فصل: تفسير الآيات (66- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (66- 70):

{قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}
{قَالَ} استئنافٌ كما سلف ناشىءٌ من حكاية تخييرِ السحرةِ إياه عليه الصلاة والسلام، كأنه قيل: فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ فقيل: قال: {بَلْ أَلْقُواْ} أنتم أولاً مقابلةً للأدب بأحسنَ مِنْ أدبهم حيث بتّ القولَ بإلقائهم أولاً، وإظهاراً لعدم المبالاةِ بسحرهم ومساعدةً لما أوهموا من الميل إلى البدء وليبُرِزوا ما معهم ويستفرغوا أقصى جُهدِهم ويستنفدوا قُصارى وُسعِهم، ثم يظهر الله عز وجل سلطانَه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه لمّا علم أن ما سيظهر بيده سيلقَف ما يصنعون من مكايد السحر.
{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} الفاءُ فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} أي فألقَوا فإذا حبالُهم وهي للمفاجأة والتحقيقُ أنها أيضاً ظرفيةٌ تستدعي متعلَّقاً ينصِبها وجملةً تضاف إليها، ولكنها خُصت بكون متعلَّقِها فعلَ المفاجأة والجملةُ ابتدائيةٌ، والمعنى فألقَوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت أن يُخيَّل إليه سعيُ حبالِهم وعِصِيِّهم من سحرهم وذلك أنهم كانوا لطّخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمسُ اضطربت واهتزت فخُيل إليه أنها تتحرك، وقرئ: {تُخيِّل} بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعِصِيّ وإبدالِ (أنها تسعى) منه بدلَ اشتمالٍ، وقرئ يُخيِّل بإسناده إليه تعالى، وقرئ تَخَيَّل بحذف إحدى التاءين من تتخيل {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} أي أضمر فيها بعضَ خوفٍ من مفاجأته بمقتضى البشريةِ المجبولةِ على النفْرة من الحيّات والاحترازِ من ضررها المعتاد من اللسْع ونحوِه، وقيل: من أن يخالج الناسَ شكٌّ فلا يتبعوه وليس بذاك كما ستعرفه، وتأخيرُ الفاعل لمراعاة الفواصل.
{قُلْنَا لاَ تَخَفْ} أي ما توهمتَ {إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} تعليلٌ لما يوجبه النهيُ من الانتهاء عن الخوف وتقريرٌ لغلبته على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كما يُعرب عنه الاستئنافُ، وحرفُ التحقيق وتكريرُ الضمير وتعريفُ الخبر ولفظُ العلوّ المنبىءِ على الغلَبة الظاهرة وصيغةُ التفضيل.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف، وإنما أُوثر الإبهامُ تهويلاً لأمرها وتفخيماً لشأنها وإيذاناً بأنها ليست من جنس العِصِيِّ المعهودة المستتبعةِ للآثار المعتادة، بل خارجةٌ عن حدود سائرِ أفراد الجنسِ مبهمةُ الكُنْهِ مستتبِعةٌ لآثار غريبةٍ. وعدمُ مراعاة هذه النُّكتةِ عند حكايةِ الأمرِ في موضع آخرَ لا يستدعي عدمَ مراعاتها عند وقوع المحكيّ. هذا وحملُ الإبهامِ على التحقير بأن يراد لا تُبالِ بكثرة حبالِهم وعصيِّهم وألقِ العُوَيدَ الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقَفها مع وَحدته وكثرتها وصِغره وعِظَمها يأباه ظهورُ حالها فيما مر مرتين، على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلتْ العصا ما فعلتْ وهي على هيئتها الأصليةِ وقد كان منها ما كان وقوله تعالى: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} بالجزم جواباً للأمر من لقِفه إذا ابتلعه والتقمه بسرعة، والتأنيثُ لكون (ما) عبارةً عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعِصِيّ التي خُيّل إليك سعيُها وخِفّتُها، والتعبيرُ عنها بما صنعوا للتحقير والإيذانِ بالتمويه والتزوير، وقرئ: {تَلَقّف} بتشديد القاف وإسقاطِ إحدى التاءين من تتلقف، وقرئ بالرفع على الحال أو الاستئنافِ والجملةُ الأمرية معطوفةٌ على النهي متمّمةٌ بما في حيزها لتعليل موجبِه ببيان كيفيةِ غلبتِه عليه الصلاة والسلام وعلوِّه، فإن ابتلاعَ عصاه لأباطيلهم التي منها أوجسَ في نفسه ما أوجس مما يقلَع مادّته بالكلية، وهذا كما ترى صريحٌ في أن خوفَه عليه الصلاة والسلام لم يكن مما ذكر من مخالجة الشكِّ للناس وعدمِ اتّباعِهم له عليه الصلاة السلام وإلا لعُلّل بما يُزيله من الوعد بما يوجب إيمانَهم واتباعَهم له عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {إِنَّ مَا صَنَعُواْ} الخ، تعليلٌ لقوله تعالى: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} وما إما موصولةٌ أو موصوفةٌ أي إن الذي صنعوه أو إن شيئاً صنعوه {كَيْدُ سَاحِرٍ} بالرفع على أنه خبرٌ لأن أن كيدُ جنسِ الساحر، وتنكيرُه للتوسل به إلى تنكير ما أضيف إليه للتحقير، وقرئ بالنصب على أنه مفعولُ صنعوا و(ما) كافةٌ، وقرئ: {كيدُ سحرٍ} على أن الإضافةَ للبيان كما في علمُ فقةٍ أو على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحراً مبالغةً وقوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر} أي هذا الجنسُ {حَيْثُ أتى} أي حيث كان وأين أقبل، من تمام التعليل، وعدمُ التعرض لشأن العصا وكونِها معجزةً إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليلِ للإيذان بظهور أمرِها، والفاء في قوله تعالى: {فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً} كما سلف فصيحةٌ معربةٌ عن محذوفَين ينساق إليهما النظمُ الكريم غنيّين عن التصريح بهما لعدم احتمال تردّدِ موسى عليه السلام في الامتثال بالأمر واستحالةِ عدمِ وقوعِ اللقْف الموعود، أي فألقاه عليه السلام فوقع ما وقع من اللقف فألقى السحرةُ سجّداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر وإنما هي آيةٌ من آيات الله عز وجل.
روي أن رئيسَهم قال: كنا نغلِب الناسَ وكانت الآلاتُ تبقى علينا، فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقَيناه من الآلاتِ؟ فاستَدلّ بتغير أحوال الأجسامِ على الصانع القادرِ العالِم، وبظهور ذلك على يد موسى عليه الصلاة والسلام على صحة رسالتِه لا جرم، ألقاهم ما شاهدوه على وجوههم وتابوا وآمنوا وأتَوا بما هو غايةُ الخضوعِ، قيل: لم يرفعوا رؤوسَهم حتى رأَوا الجنةَ والنارَ والثوابَ والعقاب، وعن عِكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلَهم في الجنة ولا ينافيه قولهم: {إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا} الخ، لأن كونَ تلك المنازلِ منازلَهم باعتبار صدورِ هذا القول عنهم {قَالُواْ} استئناف كما مر غيرَ مرة {امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} تأخيرُ موسى عند حكاية كلامِهم لرعاية الفواصل وقد جُوّز أن يكون ترتيبُ كلامهم أيضاً هكذا، إما لِكبَر سنَّ هارون عليه الصلاة والسلام وإما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطلِ من جهة فرعونَ وقومِه، حيث كان فرعونُ ربى موسى عليه الصلاة والسلام في صِغَره فلو قدّموا موسى عليه الصلاة والسلام لربما توهم اللعينُ وقومُه من أول الأمر أن مرادَهم فرعونُ.

.تفسير الآيات (71- 72):

{قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)}
{قَالَ} أي فرعونُ للسحرة: {ءَامَنْتُم لَهُ} أي لموسى عليه الصلاة والسلام، واللامُ لتضمين الفعلِ معنى الاتباعِ، وقرئ على الاستفهام التوبيخي {قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ} أي من غير أن آذنَ لكم في الإيمان له كما في قوله تعالى: {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى} لا أن إذنَه لهم في ذلك واقعٌ بعده أو متوقَّع {أَنَّهُ} يعني موسى عليه الصلاة والسلام {لَكَبِيرُكُمُ} أي في فنكم وأعلمُكم به وأستاذكُم {الذى عَلَّمَكُمُ السحر} فتواطأتم على ما فعلتم أو فعلّمكم شيئاً دون شيء فلذلك غلبكم، وهذه شُبهةٌ زوّرها اللعينُ وألقاها على قومه وأراهم أن أمرَ الإيمان منوطٌ بإذنه فلما كان إيمانُهم بغير إذنه لم يكن معتدًّا به وأنهم من تلامذته عليه الصلاة والسلام، فلا عبرةَ بما أظهره كما لا عبرةَ بما أظهروه وذلك لِما اعتراه من الخوف من اقتداء الناسِ بالسحرة في الأيمان بالله تعالى ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكّد حيث قال: {فَلاقَطّعَنَّ} أي فوالله لأُقطعن {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} أي اليدَ اليمنى والرجلَ اليسرى، ومن ابتدائيةٌ كأن القطعَ ابتداءٌ من مخالفة العضو، فإن المبتدِىءَ من المعروض مبتدِىءٌ من العارض أيضاً، وهي مع مجرورها في حيّز النصبِ على الحالية أي لأقطعنّها مختلفاتٍ، وتعيينُ تلك الحال للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعِه لا محالة بتعيين كيفيتِه المعهودة في باب السياسة لا لأنها أفظعُ من غيرها {وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} أي عليها، وإيثارُ كلمةِ (في) للدلالة على إبقائهم عليها زماناً مديداً تشبيهاً لاستمرارهم عليها باستقرار المظروفِ المشتملِ عليه، قالوا: وهو أولُ من صَلَب، وصيغةُ التفعيل في الفعلَين للتكثير وقد قرئا بالتخفيف {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} يريد به نفسه وموسى عليه الصلاة والسلام لقوله: آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم، واللامُ مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغيره تعالى وهذا إما لقصد توضيعِ موسى عليه الصلاة والسلام والهُزْءِ به لأنه لم يكن من التعذيب في شيء، وإما لإراءة أن إيمانَهم لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينةِ البرهان بل كان عن خوف من قِبل موسى عليه الصلاة والسلام حيث رأوا ابتلاعَ عصاه لحبالهم وعِصِيَّهم فخافوا على أنفسهم أيضاً، وقيل: يريد به ربَّ موسى الذي آمنوا به بقولهم: آمنا برب هارون وموسى {أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} أي أدوم.
{قَالُواْ} غير مكترثين بوعيده {لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك بالإيمان والاتّباع {على مَا جَاءنَا} من الله على يد موسى عليه الصلاة والسلام {مِنَ البينات} من المعجزات الظاهرة فإن ما ظهر بيده عليه الصلاة والسلام من العصا كان مشتملاً على معجزات جمّة كما مر تحقيقه فيما سلف، فإنهم كانوا عارفين بجلائلها ودقائِقها {والذى فَطَرَنَا} أي خلقنا وسائرَ المخلوقات وهو عطفٌ على ما جاءنا وتأخيرُه لأن ما في ضمنه آيةٌ عقليةٌ نظرية وما شاهدوه آيةٌ حسيةٌ ظاهرة، وإيرادُه تعالى بعنوان فاطريته تعالى لهم للإشعار بعلة الحُكم فإن خالقيتَه لهم وكونَ فرعونَ من جملة مخلوقاتِه مما يوجب عدَم إيثارِهم له عليه سبحانه وتعالى، وهذا جوابٌ منهم لتوبيخ فرعونَ بقوله: {قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ}، وقيل: هو قسَمٌ محذوفُ الجواب لدِلالة المذكورِ عليه أي وحقَّ الذي فطرنا لا نؤثرك الخ، ولا مساغَ لكون المذكورِ جواباً له عند من يجوّز تقديمَ الجواب أيضاً لما أن القسمَ لا يجاب بلن إلا على شذوذ، وقوله تعالى: {فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ} جوابٌ عن تهديده بقوله: لأقطعن الخ، أي فاصنع ما أنت صانعُه أو فاحكم به وقوله تعالى: {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا} مع ما بعده تعليلٌ لعدم المبالاة المستفادِ مما سبق من الأمر بالقضاء، أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياةِ الدنيا فحسبُ، وما لنا من رغبة في عذْبها ولا رهبةٍ من عذابها.

.تفسير الآيات (73- 75):

{إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75)}
{إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا} التي اقترفنا فيها من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذَنا بها في الدار الآخرة، لا ليمتّعنا بتلك الحياةِ الفانية حتى نتأثرَ بما أوعدتَنا به من القطع والصلب، وقوله تعالى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} عطفٌ على خطايانا أي ويغفرَ لنا السحرَ الذي عمِلناه في معارضة موسى عليه السلام بإكراهك وحشرِك إيانا من المدائن القاصية، خصّوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهاراً لغاية نفرتِهم عنه ورغبتهم في مغفرته، وذكرُ الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يُفرَد بالاستغفار منه مع صدوره عنهم بالإكراه، وفيه نوعُ اعتذارٍ لاستجلاب المغفرةِ، وقيل: أرادوا الإكراهَ على تعلم السحر حيث روي أن رؤساءَهم كانوا اثنين وسبعين: اثنان منهم من القِبط والباقي من بني إسرائيل، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المعارضة حيث روي أنهم قالوا لفرعون: أرِنا موسى نائماً ففعل فوجدوه تحرُسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر فإن الساحرَ إذا نام بطل سحرُه، فأبى إلا أن يعارضوه ويأباه تصدّيهم للمعارضة على الرغبة والنشاط كما يُعرب عنه قولُهم: {إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} وقولهم: {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} {والله خَيْرُ} أي في حد ذاتِه وهو ناظرٌ إلى قولهم: والذي فطرنا {وأبقى} أي جزاءً، ثواباً كان أو عذاباً أو خيرٌ ثواباً وأبقى عذاباً.
وقوله تعالى: {أَنَّهُ} إلى آخر الشرطيتين تعليلٌ من جهتهم لكونه تعالى خيراً وأبقى جزاءٌ وتحقيقٌ له وإبطالٌ لما ادّعاه فرعون، وتصديرُهما بضمير الشأنِ للتنبيه على فخامة مضمونِهما لأن مناطَ وضْع الضميرِ موضعَه ادّعاءُ شهرتِه المغْنيةِ عن ذكره مع ما فيه من زيادة التقريرِ فإن الضميرَ لا يفهم منه من أول الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكن عند وروده له فضلُ تمكن، كأنه قيل: إن الشأنَ الخطيرَ هذا أي قوله تعالى: {مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} بأن مات على الكفر والمعاصي {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فينتهيَ عذابُه وهذا تحقيقٌ لكون عذابه أبقى {وَلاَ يَحْيَا} حياةً ينتفع بها.
{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً} به تعالى وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدناه {قَدْ عَمِلَ الصالحات} الصالحةُ كالحسنة جاريةٌ مجرى الاسم ولذلك لا تُذكر غالباً مع الموصوف وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقل {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ والجمعُ باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظِها، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم، أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات {لَهُمْ} بسبب إيمانِهم وأعمالِهم الصالحة {والدرجات العلى} أي المنازلُ الرفيعةُ، وليس فيه ما يدل على عدم اعتبارِ الإيمان المجرد عن العمل الصالحِ في استتباع الثوابِ، لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوزُ بالدرجات العلى لا بالثواب مطلقاً وهل التشاجرُ إلا فيه.

.تفسير الآيات (76- 77):

{جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)}
{جنات عَدْنٍ} بدلٌ من الدرجات العلى أو بيان، وقد مر أنّ عدْناً علمٌ لمعنى الإقامة أو لأرض الجنة فقوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} حال من الجنات وقوله تعالى: {خالدين فِيهَا} حالٌ من الضمير في لهم والعاملُ معنى الاستقرارِ أو الإشارةِ {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذُكر من الدرجات العُلى، ومعنى البُعد لما مر من التفخيم {جَزَاء مَن تزكى} أي تطهر من دنس الكفرِ والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمالِ الصالحة، وهذا تحقيقٌ لكون ثوابِه تعالى أبقى، وتقديمُ ذكرِ حال المجرمِ للمسارعة إلي بيان أشدّية عذابِه ودوامِه رداً على ما ادعاه فرعونُ بقوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} هذا وقد قيل: هذه الآياتُ الثلاثُ ابتداءُ كلامٍ من الله عز وجل، قالوا: ليس في القرآن أن فرعونَ فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ولم يثبُت في الأخبار.
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى} حكايةٌ إجماليةٌ لما انتهى إليه أمرُ فرعونَ وقومِه، وقد طُويَ في البين ذِكرُ ما جرى عليهم من الآيات المفصّلات الظاهرةِ على يد موسى عليه الصلاة والسلام بعد ما غلب السحرةَ في نحو من عشرين سنةً حسبما فُصّل في سورة الأعراف، وتصديرُها بالقسم لإبراز كمالِ العناية بمضمونها وأنْ في قوله: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} إما مفسرةُ لأن الوحيَ فيه معنى القول أو مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ، والتعبيرُ عنهم بعنوان كونِهم عباداً له تعالى لإظهار المرحمةِ والاعتناءِ بأمرهم والتنبيهِ على غاية قُبح صنيعِ فرعونَ بهم حيث استعبدهم وهم عبادُه عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل، أي وبالله لقد أوحينا إليه عليه الصلاة والسلام أنْ أسرِ بعبادي الذين أرسلتُك لإنقاذهم من مَلَكة فرعونَ، أي سِرْ بهم من مصرَ ليلاً {فاضرب لَهُمْ} أي فاجعل أو فاتخذْ لهم {طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً} أي يابساً على أنه مصدرٌ وصف به الفاعلُ مبالغةً، وقرئ: {يَبْساً} وهو إما مخففٌ منه أو وصفٌ كصعب، أو جمعُ يابس كصحْب، وُصف الواحد للمبالغة أو لتعدّده حسبَ تعدّدِ الأسباط {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} حالٌ من المأمور أي آمِناً من أن يُدركَكم العدوُّ أو صفةٌ أخرى لطريقاً والعائدُ محذوفٌ، وقرئ: {لا تخَفْ} جواباً للأمر {وَلاَ تخشى} عطف على لا تخاف داخلٌ في حكمه أي ولا تخشى الغرقَ، وعلى قراءة الجزم استئنافٌ أي وأنت لا تخشى أو عطفٌ عليه والألفُ للإطلاق كما في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} وتقديمُ الخوفِ المذكورِ للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف العظيمِ حيث قالوا: إنا لمدرَكون.