائبٌ عن أهلهما، فوضْعُ الساعة موضعَ الضمير لتقوية مضمونِ الجملة.