فصل: تفسير الآيات (22- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (22- 23):

{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)}
{وَلاَ يَأْتَلِ} أي لا يحلفْ، افتعالٌ من الأَليّة وقيل: لا يُقصِّرُ من الأَلْوِ. والأولُ هو الأظهرُ لنزولِه في شأنِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه حينَ حلفَ أنْ لا ينفقَ على مِسْطحٍ بعدُ وكانَ ينفقُ عليه لكونِه ابنَ خالتِه وكانَ من فُقراءِ المُهاجرينَ. ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ ولا يألُ {أُوْلُو الفضل مِنكُمْ} في الدِّين وكفَى به دليلاً على فضلِ الصِّدِّيقِ رضي الله تعالى عنه {والسعة} في المالِ {أَن يُؤْتُواْ} أيْ على أنْ لا يُؤتوا. وقرئ بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ {أُوْلِى القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} صفاتٌ لموصوفٍ واحدٍ جِيء بها بطريقِ العطفِ تنبيهاً على أنَّ كلاًّ منها علَّة مستقلَّة لاستحقاقِه الأبناءِ، وقيل: لموصوفاتٍ أقيمتْ هي مقامَها وحُذف المفعولُ الثَّاني لغايةِ ظهورِه أي على أنْ لا يُؤتوهم شيئاً {وَلْيَعْفُواْ} ما فَرَطَ منهم {وَلْيَصْفَحُواْ} بالإغضاءِ عنه. وقد قرئ الأمرانِ بتاءِ الخطابِ على وفقِ قولِه تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} أي بمقابلة عفوِكم وصفحِكم وإحسانِكم إلى مَن أساءَ إليكُم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالغٌ في المغفرة والرَّحمةِ مع كمالِ قُدرتِه على المُؤاخذة وكثرةِ ذنوبِ العبادِ الدَّاعيةِ إليها. وفيهِ ترغيبٌ عظيمٌ في العفو ووعدٌ كريمٌ بمقابلتِه كأنَّه قيل: ألا تُحبُّون أنْ يغفرَ الله لكُم فهذا من موجباتِه. رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قرأَه على أبي بكرٍ رضي الله عنه فقالَ: بل أحبُّ أنْ يغفرَ الله لي فرجع إلى مسطحٍ نفقتَه وقال: والله لا أنزعها أبداً.
{إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} أي العفائفَ ممَّا رُمين به من الفاحشةِ {الغافلات} عنها على الإطلاقِ بحيثُ لم يخطرْ ببالهنَّ شيءٌ منها ولا من مُقدِّماتِها أصلاً. ففيها من الدِّلالةِ على كمالِ النَّزاهةِ ما ليس في المحصناتِ أي السليماتِ الصدورِ النقيَّاتِ القلوبِ عن كلِّ سوءٍ {المؤمنات} أي المتصفاتِ بالإيمانِ بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمن به الواجباتِ والمحظوراتِ وغيرِها إيماناً حقيقياً تفصيلياً كما يُنبىء عنه تأخيرُ المؤمناتِ عمَّا قبلَها من أصالةِ وصفِ الإيمانِ فإنَّه للإيذان بأنَّ المرادَ بها المعنى الوصفيُّ المُعربُ كما ذُكر لا المعنى الاسميُّ المصححُ لإطلاق الاسمِ في الجملةِ كما هو المتبادرُ على تقديرِ التَّقديمِ، والمرادُ بها عائشةُ الصِّدِّيقةُ رضي الله عنهَا. والجمعُ باعتبارِ أنَّ رميَها رميٌ لسائرِ أمَّهاتِ المُؤمنينَ لاشتراكِ الكلِّ في العصمةِ والنَّزاهةِ والانتسابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قولِه تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} ونظائرِه وقيلَ: أمَّهاتُ المؤمنينَ فيدخلُ فيهن الصِّدِّيقةُ دُخولاً أوليًّا وأما ما قيل منْ أنَّ المرادَ هي الصِّدِّيقةُ والجمعُ باعتبارِ استتباعِها للمتَّصفاتِ بالصِّفاتِ المذكورةِ من نساءِ الأمةِ فيأباهُ أنَّ العقوباتِ المترتبةَ على رميِ هؤلاءِ عقوباتٌ مختصَّةٌ بالكفَّارِ والمنافقينِ ولا ريبَ في أنَّ رميَ غيرِ أمَّهاتِ المُؤمنين ليس بكفرٍ فيجبُ أن يكونَ المرادُ إيَّاهُنَّ على أحدِ الوجهينَ فإنهنَّ قد خصصنَّ من بين سائرِ المُؤمناتِ فجعل رميهنَّ كفراً إبرازاً لكرامتهنَّ على الله عزَّ وجلَّ وحمايةً لحمى الرِّسالة مِنْ أنْ يحومَ حوله أحدٌ بسوءٍ حتَّى إنَّ ابنَ عبَّاسٍ رضي الله عنهما جعلَه أغلظَ من سائرِ أفرادِ الكفرِ حينَ سُئل عن هذه الآياتِ فقالَ: مَن أذنبَ ذنباً ثمَّ تابَ منه قُبلت توبتُه إلا مَن خاضَ في أمرِ عائشةَ رضي الله عنها.
وهَلْ هُو منه رضي الله عنه إلا لتهويلِ أمرِ الإفكِ والتنبيهِ على أنَّه كفرٌ غليظٌ {لُعِنُواْ} بما قالُوه في حقهنَّ {فِى الدنيا والأخرة} حيثُ يلعنُهم اللاعنونَ من المؤمنينَ والملائكةِ أبداً {وَلَهُمْ} معَ ما ذُكر من اللَّعنِ الأبديِّ {عَذَابٌ عظِيمٌ} هائلٌ لا يُقادر قدرُه لغاية عظمِ ما اقترفُوه من الجنايةِ.

.تفسير الآيات (24- 25):

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}
وقولُه تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} الخ، إمَّا متصلٌ بما قبلَه مسوقٌ لتقريرِ العذابِ المذكورِ بتعيينِ وقتِ حلولِه وتهويلِه ببيانِ ظهورِ جنايتِهم الموجبةِ له مع سائرِ جناياتِهم المستتبعةِ لعقوباتِها على كيفيةٍ هائلةٍ وهيئةٍ خارقةٍ للعاداتِ. فيومَ ظرفٌ لما في الجارِّ والمجرورِ المتقدمِ من معنى الاستقرارِ لا لعذابٌ وإنْ أغضينَا عن وصفِه لإخلالِه بجزالةِ المعنى. وإمَّا منقطعٌ عنه مسوقٌ لتهويلِ اليومِ بتهويلِ ما يحويهِ على أنَّه ظرفٌ لفعلٍ مؤخَّرٍ قد ضُرب عنه الذِّكرُ صَفْحاً للإيذانِ بقصورِ العبارةِ عن تفصيلِ ما يقعُ فيه من الطَّامةِ التَّامةِ والدَّاهيةِ العامةِ كأنَّه قيلَ: يومَ تشهدُ عليهم {أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يكونُ من الأحوالِ والأهوالِ ما لا يحيطُ به حيطةَ المقالُ على أنَّ الموصولَ المذكورَ عبارةٌ عن جميعِ أعمالِهم السَّيئةِ وجناياتِهم القبيحةِ لا عن جنايتِهم المعهودةِ فَقَطْ ومعنى شهادةِ الجوارحِ المذكورةِ بها أنَّه تعالى يُنطقها بقدرته فتخبر كلُّ جارحةٍ منها بما صدرَ عنها من أفاعيل صاحبِها لا أنَّ كلاًّ منها يخبرُ بجنايتِهم المعهودةِ فحسب. والموصولُ المحذوفُ عبارةٌ عنها وعن فنونِ العُقوباتِ المترتبةِ عليها كافَّة لا عنْ إحداهما خاصَّة ففيهِ من ضروبِ التَّهويلِ بالإجمالِ والتَّفصيلِ ما لا مزيدَ عليه وجعلُ الموصولِ المذكورِ عبارةً عن خصوصِ جنايتِهم المعهودةِ وحملُ شهادةِ الجوارحِ على إخبارِ الكلِّ بها فَقَط تحجيرٌ للواسعِ وتهوينُ أمرِ الوازعِ والجمعُ بين صيغتي الماضِي والمستقبلِ للدِّلالةِ على استمرارِهم عليها في الدُّنيا. وتقديمُ عليهم على الفاعل للمُسارعةِ إلى بيانِ أنَّ الشَّهادةَ ضارةٌ لهم مع ما فيهِ من التَّشويقِ إلى المؤخرِ كما مرَّ مِراراً.
وقولُه تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} أي يومَ إذْ تشهدُ جوارحُهم بأعمالِهم القبيحةِ يُعطيهم الله تعالى جزاءَهم الثَّابتَ الذي يحقِّقُ أنْ يثبتَ لهم لا محالةَ وافياً كاملاً. كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيانِ ترتيبِ حكمِ الشَّهادةِ عليها متضمنٌ لبيانِ ذلك المهمِّ المحذوفِ على وجهِ الإجمالِ، ويجوزُ أنْ يكونَ يومَ تشهدُ ظرفاً ليوفِّيهم، ويومئذٍ بدلاً منه، وقيلَ: هو منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ لفعلٍ مضمرٍ أي اذكُر يومَ تشهدُ. وقرئ: {يومَ يشهدُ} بالتَّذكير للفصل {وَيَعْلَمُونَ} عند معاينتِهم الأهوالَ والخُطوبَ حسبما نطقَ به القرآنُ الكريم {أَنَّ الله هُوَ الحق} الثَّابتُ الذي يحقُّ أنْ يثبت لا محالة في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه التي من جُملتها كلماتُه التَّاماتُ المنبئة عن الشُّؤونِ التي يُشاهدونها منطقة عليها {المبين} المظهرُ للأشياءِ كما هي في أنفسِها أو الظَّاهرُ أنَّه هو الحقُّ وتفسيرُه بظهورِ ألوهيَّتِه تعالى وعدمِ مشاركةِ الغير له فيها وعدمِ قُدرة ما سواه على الثَّوابِ والعقابِ ليس له كثيرُ مناسبةٍ للمقام كما أنَّ تفسيرَ الحقِّ بذي الحقِّ البيَّنِ العادل الظَّاهر عدلُه كذلك ولو تتبعتَ ما في الفُرقان المجيدِ من آياتِ الوعيدِ الواردةِ في حقِّ كلِّ كَفَّارٍ مريدٍ وجبَّارٍ عَنيدٍ لا تجدُ شيئاً منها فوقَ هاتيك القوارعِ المشحونةِ بفُنون التَّهديدِ والتَّشديدِ، وما ذاكَ إلاَّ لإظهار منزلةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عُلُّو الشَّأنِ والنباهةِ وإبرازِ رُتبةِ الصِّدِّيقةِ رضي الله عنها في العِفَّةِ والنَّزاهةِ.

.تفسير الآية رقم (26):

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
وقولُه تعالى: {الخبيثات} الخ، كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ على قاعدةِ السنَّةِ الإلهية الجاريةِ فيما بين الخلقِ على موجب أنَّ لله تعالى مَلَكاً يسوقُ الأهلَ إلى الأهلِ أي الخبيثاتُ من النِّساءِ {لِلْخَبِيثِينَ} من الرِّجال أي مختصَّاتٌ بهم لا يكَدْنَ يتجاوزْنَهم إلى غيرِهم على أنَّ اللامَ للاختصاصِ {والخبيثون} أيضاً {للخبيثات} لأنَّ المُجانسةَ من دَوَاعي الانضمامِ {والطيبات} منهنَّ {لِلطَّيّبِينَ} منهم {والطيبون} أيضاً {للطيبات} منهنَّ بحيثُ لا يكادُون يجاوزوهنَّ إلى من عداهنَّ وحيثُ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أطيبَ الأطيبينِ وخيرةَ الأوَّلين والآخرين تبين كونُ الصِّدِّيقةِ رضي الله عنها من أطيب الطَّيباتِ بالضَّرورةِ واتَّضح بطلانُ ما قيل في حقِّها من الخُرافاتِ حسبما نطقَ به قولُه تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ} على أنَّ الإشارةَ إلى أهلِ البيتِ المنتظِمين للصِّدِّيقةِ انتظاماً أوَّليًّا، وقيل: إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والصِّدِّيقةِ وصفوانَ، وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للإيذان بعلُّوِ رُتبة المشارِ إليهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي أولئك الموصُوفون بعلُّوِ الشَّأنِ مُبرَّءون ممَّا تقوَّله أهلُ الإفكِ في حقِّهم من الأكاذيبِ الباطلةِ. وقيل: الخبيثاتُ من القولِ للخبيثينَ من الرِّجالِ والنِّساءِ أي مختصَّة ولائقة بهم لا ينبغي أنْ تُقال في حقِّ غيرِهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحِقَّاءُ بأنْ يُقال في حقِّهم خبائثُ القول والطَّيباتُ من الكلم للطَّيبين من الفريقينِ مختصَّةٌ وحقيقة بهم وهم أحِقَّاءُ بأنْ يُقال في شأنهم طيِّباتُ الكلمِ أولئك الطَّيبون مبرَّءون ممَّا يقول الخبيثون في حقِّهم فمآلُه تنزيهُ الصِّدِّيقةِ أيضاً، وقيل: خبيثاتُ القول مختصَّةٌ بالخبيثين من فريقَيْ الرِّجالِ والنِّساءِ لا تصدرُ عن غيرِهم والخبيثون من الفريقينِ مختصُّون بخبائث القولِ متعرِّضُون لها والطَّيباتُ من الكلام للطَّيبين من الفريقينِ أي مختصَّةٌ بهم لا تصدرُ عن غيرِهم والطَّيبون من الفريقينِ مختصُّون بطيِّباتِ الكلامِ لا يصدرُ عنهم غيرُها أولئك الطَّيبون مبرَّءون ممَّا يقولُه الخبيثون من الخبائثِ أي لا يصدرُ عنهم مثلُ ذلك فمآلُه تنزيهُ القائلينِ سبحانَك هذا بهتانٌ عظيمٌ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمةٌ لما لا يخلُو عنه البشرُ من الذُّنوب {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هو الجنَّةُ.

.تفسير الآيات (27- 28):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} إثرَ ما فُصل الزَّواجرُ عن الزِّنا وعن رميِ العفائف عنه شُرع في تفصيل الزَّواجر عمَّا عسى يُؤدِّي إلى أحدهما من مُخالطة الرِّجالِ بالنِّساءِ ودخولِهم عليهنَّ في أوقات الخلوات وتعليمِ الآدابِ الجميلة والأفاعيل المرضيَّة المستتبعة لسعادةِ الدَّارين ووصف البيوت بمغايرة بيوتِهم خارجٌ مخرجَ العادة التي هي سُكنى كلِّ أحدٍ في ملكه وإلا فالمآجر والمُعير أيضاٌ منهيَّانِ عن الدُّخول بغير إذنٍ. وقرئ: {بِيوتاً غيرَ بِيوتكم} بكسرِ الباءِ لإجلِ الياءِ {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} أي تستأذنوا مَن يملكُ الإذن من أصحابها من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره فإن المستأنس مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاشس لما أن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس {وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} عند الاستئذان. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن التسليم أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع {ذلكم} أي الاستئذان مع التسليم {خَيْرٌ لَّكُمْ} من أن تدخلوا بغتة أو على تحية الجاهلية حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول: حييتم صباحاً حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال: «نعم» قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كُلَّما دخلتُ؟ قالَ صلى الله عليه وسلم: «أتحب أن تراها عريانة؟» قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: «فاستأذن» {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} متعلق بمضمر أي أمرتم به أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه.
{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً} أي ممن يملك الإذن على أنَّ مَن لا يملكه من النِّساءِ والولدانُ وُجدانُه كفُقدانِه أو أحداً أصلاً على أنَّ مدلول النصِّ الكريم عبارةٌ هو النَّهي عن دُخول البيوتِ الخاليةِ لما فيه من الاطلاع على ما يعتادُ النَّاسُ إخفاءَه مع أنَّ التَّصرفَ في ملك الغير محظورٌ مطلقاً وأمَّا حُرمة دخول ما فيه للنِّساءِ والولدان فثابتةٌ بدلالة النصِّ لأنَّ الدخول حيث حَرُمَ مع ما ذكر من العلَّة فلأن يحرُمَ عند انضمامِ ما هو أقوى منه إليه أعني الاطِّلاعَ على العَورات أَولى {فَلاَ تَدْخُلُوهَا} واصبروا {حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} أي من جهة مَن يملكُ الإذنَ عند إتيانه. ومَن فسَّره بقوله: حتَّى يأتي مَن يأذنُ لكم أو حتَّى تجدوا من يأذن لكم فقد أبرز القطعيَّ في معرض الاحتمال، ولما كان جعلُ النَّهي بالإذنِ ممَّا يُوهم الرُّخصة في الانتظار على الأبواب مُطلقاً بل في تكرير الاستئذانِ ولو بعد الردِّ دُفع ذلك بقولِه تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} أي إنْ أُمرتم من جهةِ أهلِ البيتِ بالرُّجوع سواء كان الأمرُ ممَّن يملكُ الإذن أو لاَ فارجعُوا ولا تلحّوا بتكرير الاستئذانِ كما في الوجهِ الأول لا تلحوا بالإصرار على الانتظار إلى أنْ يأتيَ الآذنُ كما في الثَّاني فإنَّ ذلك ممَّا يجلبُ الكراهةَ في قلوب النَّاسِ ويقدحُ في المروءةِ أيَّ قدحٍ {هُوَ} أي الرُّجوعُ {أزكى لَكُمْ} أي أطهرُ ممَّا لا يخلُو عنه اللجُّ والعناد والوقوف على الأبواب من دنس الدناءةِ والرَّذالة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيعلم ما تأتون وما تذرون ممَّا كلفتموه فيجازيكم عليه.

.تفسير الآيات (29- 30):

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)}
{لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ} أي بغير استئذانٍ {بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أي غيرَ موضوعةٍ لسكنى طائفةٍ مخصوصةٍ فقط بل ليتمتَّعَ بها من يُضطر إليها كائناً من كان من غير أنْ يتخذَها سكناً كالرُّبطِ والخَاناتِ والحوانيتِ والحمَّاماتِ ونحوِها فإنَّها معدَّةٌ لمصالح النَّاس كافَّة كما يُنبىء عنه قولُه تعالى: {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} فإنَّه صفةٌ للبيوتِ أو استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لعدم الجُناح أي فيها حقُّ تمتعٍ لكم كالاستكنان من الحرِّ والبردِ وإيواءِ الأمتعةِ والرِّحالِ والشِّراءِ والبيعِ والاغتسالِ وغيرِ ذلك ممَّا يليقُ بحال البُيوت وداخليها فلا بأسَ بدخولها بغير استئذانٍ من داخليها من قبل ولا ممَّن يتولَّى أمرَها ويقومُ بتدبيرها من قوام الرِّباطاتِ والخاناتِ وأصحابِ الحوانيتِ ومتصرِّفي الحمَّاماتِ ونحوِهم. ويُروى أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسولَ الله، إنَّ الله تعالى قد أنزل عليك آيةً في الاستئذان وإنَّا نختلفُ في تجاراتِنا فننزل هذه الخاناتِ أفلا ندخلها إلاَّ بإذنٍ؟ فنزلتْ. وقيل: هي الخَرِباتُ يُتبرَّزُ فيها والمتاع التَّبرزُ. والظَّاهر أنَّها من جُملة ما ينتظمه البيوتُ لا أنها المرادةُ فقط. وقوله تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيدٌ لمن يدخلُ مدخلاً من هذه المداخل لفسادٍ أو اطِّلاعٍ على عوراتٍ.
{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ} شروعٌ في بيان أحكام كليَّة شاملة للمؤمنين كافَّة يندرج فيها حكمُ المستأذنين عند دخولِهم البيوت اندراجاً أوليًّا. وتلوينُ الخطاب وتوجيهه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتفويضُ ما في حيِّزِه من الأوامر والنَّواهي إلى رأيِه عليه الصَّلاة والسَّلام لأنَّها تكاليفُ متعلِّقةٌ بأمورٍ جُزئيةٍ كثيرةِ الوقوعِ حقيقةٌ بأنْ يكون الآمرُ بها والمتصدِّي لتدبيرها حافظاً ومُهيمناً عليهم. ومفعولُ الأمر أمرٌ آخرُ قد حُذف تعويلاً على دلالة جوابه عليه أي قُل لهم غُضُّواً {يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} عمَّا يحرُم ويقتصروا به على ما يحلُّ {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} إلا على أزواجِهم أو ما ملكتْ أيمانُهم. وتقييدُ الغضِّ بمن التبعيضيَّةِ دونَ الحفظ لما في أمر النَّظر من السَّعةِ. وقيل: المرادُ بالحفظِ هاهنا خاصَّة هو السِّترُ.
{ذلك} أي ما ذُكر من الغضِّ والحفظ {أزكى لَهُمْ} أي أطهرُ لهم من دنس الرِّيبة {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه شيءٌ ممَّا يصدرُ عنهم من الأفاعيلِ التي من جُملتِها إحالةُ النَّظرِ واستعمالُ سائرِ الحواس وتحريك الجوارحِ وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذرٍ منه في كلِّ ما يأتُون وما يذرُون.