فصل: تفسير الآيات (41- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (41- 44):

{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}
وقوله تعالى: {واصطنعتك لِنَفْسِى} تذكيرٌ لقوله تعالى: {أَنَاْ اخترتك} وتمهيدٌ لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيّداً بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكيرِ المِنن السابغةِ تأكيداً لوثوقه عليه السلام بحصول نظائرِها اللاحقة، وهذا تمثيلٌ لما خوّله عز وعلا من الكرامة العظمى بتقريب الملِكِ بعضَ خواصّه واصطناعِه لنفسه وترشيحِه لبعض أمورِه الجليلة، والعدولُ عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: {وفتناك} ونظيرَيه السابقين تمهيدٌ لإفراد لفظِ النفسِ اللائقِ بالمقام فإنه أدخلُ في تحقيق معنى الاصطناعِ والاستخلاص، أي اصطفيتُك برسالاتي وبكلامي وقوله تعالى: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} أي وليذهبْ أخوك حسبما استدعيتَ، استئنافٌ مَسوق لبيان ما هو المقصودُ بالاصطناع {بآياتي} أي بمعجزاتي التي أرَيتُكَها من اليد والعصا فإنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آياتٌ شتى كما في قوله تعالى: {فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم} فإن انقلاب العصا حيواناً آيةٌ، وكونَها ثعباناً عظيماً لا يقادَر قدرُه آيةٌ آخرى، وسرعةَ حركتِه مع عِظم جِرْمه آيةٌ أخرى، وكونَه مع ذلك مسخراً له عليه السلام بحيث كان يُدخل يده في فمه فلا يضره آيةٌ أخرى، ثم انقلابُها عصاً آيةٌ أخرى، وكذلك اليدُ فإن بياضها في نفسه آيةٌ وشعاعَها آيةٌ، ثم رجوعُها إلى حالتها الأولى آيةٌ أخرى. والباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابُهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسّكين بها في إجراء أحكامِ الرسالة وإكمالِ أمر الدعوة لا مجردُ إذهابِها وإيصالها إليه {وَلاَ تَنِيَا} لا تفتُرا ولا تقصّرا، وقرئ: {لا تِنيا} بكسر التاء للاتباع {فِى ذِكْرِى} أي بما يليق بي من الصفات الجليلةِ والأفعال الجميلة عند تبليغِ رسالتي والدعاءِ إليّ، وقيل: المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكرَ يقع على جميع العبادات وهو أجلُّها وأعظمُها، وقيل: لا تنسَياني حيثما تقلبتما واستمِدّا بذكري العونَ والتأييدَ واعلما أن أمراً من الأمور لا يتأتى ولا يتسنّى إلا بذكري.
{اذهبا إلى فِرْعَوْنَ} جمعهما في صيغة أمر الحاضرِ مع غَيبة هارون إذ ذاك للتغليب، وكذا الحالُ في صيغة النهي. روي أنه أوحي إلى هارونَ وهو بمصر أن يتلقّى موسى عليهما السلام، وقيل: سمِع بإقباله فتلقاه {إِنَّهُ طغى} تعليلٌ لموجب الأمر.
والفاء في قوله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً} لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليينَ القولِ مما يكسِر سَوْرةَ عنادِ العُتاة ويُلين عريكةَ الطغاة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تُعنّفا في قولكما، وقيل: القولُ اللين مثل: {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ} فإنها دعوةٌ في صورة عَرْض ومَشورة، ويرده ما سيجيء من قوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} الآيتين، وقيل: كنِّياه وكان له ثلاثُ كُنًى: أبو العباس وأبو الوليد وأبو مُرّة، وقيل: عِداه شباباً لا يهرَم ويبقى له لذةُ المطعم والمشرب والمنكِح ومُلكاً لا يزول إلا بالموت، وقرئ: {لَيْنا} {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} بما بلغتُماه من ذكري ويرغب فيما رغّبتماه فيه {أَوْ يخشى} عقابي، ومحلُّ الجملة النصبُ على الحال من ضمير التثنية، أي فقولا له قولاً ليناً راجين أن يتذكر أو يخشى، وكلمةُ أو لمنع الخلوّ أي باشِرا الأمرَ مباشرةَ مَنْ يرجو ويطمع في أن يُثمر عملُه ولا يخيبَ سعيُه وهو يجتهد بطَوْقه ويحتشد بأقصى وُسْعه. وجدوى إرسالِهما إليه مع العلم بحاله إلزامُ الحجة وقطعُ المعذرة.

.تفسير الآيات (45- 47):

{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)}
{قَالاَ رَبَّنَا} أُسند القولُ إليهما مع أن القائلَ حقيقةً هو موسى عليه الصلاة والسلام بطريق التغليبِ إيذاناً بأصالته في كل قولٍ وفعلٍ وتبعيّةِ هارونَ عليه السلام له في كل ما يأتي ويذر، ويجوز أن يكون هارونُ قد قال ذلك بعد تلاقيهما فحَكى ذلك مع قول موسى عليه السلام عند نزولِ الآية كما في قوله تعالى: {وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} فإن هذا الخطابَ قد حُكي لنا بصيغة الجمع مع أن كلاًّ من المخاطَبين لم يخاطَب إلا بطريق الانفرادِ ضرورةَ استحالةِ اجتماعِهم في الوجود فكيف باجتماعهم في الخطاب {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا} أي يعجَلَ علينا بالعقوبة ولا يصبِرَ إلى إتمام الدعوةِ وإظهارِ المعجزة من فرَط إذا تقدّم ومنه الفارِطُ وفرسٌ فارِطٌ يسبِق الخيلَ، وقرئ: {يُفرِطَ} من أفرطه إذا حمله على العجلة، أي نخاف أن يحمِله حاملٌ من الاستكبار أو الخوف على المُلك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب {أَوْ أَن يطغى} أي يزداد طغياناً إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءتِه وقساوته، وإطلاقُه من حسن الأدب، وإظهارُ كلمة أن مع سَداد المعنى بدونه لإظهار كمالِ الاعتناء بالأمرِ والإشعارِ بتحقق الخوفِ من كل منهما.
{قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال الناشىءِ من النظم الكريم، ولعل الفعلَ إسنادٌ إلى ضمير الغَيبة للإشعار بانتقال الكلامِ من مَساق إلى مساقٍ آخرَ، فإن ما قبله من الأفعال الواردةِ على صيغة التكلم حكايةٌ لموسى عليه السلام بخلاف ما سيأتي من قوله تعالى: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعلى} فإن ما قبله أيضاً واردٌ بطريق الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: فماذا قال لهما ربُّهما عند تضرُّعِهما إليه؟ فقيل: قال: {لاَ تَخَافَا} ما توهمتما من الأمرين وقوله تعالى: {إِنَّنِى مَعَكُمَا} تعليلٌ لموجب النهي ومزيدُ تسليةٍ لهما، والمرادُ بالمعية كمالُ الحفظ والنُّصرة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {أَسْمَعُ وأرى} أي ما يجري بينكما وبينه من قول وفعلٍ فأفعلُ في كل حال ما يليق بها من دفع ضُرّ وشر وجلب نفعٍ وخير. ويجوز أن لا يُقدَّر شيءٌ، على معنى أنني حافظُكما سميعاً بصيراً والحافظ الناصرُ إذا كان كذلك فقد تم وبلغت النُّصرةُ غايتها {فَأْتِيَاهُ} أُمِرا بإتيانه الذي هو عبارةٌ عن الوصول إليه بعد ما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار، وهو عطف على لا تخافا باعتبار تعليلِه بما بعده {فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} أُمرا بذلك تحقيقاً للحق من أول الأمر ليعرِف الطاغيةُ شأنَهما ويبني جوابُه عليه، وكذا التعرّضُ لربوبيته تعالى له والفاء في قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَهما رسوليْ ربِّه مما يوجب إرسالَهم معهما، والمرادُ بالإرسال إطلاقُهم من الأسر والقسر وإخراجُهم من تحت يدِه العاديَةِ لا تكليفُهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَلاَ تُعَذّبْهُمْ} أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت مَلَكَة القِبْط يستخدمونهم في الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقْلِ الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقةِ، ويقتُلون ذكورَ أولادِهم عاماً دون عام ويستخدمون نساءَهم، وتوسيطُ حكمِ الإرسال بين بيان رسالتِهما وبين ذكرِ المجيء بآية دالةٍ على صحتها لإظهار الاعتناءِ به مع ما فيه من تهوين الأمرِ على فرعون، فإن إرسالَهم معهما من غير تعرّض لنفسه وقومِه بفنون التكاليف الشاقةِ كما هو حكمُ الرسالة عادةً ليس مما يشُقّ عليه كلَّ المشقة، ولأن في بيان مجيءِ الآية نوعَ طُولٍ كما ترى، فتأخيرُ ذلك عنه مُخِلٌّ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم، وأما ما قيل من أن ذلك دليلٌ على أن تخليصَ المؤمنين من الكفرة أهمُّ من دعوتهم إلى الإيمان فكلاّ.
{قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ} تقريرٌ لما تضمنه الكلامُ السابق من دعوى الرسالةِ وتعليلٌ لوجوب الإرسالِ، فإن مجيئَهما بالآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتَهما ويُقِرّها ويوجب الامتثالَ بأمرهما، وإظهارُ اسمِ الربِّ في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطبِ لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل، وتوحيدُ الآيةِ مع تعدّدها لأن المرادَ إثباتُ الدعوى ببرهانها لا بيانُ تعدّد الحجةِ وكذلك قوله تعالى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ} وقولُه تعالى: {أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ} وأما قوله تعالى: {مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ} فالظاهرُ أن المرادَ بها آيةٌ من الآيات {والسلام} المستتبِعُ لسلامة الدارين من الله تعالى والملائكةِ وغيرهم من المسلمين {على مَنِ اتبع الهدى} بتصديق آياتِ الله تعالى الهاديةِ إلى الحق، وفيه من ترغيبه في اتباعهما على ألطف وجهٍ مالا يخفى.

.تفسير الآيات (48- 49):

{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)}
{إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا} من جهة ربنا {أَنَّ العذاب} الدنيويَّ والأخروي {على مَن كَذَّبَ} أي بآياته تعالى {وتولى} أي أعرض عن قَبولها، وفيه من التلطيف في الوعيد حيث لم يصرَّحْ بحلول العذاب به ما لا مزيد عليه.
{قَالَ} أي فرعون بعد ما أتياه وبلَّغاه ما أُمرا به، وإنما طُوي ذكرُه للإيجاز والإشعارِ بأنهما كما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال به من غير تلعثم، وبأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} لم يُضِف الربَّ إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى: {إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} وقوله تعالى: {قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ} لغاية عتوِّه ونهاية طُغيانه بل أضافه إليهما لما أن المرسِلَ لابد أن يكون رباً للرسول، أو لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا: {إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} كما وقع في سورة الشعراءِ، والاقتصارُ هاهنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصودُ والفاءُ لترتيب السؤال على ما سبق من كونهما رسولَيْ ربِّهما، أي إذا كنتما رسولَي ربِّكما فأخبِراني مَنْ ربُّكما الذي أرسلكما، وتخصيصُ النداء بموسى عليه الصلاة والسلام مع توجيه الخطابِ إليهما لما أنه الأصلُ في الرسالة وهارونُ وزيرُه، وأما ما قيل من أن ذلك لأنه قد عرف أن له عليه الصلاة والسلام رُتّةً فأراد أن يُفحِمه فيردُّه ما شاهده منه عليه الصلاة والسلام من حسن البيانِ القاطعِ لذلك الطمعِ الفارغ، وأما قوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} فمن غلوّه في الخُبث والدعارة كما مر.

.تفسير الآيات (50- 53):

{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)}
{قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام مجيباً له: {رَبَّنَا} إما مبتدأٌ وقوله تعالى: {الذى أعطى كُلَّ شيء خَلْقَهُ} خبرُه أو هو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ والموصولُ صفتُه، وأياً ما كان فلم يريدا بضمير المتلكم أنفسَهما فقط حسبما أراد اللعينُ بل جميعَ المخلوقاتِ تحقيقاً للحق ورداً عليه كما يُفصح عنه ما في حيز الصلة، أي هو ربُّنا الذي أعطى كلَّ شيء من الأشياء خلقَه أي صورتَه وشكلَه اللائقَ بما نيط به من الخواصّ والمنافِع، أو أعطى مخلوقاتِه كلَّ شيء تحتاج هي إليه وترتفق به، وتقديمُ المفعول الثاني للاهتمام به، أو أعطى كلَّ حيوان نظيرَه في الخلق والصورة حيث زوّج الحصانَ بالحِجْر والبعيرَ بالناقة والرجلَ بالمرأة ولم يزوِّج شيئاً من ذلك بخلاف جنسِه، وقرئ: {خَلَقه} على صيغة الماضي على أن الجملة صفةٌ للمضاف أو المضافِ إليه، وحَذفُ المفعولِ الثاني إما للاقتصار على الأول أي كلَّ شيء خلقه الله تعالى لم يحرِمْه من عطائه وإنعامِه، أو للاختصار من كونه منوياً مدلولاً عليه بقرينة الحالِ أي أعطى كلَّ شيء خلقه الله تعالى ما يحتاج إليه.
{ثُمَّ هدى} أي إلى طريق الانتفاعِ والارتفاق بما أعطاه وعرّفه كيف يَتوصّل إلى بقائه وكماله إما اختياراً كما في الحيوانات أو طبعاً كما في الجمادات والقُوى الطبيعية النباتية والحيوانية، ولمّا كان الخلقُ الذي هو عبارةٌ عن تركيب الأجزاءِ وتسويةِ الأجسام متقدماً على الهداية التي هي عبارةٌ عن إيداع القُوى المحرِّكةِ والمدْرِكة في تلك الأجسامِ وُسِّط بينهما كلمةُ التراخي، ولقد ساق عليه الصلاة والسلام جوابَه على نمط رائقٍ وأسلوب لائقٍ حيث بين أنه تعالى عالمٌ قادرٌ بالذات خالقٌ لجميع الأشياء مُنعِمٌ عليها بجميع ما يليق بها بطريق التفضلِ، وضمّنه أن إرسالَه تعالى إياه إلى الطاغية من جملة هداياته سبحانه إياه بعد أن هداه إلى الحق بالهدايات التكوينيةِ حيث ركّب فيه العقلَ وسائرَ المشاعرِ والآلاتِ الظاهرةِ والباطنة.
{قَالَ فَمَا بَالُ القرون الاولى} لما شاهد اللعينُ ما نظمه عليه الصلاة والسلام في سلك الاستدلالِ من البرهان النيّر على الطراز الرائِع خاف أن يُظهر للناس حقّيةَ مقالاتِه عليه الصلاة والسلام وبُطلانَ خرافات نفسِه ظهوراً بيّناً فأراد أن يصرِفه عليه الصلاة والسلام عن سَننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلّق لها بالرسالات من الحكايات، ويشغَلَه عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوعُ غفلةٍ فيتسلق بذلك إلى أن يدّعيَ بين يدي قومه نوعَ معرفة، فقال: ما حالُ القرونِ الماضية والأممِ الخالية وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصّلة؟ فأجاب عليه الصلاة والسلام: بأن العلمَ بأحوالهم مفصّلةً مما لا ملابسة له بمنصِب الرسالة وإنما علمُها عند الله عز وجل، وأما ما قيل من أنه سأله عن حال مَنْ خلا من القرون وعن شقاء من شقيَ منهم وسعادةِ من سعِد فيأباه قوله تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى} فإن معناه أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما أنا عبدٌ لا أعلم منها إلا ما علّمنيه من الأمور المتعلقة بما أُرسلت به، ولو كان المسؤولُ عنه ما ذكر من الشقاوة والسعادةِ لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلِم ومن تولى فقد عُذّب حسبما نطق به قوله تعالى: {والسلام} الآيتين {فِى كتاب} أي مُثبْتٌ في اللوح المحفوظِ بتفاصيله ويجوز أن يكون ذلك تمثيلاً لتمكنه وتقرّره في علم الله عز وجل بما استحفظه العالَم، وقيده بالكَتَبة كما يلوح به قوله تعالى: {لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى} أي لا يُخطِىء ابتداءً ولا يذهب علمه بقاءً بل هو ثابتٌ أبداً فإنهما مُحالان عليه سبحانه، وهو على الأول لبيان أن إثباتَه في اللوح ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداءً أو بقاءً، وإظهارُ ربي في موقع الإظمار للتلذذ بذكره ولزيادة التقريرِ والإشعار بعلة الحُكم فإن الربوبيةَ مما يقتضي عدمَ الضلالِ والنسيانِ حتماً، ولقد أجاب عليه الصلاة والسلام عن السؤال بجوا عبقري بديعٍ حيث كشف عن حقيقة الحقِّ حجابَها مع أنه لم يخرُجْ عما كان بصدده من بيان شؤونِه تعالى ثم تخلّص إليه حيث قال بطريق الحكايةِ عن الله عز وجل لما سيأتي من الالتفات: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} على أن الموصولَ إما مرفوعٌ على المدح أو منصوبٌ عليه أو خبرُ مبتدأ محذوف، أي جعلها لكم كالمهد تتمهدونها أو ذاتَ مهدٍ وهو مصدرٌ سُمّي به المفعولُ، وقرئ: {مِهاداً} وهو اسمٌ لما يُمْهد كالفِراش أو جمعُ مهد أي جعل كلَّ موضع منها مهداً لكل واحد منكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي حصّل لكم طرقاً ووسّطها بين الجبال والأودية والبراري تسلُكونها من قُطْر إلى قطر لتقضُوا منها مآربَكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها.
{وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} هو المطر {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي بذلك الماءِ وهو عطفٌ على أنزل داخلٌ تحت الحكاية، وإنما التُفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدِلالة على كمال القدرةِ والحكمة، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مُطاعٍ عظيمِ الشأن تنقاد لأمره وتُذعِن لمشيئته الأشياءُ المختلفة كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} وقولِه تعالى: {أَم مَّنْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} خلا أن ما قبل الالتفاتِ هناك صريحُ كلامِه تعالى وأما هاهنا فحكايةٌ عنه تعالى وجَعْلُ قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} هو المحكيَّ مع كون ما قبله كلاَم موسى عليه الصلاة والسلام خلافُ الظاهر مع أنه يفوّت حينئذ الالتفاتَ لعدم اتحادِ المتكلم {أزواجا} أصنافاً سميت بذلك لازدواجها واقترانِ بعضِها ببعض {مّن نبات} بيانٌ أو صفةٌ لأزواجاً أي كائنة من نبات وكذا قوله تعالى: {شتى} أي متفرقة جمعُ شتيت، ويجوز أن يكون صفةً لنبات لما أنه في الأصل مصدرٌ يستوي فيه الواحد والجمع، يعني أنها شتّى مختلفةٌ في الطعم والرائحة والشكل والنفع، بعضُها صالحٌ للناس على اختلاف وجوهِ الصلاح وبعضُها للبهائم، فإن من تمام نعمته تعالى أن أرزاقَ عبادِه لما كان تحصّلها بعمل الأنعامِ جعل علَفها مما يفضُل عن حاجاتهم ولا يليق بكونه طعاماً لهم.