فصل: تفسير الآية رقم (125):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (125):

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
وقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيْتَ} أي الكعبةَ المعظمةَ غلب عليها غلبةَ النجم على الثريا معطوفٌ على إذِ ابتلى على أن العامل فيه هو العاملُ فيه أو مضمرٌ مستقل معطوف على المضمر الأول، والجعلُ إما بمعنى التصيير فقوله عز وجل: {وإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ} أي الكعبةَ المعظمةَ غلب عليها غلبةَ النجم على الثريا معطوفٌ على إذِ ابتلى على أن العامل فيه هو العاملُ فيه أو مضمرٌ مستقل معطوف على المضمر الأول، والجعلُ إما بمعنى التصيير فقوله عز وجل: {مَثَابَةً} أي مرجعاً يثوب إليه الزّوارُ بعدما تفرقوا عنه أو أمثالُهم أو موضِعَ ثوابٍ يثابون بحجِّه واعتمارِه، مفعولُه الثاني، وإما بمعنى الإبداع فهو حال من مفعوله، واللامُ في قوله تعالى: {لِلنَّاسِ} متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفةً لمثابةً أي مثابة كائنة للناس أو بجعلنا أي جعلناه لأجل الناس وقرئ {مثاباتٍ} باعتبار تعدّدِ التائبين {وَأَمْناً} أي آمِنا كما في قوله تعالى: {حَرَماً ءامِناً} على إيقاع المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعلِ للمبالغة أو على تقدير المضافِ أي ذا أمنِ أو على الإسنادِ المجازي أي آمِنا بحجّهِ من عذابِ الآخرةِ من حيث أن الحجَّ يجُبُّ ما قبله أو مَنْ دخله من التعرُّض له بالعقوبة وإن كان جانياً حتى يخرجَ على ما هو رأيُ أبي حنيفةَ، ويجوز أن يُعتبر الأمنُ بالقياس إلى كل شيء كائناً ما كان ويدخل فيه أمنُ الناس دخولاً أولياً وقد اعتيدَ فيه أمنُ الصيد حتى إن الكلبَ كان يهُمُّ بالصيد خارجَ الحرم فيفِرُّ منه وهو يتبعه فإذا دخل الصيد الحرمَ لم يتبعْه الكلبُ {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} على إرادةِ قولٍ هو عطفٌ على {جعلنا} أو حال من فاعله أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا إلخ وقيل: هو بنفسهِ معطوفٌ على الأمرِ الذي يتضمنه قوله عز وجل: {مَثَابَةً لّلنَّاسِ} كأنه قيل: توبوا إليه واتخذوا إلخ وقيل: على المضمرِ العاملِ في إذ وقيل: هي جملةٌ مستأنفةٌ والخطابُ على الوجوه الأخيرةِ له عليه السلام ولأمتهِ والأولُ هو الأليقُ بجزالةِ النظم الكريم، والأمرُ صريحاً كان أو مفهوماً من الحكاية للاستحباب ومن تبعيضية والمقام اسمُ مكانٍ وهو الحجَرُ الذي عليه أثر قدمُه عليه السلام والموضعُ الذي كان عليه حين قام ودعا الناسَ إلى الحجِّ أو حين رفع قواعدَ البيت وهو موضعُه اليوم، والمراد بالمصلى إما موضعُ الصلاة أو موضعُ الدعاء. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمرَ رضي الله عنه فقال: «هذا مقامُ إبراهيم» فقال عمر رضي الله عنه: أفلا نتخذهُ مصلًّى فقال: «لم أُومرْ بذلك» فلم تغِبْ الشمسُ حتى نزلتْ. وقيل: المرادُ به الأمرُ بركعتي الطواف لما روى جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام لما فرَغ من طوافه عمَد إلى مقامِ إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} وللشافعي في وجوبِهما قولان وقيل: مقامُ إبراهيمَ الحرمُ كلهُ وقيل: مواقفُ الحج عرفةُ والمزدَلِفةُ والجِمارُ، واتخاذُها مصلى أن يدعى فيها ويتقرَّبَ إلى الله عز وجل وقرئ {واتخَذوا} على صيغة الماضي عطفاً على جعلنا أي واتخذ الناسُ من مكان إبراهيمَ الذي وُسِمَ به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قِبلةً يصلّون إليها {وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل} أي أمرناهما أمراً مؤكداً {أَن طَهّرَا بَيْتِىَ} بأن طهِّراه، على أنّ {أنْ} مصدرية حذف عنها الجارُّ حذفاً مطرداً لجوازِ كون صلتِها أمراً ونهياً كما في قوله عز وجل: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا} لأن مدارَ جوازِ كونها فعلاً إنما هو دِلالتُه على المصدر وهي متحققةٌ فيهما، ووجوبُ كونِها خبرية في صلةِ الموصول الاسمي إنما هو للتوصّل إلى وصف المعارفِ بالجمل، وهي لا يوصف بها إلا إذا كانت خبرية، وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك ولما كان الخبر والإنشاء في الد2لالة على المصدرِ سواءً ساغَ وقوعُ الأمر والنهي صلةً حسب وقوعِ الفعل فيتجرّد عند ذلك عن معنى الأمر والنهي، نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيّ والاستقبال، أو أنْ طهراه على أنّ أنْ مفسرة لتضمن العهدِ معنى القولِ، وإضافةُ البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف، وتوجيهُ الأمر بالتطهيرِ هاهنا إليهما عليهما السلام لا ينافي ما في سورةِ الحج من تخصيصِه بإبراهيمَ عليه السلامُ فإنَّ ذلك واقعٌ قبلَ بناءِ البيتِ كما يُفصِحُ عنه قولُه تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} وكان إسماعيلُ عليه السلام حينئذ بمعزلٍ من مثابةِ الخطابِ وظاهرٌ أنَّ هذا بعدَ بلوغِه مبلغَ الأمرِ والنهي وتمامِ البناء بمباشرته كما ينبىء عنه إيرادُهُ إثرَ حكايةِ جعلهِ مثابةً للناسِ الخ، والمرادُ تطهيرُه من الأوثانِ والأنجاسِ وطواف الجنُب والحائضِ وغيرِ ذلك مما لا يليقُ به {لِلطَّائِفِينَ} حوله {والعاكفين} المجاورين المقيمين عنده أو المعتكفين أو القائمين {والركع السجود} جمع راكع وساجد أي للطائفين والمصلين لأنَّ القيامَ والركوعَ والسجودَ من هيئاتِ المصلي ولتقاربِ الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بين موصوفيهما. أو أخلِصاه لهؤلاءِ لئلا يغشاهُ غيرُهم وفيه، إيماءٌ إلى أن ملابسةَ غيرِهم به وإن كانت مع مقارنةِ أمرٍ مباحٍ مِن قبيلِ تلويثِه وتدنيسِه.

.تفسير الآية رقم (126):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} عطفٌ على ما قبلَهُ منْ قولِه: وإذ جعلنا إلخ إما بالذاتِ أو بعاملِه المضمرِ كما مرَّ {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} ذا أمنٍ كعيشةٍ راضيةٍ أو آمناً أهلُهُ كليلةِ نائم أي اجعل هذا الواديَ من البلادِ الآمنة وكان ذلك أول ما قَدِمَ عليه السلام مكة كما روى سعيدُ بنُ جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه عليه الصلاة والسلام لما أسكنَ إسمعيلَ وهاجَر هناك وعادَ متوجهاً إلى الشام تَبعتْه هاجرُ فجعلتْ تقول: إلى من تَكِلُنا في هذا البلقَعِ وهو لا يَرُدُّ عليها جواباً حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال: نعمْ قالت: إذنْ لا يُضيِّعُنا فرضِيَتْ ومضى حتى إذا استوى على ثَنِيّةِ كَداءٍ أقبل على الوادي فقال: «ربنا إني أسكنت» الآية وتعريفُ البلدِ مع جعلِه صفة لهذا في سورة إبراهيم إن حمل على تعدد السؤال لما أنه عليه السلام سأَلَ أولاً كلا الأمرين البلديةِ والأمنِ فاسْتُجيبَ له في أحدِهما وتأخرَ الآخرُ إلى وقته المقدر له لما تقتضيه الحكمةُ الباهِرَةُ ثمَّ كرَّرَ السؤالَ حسبما هو المعتادُ في الدعاءِ والابتهالِ أو كان المسؤولُ أولاً البلديةَ ومجردَ الأمنِ المصححِ للسُكنى كما في سائرِ البلاد وقد أجيبَ إلى ذلك، وثانياً الأمنُ المعهودُ أو كان هو المسؤول أولاً أيضاً وقد أجيب إليه لكنَّ السؤالَ الثانيَ لاستدامتِه، والاقتصارُ على سؤالِه مع جعلِ البلدِ صفةً لهذا لأنهُ المقصِدُ الأصليُّ أو لأنَّ المعتادَ في البلدية الاستمرارُ بعد التحقق بخلافِ الأمنِ وإن حمل على وحدةِ السؤالِ وتكرُرِ الحكايةِ كما هو المتبادرُ فالظاهرُ أن المسؤولَ كلا الأمرين. وقد حُكي ذلك هاهنا واقتُصرَ هناك على حكايةِ سؤالِ الأمنِ اكتفاءً عن حكايةِ سؤالِ البلديةِ بحكايةِ سؤال جعل أفئدة الناس تهوي إليه كما سيأتي تفصيلُه هناك بإذنِ الله عز وجل {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} من أنواعها بأن تجعلَ بقربٍ منه قرُىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطارِ الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمعُ فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفية في يومٍ واحدٍ. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الطائفَ كانت من أرض فلِسطينَ فلما دعا إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى فوضعَها حيث وضعها رزقاً للحرم وعن الزهري: أنه تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوةِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام {مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله} بدلٌ من أهلِه بدلَ البعض، خصهم بالدعاء إظهاراً لشرفِ الإيمان وإبانةً لخطره واهتماماً بشأن أهلِهِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ وفيه ترغيب لقومِه في الإيمان وزجر عن الكفر كما أن في حكايتِه ترغيباً وترهيباً لقريش وغيرهم من أهل الكتاب {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كما مر مراراً وقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ} عطفٌ على مفعولِ فعلٍ محذوف تقديره ارزقْ من آمن ومن كفر وقولُه تعالى: {فَأُمَتّعُهُ} معطوفٌ على ذلك الفعل أو في محل رفع بالابتداء وقولُه تعالى: فأمتعه خبرُه أي فأنا أمتعُهُ وإنما دخلته الفاءُ تشبيهاً له بالشرط.
والكفرُ وإن لم يكنْ سبباً للتمتيعِ المطلقِ لكنه يصلح سبباً لتقليلِه وكونِه موصولاً بعذابِ النار، وقيلَ: هو عطفٌ على من آمن عطفَ تلقينٍ كأنه قيلَ: قلْ وارزقْ من كفرَ فإنه أيضاً مجابٌ كأنَّهُ عليه السلامُ قاسَ الرزقَ على الإمامة فنبههُ تعالى على أنهُ رحمةٌ دنيويةٌ شاملةٌ للبَرِّ والفاجرِ بخلافِ الإمامةِ الخاصةِ بالخواص وقرئ {فأُمْتِعُه} من أمتع وقرئ {فنمُتِّعُه} {قَلِيلاً} تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} أي أَلُزُّهُ إليه لزَّ المضطرِ لكفرِه وتضييعِه ما متّعتُه به من النعمِ وقرئ {ثمَّ نضطَرُّه} على وفق قراءة {فنُمتِّعه} وقرئ {فأَمتِعْه قليلاً ثم اضْطَرَّهُ} بلفظ الأمرِ فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه السلامُ وفي {قال} ضميره وإنما فصلُه عما قبله لكونِه دعاءً على الكفرة، وتغيير سبكهِ للإيذانِ بأنَّ رَ سببٌ لاضطرارهم إلى عذابِ النارِ وأمالكفرَ رزقُ من آمن فإنما هو على طريقةِ التفضّلِ والإحسانِ وقرئ بكسر الهمزةِ على لغةِ من يكسرُ حرفَ المضارعةِ وأَطَّرُّه بإدغام الضادِ في الطاء وهي لغةٌ مرذولةٌ فإنَّ حروفَ (ضم شفر) يُدغمُ فيها ما يجاورُها بلا عكسِ {وَبِئْسَ المصير} المخصوص بالذم محذوفٌ أي بئس المصيرُ النارُ أو عذابُها.

.تفسير الآية رقم (127):

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}
{وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت} عطفٌ على ما قبله من قوله عز وعلا: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم} على أحد الطريقين المذكورين في {وإذ جعلنا} وصيغةُ الاستقبال لحكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها العجيبةِ المنبثقة عن المعجزةِ الباهرةِ، والقواعدُ جمع قاعدة وهي الأساسُ صفةٌ غالبة من القعود بمعنى الثبات، ولعله مجازٌ من مقابل القيام ومنه قعدك الله، ورفعِه البناءَ عليها لأنه ينقُلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاعِ، والمرتفعُ حقيقة وإن كان هو الذي بُني عليها لكنهما لمّا التأما صارا شيئاً واحداً فكأنها نمت وارتفعت، وقيل: المراد بها ساقاتُ البناء فإن كل ساقٍ قاعدةٌ لما يبنى عليها ويرفعها بناءَ بعضِها على بعض، وقيل: المرادُ برفعها رفعُ مكانةِ البيت وإظهارُ شرفِه ودعاءُ الناس إلى حجِّه، وفي إبهامها أولاً ثم تبيينِها من تفخيم شأنها ما لا يخفى وقيل: المعنى وإذ يرفع إبراهيمُ ما قعد من البيت واستوطأ، يعني يجعل هيئةَ القاعدةِ المستَوطَأةِ مرتفعةً عالية بالبناء، رُوي أن الله عز وجل أنزل البيتَ ياقوتةً من يواقيت الجنة له بابانِ من زُمُرُّذ شرقي وغربي وقال لآدمَ: أهبطتُ لك ما يُطاف به كما يطاف حول عرشي فتوجه آدمُ من أرضِ الهندِ إلى مكةَ ماشياً وتلقَتْه الملائكةُ فقالوا: بَرَّ حجَّك يا آدمُ لقد حجَجْنا هذا البيتَ قبلك بألفي عام، وحج آدمُ عليه السلام أربعينَ حجةً من أرض الهند إلى مكةَ على رجليه فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيامَ الطوفان إلى السماءِ الرابعةِ فهو البيتُ المعمور وكان موضعُه خالياً إلى زمن إبراهيمَ عليه السلام فأمره سبحانه ببنائه وعرَّفه جبريلُ عليه السلام بمكانه وقيل: بعث الله السكينةَ لتدلَّه عليه فتبعها إبراهيم عليه السلام حتى أتى مكة المعظّمة. وقيل: بعث الله سَحابةً على قدْرِ البيت وسار إبراهيمُ في ظلها إلى أن وافت مكةَ المعظمةَ فوقفت على موضع البيت فنُودي أنِ ابْنِ على ظلّها ولا تزدْ ولا تنقُصْ. وقيل: بناه من خمسة أجبُل: طورِ سَيْناء، وطورِ زيتا، ولبنانَ، والجُوديِّ وأسّسه من حِراءَ. وجاء جبريلُ عليه السلام بالحجر الأسود من السماء. وقيل: تمخّض أبو قُبَيْس فانشقَّ عنه وقد خُبِىءَ فيه في أيام الطوفان وكان ياقوتةً بيضاءَ من يواقيتِ الجنة فلما لمستْه الحُيَّضُ في الجاهلية اسودّ. وقال الفاسيّ في مثير الغرام في تاريخ البلد الحرام والذي يتحصل من جملة ما قيل في عدد بناء الكعبة أنها بنيت عشرَ مرات منها بناءُ الملائكة عليهم السلام ذكره النووي في تهذيب الأسماءِ واللغات والأزرقيُّ في تاريخه وذكر أنه كان قبل خلقِ آدمَ عليه السلام ومنها بناءُ آدمَ عليه السلام ذكره البيهقي في دلائل النبوة وروى فيه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث الله عز وجل جبريلَ إلى آدمَ عليهما السلام فقال له ولحواءَ: ابنِيا لي بَيْتاً فحطَّ جبريلُ وجعل آدمُ يحفِرُ وحواءُ تنقُل الترابَ حتى إذا أصاب الماء نودي من تحته حسبُك آدمُ فلما بنياه أوحى إليه أن يطوفَ به فقيل له: أنت أولُ الناس وهذا أولُ بيتٍ وهكذا ذكره الأزرقي في تاريخه وعبدُ الرزاق في مصنفه.
ومنها بناءُ بني آدم عندما رُفعت الخيمة التي عزّى الله تعالى بها آدم عليه السلام وكانت ضُربت في موضع البيت فبنى بنوه مكانَها بيتاً من الطين والحجارة فلم يزل معموراً يعمرُونه هم ومن بعدهم إلى أن مسَّه الغرق في عهد نوح عليه السلام ذكره الأزرقيُّ بسنده إلى وهْب بن منبه ومنها بناءُ الخليل عليه السلام وهو منصوصٌ عليه في القرآن مشهور فيما بين قاصٍ ودان ومنها بناءُ العمالقة ومنها بناء جُرْهُم ذكرهما الأزرقيُّ بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنها بناءُ قصيِّ بنِ كلاب ذكره الزبيرُ بن بكار في كتاب النَّسَب. ومنها بناءُ قريشٍ وهو مشهور ومنها بناءُ عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما ومنها بناءُ الحجاج بنِ يوسُفَ وما كان ذلك بناءً لكلِّها بل لجدار من جدرانها. وقال الحافظ السهيلي: إن بناءها لم يكن في الدهر إلا خمسَ مرات الأولى حين بناها شيْثُ عليه السلام انتهى والله سبحانه أعلم {وإسماعيل} عطف على إبراهيمَ ولعل تأخيرَه عن المفعول للإيذان بأن الأصلَ في الرفع هو إبراهيمُ وإسماعيلُ تبعٌ له قيل: إنه كان يناوله الحجارةَ وهو يبنيها وقيل: كانا يبنيانِه من طرَفيه {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} على إرادة القولِ أي يقولان وقد قرئ به على أنه حالٌ منهما عليهما السلام وقيل: على أنه هو العاملُ في إذْ والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها والتقديرُ ويقولان ربنا تقبلْ منا إذ يرفعان أيْ وقتَ رفعِهما، وقيل: وإسماعيلُ مبتدأٌ خبرُه قولٌ محذوفٌ وهو العامل في {ربنا تقبل منا} فيكون إبراهيمُ هو الرافعَ وإسماعيلُ هو الداعيَ، والجملةُ في محل النصبِ على الحالية أي وإذ يرفع إبراهيمُ القواعدَ والحالُ أن إسماعيلَ يقولُ: ربنا تقبل منا. والتعرضُ لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميرهما عليهما السلام لتحريك سلسلةِ الإجابةِ، وتركُ مفعول تقبّل مع ذكره في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} ليعُم الدعاءُ وغيره من القُرَب والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من الثناء كما يُعرب عنه جعلُ الجملة الدعائية حالية {إِنَّكَ أَنتَ السميع} لجميع المسموعات التي من جملتها دعاؤُنا {العليم} بكل المعلومات التي من زُمرتها نياتُنا في جميع أعمالِنا، والجملة تعليلٌ لاستدعاء التقبّل لا من حيث إن كونَه تعالى سميعاً لدعائهما عليماً بنياتهما مصححٌ للتقبل في الجملة بل من حيث إن علمَه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصِهما في أعمالهما مستدعٍ له بموجَب الوعدِ تفضُّلاً، وتأكيدُ الجملة لغرض كمالِ قوةِ يقينِهما بمضمونها، وقصرُ نعتي السمع والعلمِ عليه تعالى لإظهار اختصاصِ دعائهما به تعالى وانقطاعِ رجائهما عما سواه بالكلية.
واعلم أن الظاهر أن أولَ ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاءُ وما يتبعه، ثم دعاءُ البلديةِ والأمنِ وما يتعلق به ثم رفعُ قواعدِ البيت وما يتلوه ثم جعلُه مثابةً للناس والأمرُ بتطهيره، ولعل تغيير الترتيب الوقوعيِّ في الحكاية لنظم الشؤون الصادرةِ عن جنابه تعالى في سلك مستقلٍ ونظمِ الأمور الواقعةِ من جهة إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلام من الأفعال والأقوال في سلك آخرَ. وأما قوله تعالى: ومن كفر إلخ فإنما وقع في تضاعيف الأحوال المتعلقةِ بإبراهيم لاقتضاءِ المقام، واستيجابِ ما سبق من الكلام ذلك بحيث لم يكن بدٌّ منه أصلاً كما أن وقوعَ قوله عليه السلام: {ومن ذريتي} في خلال كلامِه سبحانه لذلك.