فصل: تفسير الآيات (10- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (10- 11):

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)}
{ذلك} أي ما ذُكر من العذابِ الدنيويِّ والأُخرويِّ، وما فيهِ من مَعْنى البُعد للإيذانِ بكونِه في الغايةِ القاصيةِ من الهَولِ والفظاعةِ. وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي بسببِ ما اقترفتَهُ من الكفرِ والمعاصِي. وإسنادُه إلى يديهِ لما أنَّ الاكتسابَ عادةً يكونُ بالأيدي. والالتفاتُ لتأكيدِ الوعيدِ وتشديدِ التَّهديدِ. ومحلُّ أنَّ في قوله عزَّ وعلا: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} الرَّفعُ على أنَّه خبرُ مبتدإٍ أي والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّبٍ لعبيدِه بغيرِ ذنبٍ من قِبلَهم. والتَّعبيرُ عن ذلك بنفيِ الظُّلمِ مع أنَّ تعذيبَهم بغيرِ ذنبٍ ليس بظُلمٍ قطعاً على ما تقرَّرَ من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ فضلاً عن كونِه ظُلماً بالغاً قد مرَّ تحقيقُه في سورةِ آلِ عمرانَ والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها وأمَّا ما قيلَ من أنَّ محلَّ أنَّ هُو الجرُّ بالعطفِ على ما قدمتْ فقد عرفتَ حالَه في سورة الأنفال.
{وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} شروعٌ في بيانِ حالِ المُذبذبين إثرَ بيانِ حالِ المُجاهرين أي ومنهُم من يعبدُه سبحانه وتعالى على طَرَفٍ من الدِّين لا ثباتَ له فيه كالَّذي ينحرفُ إلى طَرَفِ الجيشِ فإنْ أحسَّ بظَفَرٍ قَرَّ وإلا فَرَّ {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} أي دنيويٌّ من الصَّحَّةِ والسَّعةِ {اطمأن بِهِ} أي ثبتَ على ما كانَ عليهِ ظاهراً لا أنَّه اطمأنَّ به اطمئنانَ المُؤمنينَ الذينَ لا يلويهم عنه صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ. {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي شيءٌ يُفتتنُ به من مكروهٍ يعتريهِ في نفسِه أو أهلِه أو مالِه. {انقلب على وَجْهِهِ} رُوي أنَّها نزلتْ في أعاريبَ قدمُوا المدينةَ وكانَ أحدُهم إذَا صحَّ بدنُه ونُتجتْ فرسُه مُهراً سَرِيًّا وولدتِ امرأتُه ولداً سَويًّا وكثُر مالُه وماشيتُه قال: ما أصبتُ منذُ دخلتُ في ديني هذا إلاَّ خَيْراً واطمأنَّ وإن كانَ الأمرُ بخلافِه قال: ما أصبتُ إلاَّ شرًّا وانقلبَ. وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه: أنَّ يهُوديًّا أسلمَ فأصابتْهُ مصائبُ فتشاءَم بالإسلامِ فأتَى النبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقالَ: أقِلْني، فقال عليه السَّلامُ: «إنَّ الإسلامَ لا يُقال». فنزلت. وقيل: نزلتْ في المؤلَّفةِ قلوبُهم.
{خَسِرَ الدنيا والأخرة} فقدَهُما وضيَّعهما بذهابِ عصمتِه وحبوطِ عملِه بالارتدادِ. وقرئ: {خاسرَ} بالنَّصبِ على الحالِ، والرَّفعُ على الفاعليةِ. ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ الضَّميرِ تنصيصاً على خُسرانِه أو على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ {ذلك} أي ما ذُكر من الخُسران وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بكونه في غايةِ ما يكونُ {هُوَ الخسران المبين} الواضحُ كونُه خُسراناً إذ لا خُسرانَ مثله.

.تفسير الآيات (12- 16):

{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)}
{يَدْعُو مِن دُونِ الله} استئنافٌ مبيِّنٌ لعِظم الخُسرانِ أي يعبد مُتجاوزاً عبادةَ الله تعالى {مَا لاَ يَضُرُّهُ} إذا لم يعبدْهُ {وَمَا لاَ يَنفَعُهُ} إنْ عبدَهُ أي جماداً ليسَ من شأنِه النَّفعُ كما يُلوِّحُ به تكريرُ كلمةِ ما {ذلك} الدُّعاءُ {هُوَ الضلال البعيد} عن الحقِّ والهُدى مستعارٌ من ضلالِ مَن أبعدَ في التَّيهِ ضالاًّ عن الطَّريقِ {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} استئنافٌ مسوق لبيانِ مآلِ دُعائِه المذكورِ وتقريرِ كونِه ضلالاً بعيداً مع إزاحةِ ما عسى يُتوَّهم من نفيِ الضَّررِ عن معبودِه بطريقِ المباشرةِ نفيه عنه بطريق التَّسبيبِ أيضاً فالدُّعاءُ بمعنى القول واللاَّمُ داخلةٌ على الجملة الواقعةِ مقولاً له ومَن مبتدأٌ وضرُّه مبتدأٌ ثانٍ خبرُه أقربُ والجملة صلة للمبتدأ الأوَّلِ وقوله تعالى: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} جوابٌ لقسم مقدَّرٍ هو جوابه خبرٌ للمبتدأ الأولِ، وإيثارُ مَن على مَا مع كون معبودِه جماداً وإيرادُ صيغة التَّفضيل مع خلوِّه عن النَّفع بالمرَّةِ للمبالغة في تقبيح حاله والإمعانِ في ذمِّه أي يقول ذلك الكافرُ يوم القيامةِ بدعاء وصُراخٍ حين يرى تضرُّرَه بمعبوده ودخولَه النَّارَ بسببه ولا يرى منه أثرَ النَّفعِ أصلاً لمن ضرُّه أقربُ من نفعِه، والله لبئسَ النَّاصرُ هو ولبئسَ الصَّاحبُ هو فكيف بما هو ضررٌ محضٌ عارٍ عن النَّفعِ بالكلِّيةِ، ويجوزُ أن يكون يدعُو الثَّاني إعادةً للأولِ لا تأكيداً له فقط بل وتمهيداً لما بعده من بيانِ سوءِ حالِ معبودِه إثرَ بيانِ سوءِ حال عبادتِه بقوله تعالى: {ذلك هُوَ الضلال البعيد} كأنَّه قيل من جهته تعالى بعد ذكر عبادتِه لما لا يضرُّه ولا ينفعُه يدعو ذلك ثم قيلَ لمَن ضُرُّه أقربُ من نفعِه: والله لبئسَ المَوْلى ولبئس العَشيرُ، فكلمة مَن وصيغةُ التَّفضيلِ للتهكُّمِ به وقيل: اللاَّمُ زائدةٌ ومَنْ مفعول يدعُو، ويؤيِّدُه القراءةُ بغير لامٍ أي يعبد من ضره أقربُ من نفعه وإيراد كلمةِ مَن وصيغة التَّفضيلِ تهكُّمٌ به أيضاً والجملة القسميةُ مستأنفة.
{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات} استئنافٌ جيء به لبيان كمال حسنِ حالِ المؤمنينَ العابدينَ له تعالى وأنَّ الله عزَّ وجلَّ يتفضَّل عليهم بما لا غايةَ وراءه من أجلِّ المنافعِ وأعظمِ الخيراتِ إثرَ بيانِ غايةِ سوءِ حالِ الكفرةِ ومآلِهم من فريقَيْ المجاهرينَ والمذبذبينَ وأنَّ معبودَهم لا يُجديهم شيئاً من النَّفع بل يضرُّهم مضرَّةً عظيمةً وأنَّهم يعترفون بسوءِ ولايتِه وعشرتِه ويذمُّونه مذمَّةً تامَّةً وقوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفة لجنَّاتٍ فإن أُريد بها الأشجارُ المتكاثفةُ السَّاترةُ لما تحتها فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ، وإنْ أُريد بها الأرضُ فلابد من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارِها، وإن جُعلت عبارةً عن مجموعِ الأرضِ والأشجارِ فاعتبارُ التَّحتيَّةِ بالنَّظرِ إلى الجزءِ الظَّاهرِ المصحِّح لإطلاقِ اسمِ الجنَّةِ على الكلِّ كما مرَّ تفصيلُه في أوائلِ سورةِ البقرةِ.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} تعليلٌ لما قبلَه وتقريرٌ له بطريقِ التَّحقيقِ أي يفعلُ البتة كلَّ ما يريدُه من الأفعالِ المتقنةِ اللاَّئقةِ المبنيَّةِ على الحكمِ الرَّائقةِ التي من جُملتها إثابةُ مَن آمنَ به وصدَّقَ رسولَه صلى الله عليه وسلم وعقابُ مَن أشركَ به وكذَّب برسولِه عليه السَّلامُ ولمَّا كانَ هذا من آثارِ نُصرته تعالى له عليه السَّلامُ عُقِّب بقولِه عزَّ وعلا: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والأخرة} تحقيقاً لها وتقريراً لثبوتها على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه. وفيه إيجازٌ بارعٌ واختصارٌ رائعٌ والمعنى: أنَّه تعالى ناصرٌ لرسوله في الدُّنيا والآخرةِ لا محالةَ من غير صارفٍ يَلويه ولا عاطفٍ يَثنيه فمن كانَ يغيظُه ذلك من أعاديهِ وحُسَّادِه ويظنُّ أنْ لَنْ يفعله تعالى بسببِ مدافعتِه ببعضِ الأمورِ ومباشرة ما يردُّه من المكايد فليبالغْ في استفراغِ المجهودِ وليجاوزْ في الجدِّ كلِّ حدَ معهودٍ فقُصارى أمرِه وعاقبةِ مكرِه أنْ يختنقَ حنقاً ممَّا يرى من ضلالِ مساعيهِ وعدمِ إنتاجِ مقدِّماتِه ومباديهِ {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء} فليمدُدْ حبلاً إلى سقفِ بيتِه {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي ليختنقْ، من قطَع إذا اختنقَ لأنَّه يقطع نفَسَه بحبسِ مجاريهِ وقيل: ليقطعِ الحبلَ بعد الاختناقِ على أنَّ المرادَ به فرضُ القطعِ وتقديرُه، كما أنَّ المرادَ بالنَّظرِ في قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} تقديرُ النَّظر وتصويرُه أي فليصوِّر في نفسِه النَّظرَ هل يُذهبنَّ كيدُه ذلك الذي هو أقصى ما انتهتْ إليه قدرتُه في باب المُضادَّةِ والمُضارَّةِ ما يغيظه من النُّصرةِ كلا، ويجوز أنْ يُراد فلينظر الآنَ أنَّه إنْ فعلَ ذلك هَلْ يُذهب ما يغيظُه، وقيل: المعنى فليمدُدْ حبلاً إلى السَّماءِ المُظِلَّةِ وليصعدْ عليه ثم ليقطعْ الوحيَ، وقيل: ليقطعَ المسافةَ حتَّى يبلغَ عنانَها فيجتهدَ في دفعِ نصرِه ويأباهُ أنَّ مساقَ النَّظمِ الكريمِ بيانُ أنَّ الأمورَ المفروضةَ على تقديرِ وقوعِها وتحقُّقِها بمعزلٍ من إذهابِ ما يغيظُ ومن البيِّنِ أنْ لا معنى لفرضِ وقوعِ الأمورِ الممتنعةِ وترتيبِ الأمرِ بالنَّظرِ عليه لاسيما قطعُ الوحيِ فإنَّ فرضَ وقوعِه مخلٌّ بالمرامِ قطعاً، وقيل: كانَ قومٌ من المسلمينَ لشدَّةِ غيظِهم وحنقِهم على المُشركين يستبطئونَ ما وعد الله رسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من النَّصرِ وآخرون من المشركينَ يُريدون اتباعَه عليه السَّلامُ ويخشَون أنْ لا يثبت أمرُه فنزلتْ وقد فسِّر النَّصرُ بالرِّزق فالمعنى أنَّ الأرزاقَ بيدِ الله تعالى لا تُنال إلاَّ بمشيئتِه تعالى فلابد للعبدِ من الرِّضا بقسمتِه فمن ظنَّ أنَّ الله تعالى غيرُ رازقِه ولم يصبرْ ولم يستسلمْ فليبلغ غايةَ الجزعِ وهو الاختناقُ فإنَّ ذلكَ لا يغلبُ القسمةَ ولا يردُّه مرزوقاً.
{وكذلك} أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنطوي على الحكمِ البالغةِ {أنزلناه} أي القرآنَ الكريمَ كلَّه وقوله تعالى: {ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ} أي واضحاتِ الدِّلالةِ على معانيها الرَّائقةِ حالٌ من الضَّميرِ المنصوبِ مبينةٍ لما أُشير إليه بذلك {وَأَنَّ الله يَهْدِى} به ابتداءً أو يثبِّت على الهُدى أو يزيدُ فيه {مَن يُرِيدُ} هدايتَه أو تثبيتَه أو زيادتَه فيها ومحلُّ الجملةِ إمَّا الجرُّ على حذف الجارِّ أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ أي ولأنَّ الله يهدي من يريدُ أنزلَه كذلك أو الرَّفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي والأمرُ أنَّ الله يهدي مَن يُريد هدايتَه.

.تفسير الآيات (17- 18):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ} أي بما ذُكر من الآياتِ البيِّناتِ بهدايةِ الله تعالى أو بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمن به فيدخلُ فيه ما ذُكر دخولاً أوليًّا {والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس} قيل: هم قوم يعبدون النَّارَ، وقيل: الشَّمسَ والقمرَ، وقيل: هم قوم من النَّصارى اعتزلُوا عنهم ولبسوا المُسوح، وقيل: أخذُوا من دين النَّصارى شيئاً ومن دين اليَّهودِ شيئاً وهم القائلون بأنَّ للعالم أصلينِ نوراً وظلمة. {والذين أَشْرَكُواْ} هم عَبَدة الأصنامِ. وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} في حيِّز الرِّفعِ على أنَّه خبرٌ لإنَّ السَّابقةِ، وتصدير طرفَيْ الجملتين بحرفِ التَّحقيق لزيادة التَّقديرِ والتَّأكيدِ، أي يقضي بين المؤمنينَ وبين الفرقِ الخمسِ المتَّفقةِ على ملَّةِ الكُفرِ بإظهار المحقِّ من المبطل وتوفيةِ كلَ منهما حقَّهُ من الجزاء بإثابة الأوَّلِ وعقاب الثَّاني بحسب استحقاقِ أفراد كلَ منهما وقوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلّ شيء شَهِيدٌ} تعليل لما قبله من الفصل أي عالمٌ بكلِّ شيءٍ من الأشياء ومراقبٌ لأحواله ومن قضيَّتِه الإحاطةُ بتفاصيل ما صدرَ عن كلِّ فردٍ من أفراد الفرق المذكورةِ وإجراءُ جزائه اللاَّئقِ به عليه.
وقولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض} الخ، بيان لما يُوجب الفصلَ المذكور من أعمال الفرقِ المذكورةِ مع الإشارةِ إلى كيفيَّتِه وكونه بطريقِ التَّعذيبِ والإثابة والإكرام والإهانة إثرَ بيان ما يُوجبه من كونِه تعالى شهيداً على جميع الأشياء التي من جُملتها أحوالُهم وأفعالُهم والمراد بالرُّؤيةِ العلم عبَّر عنه بها إشعاراً بظهورِ المعلوم والخطاب لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتَّى منه الرُّؤيةُ بناء على أنَّه من الجلاءِ بحيث لا يخفى على أحدٍ. والمرادُ بالسُّجودِ هو الانقيادُ التَّامُّ لتدبيره تعالى بطريق الاستعارةِ المبنيَّةِ على تشبيهه بأكمل أفعالِ المكلَّفِ في باب الطَّاعةِ إيذاناً بكونه في أقصى مراتب التَّسخُّرِ والتَّذلُّلِ لا سجودُ الطَّاعةِ الخاصَّةِ بالعُقلاءِ سواءٌ جُعلتْ كلمةُ من عامةً لغيرهم أيضاً وهو الأنسبُ بالمقام لإفادته شمولَ الحكم لكلِّ ما فيهما بطريقِ القرارِ فيهما أو بطريق الجُزئيَّةِ منهما فيكون قوله تعالى: {والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} إفراداً لها بالذِّكرِ لشُهرتِها واستبعادِ ذلك منها عادةً، أو جُعلت خاصَّةً بالعقلاء لعدم شمول سجود الطَّاعةِ لكلِّهم حسبما يُنبىء عنه قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} فإنَّه مرتفعٌ بفعل مضمرٍ يدلُّ عليه المذكور أي ويسجدُ له كثيرٌ من النَّاسِ سجود طاعةٍ وعبادةٍ ومن قضيَّتِه انتفاءُ ذلك عن بعضِهم، وقيل: هو مرفوعٌ على الابتداء حُذف خبرُه ثقةً بدلالة خبر قسميهِ عليه نحو حقَّ له الثَّوابُ، والأوَّلُ هو الأَولى لما فيه من التَّرغيبِ في السُّجودِ والطَّاعةِ. وقد جُوِّز أنْ يكونَ من النَّاسِ خبراً له أي من النَّاسِ الذين هم النَّاسُ على الحقيقةِ وهم الصَّالحون والمتَّقون وأنْ يكون قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ} معطوفاً على كثيرٌ الأول للإيذانِ بغاية الكثرةِ ثم يخبر عنهم باستحقاقِ العذابِ كأنَّه قيل: وكثيرٌ من النَّاسِ {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي بكفرِه واستعصائِه وقرئ: {حُقَّ} بالضمِّ وحقًّا أي حقَّ عليه العذابُ حقًّا {وَمَن يُهِنِ الله} بأن كتبَ عليه الشَّقاوةَ حسبما علمه من صرفِ اختياره إلى الشرِّ {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} يُكرمه بالسَّعادةِ.
وقرئ بفتح الرَّاءِ على أنَّه مصدرٌ ميميٌّ {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} من الأشياء التي من جُملتها الإكرامُ والإهانةُ.

.تفسير الآيات (19- 22):

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}
{هذان} تعيينٌ لطرفَيْ الخصامِ وإزاحةٌ لمل عسى يتبادرُ إلى الوهمِ من كونِه بين كل واحدةٍ من الفرقِ الستِّ وبين البواقي وتحريرٌ لمحلِّه أي فريق المؤمنينَ وفريقُ الكفرةِ المنقسمُ إلى الفرقِ الخمسِ {خَصْمَانِ} أي فريقانِ مختصمانِ وإنما قيل: {اختصموا فِي رَبّهِمْ} حملاً على المعنى أي اختصمُوا في شأنِه عزَّ وجلَّ، وقيل في دينه، وقيل ذاته وصفاته والكّل من شؤونه تعالى فإنَّ اعتقادَ كلَ من الفريقينِ بحقيَّةِ ما هُو عليه وبُطلانِ ما عليه صاحبُه وبناءَ أقوالِه وأفعالِه عليه خصومةٌ للفريقِ الآخرِ وإنْ لم يجرِ بينهما التَّحاورُ والخصامُ، وقيل: تخاصمتِ اليَّهودُ والمؤمنونَ فقالتِ اليَّهودُ: نحنُ أحقُّ بالله وأقدمُ منكم كتاباً ونبيُّنا قبل نبيِّكم، وقال المؤمنون: نحنُ أحقُّ بالله منكُم آمنَّا بمحمَّدٍ وبنبيِّكم وبما أَنزل الله من كتابٍ وأنتمُ تعرفون كتابَنا ونبيَّنا ثم كفرتُم به حسداً فنزلت {فالذين كَفَرُواْ} تفصيل لما أُجمل في قوله تعالى: {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} {قُطّعَتْ لَهُمْ} أي قُدِّرت على مقاديرِ جُثثهم، وقرئ بالتَّخفيفِ {ثِيَابٌ مّن نَّارِ} أي نيرانٍ هائلةٍ تحيطُ بهم إحاطةَ الثِّيابِ بلابسِها {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم} أي الماءُ الحارُّ الذي انتهتْ حرارتُه، قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: لو قطرت قطرةٌ منها على جبال الدُّنيا لأذابتَها. والجملةُ مستأنفةٌ أو خبرٌ ثانٍ للموصولِ أو حالٌ من ضميرِ لهم {يُصْهَرُ بِهِ} أي يُذاب {مَا فِي بُطُونِهِمْ} من الأمعاءِ والأحشاءِ، وقرئ: {يُصهَّر} بالتَّشديدِ {والجلود} عطف على مَا وتأخيرُه عنه إمَّا لمراعاة الفواصلِ أو للإشعارِ بغاية شدَّةِ الحرارةِ بإيهامِ أنَّ تأثيرَها في الباطنِ أقدمُ من تأثيرِها في الظَّاهرِ مع أنَّ ملابستَها على العكسِ والجملةُ حالٌ من الحميمُ.
{وَلَهُمْ} للكفرةِ أي لتعذيبهم وأجلِهم {مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} جمع مِقْمعةٍ وهي آلةُ القمعِ.
{كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي أشرفُوا على الخروجِ من النَّار ودَنَوا منه حسبما يُروى أنَّها تضربُهم بلهيبها فترفعُهم حتَّى إذا كانُوا في أعلاها ضُربوا بالمقامعِ فهوَوا فيها سبعينَ خريفاً {مِنْ غَمّ} أي من غمَ شديدٍ من غمومِها وهو بدلُ اشتمالٍ من الهاء بإعادة الجارِّ والرابط محذوفٌ كما أُشير إليه أو مفعولٌ له للخروج {أُعِيدُواْ فِيهَا} أي في قعرِها بأنْ رُدُّوا من أعاليها إلى أسافلِها من غيرِ أنْ يُخرجوا منها {وَذُوقُواْ} على تقدير قولٍ معطوفٍ على أعيدوا أي وقيل لهم: {عَذَابَ الحريق} أي الغليظَ من النَّارِ المنتشر العظيم الإهلاك.