فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (109):

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
{وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب} هم رهطٌ من أحبار اليهود. رُوي أن فِنحاصَ بنَ عازوراءَ وزيدَ بنَ قيسٍ ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمارِ بن ياسر رضي الله عنهما بعد وقعة أحُد: ألم ترَوْا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هُزمتم فارجِعوا إلى ديننا فهو خيرٌ لكم وأفضلُ ونحن أهدى منكم سبيلاً، فقال عمارٌ: كيف نقضُ العهد فيكم قالوا: شديد، قال: فإني عاهدتُ أن لا أكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ما عشتُ، فقالت اليهود: أما هذا فقد صَبَأ وقال حذيفةُ: أما أنا فقد رضِيتُ بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلامِ ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قِبلةً وبالمؤمنين إخواناً ثم أتَيَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال: أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت {لَوْ يَرُدُّونَكُم} حكايةٌ لودادتِهم، ولو في معنى التمني وصيغةُ الغَيْبة كما في قوله: حلف ليَفعلَن، وقيل: هي بمنزلة أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولاً لودّوا والتقدير ودُّوا ردَّكم وقيل: هي على حقيقتها وجوابُها محذوف تقديرُه لو يردّونكم كفاراً لسُرُّوا بذلك و{مِن بَعْدِ إيمانكم} متعلق بيردّونكم وقوله تعالى: {كَفَّاراً} مفعول ثانٍ له على تضمين الرد معنى التصيير أي يصيِّرونكم كفاراً كما في قوله:
رمى الحدَثانُ نِسوةَ آل سعد ** بمقدارٍ سَمَدْنَ له سُموداً

فردَّ شعورَهن السودَ بيضا ** ورد وجوهَهن البيضَ سودا

وقيل: هو حال من مفعوله، والأول أدخلُ لما فيه من الدلالة صريحاً على كون الكفر المفروضِ بطريق القسر وإيرادُ الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورةَ كونِ المخاطبين مؤمنين واستحالةِ تحققِ الردِّ إلى الكفر بدون سبْق الإيمان مع توسيطِه بين المفعولين لإظهار كمالِ شناعة ما أرادوه وغايةِ بُعدِه من الوقوعِ إما لزيادة قبحِه الصارفِ للعاقل عن مباشرته، وإما لممانعة الإيمانِ له كأنه قيل: من بعد إيمانكم الراسخِ وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى. {حَسَدًا} علةٌ لودّ أو حال أريد به نعتُ الجمع أي حاسدين لكم والحسَدُ الأسفُ على من له خيرٌ بخيره {مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} متعلق بود أي ودوا ذلك من أجل تشهّيهم وحظوظِ أنفسِهم لا من قِبَل التدين والميل مع الحق ولو على زعمهم أو بحسداً أي حسداً منبعثاً من أصل نفوسهم بالغاً أقصى مراقِيه {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق} بالمعجزات الساطعةِ وبما عاينوا في التوراة من الدلائل وعلموا أنكم متمسّكون به وهم منهمكون في الباطل {فاعفوا واصفحوا} العفوُ تركُ المؤاخذة والعقوبةِ والصفحُ تركُ التثريب والتأنيب {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} الذي هو قتلُ بني قُريظةَ وإجلاءُ بني النَّضير وإذلالُهم بضرب الجزية عليهم، أو الإذنُ في القتال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه منسوخٌ بآية السيف ولا يقدح في ذلك ضرب الغاية لأنها لا تُعْلم إلا شرعاً ولا يخرُجُ الواردُ بذلك من أن يكون ناسخاً كأنه قيل: فاعفوا واصفحوا إلى ورود الناسخ {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} فينتقمُ منهم إذا حان حينُه وآن أوانُه، فهو تعليلٌ لما دل عليه ما قبله.

.تفسير الآيات (110- 111):

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}
{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} عطفٌ على {فاعفوا} أُمروا بالصبر والمداراةِ واللَّجَإ إلى الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية {وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ} كصلاة أو صدقةٍ أو غيرِ ذلك أيْ أيُّ شيءٍ من الخيرات تقدّموه لمصلحة أنفسِكم {تَجِدُوهُ عِندَ الله} أي تجدوا ثوابه وقرئ {تُقْدِموا} من أقدم {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يَضيعُ عنده عملٌ فهو وعدٌ للمؤمنين، وقرئ بالياء فهو وعيدٌ للكافرين، {وَقَالُواْ} عطف على {ود} والضميرُ لأهل الكتابين جميعاً {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} أي قالت اليهودُ لن يدخُلَ الجنةَ إلا من كان هُوداً، وقالت النصارى لن يدخُلَ الجنةَ إلا من كان نصارى، فلفّ بين القولين ثقةً أن السامعَ يردُّ كلاً منهما إلى قائله، ونحوُه {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى} تهتدوا وليس مرادُهم بأولئك مَنْ أقام اليهوديةَ والنصرانيةَ قبل النسخِ والتحريفِ على وجههما بل أنفسَهم على ما هم عليه لأنهم إنما يقولونه لإضلال المؤمنين وردِّهم إلى الكفر. والهوُدُ جمعُ هائِدٍ كعوذٍ جمعُ عائذ وبُزْلٍ جمعُ بازل، والإفرادُ في كان باعتبار لفظ {مَنْ} والجمع في خبرِه باعتبار معناه، وقرئ {إلا من كان يهودياً أو نصرانياً} {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} الأمانيُّ جمع أُمنية وهي ما يُتمنّى كالأُعجوبة والأُضْحوكة، والجملةُ معترِضةٌ مُبينةٌ لبُطلان ما قالوا، و{تلك} إشارةٌ إليه، والجمعُ باعتبار صدوره عن الجميع، وقيل: فيه حذفُ مضافٍ، أي أمثالُ تلك الأُمنية أمانيُّهم، وقيل: {تلك} إشارةٌ إليه وإلى ما قبله مِن أنْ ينزِلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم وأن يردَّهم كفاراً، ويردُّه قوله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن كُنتُمْ صادقين} فإنهما ليسا مما يُطلب له البرهانُ ولا مما يَحتملُ الصِّدق والكذِبَ قيل: {هاتوا} أصلُه آتوا قُلبت الهمزةُ هاءً أي أَحضروا حُجتَكم على اختصاصكم بدخول الجنة إن كنتم صادقين في دعواكم. هذا ما يقتضيه المقامَ بحسب النظرِ الجليلِ والذي يستدعيه إعجازُ التنزيل أن يُحمل الأمرُ التبكيتيُّ على طلب البرهان على أصل الدخولِ الذي يتضمنه دعوى الاختصاص به.

.تفسير الآية رقم (112):

{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
فإن قوله تعالى: {بلى} إلخ إثباتٌ من جهته تعالى لما نفَوْه مستلزمٌ لنفْي ما أثبتوه، وإذْ ليس الثابتُ به مجردَ دخولِ غيرِهم الجنةَ ولو معهم ليكون المنفيُّ مجردَ اختصاصِهم به مع بقاءِ أصلِ الدخولِ على حاله بل هو اختصاصُ غيرِهم بالدخول كما ستعرفه بإذن الله تعالى ظهرَ أن المنفيَّ أصلُ دخولِهم، ومن ضَرورته أن يكون هو الذي كُلِّفوا إقامةَ البُرهانِ عليه لا اختصاصُهم به ليتّحدَ موردُ الإثباتِ والنفي، وإنما عدَلَ عن إبطال صريحِ ما ادَّعَوْه وسَلك هذا المسلكَ إبانةً لغاية حِرمانِهم مما علّقوا به أطماعَهم وإظهاراً لكمال عجزِهم عن إثباتِ مُدَّعاهم لأن حِرمانَهم من الاختصاص بالدخول وعجزَهم عن إقامة البرهانِ عليه لا يقتضيان حرمانَهم من أصل الدخولِ وعجزَهم عن إثباته وأما نفسُ الدخولِ فحيث ثبت حِرمانُهم منه وعجزُهم عن إثباته فهم من الاختصاص به أبعدُ وعن إثباته أعجزُ، وإنما الفائزُ به من انتظمه قوله سبحانه: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي أخلص نفسَه له تعالى لا يشرك به شيئاً، عبّر عنها بالوجه لأنه أشرفُ الأعضاءِ ومجمعُ المشاعرِ وموضعُ السجود، ومظهَرُ آثارِ الخضوعِ الذي هو من أخص خصائِص الإخلاص أو توجّهُه وقصدُه بحيث لا يلوي عزيمتَه إلى شيءٍ غيره {وَهُوَ مُحْسِنٌ} حال من ضمير {أسلم} أي والحالُ أنه مُحسنٌ في جميع أعمالِه التي من جملتها الإسلامُ المذكورُ، وحقيقةُ الإحسانِ الإتيانُ بالعمل على الوجه اللائق، وهو حُسنُه الوصفيُّ التابعُ لحسنه الذاتيِّ، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ الله كأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فإِنَّهُ يَرَاكَ» {فَلَهُ أَجْرُهُ} الذي أُعد له على عمله، وهو عبارةٌ عن دخول الجنة أو عمل يدخُلُ هو فيه دخولاً أولياً، وأياً ما كان فتصويرُه بصورة الأجرِ للإيذان بقوة ارتباطِه بالعمل واستحالةِ نيلِه بدونه، وقوله تعالى: {عِندَ رَبّهِ} حالٌ من أجره، والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ في الظرف، والعِنديةُ للتشريف، ووضعُ اسم الربِّ مضافاً إلى ضمير {من أسلم} موضعَ ضميرِ الجلالة لإظهار مزيدِ اللُطفِ به وتقريرِ مضمونِ الجملة، أي فله أجرُه عند مالكِه ومدبِّرِ أموره ومبلِّغِه إلى كماله، والجملةُ جوابُ {مَنْ} إن كانت شرطيةً وخبرُها إن كانت موصولة، والفاءُ لتضمنها معنى الشرط فيكون الردُّ بقوله تعالى: بلى وحده، ويجوز أن يكون {مَنْ} فاعلاً لفعل مقدرٍ، أي بلى يدخلها من أسلم، وقوله تعالى: {فَلَهُ أَجْرُهُ} معطوفٌ على ذلك المقدر، وأياً ما كان فتعليقُ ثبوتِ الأجرِ بما ذكر من الإسلام والإحسانِ المختصَّيْن بأهل الإيمان قاضٍ بأن أولئك المدّعين من دخول الجنة بمعزل، ومن الاختصاص به بألف منزل {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لُحوق مكروهٍ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فواتِ مطلوبٍ أي لا يعتريهم ما يوجبُ ذلك، لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون.
والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى {مَنْ} كما أن الإفراد في الضمائر الأُوَلِ باعتبار اللفظ.

.تفسير الآية رقم (113):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}
{وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَىْء} بيانٌ لتضليل كلِّ فريقٍ صاحَبه بخصوصه إثرَ بيانِ تضليله كلَّ من عداه على وجه العموم نزلت لما قدِم وفدُ نجرانَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهم أحبارُ اليهود فتناظروا فارتفعت أصواتُهم فقالوا لهم: لستم على شيء أي أمرٍ يُعتدُّ به من الدين أو على شيء ما منه أصلاً، مبالغةً في ذلك كما قالوا: أقلُّ من لا شيء وكفروا بعيسى والإنجيل {وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْء} على الوجه المذكورِ وكفروا بموسى والتوراةِ لا أنهم قالوا ذلك بناءً للإمر على منسوخية التوراة {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} والواوُ للحال واللامُ للجنس أي قالوا ما قالوا والحال أن كلَّ فريقٍ منهم من أهل العلم والكتاب أي كان حقُّ كلَ منهم أن يعترِفَ بحقيقة دينِ صاحبه حسبما ينطِقُ به كتابُه فإن كتبَ الله تعالى متصادقة {كذلك} أي مثلَ ذلك الذي سمعت به، والكافُ في محل النصب إما على أنها نعتٌ لمصدر محذوف قُدّم على عامله لإفادة القصر أي قولاً مثلَ ذلك القول بعينه لا قولاً مغايراً له {قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} من عبَدَة الأصنام والمعطِّلة ونحوِهم من الجهَلة أي قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء وإما على أنها حال كونه مثلَ ذلك القولِ الذي سمعْتَ به {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} إما بدلٌ من محل الكاف وإما مفعولٌ للفعل المنفيِّ قبله أي مثلَ ذلك القول قال الجاهلون بمثل مقالةِ اليهودِ والنصارى، وهذا توبيخٌ عظيم لهم حيث نظَموا أنفسهم مع علمهم في سلك مَنْ لا يعلم أصلاً {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي بين اليهود والنصارى، فإن مساقَ النظمِ لبيان حالِهم، وإنما التعرُّضُ لمقالة غيرِهم لإظهار كمالِ بطلانِ مقالهم ولأن المُحاجَّةَ المُحوِجَةَ إلى الحكم إنما وقعت بينهم {يَوْمُ القيامة} متعلقٌ بيحكم وكذا ما قبله وما بعده، ولا ضيرَ فيه لاختلاف المعنى {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بما يقسِمُ لكل فريقٍ ما يليق به من العقاب، وقيل: حكمُه بينهم أن يكذِّبَهم ويُدخِلَهم النارَ، والظرفُ الأخير متعلقٌ بيختلفون، قُدِّم عليه للمحافظة على رؤوس الآي لا بكانوا.

.تفسير الآية رقم (114):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله} إنكارٌ واستبعاد لأن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرِّضاً لإنكار المساواة، ونفيُها يشهد به العرفُ الفاشِيْ والاستعمالُ المطّردُ فإذا قيل: مَنْ أكرمُ من فلان؟ أو لا أفضلَ من فلان فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضلُ من كل فاضل، وهذا الحكم عامٌ لكل من فعل ذلك في أي مسجد كان وإن كان سببَ النزول فعلُ طائفةٍ معينة في مسجد مخصوص. رُوي أن النصارى كانوا يطرَحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناسَ أن يصلوا فيه وأن الرومَ غزَوُا أهلَه فخرَّبوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا وقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن طِيطَيُوسَ الروميَّ ملكَ النصارى وأصحابَه غزوا بني إسرائيلَ وقتلوا مُقاتِلَتَهم وسبَوُا ذرارِيَهم وأحرقوا التوراةَ وخرَّبوا بيتَ المقدس وقذفوا فيه الجيفَ وذبحوا فيه الخنازيرَ ولم يزل خراباً حتى بناه المسلمون في عهد عمرَ رضي الله عنه، وإنما أُوقعَ المنعُ على المساجد وإن كان الممنوعُ هو الناسَ لما أن فعلَهم من طرح الأذى والتخريب ونحوِهما متعلقٌ بالمسجد لا بالناس مع كونه على حاله. وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إنها مبطلةٌ لدعوى النصارى اختصاصَهم بدخول الجنة، وقيل: هو منعُ المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخُلَ المسجد الحرام عامَ الحُدَيْبية فتعلُقها بما تقدمها من جهةِ أن المشركين من جُملة الجاهلين القائلين لكل مَنْ عداهم ليسوا على شيء.
{أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} ثاني مفعولي {منع} كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ}، وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالايات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاولون} ويجوز أن يكون ذلك بحذف الجارِّ مع أن وأن يكون ذلك مفعولاً له أي كراهة أن يُذكر فيها اسمُه {وسعى فِي خَرَابِهَا} بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر {أولئك} المانعون الظالمون الساعون في خرابها {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوعٍ فضلاً عن الاجتراء على تخريبها أو تعطيلها أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا على حال التهيُّب وارتعادِ الفرائصِ من جهة المؤمنين أن يبطِشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويَلوُها ويمنعوهم منها أو ما كان لهم في علم الله تعالى وقضائه بالآخرة إلا ذلك فيكونُ وعداً للمؤمنين بالنُصرة واستخلاص ما استولَوْا عليه منهم وقد أُنجز الوعدُ ولله الحمد. رُوي أنه لا يدخل بيتَ المقدس أحدٌ من النصارى إلا متنكراً مسارقةً. وقيل: معناه النهيُ عن تمكنهم من الدخول في المسجد واختلف الأئمة في ذلك فجوّزه أبو حنيفة مطلقاً ومنعه مالك مطلقاً وفرَّق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره {لَهُمْ} أي لأولئك المذكورين {فِى الدنيا خِزْىٌ} أي خزي فظيعٌ لا يوصف بالقتل والسبي والإذلال بضرب الجزية عليهم {وَلَهُمْ فِي الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذابُ النار لما أن سببه أيضاً وهو ما حُكي من ظلمهم كذلك في العِظَم، وتقديمُ الظرف في الموضعين للتشويق إلى ما يذكر بعدَه من الخزي والعذاب لما مر من أن تأخيرَ ما حقه التقديمُ موجبٌ لتوجه النفس إليه فيتمكن فيها عند وروده فضلَ تمكنٍ كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الانعام ثمانية أزواج} إلى غير ذلك.

.تفسير الآيات (115- 116):

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
{وَلِلَّهِ المشرق والمغرب} أي له كلُّ الأرض التي هي عبارة عن ناحيتي المشرقِ والمغربِ لا يختصّ به من حيث الملكُ والتصرفُ ومن حيث المحلّيةُ لعبادته مكانٌ منها دون مكان، فإن مُنعتم من إقامة العبادةِ في المسجد الأقصى أو المسجد الحرام {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} أي ففي أي مكان فعلتم توليةَ وجوهِكم شطرَ القبلة {فَثَمَّ وَجْهُ الله} ثَمَّ اسمُ إشارة للمكان البعيد خاصة مبنيٌّ على الفتح ولا يتصرَّف سوى الجر بمن وهو خبر مقدمٌ ووجهُ الله مبتدأ والجملة في محل الجزم على أنها جواب الشرط أي هناك جهتُه التي أمر بها فإن إمكان التوليةِ غيرُ مختصَ بمسجد دون مسجد أو مكان دون آخر، أو فثَمَّ ذاتُه بمعنى الحضورِ العلميّ أي فهو عالم بما يُفعل فيه ومثيبٌ لكم على ذلك وقرئ بفتح التاء واللام أي فأينما تَوَجَّهوا للقبلة {إِنَّ الله واسع} بإحاطته بالأشياء أو برحمته يريد التوسعةَ على عباده {عَلِيمٌ} بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلِّها والجملة تعليلٌ لمضمون الشرطية وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما نزلت في صلاة المسافرين على الراحلة أينما توجّهوا وقيل في قوم عمِيت: عليهم القِبلةُ فصلُّوا إلى أنحاءَ مختلفةٍ فلما أصبحوا تبينوا خطأهم. وعلى هذا لو أخطأ المجتهدُ ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارُك، وقيل: هي توطئة لنسخ القِبلة وتنزيهٌ للمعبود عن أن يكون في جهة {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} حكاية لطرفٍ آخرَ من مقالاتهم الباطلةِ المحكية فيما سلف معطوفةٌ على ما قبلها من قوله تعالى: وَقَالَت إلخ لا على صلةِ مَنْ لما بينهما من الجمل الكثيرة الأجنبيةِ، والضميرُ لليهود والنصارى ومن شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون، وقرئ بغير واو على الاستئناف نزلت حين قالت اليهودُ: عزيرٌ ابنُ الله والنصارى: المسيحُ ابنُ الله ومشركو العربِ: الملائكةُ بناتُ الله. والاتخاذُ إما بمعنى الصُنع والعمل فلا يتعدَّى إلا إلى واحد، وإما بمعنى التصيير، والمفعولُ الأول محذوف أي صَيَّر بعضَ مخلوفاته ولداً {سبحانه} تنزيهٌ وتبرئةٌ له تعالى عما قالوا وسبحانَ عَلَمٌ للتسبيح كعُثمانَ للرجل، وانتصابُه على المصدرية ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانه أي أنزّهُه تنزيهاً لائقاً به وفيه من التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض ومن جهة النقلِ إلى التفعيل ومن جهة العُدول من المصدر إلى الاسمِ الموضوعِ له خاصةً لاسيما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقة الحاضرةِ في الذهن ومن جهة إقامتِه مُقامَ المصدر مع الفعل ما لا يخفى، وقيل: هو مصدر كغُفرانٍ بمعنى التنزُّه أي تنَزَّهَ بذاته تنزُّهاً حقيقاً به ففيه مبالغةٌ من حيث إسنادُ البراءةِ إلى الذات المقدسة وإن كان التنزيهُ اعتقادَ نزاهتِه تعالى عما لا يليق به لا إثباتَها له تعالى وقولُه تعالى: {بَل لَّهُ مَا فيالسموات والارض} رد لما زعموا وتنبيهٌ على بطلانه وكلمةُ {بل} للإضراب عما تقتضيه مقالتُهم الباطلةُ من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات ومن سرعة فَنائِه المَحوِجة إلى اتخاذ ما يقوم مَقامه فإن مجرد الإمكان والفَناء لا يوجب ذلك.
ألا يُرى أن الأجرامَ الفَلَكيةَ مع إمكانها وفَنائِها بالآخرة مستغنيةٌ بدوامها وطولِ بقائها عما يجري مجرَى الولدِ من الحيوان أي ليس الأمرُ كما زعموا بل هو خالقٌ جميعَ الموجودات التي من جملتها عزيرٌ والمسيحُ والملائكة {كُلٌّ} التنوين عوضٌ عن المضاف إليه أي كلُّ ما فيهما كائناً ما كان من أولي العلم وغيرِهم {لَّهُ قانتون} منقادون لا يستعصي شيءٌ منهم على تكوينه وتقديره ومشيئتِه، ومن كان هذا شأنُه لم يُتصوَّرْ مجانستُه لشيء، ومن حق الولدِ أن يكون من جنس الوالد، وإنما جيءَ بـ {ما} المختصةِ بغير أولي العلم تحقيراً لشأنهم وإيذانا بكمال بُعدِهم عما نسَبوا إلى بعضٍ منهم، وصيغةُ جمع العقلاء في {قانتون} للتغليب أو كلُّ مَنْ جعلوه لله تعالى ولداً له قانتون أي مطيعون عابدون له معترفون بربوبيته تعالى {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة}