فصل: تفسير الآيات (25- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (25- 28):

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)}
{قَالَ} استئنافٌ مبني على سؤال ينساق إليه الذهنُ، كأنه قيل: فماذا قال عليه الصلاة والسلام حين أُمر بهذا الأمر الخطيرِ والخطبِ العسير؟ فقيل قال مستعيناً بربه عز وجل: {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} {وَيَسّرْ لِى أَمْرِى} لما أُمر بما أمر به من الخطب الجليلِ تضرّع إلى ربه عز وجل وأظهر عجْزَه بقوله: ويضيق صدري ولا ينطلق لساني، وسأله تعالى أن يوسعّ صدرَه ويفسَحَ قلبه ويجعله عليماً بشؤون الحق وأحوالِ الخلقِ حليماً حَمولاً يستقبل ما عسى يرِدُ عليه من الشدائد والمكاره بجميل الصبرِ وحسن الثبات ويتلقّاها بصدر فسيحٍ وجأش رابط، وأن يسّهل عليه مع ذلك أمرَه الذي هو أجلُّ الأمور وأعظمُها وأصعبُ الخطوب وأهولُها بتوفيق الأسبابِ ورفع الموانعِ، وفي زيادة كلمة (لي) مع انتظام الكلامِ بدونها تأكيدٌ لطلب الشرحِ والتيسير بإبهام المشروحِ والميسّر أولاً وتفسيرِهما ثانياً، وفي تقديمها وتكريرِها إظهارُ مزيدِ اعتناءٍ بشأن كل من المطلوبَيْن وفضلِ اهتمامٍ باستدعاء حصولهما له واختصاصِهما به {واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى} روي أنه كان في لسانه عليه الصلاة والسلام رُتّةٌ من جمرة أدخلها فاه في صغره، وذلك أن فرعون حمله ذاتَ يوم فأخذ لحيتَه فنتفها لما كان فيها من الجواهر فغضب وأمر بقتله، فقالت آسيةُ: إنه صبيٌّ لا يفرق بين الجمر والياقوت فأُحضِرا بين يديه فأخذ الجمرةَ فوضعها في فيه، قيل: واحترقت يده فاجتهد فرعونُ في علاجها فلم تبرأ. ثم لما دعاه قال: إلى أي ربّ تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عَجزْتَ عنه، واختلف في زوال العُقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} ومن لم يقل به احتج بقوله تعالى: {هُوَ أَفْصَحُ مِنّى} وقوله تعالى: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حلَّ عُقدة لسانه بالكلية بل حلَّ عقدةٍ تمنع الإفهام ولذلك نكرّها ووصفها بقوله: {مّن لّسَانِى} أي عقدةً كائنة من عُقَد لساني وجعل قوله تعالى: {يَفْقَهُواْ قَوْلِي} جوابَ الأمر وغرضاً من الدعاء، فبحلّها في الجملة يتحقق إيتاءُ سؤلِه عليه الصلاة والسلام، والحقُّ أن ما ذكر لا يدل على بقائها في الجملة أما قوله تعالى: {هُوَ أَفْصَحُ مِنّى} فلأنه عليه الصلاة والسلام قاله قبل استدعاءِ الحلِّ كما ستعرفه على أن أفصحيّتَه منه عليهما الصلاة والسلام لا تستدعي عدمَ البقاءِ لما أن الأفصحيةَ توجب ثبوتَ أصلِ الفصاحة في المفضول أيضاً وذلك منافٍ للعقدة رأساً، وأما قوله تعالى: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} فمن باب غلوِّ اللعين في العتوّ والطغيان وإلا لدل على عدم زوالِها أصلاً، وتنكيرُها إنما يفيد قِلتها في نفسها لا قِلَّتها باعتبار كونِها بعضاً من الكثير، وتعلقُ كلمة مِنْ قوله تعالى: {مّن لّسَانِى} بمحذوف هو صفةٌ لها ليس بمقطوع به، بل الظاهرُ تعلُّقها بنفس الفعل فإن المحلولَ إذا كان متعلقاً شيء ومتصلاً به فكما يتعلق الحلُّ به يتعلق بذلك الشيء أيضاً باعتبار إزالتِه عنه أو ابتداءِ حصوله منه.

.تفسير الآيات (29- 34):

{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)}
{واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِى} أي مؤازراً يعاونني في تحمّل أعباء ما كُلّفتُه، على أن اشتقاقَه من الوِزْر الذي هو الثِقَلُ أو ملجأً أعتصمُ برأيه على أنه من الوَزَر وهو الملجأ، وقيل: أصله أَزير من الأزْر بمعنى القوة فعيل بمعنى فاعل كالشعير والجليسِ قُلبت همزتُه واواً كقلبها في مُوازِر، ونصبُه على أنه مفعولٌ ثانٍ لاجْعل قُدّم على الأول الذي هو قوله تعالى: {هارون} اعتناءً بشأن الوزارة، ولي صلةٌ للجعل أو متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من وزيراً إذ هو صفةٌ له في الأصل ومن أهلي إما صفةٌ لوزيراً أو صلةٌ لاجعل، وقيل: مفعولاه: لي وزيراً وهارونَ عطفُ بيانٍ للوزير ومن أهلي كما مر من الوجهين، وأخي في الوجهين بدلٌ من هارونَ أو عطفُ بيان آخرَ، وقيل: هما وزيراً من أهلي ولي تبيينٌ كما في قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ورُدّ بأن شرطَ المفعولين في باب النواسخِ صحةُ انعقاد الجملةِ الاسمية ولا مساغَ لجعل وزيراً مبتدأً ويُخبر عنه بما بعده {اشدد بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِى} كلاهما على صيغة الدعاءِ أي أحكِمْ به قوتي واجعله شريكي في أمرالرسالةِ حتى نتعاونَ على أدائها كما ينبغي، وفصلُ الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصالِ بينهما فإن شدَّ الأزْر عبارةٌ عن جعله وزيراً، وأما الإشراكُ في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسّطَ بينهما العاطف.
{واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِى} أي مؤازراً يعاونني في تحمّل أعباء ما كُلّفتُه، على أن اشتقاقَه من الوِزْر الذي هو الثِقَلُ أو ملجأً أعتصمُ برأيه على أنه من الوَزَر وهو الملجأ، وقيل: أصله أَزير من الأزْر بمعنى القوة فعيل بمعنى فاعل كالشعير والجليسِ قُلبت همزتُه واواً كقلبها في مُوازِر، ونصبُه على أنه مفعولٌ ثانٍ لاجْعل قُدّم على الأول الذي هو قوله تعالى: {هارون} اعتناءً بشأن الوزارة، ولي صلةٌ للجعل أو متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من وزيراً إذ هو صفةٌ له في الأصل ومن أهلي إما صفةٌ لوزيراً أو صلةٌ لاجعل، وقيل: مفعولاه: لي وزيراً وهارونَ عطفُ بيانٍ للوزير ومن أهلي كما مر من الوجهين، وأخي في الوجهين بدلٌ من هارونَ أو عطفُ بيان آخرَ، وقيل: هما وزيراً من أهلي ولي تبيينٌ كما في قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ورُدّ بأن شرطَ المفعولين في باب النواسخِ صحةُ انعقاد الجملةِ الاسمية ولا مساغَ لجعل وزيراً مبتدأً ويُخبر عنه بما بعده {اشدد بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِى} كلاهما على صيغة الدعاءِ أي أحكِمْ به قوتي واجعله شريكي في أمرالرسالةِ حتى نتعاونَ على أدائها كما ينبغي، وفصلُ الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصالِ بينهما فإن شدَّ الأزْر عبارةٌ عن جعله وزيراً، وأما الإشراكُ في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسّطَ بينهما العاطف.
{كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} غايةٌ للأدعية الثلاثةِ الأخيرة فإن فعل فيها كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثِراً لفعل الآخر ومضاعفاً له بسبب انضمامِه إليه مكثرٌ له في نفسه أيضاً بسبب تقويتِه وتأييدِه، إذ ليس المرادُ بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلَوات حتى لا يتفاوت حالُه عند التعدد والانفرادِ، بل ما يكون منهما في تضاعيف أداءِ الرسالة ودعوةِ المَرَدة العُتاة إلى الحق، وذلك مما لا ريب في اختلاف حالِه في حالتي التعددِ والانفراد فإن كلاًّ منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحقِّ ما لا يكاد يصدر عنه مثلُه في حال الانفراد. وكثيراً في الموضعين نعتٌ لمصدر محذوف أو زمانٍ محذوف أي ننزّهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدّعيه فرعونُ الطاغيةُ ويقبَلُه منه فئتُه الباغية من ادّعاء الشِرْكةِ في الألوهية، ونصفُك بما يليق بك من صفات الكمالِ ونعوتِ الجمالِ والجلالِ تنزيهاً كثيراً أو زماناً كثيراً من جملته زمانُ دعوةِ فرعون وأوانُ المُحاجّة معه. وأما ما قيل من أن المعنى كي نصليَ لك كثيراً ونحمَدَك ونُثنيَ عليك فلا يساعده المقام.

.تفسير الآيات (35- 38):

{إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)}
{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أي عالماً بأحوالنا وبأن ما دعوتُك به مما يُصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كُلّفتُه من إقامة مراسمِ الرسالةِ وبأن هارونَ نِعمَ الرِّدْءُ في أداء ما أُمرت به، والباءُ متعلقة ببصيراً قُدّمت عليه لمراعاة الفواصل. {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} أي أُعطيتَ سُؤْلك، فُعْلٌ بمعنى مفعول كالخبز والأُكْل بمعنى المخبوز والمأكول، والإيتاءُ عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بوقوع تلك المطالبِ وحصولِها له عليه السلام البتة وتقديرِه إياها حتماً، فكلُّها حاصلةٌ له عليه السلام وإن كان وقوعُ بعضها بالفعل مترقباً بعدُ كتيسير الأمر وشدِّ الأزْر، وباعتباره قيل: سنشُدّ عضُدَك بأخيك، وقولُه تعالى: {ياموسى} تشريفٌ له عليه السلام بشرف الخِطاب إثرَ تشريفِه بشرف قَبول الدعاء.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ} كلامٌ مستأنَفٌ مَسوق لتقرير ما قبله وزيادةِ توطينِ نفس موسى عليه السلام بالقبولِ ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعمِ التامة من غير سابقةِ دعاءٍ منه وطلبٍ فلأَن يُنعِم عليه بمثلها وهو طالبٌ له وداعٍ أَوْلى وأحرى، وتصديرُه بالقسم لكمال الاعتناءِ بذلك أي وبالله لقد أنعمنا {مَرَّةً أخرى} أي في وقت غيرِ هذا الوقت لا أن ذلك مؤخّرٌ عن هذا فإن أخرى تأنيثُ آخَرَ بمعنى غير، والمرةُ في الأصل اسمٌ للمرور الواحدِ ثم أُطلق على كل فَعْلة واحدةٍ من الفَعَلات متعديةً كانت أو لازمة، ثم شاع في كل فرد واحدٍ من أفراد ما لَه أفرادٌ متجددةٌ متعددة فصار علماً في ذلك حتى جُعل معياراً لما في معناه من سائر الأشياء، فقيل: هذا بناء المرة، ويقرب منها الكرّةُ والتارَةُ والدفعةُ والمراد بها هاهنا الوقتُ الممتدُّ الذي وقع فيه ما سيأتي ذكرُه من المنن العظيمة الكثيرة وقوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى} ظرفٌ لمننّا والمرادُ بالإيحاء إما الإيحاءُ على لسان نبيَ في وقتها كقوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} الآية، وإما الإيحاءُ بواسطة الملَك لا على وجه النبّوة كما أوحيَ إلى مريم، وإما الإلهامُ كما قي قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} وإما الإراءةُ في المنام والمرادُ بما يوحى ما سيأتي من الأمر بقذفه في التابوت وقذْفِه في البحر، أُبهم أولاً تهويلاً له وتفخيماً لشأنه ثم فُسّر ليكون أقرَّ عند النفسِ، وقيل: معناه ما ينبغي أن يوحى ولا يُخَلَّ به لعِظم شأنه وفرْطِ الاهتمام به، وقيل: ما لا يُعلم إلا بالوحي وفيه أنه لا يلائم المعنيين الأخيرين للوحي إذ لا تفخيمَ لشأنه في أن يكون مما لا يُعلم إلا بالإلهام أو بالإراءة في المنام.

.تفسير الآيات (39- 40):

{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)}
وأنْ في قوله تعالى: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت} مفسِّرةٌ لأن الوحيَ من باب القول أو مصدريةٌ حُذف منها الباء، أي بأن اقذفيه ومعنى القذْفِ هاهنا الوضعُ وأما في قوله تعالى: {فاقذفيه فِي اليم} فالإلقاءُ، وهذا التفصيلُ هو المرادُ بقوله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} لا القذفُ بلا تابوت {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} لما كان إلقاءُ البحرِ إياه بالساحل أمراً واجبَ الوقوع لتعلق الإرادةِ الربانية به جُعل البحرُ كأنه ذو تمييزٍ مطيعٍ أُمر بذلك وأُخرج الجوابُ مُخرجَ الأمر والضمائرُ كلُّها لموسى عليه الصلاة والسلام، والمقذوفُ في البحر والمُلقى بالساحل وإن كان هو التابوتَ أصالةً لكنْ لما كان المقصودُ بالذات ما فيه جُعل التابوتُ تبعاً له في ذلك {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} جوابٌ للأمر بالإلقاء، وتكريرُ العدو للمبالغة والتصريحِ بالأمر والإشعارِ بأن عداوتَه له مع تحققها لا تؤثر فيه ولا تضرُه، بل تؤدي إلى المحبة فإن الأمرَ بما هو سبب للهلاك صورةً من قذفه في البحر ووقوعِه في يد عدو الله تعالى وعدوِّه مشعرٌ بأن هناك لُطفاً خفياً مندرجاً تحت قهرٍ صوريّ، وقيل: الأولُ باعتبار الواقعِ والثاني باعتبار المتوقَّع وليس المرادُ بالساحل نفسَ الشاطىء بل ما يقابل الوسطَ وهو ما يلي الساحلَ من البحر بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون، لما روي أنها جَعلتْ في التابوت قُطناً ووضعتْه فيه ثم قيّرتْه وألقتْه في اليم وكان يشرَع منه إلى بستان فرعون نهرٌ صغير فدفعه الماءُ إليه فأتى به إلى بِرْكة في البستان، وكان فرعونُ جالساً ثمّةَ مع آسيةَ بنتِ مُزاحِم فأُمر به فأُخرج ففُتح فإذا هو صبيٌّ أصبحُ الناس وجهاً، فأحبه عدوُّ الله حباً شديداً لا يكاد يتمالك الصبرَ عنه وذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} كلمةُ مِنْ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لمحبةً مؤكدةٌ لما في تنكيرها من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافية، أي محبةً عظيمة كائنةً مني قد زرعتُها في القلوب بحيث لا يكاد يصبِر عنك من رآك ولذلك أحبك عدوُّ الله وآلُه. وقيل: هي متعلقةٌ بألقيت أي أحببتُك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوبُ لا محالة وقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} متعلقٌ بألقيتُ معطوفٌ على علة له مُضمَرةٍ، أي ليتعطّف عليك ولتربى بالحنوّ والشفقة بمراقبتي وحِفظي، أو بمضمر مؤخّرٍ هو عبارةٌ عما قبله من إلقاء المحبةِ، والجملةُ مبتدَأةٌ أي ولتصنع على عيني فعلتُ ذلك، وقرئ: {ولِتُصْنعْ} على صيغة الأمر بسكون اللام وكسرها وقرئ بفتح التاء والنصب أي وليكونَ عملُك على عين مني لئلا يخالَفَ به عن أمري.
{إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ} ظرفٌ لتُصنعَ على أن المراد به وقتٌ وقع فيه مشيُها إلى بيت فرعونَ وما ترتب عليه من القول والرجْعِ إلى أمها وتربيتِها له بالبر والحُنوّ وهو المِصداق لقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} إذ لا شفقةَ أعظمُ من شفقة الأم وصنعُها على موجب مراعاتِه تعالى، وقيل: هو بدلٌ من إذ أوحينا على أن المراد به زمانٌ متّسعٌ متباعدُ الأطراف وهو الأنسب بما سيأتي من قوله تعالى: {فنجيناك مِنَ الغم} الخ، فإن جميع ذلك من المنن الإلهية ولا تعلق لشيء منها بالصنع المذكور، وأما كونُه ظرفاً لألقيت كما جُوّز فربما يوهم أن إلقاءَ المحبة لم يحصُل قبل ذلك، ولا ريب في أن معظمَ آثارِ إلقائِها ظهر عند فتحِ التابوت {فَتَقُولُ} أي لفرعون وآسيةَ حين رأتهما يطلبان له عليه السلام مرضعةً يقبل ثديَها وكان لا يقبل ثدياً، وصيغةُ المضارِعِ في الفعلين لحكاية الحالِ الماضية {هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} أي يضمه إلى نفسه ويربّيه وذلك إنما يكون بقَبوله ثديَها.
يروى أنه فشا الخبر بمصر أن آلَ فرعون أخذوا غلاماً من النيل لا يرتضع ثديَ امرأة واضطُروا إلى تتبّع النساء، فخرجت أختُه مريمُ لتعرِف خبرَه فجاءتهم متنكّرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا، فجاءت بأمه فقبِل ثديَها، فالفاء قوله تعالى: {فرجعناك إلى أُمّكَ} فصيحةٌ معربةٌ عن محذوف قبلها يُعطَف عليه ما بعدها، أي فقالوا: دُلّينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها {كَى تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك {وَلاَ تَحْزَنْ} أي يطرأَ عليها الحزنُ بفراقك بعد ذلك، وإلا فزوالُ الحزن مقدمٌ على السرور المعبَّر عنه بقُرّة العين فإن التخليةَ متقدمةٌ على التحلية، وقيل: ولا تحزنَ أنت بفقد إشفاقها {وَقَتَلْتَ نَفْساً} هي نفس القِبْطيّ الذي استغاثه الإسرائيليُّ عليه.
{فنجيناك مِنَ الغم} أي غمِّ قْتلِه خوفاً من عقاب الله تعالى بالمغفرة ومن اقتصاص فرعونَ بالإنجاء منه بالمهاجَرة إلى مدين {وفتناك فُتُوناً} أي ابتليناك ابتلاءً أو فتوناً من الابتلاء على أنه جمعُ فتن، أو فتنة على ترك الاعتداء بالتاء كحُجوز في حجزة وبُدور في بَدْرة أي خلّصناك مرة بعد أخرى وهو إجمالُ ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقةِ الأُلاّف والمشْي راجلاً وفقْدِ الزاد، وقد روي أن سعيدَ بنَ جبير سأل عنه ابنَ عباس رضي الله عنهما، فقال: خلّصناك من محنة بعد محنة ولد في عام كان يُقتل فيه الوِلْدانُ فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبير، وألقتْه أمُّه في البحر وهمّ فرعونُ بقتله وقتلَ قِبْطياً وآجَرَ نفسه عشر سنين وضلّ الطريقَ وتفرّقت غنمُه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كلِّ واحدةٍ: فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبير. ولكن الذي يقتضيه النظمُ الكريم أن لا تُعدَّ إجارةُ نفسه وما بعدها من تلك الفُتون ضرورةَ أن المرادَ بها ما وقع قبل وصولِه عليه السلام إلى مدينَ بقضية الفاء في قوله تعالى: {فَلَبِثَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} إذ لا ريب في أن الإجارةَ المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصولِ إليهم، وقد أشير بذكر لُبثه عليه السلام فيهم دون وصولِه إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السلام في تضاعيف تلك السنينَ العشْر من فنون الشدائد والمكاره التي كلُّ واحد منها فتنةٌ وأيُّ فتنة.
ومدينُ بلدةُ شعيبٍ عليه الصلاة والسلام على ثماني مراحلَ من مصرَ {ثُمَّ جِئْتَ} إلى المكان الذي أُونس فيه النارُ ووقع فيه النداءُ والجُؤار، وفي كلمة التراخي إيذانٌ بأن مجيئَه عليه السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرُّقِ الغنم في الليلة المظلمةِ الشاتية وغيرِ ذلك {على قَدَرٍ} أي تقديرٍ قدّرتُه لأن أكلّمَك وأستنبئَك في وقت قد عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدَرِ غيرَ مستقدِمٍ ولا مستأخِر، وقيل: على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام وهو رأسُ أربعين سنةً وقوله تعالى: {ياموسى} تشريفٌ له عليه الصلاة والسلام وتنبيهٌ على انتهاء الحكايةِ التي هي تفصيلُ المرةِ الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكيةِ أولاً.