فصل: تفسير الآيات (6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (6- 7):

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}
{فَلَعَلَّكَ باخع} أي مُهلكٌ {نَّفْسَكَ على ءاثارهم} غماً ووجداً على فراقهم وقرئ بالإضافة {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} أي القرآنِ الذي عبّر عنه في صدر السورةِ بالكتاب، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبق عليه، وقرئ بأنْ المفتوحةِ أي لأن لم يؤمنوا، فإعمالُ باخعٌ بحمله على حكاية حالٍ ماضيةٍ لاستحضار الصورةِ كما في قوله عز وجل: {باسط} {الحديث أَسَفاً} مفعولٌ له لباخعٌ أي لِفَرْط الحزنِ والغضبِ أو حالٌ مما فيه الضمير أن متأسفاً عليهم، ويجوز حملُ النظمِ الكريم على الاستعارة التبعيةِ بجعل التشبيهِ بين أجزاءِ الطرفين لا بين الهيئتين المنتزَعتين منهما كما في التمثيل، وقد مر تحقيقُه في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض} استئنافٌ وتعليلٌ لما في لعل من معنى الإشفاقِ، أي إنا جعلنا ما عليها ممن عدا مَنْ وُجّه إليه التكليفُ من الزخارف حيواناً كان أو نباتاً أو معدِناً كقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} {زِينَةُ} مفعولٌ ثانٍ للجعل إن حُمل على معنى التصييرِ أو حالٌ إن حمل على معنى الإبداعِ، واللام في {لَهَا} إما متعلقةٌ بزينةً أو بمحذوف هو صفةٌ لها أي كائنةً لها أي ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظراً واستدلالاً، فإن الحياتِ والعقاربَ من حيث تذكيرُهما لعذاب الآخرة من قبيل المنافِع بل كلُّ حادثٍ داخلٌ تحت الزينة من حيث دَلالتُه على وجود الصانعِ ووَحدتِه فإن الأزواجَ والأولادَ أيضاً من زينة الحياةِ الدنيا بل أعظمُها ولا يمنع ذلك كونُهم من جملة المكلفين فإنهم من جهة انتسابهم إلى أصحابهم داخلون تحت الزينةِ ومن جهة كونهم مكلفين داخلون تحت الابتلاء.
{لِنَبْلُوَهُمْ} متعلقٌ بجعلنا أي جعلنا ما جعلنا لنعاملَهم معاملةَ من يختبرهم {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} فنجازيهم بالثواب والعقابِ حسبما تبين المحسنُ من المسيء وامتازت طبقاتُ أفرادِ كلَ من الفريقين حسب امتيازِ مراتبِ علومِهم المرتبة على أنظارهم وتفاوتِ درجاتِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك كما قررناه في مطلع سورة هود، وأيُّ إما استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء وأحسنُ خبرُها والجملةُ في محل النصبِ معلِّقةٌ لفعل البلوى لما فيه من معنى العلمِ باعتبار عاقبتِه كالسؤال والنظرِ، ولذلك أجريَ مَجراه بطريق التمثيلِ أو الاستعارةِ التبعية، وإما موصولةٌ بمعنى الذي وأحسنُ خبرٌ لمبتدأ مضمر، والجملةُ صلةٌ لها وهي في حيز النصبِ بدلٌ من مفعول لنبلوَهم والتقديرُ لنبلوَ الذي هو أحسنُ عملاً فحينئذ يحتمل أن تكون الضمةُ في أيُّهم للبناء كما في قوله عز وجل: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} على أحد الأقوالِ لتحقق شرط البناءِ الذي هو الإضافةُ لفظاً وحذفُ صدرِ الصلةِ وأن تكون للإعراب لأن ما ذكر شرطٌ لجواز البناءِ لا لوجوبه، وحُسنُ العملِ الزهدُ فيها وعدمُ الاغترار بها والقناعةُ باليسير منها وصرفُها على ما ينبغي والتأملُ في شأنها وجعلُها ذريعةً إلى معرفة خالقِها والتمتعُ بها حسبما أذِن له الشرعُ وأداءُ حقوقها والشكرُ لها، لا اتخاذُها وسيلةً إلى الشهوات والأغراضِ الفاسدة كما يفعله الكفرةُ وأصحابُ الأهواء.

.تفسير الآيات (8- 9):

{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9)}
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ} فيما سيأتي عند تناهي عُمرِ الدنيا {مَا عَلَيْهَا} من المخلوقات قاطبةً بإفنائها بالكلية وإنما أُظهر في مقام الإضمارِ لزيادة التقريرِ أو لإدراج المكلفين فيه {صَعِيداً} مفعولٌ ثانٍ للجعل، والصعيدُ الترابُ أو وجهُ الأرضِ، قال أبو عبيدةَ: هو المستوي من الأرض، وقال الزجاجُ: هو الطريقُ الذي لا نبات فيه {جُرُزاً} تراباً لا نباتَ فيه بعد ما كان يَتعجَّب من بهجته النُّظارُ وتتشرف بمشاهدته الأبصارُ، يقال: أرضٌ جرُزٌ لا نباتَ فيها وسَنةٌ جرُزٌ لا مطر فيها. قال الفراء: جُرِزَت الأرضُ فهي مجرُوزة أي ذهب نباتُها بقحط أو جراد، ويقال: جرَزها الجرادُ والشاةُ والإبلُ إذا أكلت ما عليها، وهذه الجملةُ لتكميل ما في السابقة من التعليل، والمعنى لا تحزنْ بما عاينْتَ من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياءِ زينةً لها لنختبرَ أعمالَهم فنجازِيَهم بحسبها وإنا لَمُفْنون جميعَ ذلك عن قريب ومجازون لهم بحسب أعمالهم.
{أَمْ حَسِبْتَ} الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمرادُ إنكارُ حُسبانِ أمّته، وأم منقطعةٌ مقدّرة ببل التي هي للانتقال من حديث إلى حديث لا للإبطال، وبهمزة الاستئنافِ عند الجمهور وببل وحدها عند غيرِهم أي بل أحسبت {أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ} في بقائهم على الحياة مدةً طويلةً من الدهر {مِنْ ءاياتنا} من بين آياتِنا التي من جملتها ما ذكرناه مِنْ جعْل ما على الأرض زينةً لها للحكمة المشارِ إليها ثم جعلِ ذلك كلِّه صعيداً جرُزاً كأن لم تغْنَ بالأمس {عَجَبًا} أي آيةً ذاتَ عجَبٍ وضْعاً له موضعَ المضاف أو وصفاً لذلك بالمصدر مبالغةً، وهو خبرٌ لكانوا ومن آياتنا حالٌ منه، والمعنى أن قصّتَهم وإن كانت خارقةً للعادات ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآياتِ التي من جملتها ما ذكر من تعاجيب خلق الله تعالى بل هي عندها كالنزْر الحقير، والكهفُ الغارُ الواسعُ في الجبل والرقيمُ كلبُهم، قال أمية بن أبي الصَّلت:
وليس بها إلا الرقيمُ مجاورا ** وصيدُهمُ والقومُ في الكهف هُمَّدُ

وقيل: هو لوحٌ رصاصيٌّ أو حجَري رُقمت فيه أسماؤُهم وجُعل على باب الكهفِ، وقيل: هو الوادي الذي فيه الكهفُ فهو من رَقْمة الوادي أي جانبِه، وقيل: الجبلُ، وقيل: قريتُهم، وقيل: مكانُهم بين غضبانَ وأيْلةَ دون فلسطين، وقيل: أصحابُ الرقيم آخرون وكانوا ثلاثةً انطبق عليهم الغارُ فنجَوْا بذكر كلَ منهم أحسنَ عمله على ما فُضِّل في الصحيحين.

.تفسير الآيات (10- 11):

{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)}
{إِذْ أَوَى} ظرفٌ لعجباً لا لحسِبتَ أو مفعولٌ لاذكرُ أي حين التجأ {الفتية} أي أصحابُ الكهف، أوثر الإظهارُ على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوةِ فإنهم كانوا فتيةً من أشراف الرومِ أرادهم دقيانوسُ على الشرك فهربوا منه بدينهم ولأن صاحبيّةَ الكهف من فروع التجائِهم إلى الكهف فلا يناسب اعتبارُها معهم قبل بيانه {إِلَى الكهف} بجلبهم للجلوس واتخذوه مأوى {فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ} من خزائن رحمتِك الخاصةِ المكنونةِ عن عيون أهلِ العادات، فمن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بآتنا أو بمحذوف وقع حالاً من مفعوله الثاني قُدّمت عليه لكونه نكرةً، ولو تأخّرت لكانت صفةً له أي آتنا كائنةً من لدنك {رَحْمَةً} خاصةً تستوجب المغفرةَ والرزقَ والأمنَ من الأعداء {وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} الذي نحن عليه من مهاجَرة الكفارِ والمثابرة على طاعتك، وأصلُ التهيئةِ إحداثُ هيئةِ الشيء، أي أصلحْ ورتِّب وأتممْ لنا من أمرنا {رَشَدًا} إصابةً للطريق الموصلِ إلى المطلوب واهتداءً إليه، وكِلا الجارّين متعلقٌ بهيِّىءْ لاختلافهما في المعنى، وتقديمُ المجرورَين على المعفول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بهما وإبرازِ الرغبةِ في المؤخر بتقديم أحوالِه فإن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ عما هو من أحواله المرغّبة فيه كما يورث شوقَ السامعِ إلى وروده ينبىء عن كمال رغبةِ المتكلّم واعتنائِه بحصوله لا محالة، وكذا الكلامُ في تقديم قوله تعالى: {مِن لَّدُنْكَ} على تقدير تعلّقِه بآتنا، وتقديمُ لنا على (من أمرنا) للإيذان من أول الأمرِ بكون المسؤول مرغوباً فيه لديهم، أو اجعل أمرَنا راشداً كلَّه على أن من تجريديةٌ مثلُها في قولك: رأيتُ منك أسداً.
{فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ} أي أَنَمناهم على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه الإنامةِ الثقيلةِ المانعةِ عن وصول الأصواتِ إلى الآذان بضرب الحجابِ عليها، وتخصيصُ الآذان بالذكر مع اشتراك سائرِ المشاعرِ لها في الحجْب عن الشعور عند النومِ لما أنها المحتاجُ إلى الحجب عادة، إذ هي الطريقةُ للتيقظ غالباً لاسيما عند انفرادِ النائم واعتزالِه عن الخلق، وقيل: الضربُ على الآذان كنايةٌ عن الإنامة الثقيلةِ، وحملُه على تعطيلها كما في قولهم: ضرب الأميرُ على يد الرعيةِ أي منعهم من التصرف مع عدم ملاءمتِه لما سيأتي من البعث لا يدل على النوع مع أنه المرادُ قطعاً، والفاء في فضربنا كما في قوله عز وجل: {فاستجبنا لَهُ} بعد قوله تعالى: {إِذْ نادى} فإن الضربَ المذكور وما ترتب عليه من التقليب ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال والبعثِ وغيرِ ذلك إيتاءُ رحمةً لدنيّةٍ خافيةٍ عن أبصار المتمسكين بالأسباب العادية استجابةً لدعوتهم {فِى الكهف} ظرف مكان لضربنا {سِنِينَ} ظرفُ زمان له باعتبار بقائِه لا ابتدائِه {عَدَدًا} أي ذواتَ عدد أو تُعدّ عدداً على أنه مصدرٌ أو معدودةً على أنه بمعنى المفعول، ووصفُ السنين بذلك إما للتكثير وهو الأنسبُ بإظهار كمالِ القدرةِ أو للتقليل وهو الأليقُ بمقام إنكارِ كون القصةِ عجباً من بين سائر الآياتِ العجيبة فإن مدة لُبثهم كبعض يومٍ عنده عز وجل.

.تفسير الآية رقم (12):

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}
{ثُمَّ بعثناهم} أي أيقظناهم من تلك النومةِ الثقيلة الشبيهة بالموت {لَنَعْلَمُ} بنون العظمة، وقرئ بالياء مبنياً للفاعل بطريق الالتفاتِ، وأياً ما كان فهو غايةٌ للبعث لكن لا بجعل العلمِ مجازاً من الإظهار والتمييز، أو بحمله على ما يصِح وقوعُه غايةً للبعث الحادثِ من العلم الحالي الذي يتعلق به الجزاءُ كما في قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ} ونظائِرهما التي يتحقق فيها العلمُ بتحقق متعلقِه قطعاً، فإن تحويلَ القِبلة قد ترتب عليه تحزّبُ الناس إلى متّبعٍ ومنقلب، وكذا مداولةُ الأيامِ بين الناس ترتب عليه تحزّبُهم إلى الثابت على الإيمان والمتزلزلِ فيه وتعلق بكل من الفريقين العلمُ الحالي والإظهارُ والتمييزُ، وأما بعثُ هؤلاء فلم يترتب عليه تفرقُهم إلى المَحْصيِّ وغيره حتى يتعلق بهما العلم أو الإظهارُ والتمييزُ ويتسنى نظمُ شيء من ذلك في سلك الغاية، وإنما الذي ترتب عليه تفرقُهم إلى مقدِّر تقديراً غيرَ مصيب ومفوِّض إلى العلم الرباني وليس شيءٌ منهما من الإحصاء في شيء بل بحمل النظمِ الكريم على التمثيل المبنيِّ على جعل العلمِ عبارةً عن الاختبار مجازاً بطريق إطلاقِ اسمِ المسبَّب على السبب، وليس من ضرورة الاختبارِ صدورُ الفعل المختبَرِ به عن المختبَرِ قطعاً، بل قد يكون لإظهار عجزِه عنه على سنن التكاليفِ التعجيزيةِ كقوله تعالى: {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} وهو المرادُ هاهنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملةَ من يختبرهم.
{أَيُّ الحِزْبَيْنِ} أي الفريقين المختلفَين في مدة لُبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي {أحصى} أي أضبط {لِمَا لَبِثُواْ} أي للبثهم {أَمَدًا} أي غايةً فيظهر لهم عجزُهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالَهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانِهم وأديانِهم فيزدادوا يقيناً بكمال قدرتِه وعلمِه ويستبصروا به أمرَ البعث ويكون ذلك لطفاً لمؤمني زمانِهم وآيةً بينة لكفارهم، وقد اقتُصر هاهنا من تلك الغايات الجليلةِ على ذكر مبدئِها الصادرِ عنه عز وجل وفيما سيأتي على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدّي إليها، وهذا أولى من تصوير التمثيلِ بأن يقال: بعثناهم بعْثَ من يريد أن يعلم إلخ حسبما وقع في تفسير قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ} على أحد الوجوهِ حيث حُمل على معنى فعلنا ذلك فِعْلَ مَن يريد أن يعلم مَن الثابتُ على الإيمان من غير الثابت، إذ ربما يتوهم منه استلزامُ الإرادةِ لتحقق المراد، فيعود المحذورُ فيصار إلى جعل إرادةِ العلم عبارةً عن الاختبار فاختبر واختر.
هذا وقد قرئ: {ليُعْلِمَ} مبنياً للمفعول ومبنياً للفاعل من الإعلام على أن المفعولَ الأولَ محذوفٌ والجملة المصدرةُ بأي في موقع المفعولِ الثاني فقط إن جعل العلمُ عِرفانياً، وفي موقع المفعولين إن جعل يقينياً أي ليُعلِمَ الله الناسَ أيَّ الحزبين أحصى الخ، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحدَ الحزبين الفتيةُ والآخرَ الملوكُ الذين تداولوا المدينةَ مُلكاً بعد ملك، وقيل: كلاهما من غيرهم والأولُ هو الأظهر، فإن اللامَ للعهد ولا عهدَ لغيرهم والأمدُ بمعنى المدى كالغاية في قولهم: ابتداءُ الغاية وانتهاءُ الغاية وهو مفعولٌ لأحصي، والجارُّ والمجرور حالٌ منه قدمت عليه لكونه نكرةً.
وليس معنى إحصاءِ تلك المدةِ ضبطَها من حيث كميتُها المتصلةُ الذاتيةُ فإنه لا يسمى إحصاءً بل ضبطَها من حيث كميتُها المنفصلةُ العارضةُ لها باعتبار قسمتِها إلى السنينَ وبلوغها من تلك الحيثيةِ إلى مراتبِ الأعداد على ما يرشدك إليه كونُ تلك المدة عبارةً عما سبق من السنين.
ويجوز أن يراد بالأمد معناه الوضعيُّ بتقدير المضافِ أي لزمان لُبثِهم وبدونه أيضاً فإن الُلبثَ عبارةٌ عن الكون المستمرِّ المنطبق على الزمان المذكورِ فباعتبار الامتدادِ العارضِ له بسببه يكون له أمدٌ لا محالة، لكن ليس المرادُ به ما يقع عليهم غايةً ومنتهًى لذلك الكونِ المستمرِّ باعتبار كميتِه المتصلةِ العارضةِ له بسبب انطباقِه على الزمان الممتدِّ بالذات وهو آنُ انبعاثِهم من نومهم فإن معرفتَه من تلك الحيثيةِ لا تخفى على أحد ولا تسمّى إحصاءً كما مر، بل باعتبار كميّتِه المنفصلةِ معارضةً له بسبب عروضِها لزمانه المنطبقِ هو عليه باعتبار انقسامِه إلى السنين ووصولِه إلى مرتبة معينةٍ من مراتب العددِ كما حقق في الصورة الأولى، والفرقُ بين الاعتبارين أن ما تعلق به الإحصاءُ في الصورة السابقةِ نفسُ المدة المنقسمةِ إلى السنين فهو مجموعُ ثلاثِمائةٍ وتسعِ سنين، وفي الصورة الأخيرةِ منتهى تلك المدةِ المنقسمةِ إليها أعني السنةَ التاسعةَ بعد الثلاثِمائةِ، وتعلقُ الإحصاءِ بالأمد بالمعنى الأول ظاهرٌ، وأما تعلقُه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامِه لما تحته من مراتب العددِ واشتمالِه عليها. هذا تقديرُ كون «ما» في قوله تعالى: {لِمَا لَبِثُواْ} مصدريةً ويجوز أن تكون موصولةً حُذف عائدُها من الصلة أي للذي لبثوا فيه من الزمان الذي عبّر عنه فيما قبل بسنينَ عدداً، فالأمدُ بمعناه الوضعيِّ على ما تحققْتَه، وقيل: اللامُ مزيدةٌ والموصولُ مفعولٌ وأمداً نصبٌ على التمييز، وأما ما قيل من أنّ أحصى اسمُ تفضيل لأنه الموافقُ لما وقع في سائر الآيات الكريمةِ نحوُ: {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونَه فعلاً ماضياً يُشعر بأن غايةَ البعث هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ على البعث لا بالإحصاء المتأخرِ عنه وليس كذلك، وادعاءُ أن مجيءَ أفعلِ التفضيلِ من المزيد عليه غيرُ قياسي مدفوعٌ بأنه عند سيبويهِ قياسٌ مطلقاً، وعند ابن عصفورٍ فيما ليست همزتُه للنقل ولا ريب في أن ما نحن فيه من ذلك القبيلِ، وامتناعُ عمله إنما هو في غير التمييز من المعمولات، وأما أن التمييزَ يجب كونُه فاعلاً في المعنى فلمانعٍ أن يمنعَه بصحة أن يقال: أيُّهم أحفظُ لهذا الشعر وزناً أو تقطيعاً، أو يقالَ: إن العاملَ في أمداً فعلٌ محذوفٌ يدل عليه المذكورُ أي يُحصي لما لبثوا أمداً كما في قوله:
وأضرَبُ منا بالسيوف القوانسا

وحديثُ الوقوع في المحذور بلا فائدة مدفوعٌ بما أشير إليه من فائدة الموافقةِ للنظائر، فمع ما فيه من الاعتسافِ والخللِ بمعزل من السَّداد لأن مؤداه أن يكون المقصودُ بالاختبار إظهارَ أفضلِ الحزبين وتمييزَه عن الأدنى مع تحقق أصلِ الإحصاء فيهما، ومن البيّن أن لا تحقُّقَ له أصلاً وأن المقصودَ بالاختبار إظهارُ عجزِ الكلِّ عنه رأساً فهو فعل ماضٍ قطعاً، وتوهُم إيذانِه بأن غايةَ البعثِ هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ عليه مردودٌ بأن صيغةَ الماضي باعتبار حالِ الحكايةِ والله تعالى أعلم.