فصل: تفسير الآيات (91- 93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (91- 93):

{قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}
{قَالُواْ} في جواب هارون عليه الصلاة والسلام {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ} على العجل وعبادته {عاكفين} مقيمين {حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} جعلوا رجوعَه عليه السلام إليهم غايةً لعُكوفهم على عبادة العجلِ لكن لا على طريق الوعدِ بتركها عند رجوعِه عليه السلام بل بطريق التعلل والتسويفِ، وقد دسوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجِع بشيء مبين تعويلاً على مقالة السامريّ. روي أنهم لما قالوه اعتزلهم هارونُ عليه السلام في اثني عشر ألفاً وهم الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياحَ وكانوا يرقُصون حول العجل قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوتُ الفتنة فقال لهم ما قال وسمع منهم ما قالوا.
وقوله تعالى: {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية جوابهم لهارون عليه السلام، كأنه قيل: فماذا قال موسى لهارون عليهما السلام حين سمع جوابهم له؟ وهل رضيَ بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد؟ فقيل: قال له وهو مغتاظٌ قد أخذ بلحيته ورأسه: {قَالَ ياهارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ} بعبادة العجل وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالةِ الشنعاء {أَن لا تَتَّبِعَنِ} أي أن تتّبعَني، على أن لا مزيدةٌ وهو مفعولٌ ثانٍ لمنع وهو عامل في إذ، أيْ أيُّ شيءٍ منعك حين رؤيتِك لضلالهم من أن لا تتبعني في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به، وقيل: المعنى ما حملك على أن تتبعني، فإن المنع عن الشيء مستلزمٌ للحمل على مقابله، وقيل: ما منعك أن تلحقَني وتُخبرَني بضلالهم فتكونَ مفارقتُك مزْجرةً لهم، وفيه أن نصائحَ هارونَ عليه السلام حيث لم تزجُرْهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجُرَهم مفارقتُه إياهم عنه أولى، والاعتذارُ بأنهم إذا علموا أنه يلحقه ويخبره بالقصة يخافون رجوعَ موسى عليه السلام فينزجروا عن ذلك بمعزل من حيز القبول، كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى رجوعه عليه السلام {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} أي بالصلابة في الدين والمحاماةِ عليه فإن قوله له عليهما السلام: اخلُفني متضمنٌ للأمر بهما حتماً، فإن الخلافةَ لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلِفُ لو كان حاضراً، والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي ألم تتبعني أو خالفتني فعصيت أمري.

.تفسير الآيات (94- 97):

{قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)}
{قَالَ يابن أُمَّ} خَصّ الأمَّ بالإضافة استعظاماً لحقها وترقيقاً لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأم فإن الجمهورَ على أنهما كان شقيقين {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى} أي ولا بشعر رأسي، روي أنه عليه السلام أخذ شعرَ رأسِه بيمينه ولحيتَه بشماله من شدة غيظِه وفرْطِ غضبِه لله، وكان عليه السلام حديداً متصلّباً في كل شيء فلم يتمالكْ حين رآهم يعبدون العجلَ ففعل ما فعل وقوله تعالى: {إِنّى خَشِيتُ} الخ، استئنافٌ سيق لتعليل موجبِ النهي ببيان الداعي إلى ترك المقاتلةِ وتحقيقِ أنه غيرُ عاصٍ لأمره بل ممتثلٌ به، أي إني خشيتُ لو قاتلت بعضَهم ببعض وتفانَوا وتفرقوا {أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ} برأيك مع كونهم أبناءَ واحدٍ كما ينبىء عنه ذكرُهم بذلك العنوان دون القوم ونحوِه، وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتالُ من التفريق الذي لا يرُجى بعده الاجتماعُ {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} يريد به قولَه عليه السلام: اخلُفني في قومي وأصلح الخ، يعني إني رأيت أن الإصلاحَ في حفظ الدَّهْماءِ والمداراةِ معهم إلى أن ترجِع إليهم فلذلك استأنيتُك لتكون أنت المتدارِكَ للأمر حسبما رأيت لاسيما وقد كانوا في غاية القوةِ ونحن على القلة والضّعف كما يُعرب عنه قوله تعالى: {إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} {قَالَ} استئنافٌ وقع جواباً عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفسادِ إلى السامري واعتذارِ هارونَ عليه السلام، كأنه قيل: فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حُكي من الاعتذارين واستقرارِ الفتنة على السامري؟ فقيل: قال موبخاً له: هذا شأنُهم {فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} أي ما شأنُك وما مطلوبُك مما فعلت، خاطبه عليه السلام بذلك ليُظهر للناس بُطلانَ كيدِه باعترافه ويفعلَ به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم.
{قَالَ} أي السامريُّ مجيباً له عليه السلام: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} بضم الصاد فيهما، وقرئ بكسرها في الأول وفتحِها في الثاني، وقرئ بالتاء على الوجهين على خطاب موسى عليه السلام وقومِه، أي علمتُ ما لم يعلمْه القوم وفطِنت لما لم يفطَنوا له أو رأيت ما لم يرَوه، وهو الأنسب بما سيأتي من قوله: {وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} لاسيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاءَ علمِ ما لم يعلمه موسى عليه السلام جرأةٌ عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاءِ رؤيةِ ما لم يرَه عليه السلام فإنها مما يقع بحسب ما يتفق، وقد كان رأى أن جبريلَ عليه السلام جاء راكبَ فرسٍ وكان كلما رفع الفرسُ يديه أو رجليه على الطريق اليَبَس بخرج من تحته النباتُ في الحال، فعرف أن له شأناً فأخذ من موطئه حفنةً وذلك قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} وقرئ: {من أثر فرسِ الرسولِ} أي من تربة موطِيءِ فرسِ الملَك الذي أُرسل إليك ليذهبَ بك إلى الطور، ولعل ذكرَه بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقِفْ عليه القومُ من الأسرار الإلهية تأكيداً لما صدّر به مقالتَه والتنبيهِ على وقت أخْذِ ما أخذه، والقبضةُ المرّةُ من القبض أُطلقت على المقبوض مرةً، وقرئ بضم القاف وهو اسمُ المقبوض كالغُرفة والمُضغة، وقرئ: {فقبصْت قبصة} بالصاد المهملة والأول للأخذ بجميع الكف والثاني بأطراف الأصابع، ونحوُهما الخضْمُ والقضم {فَنَبَذْتُهَا} أي في الحُليّ المُذابة فكان ما كان {وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} أي ما فعلتُه من القبض والنبذ فقوله تعالى: {ذلك} إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ المذكور بعده، ومحلُّ كذلك في الأصل النصبُ على أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدر محذوف والتقديرُ سولت لي نفسي تسويلاً كائناً مثلَ ذلك التسويلِ فقُدّم على الفعل لإفادة القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً لإفادة تأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة فصار نفسَ المصدرِ المؤكّدِ لا نعتاً له، أي ذلك التزيينَ البديعَ زينت لي نفسي ما فعلتُه، لا تزييناً أدنى منه ولذلك فعلتُه وحاصلُ جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحضر اتباعِ هوى النفسِ الأمارة بالسوء وإغوائِها لا بشيء آخرَ من البرهان العقليّ أو الإلهامِ الإلهي.
فعند ذلك {قَالَ} عليه السلام {فاذهب} أي من بين الناس وقوله تعالى: {قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ} الخ، تعليلٌ لموجب الأمرِ و(في) متعلقةٌ بالاستقرار في لك أي ثابتٌ لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالاً من الكاف والعاملُ معنى الاستقرار في الظرف المذكورِ لاعتماده على ما هو مبتدأٌ معنى لا بقوله تعالى: {أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} لِمَكان، أي إن قولك: لا مساس ثابت لك كائناً في الحياة أي مدةَ حياتك أن تفارقَهم مفارقةً كلية، لكن لا بحسب الاختيارِ بموجب التكليفِ بل بحسب الاضطرارِ المُلجِىءِ إليها، وذلك أنه تعالى رماه بداء عَقام لا يكاد يمَسّ أحداً أو يمَسّه أحدٌ كائناً من كان إلا حُمّى من ساعته حُمّى شديدةً، فتحامى الناسَ وتحامَوْه وكان يصيح بأقصى طَوقه: لا مِساس وحُرّم عليهم ملاقاتُه ومواجهتُه ومكالمتُه ومبايعتُه وغيرُها مما يُعتاد جرَيانُه فيما بين الناسِ من المعاملات، وصار بين الناس أوحشَ من القاتل اللاجىء إلى الحَرم ومن الوحش النافِر في البرية، ويقال: إن قومَه باقٍ فيهم تلك الحالةُ إلى اليوم، وقرئ: {لا مَساسِ} كفَجارِ وهو علمٌ للمسّة، ولعل السرَّ في مقابلة جنايتِه بتلك العقوبةِ خاصة ما بينهما من مناسبة التضادّ فإنه لما أنشأ الفتنةَ بما كانت ملابستُه سبباً لحياة المَوات عوقب بما يُضادُّه حيث جُعلت ملابستُه سبباً للحمّى التي هي من أسبابُ موتِ الأحياء {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} أي في الآخرة {لَّن تُخْلَفَهُ} أي لن يُخلفَك الله ذلك الوعدَ بل ينجزه لك البتةَ بعد ما عاقبك في الدنيا، وقرئ بكسر اللام والأظهر أنه من أخلفتُ الموعدَ أي وجدتُه خلفاً، وقرئ بالنون على حكاية قوله عز وجل: {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أي ظلِلْتَ مقيماً على عبادته فحُذفت اللامُ الأولى تخفيفاً، وقرئ بكسر الظاءِ بنقل حركةِ اللام إليها {لَّنُحَرّقَنَّهُ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي بالنار ويؤيده قراءةُ لنُحْرِقنه من الإحراق، وقيل: بالمِبْرد على أنه مبالغةٌ في حرق إذا بُرد بالمِبرَد ويعضده قراءة لنَحْرُقنه {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ} أي لنُذْرِينّه، وقرئ بضم السين {فِي اليم} رماداً أو مُبْرَداً كأنه هباءٌ {نسفاً} بحيث لا يبقى منه عينٌ ولا أثرٌ ولقد فعل عليه السلام ذلك كلَّه حينئذ كما يشهد به الأمرُ بالنظر، وإنما لم يصرح به تنبيهاً على كمال ظهورِه واستحالةِ الخُلْف في وعده المؤكّدِ باليمين.

.تفسير الآيات (98- 99):

{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)}
{إِنَّمَا إلهكم الله} استئناف مَسوقٌ لتحقيق الحقِّ إثرَ إبطالِ الباطل بتلوين الخطابِ وتوجيهِه إلى الكل، أي إنما معبودُكم المستحقُّ للعبادة الله {الذى لا إله} في الوجود لشيء من الأشياء {إِلاَّ هُوَ} وحده من غير أن يشاركَه شيءٌ من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكامُ الألوهية، وقرئ: {الله لا إله إلا هو الرحمن ربُّ العرش} وقوله تعالى: {وَسِعَ كُلَّ شيء عِلْماً} أي وسع علمُه كلَّ ما من شأنه أن يُعلم بدلٌ من الصلة، كأنه قيل: إنما إلهكم الله الذي وسع كلَّ شيءٍ علماً لا غيرُه كائناً ما كان فيدخل فيه العِجْلُ دخولاً أولياً، وقرئ وسّع بالتشديد فيكون انتصابُ عِلْماً على المفعولية لأنه على القراءة الأولى فاعلٌ حقيقةً، وبنقل الفعل إلى التعدية إلى المفعولين صار الفاعل مفعولاً أولاً، كأنه قيل: وسِع علمُه كلَّ شيء وبه تم حديثُ موسى عليه السلام المذكورُ لتقرير أمر التوحيدِ حسبما نطقت به خاتمتُه وقوله تعالى: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} كلامٌ مستأنف خوطب به النبيُّ عليه السلام بطريق الوعدِ الجميل بتنزيل أمثالِ ما مر من أنباء الأممِ السالفة، وذلك إشارةٌ إلى اقتصاص حديثِ موسى عليه السلام، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل، ومحلُّ الكاف النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر مقدّر أي نقص عليك {مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ} من الحوادث الماضيةِ الجارية على الأمم الخاليةِ قصًّا مثلَ ذلك القَصِّ المارِّ، والتقديمُ للقصر المفيدِ لزيادة التعيين، ومن في قوله تعالى: {مِنْ أَنْبَاء} في حيز النصب إما على أنه مفعولُ نقُصّ باعتبار مضمرٍ فيه وإما على أنه متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ للمفعول كما في قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي جمْعٌ دون ذلك، والمعنى نقصّ عليك بعضَ أنباءِ ما قد سبق أو بعضاً كائناً من أنباء ما قد سبق، وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} الخ، وتأخيرُه عن عليك لما مر مراراً الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أي مثلَ ذلك القصِّ البديعِ الذي سمِعتَه نقصّ عليك ما ذكر من الأنباء لا قصًّا ناقصاً عنه تبصِرةً لك وتوقيراً لعلمك وتكثيراً لمعجزاتك وتذكيراً للمستبصرين من أمتك.
{وَقَدْ اتيناك مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} أي كتاباً منطوياً على الأقاصيص والأخبارِ حقيقاً بالتفكير والاعتبار، وكلمةُ مِنْ متعلقةٌ بآتيناك وتنكيرُ ذكراً للتفخيم وتأخيرُه عن الجارّ والمجرور لما أن مرجِعَ الإفادةِ في الجملة كونُ المؤتى من لدنه تعالى ذكراً عظيماً وقرآناً كريماً جامعاً لكل كمالٍ، لا كونُ ذلك الذي مر مُؤْتى من لدنه عز وجل مع ما فيه من نوع طولٍ بما بعده من الصفة، فتقديمُه يذهب برونق النظمِ الكريم.

.تفسير الآيات (100- 103):

{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)}
{مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} عن ذلك الذكرِ العظيم الشأنِ المستتبِع لسعادة الدارين، وقيل: عن الله عز وجل، ومَنْ إما شرطيةٌ أو موصولةٌ وأياً ما كانت فالجملةُ صفةٌ لذكراً {فَإِنَّهُ} أي المعرِضُ عنه {يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً} أي عقوبةً ثقيلةً فادحة على كفره وسائرِ ذنوبه، وتسميتُها وِزراً إما لتشبيهها في ثِقلها على المعاقَب وصعوبةِ احتمالها بالحِمْل الذي يفدَح الحاملَ وينقُض ظهرَه، أو لأنها جزاءُ الوِزْر وهو الإثمُ والأولُ هو الأنسبُ بما سيأتي من تسميتها حِملاً وقوله تعالى: {خالدين فِيهِ} أي في الوزر أو في احتماله المستمرِّ، حالٌ من المستكنّ في يحملُ والجمعُ بالنظر إلى معنى مَنْ لما أن الخلودَ في النار مما يتحقق حالَ اجتماعِ أهلِها كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثةِ بالنظر إلى لفظها {وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} أي بئس لهم ففيه ضميرٌ مبهمٌ يفسّره حِمْلاً والمخصوصُ بالذم محذوفٌ، أي ساء حملاً وِزرُهم واللامُ للبيان كما في هيتَ لك كأنه لما قيل: ساء، قيل: لمن يقال هذا؟ فأجيب: لهم، وإعادةُ يوم القيامة لزيادة التقريرِ وتهويلِ الأمر.
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} بدلٌ من يوم القيامة أو منصوبٌ بإضمار اذكُر أو ظرفٌ لمضمر قد حُذف للإيذان بضيق العبارةِ عن حصره وبيانِه حسبما مر في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} وقوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} وقرئ: {ننفخ} بالنون على إسناد النفخِ إلى الآمرِ به تعظيماً له، وبالياء المفتوحة على أن ضميره لله عز وجل أو لإسرافيلَ عليه السلام وإن لم يجْرِ ذكرُه لشهرته {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ} أي يوم إذ يُنفخ في الصور، وذكرُه صريحاً مع تعيّن أن الحشرَ لا يكون إلا يومئذ للتهويل، وقرئ: {ويُحشَر المجرمون} {زُرْقاً} أي حالَ كونهم زُرْقَ العيون وإنما جعلوا كذلك لأن الزُّرقةَ أسوأُ ألوانِ العين وأبغضُها إلى العرب فإن الرومَ الذين كانوا أعدى عدوِّهم زُرقٌ، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسودُ الكِبد وأصهبُ السِّبال وأزرقُ العين، أو عُمياً لأن حدَقةَ الأعمى تزرقّ.
وقوله تعالى: {يتخافتون بَيْنَهُمْ} أي يخفِضون أصواتَهم ويُخفونها لما يملأ صدورَهم من الرعب والهول، استئنافٌ ببيان ما يأتون وما يذرون حينئذ، أو حالٌ أخرى من المجرمين أي يقول بعضُهم لبعض بطريق المخافتة: {إِن لَّبِثْتُمْ} أي ما لبثتم في الدنيا {إِلاَّ عَشْراً} أي عشرَ ليالٍ استقصاراً لمدة لبثهم فيها لزوالها أو لاستطالتهم مدةَ الآخرة لتأسفهم عليها لمّا عاينوا الشدائدَ وأيقنوا أنهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطارِ واتّباعِ الشهوات، أو في القبر وهو الأنسبُ بحالهم فإنهم حين يشاهدون البعثَ الذي كانوا يُنكِرونه في الدنيا ويعُدّونه من قبيل المُحالات لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك اعترافاً به وتحقيقاً لسرعة وقوعِه، كأنهم قالوا: قد بُعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدةً يسيرة، وإلا فحالُهم أفظعُ من أن تمكّنهم من الاشتغال بتذكر أيامِ النعمة والسرورِ واستقصارِها والتأسف عليها.