فصل: تفسير الآيات (63- 64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (63- 64):

{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64)}
{قَالَ} أي فتاه عليه السلام: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة} أي التجأنا إليها وأقمنا عندها. وذكرُ الإِواءِ إليها مع أن المذكور فيما سبق مرتين بلوغُ مجمعِ البحرين لزيادة تعيينِ محلِّ الحادثة، فإن المجمَع محلٌ متسعٌ لا يمكن تحقيقُ المراد المذكور بنسبة الحادثةِ إليه ولتمهيد العذر فإن الإِواءَ إليها والنومَ عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة، والرؤيةُ مستعارةٌ للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملةِ، ومرادُه بالاستفهام تعجيبُ موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، وقد جُعل فقدانُه فقدانُه علامةً لوجدان المطلوب وهذا أسلوبٌ معتادٌ فيما بين الناس، يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب: أرأيتَ ما نابني؟ يريد بذلك تهويلَه وتعجيبَ صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعُه لا استخبارُه عن ذلك كما قيل، والمفعولُ محذوفٌ اعتماداً على ما يدل عليه من قوله عز وجل: {فَإِنّى نَسِيتُ الحوت} وفيه تأكيدٌ للتعجيب وتربيةٌ لاستعظام المنسيِّ، وإيقاعُ النسيان على اسم الحوتِ دون ضمير الغَداءِ مع أنه المأمورُ بإتيانه للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نِسيان المسافرِ زادَه في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوالِ المتعلقة بالغداء من حيث هو غَداءٌ وطعامٌ، بل من حيث هو حوتٌ كسائر الحِيتان مع زيادة أي نسِيتُ أن أذكر لك أمرَه وما شاهدتُ منه من الأمور العجيبة {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} بوسوسته الشاغلةِ عن ذلك وقوله تعالى: {أَنْ أَذْكُرَهُ} بدلُ اشتمال من الضمير أي ما أنساني أن أذكرَه لك، وفي تعليق الإنساء بضمير الحوتِ أولاً وبذكره له ثانياً على طريق الإبدالِ المنبىء عن تنحية المبدَل منه إشارةٌ إلى أن متعلَّقَ النسيان أيضاً ليس نفسَ الحوتِ بل ذكرُ أمره، وقرئ: {أن أذكّره}، وإيثارُ أن أذكُرَه على المصدر للمبالغة فإن مدلوله نفسُ الحدث عند وقوعه، والحالُ وإن كانت غريبةً لا يُعهد نسيانُها لكنه لما تعوّد بمشاهدة أمثالِها عند موسى عليه السلام وألِفَها قل اهتمامه بالمحافظة عليها {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَبًا} بيانٌ لطرف من أمر الحوتِ منبىءٌ عن طرف آخرَ منه، وما بينهما اعتراضٌ قُدم عليه للاعتناء بالاعتذار، كأنه قيل: حَيِيَ واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجباً، فعجباً ثاني مفعولَي اتخَذ والظرفُ حالٌ من أولهما أو ثانيهما، أو هو المفعولُ الثاني وعجباً صفةُ مصدرٍ محذوفٍ أي اتخاذاً عحباً وهو كونُ مسلَكه كالطاق والسرَب، أو مصدرُ فعلٍ محذوف أي أتعجب منه عجباً، وقد قيل: إنه من كلام موسى عليه الصلاة والسلام وليس بذاك.
{قَالَ} أي موسى عليه السلام {ذلك} الذي ذكرتَ من أمر الحوت {مَا كُنَّا نَبْغِ} وقرئ بإثبات الياء، والضميرُ العائد إلى الموصول محذوفٌ، أصلُه نبغيه أي نطلبه لكونه أَمارةً للفوز بالمرام {فارتدا} أي رجعا {على ءاثَارِهِمَا} طريقِهما الذي جاءا منه {قَصَصًا} يقُصان قَصصاً أي يتّبعان آثارَهما اتباعاً أو مقتصّين حتى أتيا الصخرة.

.تفسير الآيات (65- 69):

{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)}
{فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا} التنكيرُ للتفخيم والإضافةُ للتشريف والجمهور على أنه الخِضْرُ واسُمه بَلْيَا بنُ مَلْكَان، وقيل: اليسع، وقيل: إلياس عليهم الصلاة والسلام {رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ} هي الوحيُ والنبوةُ كما يُشعِرُ به تنكيرُ الرحمة واختصاصُها بجناب الكبرياء {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} خاصاً لا يُكتنه كُنهُه ولا يقادر قدرُه وهو علمُ الغيوب.
{قَالَ لَهُ موسى} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من السباق، كأنه قيل: فماذا جرى بينهما من الكلام؟ فقيل: قال له موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ} استئذاناً منه في اتّباعه له على وجه التعلم {مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً} أي علماً ذا رُشدٍ أرشُد به في ديني، والرشدُ إصابةُ الخير، وقرئ بفتحتين وهو مفعولُ تعلّمنِ ومفعول عُلّمت محذوفٌ وكلاهما منقولٌ من عِلم المتعدي إلى مفعول واحد، ويجوز كونُه علةً لأتبعُك أو مصدراً بإضمار فعله، ولا ينافي نبوتَه وكونَه صاحبَ شريعةٍ أن يتعلم من نبي آخرَ ما لا تعلقَ له بأحكام شريعتِه من أسرار العلومِ الخفية، ولقد راعى في سَوق الكلام غايةَ التواضع معه عليهما السلام.
{قَالَ} أي الخِضْر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} نفى عنه استطاعةَ الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصِحّ ولا يستقيم وعلله بقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} إيذاناً بأنه يتولى أموراً خفيةَ المدارِ مُنْكَرةَ الظواهرِ، والرجلُ الصالح لاسيما صاحبِ الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها. وفي صحيح البخاري قال: «يا موسى إنى على علمٍ من علم الله تعالى علَّمنيه لا تعلَمُه وأنت على علمٍ من علم الله علّمكه الله لا أعلمه» وخبراً تمييز أي لم يحط به خبرك.
{قَالَ} موسى عليه الصلاة والسلام: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا} معك غيرَ معترضٍ عليك، وتوسيطُ الاستثناء بين مفعولَي الوُجدان لكمال الاعتناءِ بالتيمّن ولئلا يُتوهّم بالصبر {وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً} عطف على صابراً أي ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ، وفي وعد هذا الوُجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبرِ وتركِ العصيان، أو على ستجدني فلا محلَّ له من الإعراب والأولُ هو الأولى لما عرفته ولظهور تعلقِه بالاستثناء حينئذ، وفيه دليلٌ على أن أفعالَ العبادِ بمشيئة الله سبحانه وتعالى.

.تفسير الآيات (70- 74):

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}
{قَالَ فَإِنِ اتبعتنى} أذِن له في الاتّباع بعد اللتيا والتي، والفاءُ لتفريع الشرطيةِ على ما مر من التزام موسى عليه الصلاة والسلام للصبر والطاعة {فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء} تشاهده من أفعالي أي لا تفاتحْني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي حتى أبتدىء ببيانه، وفيه إيذانٌ بأن كلَّ ما صدر عنه فله حكمةٌ وغايةٌ حميدةٌ البتةَ، وهذا من أدب المتعلم مع العالم والتابعِ مع المتبوع، وقرئ: {فلا تسألَنّي} بالنون المثقلة.
{فانطلقا} أي موسى والخضِرُ عليهما الصلاة والسلام على الساحل يطلبان السفينةَ، وأما يوشعُ فقد صرفه موسى عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيلَ، قيل: إنهما مرا بسفينة فكلّما أهلها فعرفوا الخضِرَ فحملوهما بغير نَول {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة} استعمالُ الركوب في أمثال هذه المواقع بكلمة في مع تجريده عنها في مثل قوله عز وجل: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} على ما يقتضيه تعديتُه بنفسه لِما أشرنا إليه في قوله تعالى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا} لا لما قيل: من أن في ركوبها معنى الدخول {خَرَقَهَا} قيل: خرقها بعد ما لججوا حيث أخذ فأساً فقلع من ألواحها لوحين مما يلي الماء، فعند ذلك {قَالَ} موسى عليه السلام {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} من الإغراق، وقرئ بالتشديد من التغريق وليغرَقَ أهلُها من الثلاثي {لَقَدْ جِئْتَ} أتيت وفعلت {شَيْئًا إِمْرًا} أي عظيماً هائلاً من أمرِ الأمرُ إذا عظُم، قيل: الأصل أَمِراً فخفف.
{قَالَ} أي الخضِرُ عليه السلام: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} تذكيرٌ لما قاله من قبلُ وتحقيقٌ لمضمونه متضمنٌ للإنكار على عدم الوفاء بوعده {قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ} بنيساني أو بالذي نسِيتُه أي بشيء نسيتُه وهو وصيتُه بأن لا يسألَه عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفيةِ الأسبابِ قبلَ بيانه، أراد أنه نسِيَ وصيته ولا مؤاخذةَ على الناسي كما ورد في صحيح البخاريّ من أن الأولَ كان من موسى نسياناً، أو أَخْرج الكلامَ في معرِض النهي عن المؤاخذة بالنسيان يوهمه أنه قد نسِيَ ليبسُطَ عذرَه في الإنكار، وهو من معاريض الكلام التي يتقى بها الكذبُ مع التوصل إلى الغرض، أو أراد بالنسيان التركَ أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة {وَلاَ تُرْهِقْنِى} أي لا تُغشِّني ولا تحمّلني {مِنْ أَمْرِى} وهو اتباعه إياه {عُسْراً} أي لا تعسِّرْ عليّ متابعتك ويسِّرها عليّ بالإغضاء وتركِ المناقشة، وقرئ: {عُسُراً} بضمتين.
{فانطلقا} الفاءُ فصيحةٌ أي فقِبل عذرَه فخرجا من السفينة فانطلقا {حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} قيل: كان الغلامُ يلعب مع الغلمان ففتل عُنقَه، وقيل: ضرب برأسه الحائطَ، وقيل: أضجعه فذبحه بالسكين {قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} طاهرةً من الذنوب، وقرئ: {زاكيةً} {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير قتلِ نفسٍ محرمة؟ وتخصيصُ نفْي هذا المبيحِ بالذكر من بين سائرِ المبيحات من الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصانِ لأنه الأقربُ إلى الوقوع نظراً إلى حال الغلام، ولعل تغييرَ النظمِ الكريم بجعل ما صدر عن الخضِر عليه الصلاة والسلام هاهنا من جملة الشرطِ، وإبرازِ ما صدر عن موسى عليه الصلاة والسلام في معرض الجزاءِ المقصودِ إفادتُه مع أن الحقيقَ بذلك إنما هو ما صدر عن الخضر عليه الصلاة والسلام من الخوارق البديعة لاستشراف النفسِ إلى ورود خبرِها لقلة وقوعِها في نفس الأمر ونُدرة وصولِ خبرها إلى الأذهان، ولذلك روعيت تلك النكتةُ في الشرطية الأولى لما أن صدورَ الخوارقِ منه عليه الصلاة والسلام خرج بوقوعه مرة مَخرجَ العادة، فانصرفت النفسُ عن ترقبّه إلى ترقب أحوالِ موسى عليه الصلاة والسلام هل يحافظ على مراعاة شرطِه بموجب وعدِه الأكيدِ عند مشاهدةِ خارقٍ آخرَ، أو يسارع إلى المناقشة كما مر في المرة الأولى؟ فكان المقصودُ إفادةَ ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام ففعل ما فعل ولله درُّ شأنِ التنزيل.
وأما ما قيل من أن القتلَ أقبحُ والاعتراضَ عليه أدخلُ فكان جديراً بأن يُجعل عمدةً في الكلام فليس من دفع الشبهةِ في شيء بل هو مؤيدٌ لها، فإن كونَ القتل أقبحَ من مبادي قلة صدورِه عن المؤمن العاقلِ ونُدرةِ وصولِ خبره إلى الأسماع، وذلك مما يستدعي جعلَه مقصوداً بالذات وكونَ الاعتراضِ عليه أدخلَ من موجبات كثرة صدورِه عن كل عاقل وذلك مما لا يقتضي جعله كذلك {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} قيل: معناه أنكرُ من الأول إذا لا يمكن تدارُكه كما يمكن تداركُ الأول بالسدّ ونحوِه، وقيل: الأمرُ أعظمُ من النُّكر لأن قتلَ نفس واحدةٍ أهونُ من إغراق أهلِ السفينة.

.تفسير الآيات (75- 77):

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)}
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} زيد (لك) لزيادة المكافحةِ بالعتاب على رفض الوصيةِ وقلة التثبّتِ والصبرِ لمّا تكرر منه الاشمئزازُ والاستنكار ولم يَرعَوِ بالتذكير حتى زاد النكير في المرة الثانية {قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شيء بَعْدَهَا} أي بعد هذه المرة {فَلاَ تُصَاحِبْنِى} وقرئ من الإفعال أي لا تجعلني صاحبك {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً} أي قد أعذرتَ ووجدتَ من قِبلي عُذراً حيث خالفتُك ثلاثَ مرات. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي موسى استحْيى فقال ذلك، لو لبث مع صاحبه لأبصرَ أعجبَ الأعاجيب» وقرئ: {لدُني} بتخفيف النون، وقرئ بسكون الدال كعضْد في عضُد.
{فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} هي أنطاكيةُ، وقيل: أَيْلةُ وهي أبعدُ أرض الله من السماء، وقيل: هي برقة، وقيل: بلدة بأندلس. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كانوا أهلَ قرية لئاما» وقيل: شرُّ القرى التي لا يضاف فيها الضيفُ ولا يُعرف لابن السبيل حقُّه، وقوله تعالى: {استطعما أَهْلَهَا} في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لقرية، ولعل العدولَ عن استطعامهم على أن يكون صفةً للأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعِهم فإن الإباءَ من الضيافة وهم أهلُها قاطنون بها أقبحُ وأشنع. روي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا} بالتشديد، وقرئ بالتخفيف من الإضافة، يقال: ضافه إذا كان له ضيفاً وأضافه وضيّفه أنزله وجعله ضيفاً له، وحقيقةُ ضاف مال إليه من ضاف السهمُ عن الغرَض ونظيرُه زاره من الازورار.
{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي يداني أن يسقُط فاستعيرت الإرادةُ للمشارفة للدِلالة على المبالغة في ذلك، والانقضاضُ الإسراعُ في السقوط وهو انفعالٌ من القضّ، يقال: قتُه فانقضّ، ومنه انقضاضُ الطير والكوكبِ لسقوطه بسرعة، وقيل: هو افْعِلالٌ من النقض كاحمرّ من الحُمرة، وقرئ: {أن ينقُض} من النقْض وأن ينقاض من انقاضّت السن إذا انشقت طولاً {فَأَقَامَهُ} قيل: مسحه بيده فقام، وقيل: نقضه وبناه، وقيل: أقامه بعمود عمَده به، قيل: كان سَمكُه مائةَ ذراع {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} تحريضاً له على أخذ الجُعْل لينتعشا به أو تعريضاً بأنه فضولٌ لما في لو من النفي، كأنه لما رأى الحِرمانَ ومِساسَ الحاجة واشتغالَه بما لا يعنيه لم يتمالك الصبرَ، واتخذ افتعل من تخِذ بمعنى أخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين، وقرئ: {لتَخِذْتَ} أي لأخذت، وقرئ بإدغام الذال في التاء.

.تفسير الآيات (78- 79):

{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)}
{قَالَ} أي الخَضِر عليه الصلاة والسلام: {هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} على إضافة المصدرِ إلى الظرف اتساعاً وقد قرئ على الأصل، والمشارُ إليه إما نفسُ الفِراق كما في هذا أخوك، أو الوقتُ الحاضرُ أي هذا الوقتُ وقتُ فراق بيني وبينِك، أو السؤالُ الثالث، أي هذا سببُ ذلك الفراقِ حسبما هو الموعودُ {سَأُنَبّئُكَ} السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} التأويلُ رجْعُ الشيءِ إلى مآله والمرادُ به هاهنا المآلُ والعاقبةُ إذ هو المنبَّأُ به دون التأويل وهو خلاصُ السفينة من اليد العادِيَة، وخلاصُ أبوَي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسنِ واستخراجُ اليتيمين للكنز، وفي جعل صلةِ الموصول عدمَ استطاعةِ موسى عليه الصلاة والسلام للصبر دون أن يقال: بتأويل ما فعلتُ أو بتأويل ما رأيتَ ونحوِهما نوعُ تعريضٍ به عليه الصلاة والسلام وعتاب.
{أَمَّا السفينة} التي خرقتُها {فَكَانَتْ لمساكين} لضعفاءَ لا يقدرون على مدافعة الظَّلَمة، وقيل: كانت لعشرة إخوةٍ خمسةٌ زمنى وخمسة {يَعْمَلُونَ فِي البحر} وإسنادُ العمل إلى الكل حينئذ إنما هو بطريق التغليب أو لأن عملَ الوكلاءِ عمل الموكِّلين {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} أي أجعلها ذاتَ عيب {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ} أي {أمامَهم} وقد قرئ به أو خلفَهم وكان رجوعُهم عليه لا محالة واسمه جَلَندَي بنُ كركر، وقيل: منولة بن جلندي الأزْدي {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} أي {صالحةٍ} وقد قرئ كذلك {غَصْباً} من أصحابها وانتصابُه على أنه مصدرٌ مبينٌ لنوع الأخذ، ولعل تفريعَ إرادةِ تعييب السفينةِ على مسكنة أصحابِها قبل بيان خوفِ الغصْب مع أن مدارَها كلا الأمرين، للاعتناء بشأنها إذ هي المحتاجةُ إلى التأويل، وللإيذان بأن الأقوى في المدارية هو الأمرُ الأولُ ولذلك لا يبالي بتخليص سفنِ سائرِ الناس مع تحقق خوفِ الغصبِ في حقهم أيضاً، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرِها مع توهم رجوعِه إلى الأقرب.