فصل: تفسير الآيات (80- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (80- 82):

{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}
{وَأَمَّا الغلام} الذي قتلتُه {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} لم يصرح بكفرانه أو بكفره إشعاراً بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} فخِفنا أن يغْشَى الوالدَين المؤمنَين {طُغْيَانًا} عليهما {وَكُفْراً} لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعِه ويُلحق بهما شراً وبلاءً، أو يُقرَنَ بإيمانهما طغيانُه وكفره فيجتمَع في بيت واحد مؤمنان وطاغٍ كافرٌ، أو يُعدِيَهما بدائه ويُضلّهما بضلاله فيرتدّا بسببه، وإنما خشِيَ الخَضِر عليه الصلاة والسلام منه ذلك لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمرِه، وقرئ: {فخاف ربك} أي كره سبحانه كراهةَ مَن خاف سوء عاقبة الأمر فغيّره، ويجوز أن تكون القراءةُ المشهورة على الحكاية بمعنى فكرِهنا كقوله تعالى: {لاِهَبَ لَكِ} {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً} منه بأن يرزُقهما بدلَه ولداً خيراً {مِنْهُ} وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ والإضافةِ إليهما ما لا يخفى من الدِلالة على إرادة وصولِ الخير إليهما {زكواة} طهارةً من الذنوب والأخلاق الرديئة {وَأَقْرَبَ رُحْماً} أي رحمةً وعطفاً، قيل: وُلدت لهما جاريةٌ تزوجها نبي فولدت نبياً هدى أي تعالى على يده أمةً من الأمم، وقيل: ولدت سبعين نبياً، وقيل: أبدلهما ابناً مؤمناً مثلَهما، وقرئ: {رُحُماً} بضم الحاء أيضاً وانتصابُه على التمييز مثلُ زكوة.
{وَأَمَّا الجدار} المعهودُ {فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ فِي المدينة} هي القريةُ المذكورة فيما سبق، ولعل التعبيرَ عنها بالمدينة لإظهار نوعِ اعتدادٍ بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالحِ، قيل: اسماهما أصرم وصريم واسمُ المقتول جيسور {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} من فضة وذهب كما رُوي مرفوعاً. والذمُّ على كنزهما في قوله عز وجل: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} لمن لا يؤدي زكاتَهما وسائرَ حقوقهما. وقيل: كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه: (عجبْتُ لمن يؤمن بالقدر كيف يحزَن، وعجبتُ لمن يؤمن بالرزق كيف يتعَب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل، وعجبت لمن يعرِف الدنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله). وقيل: صحفٌ فيها علم. {وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا} تنبيهٌ على أن سعيَه في ذلك كان لصلاحه، قيل: كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا فيه سبعةُ آباء {فَأَرَادَ رَبُّكَ} أي مالكُك ومدبرُ أمورك، ففي إضافة الربِّ إلى ضمير موسى عليه الصلاة والسلام دون ضميرهما تنبيهٌ له عليه الصلاة والسلام على تحتم كمالِ الانقيادِ والاستسلامِ لإرادته سبحانه ووجوبِ الاحترازِ عن المناقشة فيما وقع بحسبها من الأمور المذكورة {أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} أي حُلُمَهما وكمالَ رأيهما {وَيَسْتَخْرِجَا} بالكلية {كَنزَهُمَا} من تحت الجدار ولولا أني أقمتُه لانقضّ وخرج الكنزُ من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميتِه وضاع {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} مصدرٌ في موقع الحال أي مرحومَين منه عز وجل، أو مفعولٌ له أو مصدرٌ مؤكدٌ لأراد فإن إرادةَ الخير رحمةٌ، وقيل: متعلقٌ بمضمر أي فعلتُ ما فعلتُ من الأمور التي شاهدتَها رحمةً من ربك، ويعضُده إضافةُ الرب إلى ضمير المخاطبِ دون ضميرهما فيكون قوله عز وعلا: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} أي عن رأيي واجتهادي تأكيداً لذلك {ذلك} إشارة إلى العواقب المنظومةِ في سلك البيان، وما فيه معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِها في الفخامة {تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع} أي لم تستطع فحُذف التاء للتخفيف {عَّلَيْهِ صَبْراً} من الأمور التي رابتْه أي مآلُه وعاقبتُه فيكون إنجازاً للتنبئة الموعودةِ، أو إلى البيان نفسه فيكون التأويلُ بمعناه، وعلى كل حالٍ فهو فذلكةٌ لما تقدم، وفي جعل الصلة عينَ ما مر تكريرٌ للنكير وتشديدٌ للعتاب.

.تفسير الآية رقم (83):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)}
تنبيه: اختلفوا في حياة الخضر عليه الصلاة والسلام، فقيل: إنه حيٌّ وسببُه أنه كان على مقدمة ذي القرنين فلما دخل الظلماتِ أصاب الخضرُ عينَ الحياة فنزل واغتسل منها وشرب من مائها وأخطأ ذو القرنين الطريقَ فعاد، قالوا: وإلياسُ أيضاً في الحياة يلتقيان كلَّ سنة بالموسم، وقيل: إنه ميتٌ لما رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى العشاءَ ذاتَ ليلة، ثم قال: «أرأيتَكم ليلتَكم هذه فإن رأسَ مائةِ سنة منها لا يبقي ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ ولو كان الخضرُ حينئذ حيًّا لما عاش بعد مائة عام». رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يفارقه، قال له: أوصِني، قال: لا تطلب العلمَ لتحدّث به واطلبُه لتعمل به.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين} هم اليهودُ سألوه على وجه الامتحانِ، أو سألتْه قريشٌ بتلقينهم، وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجوابِ وهو ذو القرنين الأكبرُ واسمه (الإسكندرُ بنُ فيلفوس اليوناني)، وقال ابن إسحاق: اسمُه (مَرزُبانُ بنُ مردبةَ) من ولد يافثَ بنِ نوح عليه الصلاة والسلام وكان أسودَ، وقيل: اسمُه (عبد اللَّه بن الضحاك)، وقيل: (مصعبُ بنُ عبد اللَّه بنِ فينانَ بنِ منصور بنِ عبد اللَّه بن الآزَرِ بن عون بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرُبَ بن قحطانَ). وقال السهيلي: قيل: إن اسمه (مَرْزُبانُ بنُ مُدرِكةَ) ذكره ابن هشام وهو أول التبابِعة. وقيل: إنه أفريذون بنُ النعمانِ الذي قتل الضحاك. وذكر أبو الريحان البيروني في كتابه المسمى ب«الآثار الباقية عن القرون الخالية» أن ذا القرنين هو أبو كرب سميّ بن عيرين بن أفريقيس الحِمْيري وأن مُلكَه بلغ مشارقَ الأرض ومغاربَها وهو الذي افتخر به التبّعُ اليماني حيث قال:
قد كان المشارقَ جدّي مسلما ** ملِكاً علا في الأرض غيرَ مفنَّد

بلغ المشارقَ والمغاربَ يبتغي ** أسبابَ أمرٍ من حكيم مُرشد

وجعلَ هذا القولَ أقربَ لأن الأذواءَ كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي النون وذي رُعَين وذي يزَن وذي جَدَن. قال الإمام الرازي: والأولُ هو الأظهرُ لأن من بلغ ملكَه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيلُ الجليلُ إنما هو الإسكندر اليونانيُّ كما تشهد به كتبُ التواريخ. يروى أنه لما مات أبوه جَمع مُلكَ الروم بعد أن كان طوائفَ، ثم قصد ملوكَ العرب وقهرَهم، ثم أمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصرَ فبنى الاسكندرية وسماها باسمه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيلَ وورد بيتَ المقدس وذبح في مذبحه، ثم انعطف إلى أرمينيةَ وبابِ الأبواب ودان له العراقيون والقِبطُ والبربرُ، ثم توجه نحو دارا بنِ دارا وهزمه مراراً إلى أن قتله صاحبُ حرسِه، واستولى على ممالك الفرسِ وقصدَ الهند وفتحه وبنى مدينة سرنديبَ وغيرَها من المدن العظامِ، ثم قصد الصينَ وغزا الأمم البعيدةَ ورجع إلى خراسانَ وبنى بها مدائنَ كثيرة، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزورَ ومات، انتهى كلام الإمام.
وروي أن أهلَ النجوم قالوا له: إنك لا تموت إلا على أرض من حديد وتحت سماء من خشب، وكان يدفِن كنزَ كل بلدةٍ فيها ويكتب ذلك بصفته وموضعِه، فبلغ بابل فرعَف وسقط عن دابته، فبُسطت له دروعٌ فنام عليها، فآذته الشمس فأظلوه بترس، فنظر فقال: هذه أرض من حديد وسماءٌ من خشب، فأيقن بالموت فمات وهو ابنُ ألفٍ وستمائة سنة، وقيل: ثلاثةِ آلافِ سنة. قال ابن كثير: وهذا غريب. وأغربُ منه: ما قاله ابنُ عساكر من أنه بلغني أنه عاش ستاً وثلاثين سنة أو ثنتين وثلاثين سنة، وأنه كان بعد داود وسليمان عليهما السلام فإن ذلك لا ينطبق إلا على ذي القرنين الثاني كما سنذكره. قلت: وكذا ما ذكره الإمام من قصد بني إسرائيلَ وورودِ بيت المقدس والذبحِ في مذبحه، فإنه مما لا يكاد يتأتى نسبتُه إلى الأول.
واختُلف في نبوته بعد الاتفاق على إسلامه وولايتِه، فقيل: كان نبياً لقوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} وظاهر أنه متناولٌ للتمكين في الدين وكمالُه بالنبوة، ولقوله تعالى: {واتيناه مِن كُلّ شيء سَبَباً} ومن جملة الأشياء النبوةُ، ولقوله تعالى: {قُلْنَا ياذا القرنين} ونحوِ ذلك، وقيل: كان ملكاً لما رُوي أن عمرَ رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لآخر: يا ذا القرنين، فقال: اللهم غفراً أما رضِيتم أن تتسموا بأسماء الملائكة.
قال ابن كثير: والصحيحُ أنه ما كان نبياً ولا ملكاً وإنما كان ملكاً صالحاً عادلاً ملَك الأقاليَم وقهر أهَلها من الملوك وغيرَهم ودانتْ له البلادُ، وأنه كان داعياً إلى الله تعالى سائراً في الخلق بالمَعْدلة التامة والسلطانِ المؤيَّدِ المنصورِ، وكان الخضر على مقدمة جيشِه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير، وقد ذكر الأزرقي وغيرُه أنه أسلم على يدَيْ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصلاة والسلام فطاف معه بالكعبة هو وإسماعيلُ عليهم السلام. ورُوي أنه حج ماشياً فلما سمع إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا، ويقال: إنه أُتيَ بفرس ليركب فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل، فعند ذلك سُخّر له السحاب وطُويَ له الأسباب وبشره إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بذلك فكانت السحابُ تحمله وعساكرَه وجميعَ آلاتِهم إذا أرادوا غزوةَ قومٍ، وقال أبو الطفيل: سُئل عنه عليٌّ كرم الله وجهه أكان نبياً أم ملِكاً؟ فقال: لم يكن نبياً ولا ملكاً لكن كان عبداً أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه سُخر له السحابُ ومُدّ له الأسباب.
واختلف في وجه تسميته بذي القرنين، فقيل: لأنه بلغ قَرني الشمس مشرِقَها ومغربَها، وقيل: لأنه ملَك الرومَ وفارسَ، وقيل: الرومَ والتركَ، وقيل: لأنه كان في رأسه أو في تاجه ما يشبه القرنين، وقيل: كان له ذؤابتان، وقيل: لأنه كانت صفحتا رأسِه من النحاس، وقيل: لأنه دعا الناس إلى الله عز وجل فضَرب بقرنه الأيمنِ فمات ثم بعثه الله تعالى فضَرب بقرنه الأيسرِ فمات ثم بعثه الله تعالى، وقيل: لأنه رأى في منامه أنه صعِد الفَلكَ فأخذ بقرني الشمس، وقيل: لأنه انقرض في عهده قَرنان، وقيل: لأنه سُخّر له النورُ والظلمة فإذا سرَى يهديه النورُ من أمامه وتحوطه الظلمةُ ورائه، وقيل: لُقّب به لشجاعته.
هذا وأما ذو القرنين الثاني فقد قال ابن كثير: إنه الإسكندر بنُ فيلبسَ بنِ مصريمَ بنِ هُرمُسَ بنِ ميطونَ بنِ رومي بن ليطى بن يونان بن يافثَ بن نونه بن شرخونَ بن روميةَ بن ثونط بن نوفيلَ بن رومي بن الأصفرِ بن العنرِ بن العيصِ بن إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهما الصلاة والسلام، كذا نسبه ابنُ عساكرَ المقدونيُّ اليوناني المصريُّ باني الإسكندريةِ الذي يؤرِّخ بأيامه الرومُ، وكان متأخراً عن الأول بدهر طويلٍ أكثرَ من ألفي سنة، كان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلثمائة سنة وكان وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفَ وهو الذي قتل دارا بنَ دارا وأذلّ ملوكَ الفرس ووطِىء أرضهم. ثم قال ابن كثير: وإنما بيّنا هذا لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ، وأن المذكورَ في القرآن العظيم هو هذا المتأخرُ فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثيرٌ، كيف لا والأولُ كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً وزيرُه الخضرُ عليه الصلاة والسلام، وقد قيل: إنه كان نبياً. وأما الثاني فقد كان كافراً وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفُ وقد كان ما بينهما من الزمان أكثرَ من ألفي سنة فأين هذا من ذلك؟ انتهى.
قلت: المقدوني نسبةً إلى بلدة من بلاد الروم غربيَّ دارِ السلطنة السنية قُسطنطينيةَ المحمية لا زالت مشحونةً بالشعائر الدينية، بينهما من المسافة مسيرةُ خمسةَ عشر يوماً أو نحوِ ذلك عند مدينة سَيروزَ اسمُها بلغة اليونانيين مقدونيا، كانت سريرَ مُلك هذا الإسكندرِ وهي اليوم بلقَعٌ لا يقيم بها أحد، ولكن فيها علائمُ تحكي كمالَ عِظَمها في عهد عُمرانها ونهايةِ شوكةِ واليها وسلطانِها، ولقد مررتُ بها عند القُفول من بعض المغازي السُّلطانية فعاينتُ فيها من تعاجيب الآثارِ ما فيه عبرةٌ لأولي الأبصار.
{قُلْ} لهم في الجواب {يَتْلُو عَلَيْكُمْ} أي سأذكر لكم {مِنْهُ} أي من ذي القرنين {ذِكْراً} أي نبأ مذكوراً، وحيث كان ذلك بطريق الوحي المتلوِّ حكايةً عن الله عز وجل، قيل: سأتلو أو سأتلو في شأنه من جهته تعالى ذكراً أي قرآناً، والسينُ للتأكيد والدِلالة على التحقيق المناسبِ لمقام تأييدِه عليه الصلاة والسلام وتصديقِه بإنجاز وعدِه، أي لا أترك التلاوةَ البتةَ كما في قوله من قال:
سأشكر عَمْراً إن تراخت منيّتي ** أياديَ لك تُمنَنْ وإن هي جلَّتِ

لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل، لأن هذه الآيةَ ما نزلت بإنفرادها قبل الوحي بتمام القصة، بل موصولةٌ بما بعدها ريثما سألوه عليه الصلاة والسلام عنه وعن الروح وعن أصحاب الكهفِ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ائتوني غداً أخبرْكم» فأبطأ عليه الوحيُ خمسة عشر يوماً أو أربعين كما ذكر فيما سلف.

.تفسير الآية رقم (84):

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)}
وقوله عز وجل: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} شروعٌ في تلاوة الذكر المعهودِ حسبما هو الموعودُ، والتمكينُ هاهنا الإقدارُ وتمهيدُ الأسباب، يقال: مكّنه ومكّن له ومعنى الأولِ جعله قادراً وقوياً، ومعنى الثاني جعل له قدرةً وقوةً، ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر كما في قوله عز وعلا: {مكناهم فِي الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} أي جعلناهم قادرين من حيث القُوى والأسبابُ والآلاتُ على أنواع التصرفاتِ فيها، ما لم نجعلْه لكم من القوة والسَّعة في المال والاستظهارِ بالعَدد والأسباب، فكأنه قيل: ما لم نمكنْكم فيها أي ما لم نجعلْكم قادرين على ذلك فيها أو مكنّا لهم في الأرض ما لم نمكنْ لكم، وهكذا إذا كان التمكينُ مأخوذاً من المكان بناءً على توهّم ميمِه أصليةً كما أشير إليه في سورة يوسفَ عليه الصلاة والسلام، والمعنى إنا جعلنا له مَكِنةً وقدرةً على التصرف في الأرض من حيث التدبيرُ والرأيُ والأسبابُ، حيث سُخّر له السحابُ، ومُدّ له في الأسباب، وبُسط له النورُ، وكان الليلُ والنهار عليه سواءً، وسُهِّل عليه السيرُ في الأرض، وذُلّلت له طرقها {واتيناه مِن كُلّ شَىْء} أراده من مُهمّات مُلكه ومقاصدِه المتعلقة بسلطانه {سَبَباً} أي طريقاً يوصله إليه وهو كلُّ ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.

.تفسير الآيات (85- 86):

{فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)}
{فَأَتْبَعَ} بالقطع، أي فأراد بلوغَ المغرب فأتبع {سَبَباً} يوصله إليه، ولعل قصدَ بلوغِ المغرب ابتداءً لمراعاة الحركةِ الشمسية، وقرئ: {فاتّبع} من الافتعال والفرق أن الأولَ فيه معنى الإدراك والإسراعِ دون الثاني.
{حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} أي منتهى الأرضِ من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحدٌ من مجاوزته، ووقف على حافة البحر المحيطِ الغربي الذي يقال له أوقيانوس الذي فيه الجزائرُ المسماة بالخالدات التي هي مبدأُ الأطوال على أحد القولين {وَجَدَهَا} أي الشمس {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي ذاتِ حَمأة وهي الطينُ الأسود من حمِئت البئرُ إذا كثرت حَمأتُها، وقرئ: {حامية} أي حارّة. روي أن معاوية رضي الله عنه قرأ: {حامية} وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فقال: {حَمِئة}، فقال معاوية لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين، ثم وجه إلى كعب الأحبار: كيف تجد الشمسَ تغرب؟ قال: في ماء وطين. وروي في ثَأْط فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما، وليس بينهما منافاةٌ قطعية لجواز كون العينِ جامعةً بين الوصفين وكونِ الياء في الثانية منقلبةً عن الهمزة لانكسار ما قبلها. وأما رجوعُ معاوية إلى قول ابن عباس رضي الله عنهم بما سمعه من كعب مع أن قراءته أيضاً مسموعةٌ قطعاً، فلكون قراءةِ ابن عباس رضي الله عنهما قطعيةً في مدلولها وقراءتهِ محتمَلةً. ولعله لما بلغ ساحلَ المحيط رآها كذلك إذ ليس في مطمح بصره غيرُ الماء كما يلوح به قوله تعالى: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ} {وَوَجَدَ عِندَهَا} عند تلك العين {قَوْماً} قيل: كان لباسُهم جلودَ الوحوش وطعامُهم ما لفَظه البحر، وكانوا كفاراً فخيّره الله جل ذكره بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوَهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى: {قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ} بالقتل من أول الأمر {وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} أي أمراً ذا حُسْن على حذف المضافِ أو على طريقةِ إطلاقِ المصدر على موصوفه مبالغةً، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع، ومحلُّ أن مع صلته إما الرفعُ على الابتداء أو الخبرية وإما النصبُ على المفعولية، أي إما تعذيبُك واقعٌ أو إما تفعلُ تعذيبَك وهكذا الحال في الاتخاذ، ومن لم يقل بنبوته قال: كان ذلك الخطابُ بواسطة نبيَ في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاماً لا وحياً بعد أن كان ذلك التخييرُ موافقاً لشريعة ذلك النبي.