فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (51):

{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}
{مَّا أَشْهَدتُّهُمْ} استئنافٌ مَسوق لبيان عدمِ استحقاقِهم للاتخاذ المذكورِ في أنفسهم بعد بيانِ الصوارفِ عن ذلك من خباثة المَحتِد والفسق والعداوة، أي ما أحضَرْتُ إبليسَ وذريتَه {خُلِقَ السموات والأرض} حيث خلقتُهما قبل خلقِهم {وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} أي ولا أشهدتُ بعضَهم خلقَ بعض كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} هذا ما أجمع عليه الجمهورُ حِذاراً من تفكيك الضميرين ومحافظةً على ظاهر لفظ الأنفس، ولك أن تُرجع الضميرَ الثانيَ إلى الظالمين وتلتزمَ التفكيكَ بناءً على قَوْد المعنى إليه، فإن نفيَ إشهادِ الشياطين خلقَ الذين يتولَّونهم هو الذي يدور عليه إنكارُ اتخاذهم أولياءَ بناء على أن أدنى ما يصحح التوليَ حضورُ الوليِّ خلقَ المتولى، وحيث لا حضورَ لا مصحِّحَ للتولي قطعاً، وأما نفيُ وإشهادِ بعضِ الشياطينِ خلقَ بعض منهم فليس من مدارية الإنكارِ المذكور في شيء، على أن إشهادَ بعضهم خلقَ بعض إن كان مصحِّحاً لتولي الشاهدِ بناءً على دِلالته على كماله باعتبار أن له مدخلاً في خلق المشهودِ في الجملة فهو مُخِلٌّ بتولي المشهودِ بناء على قصوره عمّن شهِد خلقَه فلا يكون نفيُ الإشهادِ المذكورِ متمحّضاً في نفي الكمالِ المصحِّح للتولي عن الكل وهو المناطُ للإنكاء المذكور {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين} أي متّخذَهم، وإنما وُضع موضعَه المظهُر ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال وتأكيداً لما سبق من إنكار اتخاذِهم أولياءَ {عَضُداً} أعواناً في شأن الخلقِ أو في شأن من شؤوني حتى يُتوهّم شِرْكتُهم في التولي بناء على الشركة في بعض أحكامِ الربوبية، وفيه تهكمٌ بهم وإيذانٌ بكمال ركاكةِ عقولِهم وسخافةِ آرائِهم حيث لا يفهمون هذا الأمرَ الجليَّ الذي لا يكاد يشتبه على البُلْه والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به، وإيثارُ نفي الإشهاد على نفي شهودِهم ونفي اتخاذِهم أعواناً على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرتِه تعالى تابعون لمشيئته وإرادتِه فيهم، وأنهم بمعزل من استحقاق الشهودِ والمعونة من تلقاء أنفسِهم من غير إحضارٍ واتخاذ وإنما قُصارى ما يتوهم في شأنهم أن يبلُغوا ذلك المبلغَ بأمر الله عز وجل ولم يكد ذلك يكون، وقيل: الضميرُ للمشركين والمعنى ما أشهدتُهم خلقَ ذلك وما أطلعتُهم على أسرار التكوينِ وما خصَصْتُهم بفضائلَ لا يَحويها غيرُهم حتى يكونوا قدوةً للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعُمون فلا يُلتفت إلى قولهم طمعاً في نُصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضِدَ بالمُضِلّين، ويعضُده القراءةُ بفتح التاءِ خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى ما صح لك الاعتضادُ بهم. ووصفُهم بالإضلال لتعليل نفي الاتخاذِ، وقرئ: {متّخِذاً المُضلّين} على الأصل، وقرئ: {عُضْداً} بضم العين وسكون الضاد وبفتح وسكون بالتخفيف وبضمتين بالاتباع وبفتحتين على أنه جمع عاضد كرَصَد وراصد.

.تفسير الآيات (52- 55):

{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)}
{وَيَوْمَ يَقُولُ} أي الله عز وجل للكافرين توبيخاً وتعجيزاً، وقرئ بنون العظمة {نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ} أنهم شفعاؤُكم ليشفعوا لكم، والمرادُ بهم كلُّ ما عُبد من دونه تعالى، وقيل: إبليسُ وذرِّيتُه {فَدَعَوْهُمْ} أي نادَوهم للإغاثة، وفيه بيانٌ لكمال اعتنائِهم بإعانتهم على طريقة الشفاعةِ إذ معلومٌ أن لا طريقَ إلى المدافعة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} فلم يُغيثوهم إذ لا إمكان لذلك وفي إيراده مع ظهوره تهكمٌ بهم وإيذانٌ بأنهم في الحماقه بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} بين الداعين والمدعوّين {مَّوْبِقاً} اسمُ مكانٍ أو مصدرٌ من وبَق وُبوقاً كوثب وثوباً وبِق وبَقاً كفرح فرحاً إذا هلَك أي مهلِكاً يشتركون فيه وهو النارُ، أو عداوةً وهي في الشدة نفسُ الهلاك كقول عمر رضي الله عنه: «لا يكن حبُّك كلَفاً ولا بغضُك تلَفاً» وقيل: البينُ الوصلُ أي وجعلنا تواصلَهم في الدنيا هلاكاً في الآخرة، ويجوز أن يكون المرادُ بالشركاء الملائكةَ وعزيراً وعيسى عليهم السلام ومريمَ، وبالمَوْبق البرزخَ البعيدَ أي جعلنا بينهم أمداً بعيداً يُهلِك فيه الأشواطُ لفرْط بُعده لأنهم في قعر جهنمَ وهم في أعلى الجنان.
{وَرَأَى المجرمون النار} وُضع المظهرُ مقام المُضمر تصريحاً بإجرامهم وذماً لهم بذلك {فَظَنُّواْ} أي فأيقنوا {أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} مخالطوها واقعون فيها أو ظنوا إذ رأوها من مكان بعيد أنهم مواقعوها الساعةَ {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا} انصرافاً أو معدِلاً ينصرفون إليه.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي كررنا وأوردنا على وجوه كثيرةٍ من النظم {فِى هذا القرءان لِلنَّاسِ} لمصلحتهم ومنفعتِهم {مِن كُلّ مَثَلٍ} من جملته ما مر مِن مَثَل الرجلين ومثَل الحياةِ الدنيا أو من كل نوعٍ من أنواع المعاني البديعةِ الداعيةِ إلى الإيمان التي هي في الغرابة والحسنِ واستجلاب النفس كالمثل ليتلقَّوْه بالقَبول فلم يفعلوا {وَكَانَ الإنسان} بحسب جِبلَّته {أَكْثَرَ شيء جَدَلاً} أي أكثرَ الأشياءِ التي يتأتى منها الجدلُ وهو هاهنا شدةُ الخُصومةِ بالباطل والمماراةِ، من الجدْل الذي هو الفتْلُ، والمجادلةُ الملاواةُ لأن كلاًّ من المجادِلَين يلتوي على صاحبه، وانتصابُه على التمييز والمعنى أن جدَله أكثرُ من جدَل كلِّ مجادل.
{وَمَا مَنَعَ الناس} أي أهلَ مكةَ الذين حُكيت أباطيلُهم {أَن يُؤْمِنُواْ} من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا ما هم فيه من الإشراك {إِذْ جَاءهُمُ الهدى} أي القرآنُ العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبةِ له {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} عما فرَط منهم من أنواع الذنوبِ التي من جملتها مجادلتُهم للحق بالباطل {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} أي إلا طلبُ إتيانِ سُنّتهم أو إلا انتظارُ إتيانِها، أو إلا تقديرُه فحذُف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه وسنتُهم الاستئصالُ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب} أي عذابُ الآخرة {قُبُلاً} أي أنواعاً، جمعُ قَبيل أو عِياناً كما في قراءة قِبَلاً بكسر القاف وفتحِ الباء، وقرئ بفتحتين أي مستقبَلاً، يقال: لقِيتُه قُبُلاً وقَبَلاً وقِبَلاً، وانتصابُه على الحالية من الضمير أو العذاب والمعنى أن ما تضمنه القرآنُ الكريم من الأمور المستوجبةِ للإيمان بحيث لو لم يكن مثلَ هذه الحكمةِ القوية لما امتنع الناسُ من الإيمان وإن كانوا مجبولين على الجدَل المفْرِط.

.تفسير الآيات (56- 57):

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} إلى الأمم ملتبسين بحال من الأحوال {إِلا} حالَ كونهم {مُبَشّرِينَ} للمؤمنين بالثواب {وَمُنذِرِينَ} للكفرة والعصاة بالعقاب {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل} باقتراح الآياتِ بعد ظهور المعجزاتِ والسؤالِ عن قصة أصحاب الكهفِ ونحوها تعنّتاً {لِيُدْحِضُواْ بِهِ} أي بالجدال {الحق} أي يُزيلوه عن مركزه ويُبْطلوه من إدحاض القدمِ وهو إزلاقُها، وهو قولهم للرسل عليهم الصلاة والسلام: {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} {وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة} ونحوُهما {واتخذوا ءاياتى} التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال {وَمَا أُنْذِرُواْ} أي أُنذروه من القوارع الناعيةِ عليهم العقابَ والعذابَ أو إنذارهم {هُزُواً} استهزاءً، وقرئ بسكون الزاي وهو ما يستهزأ به.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ} وهو القرآنُ العظيم {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} ولم يتدبرها ولم يتذكرْ بها، وهذا السبكُ وإن كان مدلولُه الوضعيُّ نفيَ الأظلمية من غير تعرّضٍ لنفي المساواة في الظلم إلا أن مفهومَه العُرْفيَّ أنه أظلمُ من كل ظالم، وبناءُ الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض عن القرآن للإشعار بأن ظلمَ من يجادل فيه ويتخذُه هزواً خارجٌ عن الحد {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي عملَه من الكفر والمعاصي التي من جملتها ما ذكر من المجادلة بالباطل والاستهزاءِ بالحق ولم يتفكر في عاقبتها {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطيةً كثيرة جمع كِنان، وهو تعليلٌ لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوعٌ على قلوبهم {أَن يَفْقَهُوهُ} مفعولٌ لما دل عليه الكلام أي منعناهم أن يقفوا على كُنهه، أو مفعولٌ له أي كراهةَ أن يفقهوه {وَجَعَلْنَا على} أي جعلنا فيها {وِقْراً} ثِقَلاً يمنعهم من استماعه {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً} أي فلن يكون منهم اهتداءٌ البتةَ مدةَ التكليف، وإذن جزاءٌ للشرط وجوابٌ عن سؤال النبي عليه الصلاة والسلام المدلولِ عليه بكمال عنايتِه بإسلامهم، كأنه قال عليه الصلاة والسلام: «مالي لا أدعوهم؟» فقيل: إن تدعهم الخ، وجمعُ الضميرِ الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار لفظِه.

.تفسير الآيات (58- 60):

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}
{وَرَبُّكَ} مبتدأ وقوله تعالى: {الغفور} خبرُه وقوله تعالى: {ذُو الرحمة} أي الموصوفُ بها، خبرٌ بعد خبرٍ، وإيرادُ المغفرة على صيغة المبالغة دون الرحمة للتنبيه على كثرة الذنوب، ولأن المغفرةَ تركُ المضارّ وهو سبحانه قادرٌ على ترك ما لا يتناهى من العذاب، وأما الرحمةُ فهي فعل وإيجادٌ ولا يدخل تحت الوجود إلا ما يتناهى، وتقديمُ الوصف الأولِ لأن التخليةَ قبل التحلية أو لأنه أهمُّ بحسب الحال إذ المقامُ مقامُ بيانِ العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يُعرب عنه قوله عز وجل: {لَوْ يُؤَاخِذُهُم} أي لو يريد مؤاخذتهم {بِمَا كَسَبُواْ} من المعاصي التي من جملتها ما حُكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضِهم عن آيات ربهم وعدمِ المبالاة بما اجترحوا من المُوبقات {لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} لاستيجاب أعمالِهم لذلك، وإيثارُ المؤاخذةِ المنبئة عن شدة الأخذِ بسرعة على التعذيب والعقوبةِ ونحوهما للإيذان بأن النفيَ المستفادَ من مقدَّم الشرطية متعلقٌ بوصف السرعة كما ينبىء عنه تاليها، وإيثارُ صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضيّ لإفادة أن انتفاءَ تعجيلِ العذاب لهم بسبب استمرار عدمِ إرادة المؤاخذة فإن المضارعَ الواقعَ موقعَ الماضي يفيد استمرارَ انتفاءِ الفعل فيما مضى كما حُقق في موضعه {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} اسمُ زمان هو يومُ القيامة، والمجلةُ معطوفةٌ على مقدر كأنه قيل: لكنهم ليسوا بمؤاخذين بغتةً {لَّن يَجِدُواْ} البتةَ {مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} منْجى أو ملجأً، يقال: وأل أي نجا ووأل إليه أي لجأ إليه.
{وَتِلْكَ القرى} أي قرى عاد وثمودَ وأضرابِها، وهي مبتدأٌ على تقدير المضافِ أي وأهلُ تلك القرى خبرُه قوله تعالى: {أهلكناهم} أو مفعولٌ مضمرٌ مفسر به {لَمَّا ظَلَمُواْ} أي وقت ظلمِهم كما فعلت قريشٌ بما حُكي عنهم من القبائح، وتركُ المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلةَ اللازم أي لما فعلوا الظلم، ولمّا إما حرفٌ كما قال ابنُ عصفور، وإما ظرفٌ استعمل للتعليل وليس المرادُ به الوقتَ المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمانٌ ممتدٌ من ابتداء الظلم إلى آخره {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم} أي عيّنّا لهلاكهم {مَّوْعِدًا} أي وقتاً معيناً لا محيدَ لهم عن ذلك، وهذا اسشهاد على ما فُعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب، وقرئ بضم الميم وفتح اللام أي إهلاكهم وبفتحهما.
{وَإِذْ قَالَ موسى} نصب بإضمار فعل، أي اذكر وقت قوله عليه السلام {لفتاه} وهو يوشعُ بن نونٍ بنِ أفرايمَ بنِ يوسفَ عليه السلام، سُمّي فتاه إذ كان يخدُمه ويتبعه، وقيل: كان يتعلم منه ويسمى التلميذُ فتًى وإن كان شيخاً، ولعل المرادَ بتذكيره عَقيب بيانِ أن لكل أمة موعداً تذكيرُ ما في القصة من موعد الملاقاة مع ما فيها من سائر المنافعِ الجليلة {لا أَبْرَحُ} من برِح الناقصِ كزال يزال، أي لا أزال أسير فحُذف الخبر اعتماداً على قرينة الحالِ إذْ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالاً على ما يعقُبه من قوله: {حتى أَبْلُغَ} فإن ذلك غايةٌ تستدعي ذا غايةً يؤدّي إليها، ويجوز أن يكون أصلُ الكلام لا يبرَح مسيري حاصلاً حتى أبلُغ فيُحذف المضافُ ويقام المضافُ إليه مُقامَه فينقلب الضمير البارزُ المجرورُ المحلِّ مرفوعاً مستكنًّا، والفعلُ من صيغة الغَيبة إلى التكلم.
ويجوز أن يكون من برح التامِّ كزال يزول أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ {مَجْمَعَ البحرين} هو ملتقى بحرِ فارسَ والروم مما يلي المشرِق، وقيل: طَنْجَةُ، وقيل: هما الكر والرس بإرْمِيْنِيةَ، وقيل: إِفْرِيقِيَّة، وقرئ بكسر الميم كمشرق {أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً} أسير زماناً طويلاً أتيقن معه فواتَ المطلب والحُقب الدهرُ أو ثمانون سنة، وكان منشأُ هذه العزيمة أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر مع بني إسرائيلَ واستقروا بها بعد هلاكِ القِبْط أمره الله عز وجل أن يذكّر قومَه النعمةَ فقام فيهم خطيباً بخطبة بديعةٍ رقت بها القلوبُ وذرَفت العيون، فقالوا له: مَنْ أعلمُ الناس؟ قال: أنا. فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه عز وجل فأوحى إليه: بل أعلمُ منك عبدٌ لي عند مجمع البحرين وهو الخِضْرُ عليه السلام. وكان في أيام أفريذون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدّمة ذي القرنين وبقي إلى أيام موسى. وقيل: إن موسى عليه السلام سأل ربه: أيُّ عبادِك أحبُّ إليك؟ قال: الذي يذكرُني ولا ينساني قال: فأيُّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال: فأيُّ عبادك أعلمُ؟ قال: الذي يبتغي علمَ الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى، أو تردّه عن ردَى فقال: إن كان في عبادك من هو أعلمُ مني فدلَّني عليه، قال: أعلمُ منك الخِضْرُ قال: أين أطلبه؟ قال: على ساحل البحر عند الصخرة قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً في مِكْتل فحيثما فقَدته فهو هناك. فأخذ حوتاً فجعله في مِكتل، فقال لفتاه: إذا فقدتَ الحوتَ فأخبرني فذهبا يمشيان.

.تفسير الآيات (61- 62):

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)}
{فَلَمَّا بَلَغَا} الفاءُ فصيحة كما أشير إليه {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} أي مجمعَ البحرين، وبينِهما ظرفٌ أضيف إليه اتساعاً أو بمعنى الوصل {نَسِيَا حُوتَهُمَا} الذي جُعل فقدانُه أمارةَ وُجدانِ المطلوب أي نسيا تفقّد أمره وما يكون منه، وقيل: نسي يوشع أن يقدّمه وموسى عليه السلام أن يأمره فيه بشيء، روي أنهما لما بلغا مجمع البحرين وفيه الصخرةُ وعينُ الحياة التي لا يصيب ماؤها ميْتاً إلا حيِيَ وضعا رؤوسَهما على الصخرة فناما فلما أصاب الحوتَ بردُ الماء ورَوحُه عاش، وقد كانا أكلا منه وكان ذلك بعد ما استيقظ يوشع عليه السلام، وقيل: توضأ عليه السلام من تلك العينِ فانتضح الماءُ على الحوت فعاش فوقع في الماء {فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً} مسلَكاً كالسرب وهو النفق، قيل: أمسك الله عز وجل جريةَ الماء على الحوت فصار كالطاق عليه معجزةً لموسى أو للخضر عليهما السلام، وانتصابُ سَرباً على أنه مفعولٌ ثانٍ لاتخذ وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز أن يتعلق باتخذ.
{فَلَمَّا جَاوَزَا} أي مجمعَ البحرين الذي جُعل موعداً للملاقاة، قيل: أدلجا وسارا الليلةَ والغدَ إلى الظهر وأُلقي على موسى عليه السلام الجوعُ فعند ذلك {قَالَ لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا} أي ما نتغدى به وهو الحوتُ كما ينبىء عنه الجواب {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا} إشارةٌ إلى ما سارا بعد مجاوزةِ الموعد {نَصَباً} تعباً وإعياءً، قيل: لم ينصَبْ ولم يجُعْ قبل ذلك، والجملةُ في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصَبَ إنما يعتري بسبب الضعفِ الناشىء عن الجوع وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما.