فصل: تفسير الآيات (33- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (33- 35):

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)}
{وَقَالَ الملا مِن قَوْمِهِ} حكايةٌ لقولهم الباطل إثرَ حكاية القول الحقِّ الذي ينطق به حكايةُ إرسال الرَّسولِ بطريق العطفِ على أنَّ المرادَ حكايةُ مطلقِ تكذيبهم له عليه السَّلامُ إجمالاً لا حكايةُ ما جرى بينه عليه السَّلامُ وبينهم من المُحاورةِ والمُقاولةِ تفصيلاً حتَّى يُحكى بطريقِ الاستئناف المبنيِّ على السُّؤال كما ينبىءُ عنه ما سيأتي من حكايةِ سائر الأُمم أي وقال الأشرافُ من قومِه {الذين كَفَرُواْ} في محلِّ الرَّفعِ على أنَّه صفةٌ للملأُ وُصفوا بذلك ذمًّا لهم وتنبيهاً على غلوِّهم في الكُفرِ. وتأخيرُه عن مِن قومِه لعطفِ قوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الأخرة} وما عُطف عليه على الصِّلةِ الأُولى أي كذَّبُوا بلقاء ما فيها من الحساب والثَّوابِ والعقاب أو بمعادِهم إلى الحياة الثَّانيةِ بالبعث {وأترفناهم} ونعَّمناهم {فِى الحياة الدنيا} بكثرةِ الأموالِ والأولادِ أي قالوا لأعقابهم مضلِّين لهم: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} أي في الصِّفاتِ والأحوالِ، وإيثارُ مثلكم على مثلنا للمبالغة في تهوينِ أمرِه عليه السَّلامُ وتوهينِه {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} تقريرٌ للمماثلة. وما خبريةٌ. والعائدُ إلى الثَّاني منصوبٌ محذوفٌ أو مجرورٌ وقد حُذف مع الجارِّ لدلالةِ ما قبله عليه.
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ} أي فيما ذُكر من الأحوالِ والصِّفات أي إنِ امتثلتُم بأوامرِه {إِنَّكُمْ إِذاً} أي على تقديرِ الاتباع {لخاسرون} عقولَهم ومغبونون في آرائهم حيثُ أذللتُم أنفسَكم أي انظر كيف جعلُوا اتباعَ الرَّسولِ الحقِّ الذي يوصِّلُهم إلى سعادةِ الدَّارينِ خُسراناً دُون عبادةِ الأصنامِ التي لا خُسرانَ وراءها قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون. وإذاً واقعٌ بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتأكيد مضمون الشَّرطِ. والجملةُ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ قبل إنِ الشَّرطيةِ المصدَّرةِ باللام الموطئةِ. أي وبالله لئن أطعتمُ بشراً مثلَكم إنَّكم إذاً لخاسرونَ.
{أَيَعِدُكُمْ} استئنافٌ مسوق لتقرير ما قبله من اتِّباعِه عليه السَّلامُ بإنكار وقوع ما يدعُوهم إلى الإيمان واستبعاده. {أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ} بكسر الميمِ، من ماتَ يَماتُ. وقرئ بضمِّها من ماتَ يموتُ. {وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما} نَخِرةً مجرَّدةً عن اللُّحوم والأعصابِ أي كان بعضُ أجزائِكم من اللَّحم ونظائرِه تُراباً، وبعضُها عظاماً. وتقديمُ التُّراب لعراقتِه في الاستبعادِ وانقلابِه من الأجزاءِ الباديةِ. أو كان متقدِّموكم تُراباً صِرفاً ومتأخِّروكم عظاماً. وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ} تأكيد للأوَّلِ لطول الفصلِ بينه وبين خبرِه الذي هو قولُه تعالى: {مُّخْرَجُونَ} أي من القبورِ أحياءً كما كنتُم. وقيل: أنَّكم مخرجون مبتدأٌ وإذا مِتُم خبرُه على معنى إخراجُكم إذا متُم ثم أخبر بالجملة على أنَّكم. وقيل: رُفع أنَّكم مخرجون بفعلٍ هو جزاءُ الشَّرطِ كأنَّه قيل: إذا مِتُم وقعَ إخراجُكم ثم أُوقعتْ الجملةُ الشَّرطيةُ خبراً عن أنَّكم. والذي تقتضيهِ جزالةُ النَّظمِ الكريمِ هو الأوَّلُ. وقرئ: {أيعدكم} إذَا متم الخ.

.تفسير الآيات (36- 41):

{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} تكريرٌ لتأكيد البُعدِ أي بُعدِ الوقوع أو الصِّحةِ. {لِمَا تُوعَدُونَ} وقيل: اللامُ لبيان المستبعَدِ ما هو كما في {هَيْتَ لَكَ} كأنَّهم لما صوَّتوا بكلمةِ الاستبعادِ قيل: لِمَ هذا الاستبعادُ؟ فقيل: لما تُوعدون. وقيل: هيهاتَ بمعنى البُعدِ وهو مبتدأٌ خبرُه لما تُوعدون. وقرئ بالفتحِ مُنوَّناً للتَّنكيرِ، وبالضَّمِّ منوَّناً على أنَّه جمعُ هَيْهةٍ، وغيرَ منوَّن تشبيهاً بقبلُ، وبالكسرِ على الوجهينِ، وبالسُّكون على لفظِ الوقفِ، وإبدالِ التَّاء هاءً.
{إِنْ هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} أصله إنْ الحياةُ إلاَّ حياتُنا. فأُقيم الضَّميرُ مُقامَ الأُولى لدلالة الثَّانيةِ عليها حَذَراً من التَّكرارِ، وإشعاراً بإغنائِها عن التَّصريحِ كما في: هي النَّفسُ تتحملُ ما حُمِّلتْ. وهي العربُ تقول ما شاءتْ وحيثُ كان الضَّميرُ بمعنى الحياةِ للدلالة على الجنسِ كانتْ إنِ النَّافيةُ بمنزلةِ لا النَّافيةِ للجنسِ. وقولُه تعالى: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} جملةٌ مفسِّرةٌ لما ادَّعوه مِن أنَّ الحياةَ هي الدُّنيا أي يموتُ بعضُنا أو يُولد بعضٌ إلى انقراضِ العصرِ {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد الموتِ.
{إِنْ هُوَ} أي ما هُو {إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً} فيما يدَّعيه من إرسالِه وفيما يَعدُنا من أنَّ الله يبعثُنا {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدِّقين فيما يقولُه.
{قَالَ} أي هودُ عليه السَّلامُ عند يأسِه من إيمانهم بعد ما سلكَ في دعوتِهم كلَّ مسلكٍ منصرفاً إلى الله عَزَّ وجَلَّ {رَبّ انصرنى} وانتقم لي منهم {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بسببِ تكذيبهم أيَّاي وإصرارِهم عليه.
{قَالَ} تعالى إجابةً لدعائِه وعدةً بالقَبُول {عَمَّا قَلِيلٍ} أي عن زمانٍ قليلٍ وما مزيدةٌ بين الجارِّ والمجرورِ لتأكيدِ معنى القلَّةِ كما زِيدتْ في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} أو نكرةٌ موصوفةٌ أي عن شيءٍ قليلٍ {لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} على ما فعلوه من التَّكذيب وذلك عند معاينتِهم للعذابِ.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} لعلَّهم حين أصابتهم الرِّيحُ العقيمُ أُصيبوا في تضاعيفها بصيحةٍ هائلةٍ أيضاً. وقد رُوي أنَّ شدَّادَ بنَ عادٍ حين تمَّ بناءُ إرمَ سار إليها بأهلِه فلمَّا دنا منها بعثَ الله عليهم صيحةً من السَّماءِ فهلكُوا. وقيل: الصَّيحةُ نفسُ العذابِ والموتِ. وقيل: هي العذابُ المصطَلِمُ قال قائلُهم:
صاحَ الزَّمانُ بآلِ بَرمكَ صيحة ** خَرُّوا لشدَّتِها عَلَى الأذقانِ

{بالحق} متعلِّقٌ بالأخذ أي بالأمر الثَّابتِ الذي لا دفاعَ له أو بالعدل من الله تعالى أو بالوعد الصِّدقِ {فجعلناهم غُثَاء} أي كغُثاءِ السَّيلِ وهو حَميلُه {فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظالمين} إخبار أو دعاء وبُعداً من المصادر التي لا يكادُ يُستعمل ناصبُها. والمعنى بعدُوا بُعداً، أي هلكُوا. واللامُ لبيانِ مَن قيلَ له: بُعداً ووضعُ الظَّاهر موضعَ الضَّميرِ للتَّعليلِ.

.تفسير الآيات (42- 44):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)}
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} أي بعد هلاكِهم {قُرُوناً ءاخَرِينَ} هم قومُ صالحٍ ولوطٍ وشُعيبٍ عليهم السَّلامُ وغيرُهم.
{مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي ما تتقدَّمُ أمةٌ من الأُممِ المهلَكةِ الوقت الذي عُيِّن لهلاكِهم أي ما تهلكُ أمةٌ قبل مجيءِ أجلِها {وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ} ذلك الأجلَ بساعةٍ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} عطفٌ على أنشأنا لكنْ لا على مَعْنى أنَّ إرسالَهم مُترَاخٍ عن إنشاء القُرون المذكورةِ جميعاً بل على مَعْنى أنَّ إرسالَ كلِّ رسولٍ متأخِّرٌ عن إنشاءِ قرنٍ مخصُوصٍ بذلك الرَّسولِ، كأنَّه قيل: ثمَّ أنشأنا من بعدِهم قُروناً آخرينَ قد أرسلنا إلى كلِّ قرنٍ منهُم رسولاً خاصًّا بهِ. والفصلُ بين المعطوفينِ بالجملة المعترِضةِ النَّاطقةِ لعدم تقدُّمِ الأممِ أجلَها المضروبَ لهلاكِهم للمسارعةِ إلى بيان هلاكِهم على وجهٍ إجماليَ {تَتْرَى} أي متواتِرينَ واحداً بعد واحدٍ من الوِتْرِ وهو الفَردُ. والتَّاءُ بدلٌ من الواوِ كما في تولج وينقوا. والألفُ للتأنيثِ باعتبار أنَّ الرُّسلَ جماعةٌ. وقرئ بالتَّنوينِ على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ وقع حالاً. وقولُه تعالى: {كُلَّمَا جَاءهُمْ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} استئنافٌ مبيِّنٌ لمجيء كلِّ رسولٍ لأمَّتِه ولما صدرَ عنهم عند تبليغِ الرِّسالةِ. والمرادُ بالمجيءِ إمَّا التَّبليغُ وإمَّا حقيقةُ المجيء للإيذانِ بأنَّهم كذَّبوه في أوَّلِ المُلاقاة. وإضافةُ الرَّسولِ إلى الأُمَّةِ مع إضافة كلِّهم فيما سبق إلى نُونِ العظمةِ لتحقيق أنَّ كلَّ رسولٍ جاء أُمَّته الخاصَّةَ به لا أنَّ كلَّهم جاءوا كلَّ الأممِ، والإشعارِ بكمالِ شناعتِهم وضلالِهم حيثُ كذَّبتْ كلُّ واحدةٍ منهُم رسولَها المعيَّنِ لها. وقيل: لأنَّ الإرسالَ لائقٌ بالمرسلِ والمجيءُ بالمرسلِ إليهم {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} في الهلاكِ حسبما تبع بعضُهم بعضاً في مباشرة أسبابِه التي هي الكفرُ والتَّكذيبُ وسائرُ المعاصي {وجعلناهم أَحَادِيثَ} لم يبقَ منهم إلا حكاياتٌ يعتبر بها المعتبرون وهو اسمُ جمعٍ للحديثِ أو جمعُ أُحدوثةٍ وهي ما يُتحدَّثُ به تَلهِّياً كأعاجيبَ جمعُ أُعجوبةٍ وهي ما يُتعجَّبُ منه أي جعلناهم أحاديثَ يُتحدَّثُ بها تَلهِّياً وتعجُّباً {فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} اقتصر هاهنا على وصفهم بعدمِ الإيمانِ حسبما اقتصر على حكايةِ تكذيبهم إجمالاً. وأمَّا القُرونُ الأَوَّلُون فحيث نُقل عنهم ما مرَّ من الغُلوِّ وتجاوزِ الحدِّ في الكُفرِ والعُدوانِ وُصفوا بالظُّلمِ.

.تفسير الآيات (45- 47):

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)}
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بئاياتنا} هي الآياتُ التِّسعُ من اليدِ والعَصَا والجرادِ والقُمَّلِ والضَّفادعِ والدَّمِ ونقصِ الثَّمراتِ والطَّاعون. ولا مساغَ لعدِّ فلقِ البحر منها إذِ المرادُ هي الآياتُ التي كذَّبوها واستكبرُوا عنها {وسلطان مُّبِينٍ} أي حجَّةٍ واضحةٍ مُلزمةٍ للخَصمِ، وهي إمَّا العَصَا، وإفرادُها بالذِّكرِ مع اندراجِها في الآياتِ لما أنَّها أمُّ آياتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُولاها وقد تعلقتْ بها معجزاتٌ شَتَّى من انقلابِها ثُعباناً وتلقُّفها لما أفكته السَّحرةُ حسبما فُصِّل في تفسير سُورةِ طاه، وأمَّا التَّعرُّضُ لانفلاقِ البحرِ وانفجارِ العُيون من الحجرِ بضربها وحراستِها وصيرورتِها شمعةً وشجرةً خضراءَ مثمرةً ودَلْواً ورِشَاءَ وغيرَ ذلك ممَّا ظهرَ منها من قبلُ ومن بعدُ في غير مشهدِ فرعونَ وقومِه فغيرُ ملائمٍ لمقتضى المقامِ، وأمَّا نفسُ الآياتِ كقولِه:
إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمامِ

إلخ. عبَّر عنها بذلك على طريقةِ العطفِ تنبيهاً على جمعها لعُنوانينِ جليلينِ وتنزيلاً لتغايرِهما منزلةَ التَّغايرِ الذَّاتيِّ.
{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي أشرافِ قومِه خُصُّوا بالذِّكرِ لأنَّ إرسالَ بني إسرائيلَ منوطٌ بآرائِهم لا بآراءِ أعقابهم {فاستكبروا} عن الانقيادِ وتمرَّدوا {وَكَانُواْ قَوْماً عالين} متكبِّرين مُتمرِّدين {فَقَالُواْ} عطفٌ على استكبرُوا، وما بينهما اعتراضٌ مقرِّرٌ للاستكبارِ أي كانُوا قوماً عادتُهم الاستكبارُ والتَّمرد أي قالُوا فيما بينهم بطريقِ المُناصحةِ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} ثَنَّى البشرَ لأنَّه يُطلقُ على الجمعِ كما في قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} ولم يثنِّ المِثْلَ نظراً إلى كونِه في حكمِ المصدرِ. وهذه القصصُ كما تَرى تدلُّ على أنَّ مدار شُبَه المُنكرين للنُّبوةِ قياسُ حالِ الأنبياءِ على أحوالِهم بناءً على جهلِهم بتفاصيلِ شؤونِ الحقيقةِ البشريَّةِ وتباينِ طبقاتِ أفرادِها في مراقي الكمالِ ومَهَاوي النُّقصانِ بحيثُ يكونُ بعضُها في أعلى عِلِّييِّنَ وهم المختصُّون بالنُّفوس الزكيَّةِ المؤيِّدون يالقُوَّةِ القُدسيَّةِ المتعلِّقون لصفاءِ جواهرِهم بكِلا العالمينِ الرُّحانيِّ والجسمانيِّ يتلقَّون من جانبٍ ويُلقون من جانبٍ ولا يعوقُهم التَّعلُّقُ بمصالحِ الخلقِ عن التَّبتلِ إلى جنابِ الحقِّ وبعضُها في أسفلِ سافلينَ كأولئك الجَهَلة الذين هم كالأنعامِ بلْ هُم أضلُّ سبيلاً {وَقَوْمُهُمَا} يعنون بني إسرائيلَ {لَنَا عابدون} أي خادمون مُنقادون لنا كالعبيدِ وكأنَّهم قصدُوا بذلك التَّعريضَ بشأنِهما عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وحطَّ رتبتهما العليَّةِ عن منصب الرِّسالةِ من وجهٍ آخرَ غيرِ البشريَّةِ واللامُ في لنا متعلِّقةٌ بعابدون وقُدِّمت عليه رعايةً للفواصلِ. والجملةُ حالٌ من فاعلِ نُؤمنُ مؤكِّدةٌ لإنكارِ الإيمانِ لهما بناءً على زعمهم الفاسدِ المُؤَسَّسِ على قياسِ الرِّياسةِ الدِّينيةِ على الرِّياساتِ الدُّنيويَّةِ الدَّائرةِ على التَّقدُّمِ في نيل الحظوظِ الدَّنيةِ من المالِ والجاهِ كدأبِ قُريشٍ حيثُ قالُوا: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وقالُوا: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} وجهلِهم بأنَّ مناطَ الاصطفاءِ للرِّسالةِ هو السَّبقُ في حيازةِ ما ذُكر من النُّعوت العليةِ وإحرازِ المَلَكاتِ السَّنية جِبلَّةً واكتساباً.

.تفسير الآيات (48- 50):

{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}
{فَكَذَّبُوهُمَا} أي فتموا على تكذيبهما وأصرُّوا واستكبروا استكباراً {فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} بالغرقِ في بحرِ قُلْزم.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا} أي بعد إهلاكِهم وإنجاءِ بني إسرائيلَ من ملكتهم {مُوسَى الكتاب} أي التَّوارةَ، وحيث كان إيتاؤُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاها لإرشاد قومِه إلى الحقِّ كما هو شأنُ الكتبِ الإلهية جعلوا كأنَّهم أُوتوها فقيلَ: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي إلى طريق الحقِّ بالعمل بما فيها من الشَّرائعِ والأحكام، وقيل: أُريد آتينا قومَ مُوسى فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامَه كما في قوله تعالى: {على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} أي من آلِ فرعونَ وملئهم ولا سبيلَ إلى عود الضَّميرِ إلى فرعونَ وقومه لظهور أنَّ التَّوراةَ إنَّما نزلتْ بعد إغراقِهم لبني إسرائيلَ وأمَّا الاستشهادُ على ذلك بقوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى} فممَّا لا سبيلَ إليه ضرورةَ أنْ ليس المرادُ بالقرونِ الأُولى ما يتناولُ قومَ فوعونَ بل من كان قبلهم من الأمم المُهلكةِ خاصَّةً كقومِ نوحٍ وقومِ هُودٍ وقومِ صالحٍ وقومِ لوطٍ كما سيأتي في سورة القصص.
{وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً} وأيّةَ آيةٍ دالَّة على عظيمِ قُدرتِنا بولادتِه منها من غير مسيسِ بشرٍ فالآيةُ أمرٌ واحدٌ نُسب إليهما أو جعلنا ابنَ مريمَ آيةً بأنْ تكلَّم في المهدِ فظهرتْ منه معجزاتٌ جمَّةٌ وأمَّه آيةً بأنَّها ولدتْهُ من غير مسيسٍ فحذفت الأولى لدلالة الثَّانيةِ عليها. والتَّعبيرُ عنهما بما ذُكر من العُنوانينِ وهما كونُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ابنَها وكونُها أمَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ من أوَّلِ الأمرِ بحيثيةِ كونِهما آيةً فإنَّ نسبتَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليها مع أنَّ النَّسبَ إلى الآباءِ دالة على أنَّ لا أبَ له أي جعلنا ابنَ مريمَ وحدَها من غيرِ أنْ يكونَ له أبٌ وأمه التي ولدته خاصَّةً من غيرِ مشاركةِ الأبِ آيةً. وتقديمُه عليه الصِّلاةُ والسَّلامُ لأصالتِه فيما ذُكر من كونِه آيةً كما أنَّ تقديمَ أمِّه في قولِه تعالى: {وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين} لأصالتِها فيما نُسب إليها من الإحسانِ والنَّفخِ.
{وَآوَيناهُمَا إِلَى ربوَةٍ} أي أرضٍ مُرتفعةٍ. قيل: هي إيليا أرضُ بيتِ المقدسِ فإنَّها مرتفعةٌ وأنها كبدُ الأرضِ وأقربُ الأرضِ إلى السَّماءِ بثمانيةَ عشرَ ميلاً على ما يُروى عن كعبٍ. وقيل: دمشقُ وغوطتُها. وقيل: فِلسطينُ والرَّملةُ. وقيل: مصرُ فإنَّ قُراها على الرُّبا. وقرئ بكسرِ الرَّاءِ وضمِّها ورِباوةٍ بالكسرِ والضَّمِّ {ذَاتِ قَرَارٍ} مستقرَ من أرضٍ منبسطةٍ سهلةٍ يستقرُّ عليها ساكنُوها. وقيل: ذاتِ ثمارٍ وزروعٍ لأجلها يستقرُّ فيها ساكنُوها {وَمَعِينٍ} أي وماءٍ مَعينٍ ظاهرٍ جارٍ. فعيلٌ من مَعنَ الماءُ إذا جَرى، وأصلُه الإبعادُ في المشيِ، أو من الماعونِ وهو النَّفعُ لأنَّه نَفَّاعٌ. أو مفعولٌ من عانَه إذا أدركَه بالعَينِ فإنَّه لظهورِه يُدرك بالعُيونِ. وُصف ماؤُها بذلك للإيذانِ بكونِه جامعاً لفُنون المنافعِ من الشُّربِ وسقيِ ما يُسقى من الحيوان والنَّباتِ بغيرِ كُلفةٍ، والتنزُّهِ بمنظرِه المُونقِ.