فصل: تفسير الآيات (37- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (37- 38):

{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}
وقولُه تعالى: {رِجَالٌ} فاعلُ يسبِّح، وتأخيرُه عن الظُّروفِ لما مرَّ مراراً من الاعتناءِ بالمقدَّم والتَّشويق إلى المؤخَّر ولأنَّ في وصفه نوع طُولٍ فيُخلُّ تقديمُه بحسن الانتظام. وقرئ: {يُسبِّح} على البناء للمفعول بإسناده إلى أحد الظُّروف. ورجالٌ مرفوعٌ بما ينبىءُ عنه حكايةُ الفعلِ من غير تسميةِ الفاعل على طريقة قوله:
ليُبكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ

كأنه قيل: مَنْ يُسبِّح له؟ فقيل: يُسبِّح له رجالٌ. وقرئ: {تُسبِّح} بتأنيثِ الفعلِ مبنيًّا للفاعلِ لأنَّ جمعَ التَّكسيرِ قد يُعامل معاملةَ المؤنَّثِ ومبنياً للمفعول على أنْ يُسندَ إلى أوقات العُدوِّ والآصالِ بزيادة الباءِ وتجعلُ الأوقاتُ مسبِّحةً مع كونِها فيها أو يُسند إلى ضميرِ التَّسبيحةِ أي تُسبَّح له التَّسبيحةُ على المجازِ المسوِّغ لإسناده إلى الوقتينِ كما خرَّجُوا قراءة أبي جَعفرٍ ليُجزَى قوماً أي ليُجزَى الجزاءُ قَوْماً بل هذا أولى من ذلك إذْ ليس هنا مفعولٌ صريحٌ {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة} صفةٌ لرجالٌ مؤكِّدةٌ لما أفادَه التَّنكيرُ من الفخامةِ مفيدةٌ لكمال تبتُّلِهم إلى الله تعالى واتغراقهم فيما حُكي عنهم من التَّسبيحِ من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم كائناً ما كان وتخصيصُ التِّجارةِ بالذِّكرِ لكونِها أقوى الصَّوارفِ عندهم وأشهرَها أي لا يشغلُهم نوعٌ من أنواعِ التِّجارةِ {وَلاَ بَيْعٌ} أي ولا فردٌ من أفراد البياعاتِ وإنْ كان في غايةِ الرِّبحِ. وإفرادُه بالذِّكرِ مع اندراجِه تحت التِّجارة للإيذانِ بإنافتِه على سائرِ أنواعِها لأنَّ ربحَهُ متيقَّنٌ ناجزٌ وربحُ ما عداه متوقَّعٌ في ثاني الحال عند البيع فلم يلزمْ من نفيِ إلهاءِ ما عداه نفيُ إلهائِه ولذلك كُرِّرت كلمةُ لا لتذكيرِ النَّفيِ وتأكيدِه وقد نُقل عن الواقديِّ أنَّ المرادَ بالتِّجارة هو الشِّراءُ لأنَّه أصلُها ومبدؤها. وقيل: هو الجَلَبُ لأنَّه الغالبُ فيها ومنه يُقال: تَجَر في كَذا أي جَلَبه.
{عَن ذِكْرِ الله} بالتَّسبيحِ والتَّحميدِ {وإِقَامِ الصلاة} أي إقامتِها لمواقيتها من غير تأخيرٍ وقد أُسقطتْ التَّاءُ المُعوِّضةُ عن العينِ السَّاقطةِ بالإعلال وعُوِّض عنها الإضافةُ كما في قوله:
وَأَخْلفُوك عِدَ الأَمْرِ الذي وَعدُوا

أي عدةَ الأمرِ {وَإِيتَآءِ الزكواة} أي المال الذي فُرض إخراجُه للمستحقِّين، وإيرادُه هاهنا وإنْ لم يكن ممَّا يُفعل في البيوت لكونِه قرينةً لا تُفارق إقامةَ الصَّلاةِ في عامَّة المواضع مع ما فيه من التَّنبيه على أنَّ محاسنَ أعمالِهم غيرُ منحصرةٍ فيما يقعُ في المساجدِ وكذلك قوله تعالى: {يَخَافُونَ} الخ، فإنه صفةٌ ثانيةٌ لرجالٌ أو حالٌ من مفعول لا تُلهيهم، وأيًّا ما كان فليس خوفُهم مقصُوراً على كونِهم في المساجد وقوله تعالى: {يَوْماً} مفعولُ ليخافون لا ظرفٌ له. وقولُه تعالى: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} صفةٌ ليوماً أي تضطربُ وتتغيرُ في أنفسها من الهول والفزعِ وتشخصُ كما في قوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الابصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} أو تتغيرُ أحوالُها وتتقلَّب فتتفقّه القلوبُ بعد أن كانتْ مطبوعاً عليها وتُبصر الأبصارُ بعد أنْ كانت عمياءَ أو تتقلَّب القلوبُ بين توقُّعِ النَّجاةِ وخوفِ الهلاكِ والإبصار من أيِّ ناحيةٍ يُؤخذ بهم ويُؤتى كتابُهم.
{لِيَجْزِيَهُمُ الله} متعلِّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه ما حُكي من أعمالهم المرضيَّةِ أي يفعلُون ما يفعلُون من المُداومة على التَّسبيح والذِّكرِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والخوفِ من غير صارفٍ لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي أحسنَ جزاءِ أعمالِهم حسبما وعد لهم بمقابلةِ حسنةٍ واحدةٍ عشر أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أي يتفضَّلُ عليهم بأشياءَ لم تُوعد لهم بخصوصيَّاتِها أو بمقاديرِها ولم تخطُر ببالِهم كيفيَّاتُها ولا كميَّاتُها بل إنَّما وُعدت بطريقِ الإجمالِ في مثل قوله تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} وقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حكايةً عنه عزَّ وجلَّ: «أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَرَ على قلبِ بشرٍ» وغيرِ ذلك من المواعيدِ الكريمةِ التي مِن جُملتِها قولُه تعالى: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} فإنَّه تذييلٌ مقرِّرٌ للزيادة ووعدٌ كريم بأنَّه تعالى يُعطيهم غيرَ أجزيةِ أعمالِهم من الخيرات ما لا يفي من الحساب وأما عدمُ سبقِ الوعدَ بالزِّيادة ولو إجمالاً وعدمُ خُطورِها ببالِهم ولو بوجهٍ ما فيأباهُ نظمُها في سلك الغايةِ. والموصولُ عبارةٌ عمَّن ذُكرتْ صفاتُهم الجميلةُ كأنَّه قيل: والله يرزقُهم بغير حسابٍ، ووضعه موضعَ ضميرهم للتَّنبيه بما في حيِّزِ الصِّلةِ على أنَّ مناطَ الرِّزقِ المذكُور محضُ مشيئتِه تعالى لا أعمالُهم المحكيَّةُ كما أنَّها المناطُ لما سبقَ من الهداية لنوره تعالى لا لتظاهر الأسباب وللإيذان بأنَّهم ممَّن شاءَ الله تعالى أنْ يرزقَهم كما أنَّهم ممَّن شاءَ الله تعالى أنْ يهديَهم لنُوره حسبَما يُعرب عنه ما فُصِّل من أعمالهم الحسنةِ فإنَّ جميعَ ما ذُكر من الذِّكرِ والتَّسبيحِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وخوفِ اليوم الآخرِ وأهوالِه ورجاءِ الثَّوابِ مقتبسٌ من القُرآن الكريم الذي هو المعنيُّ بالنُّور وبه يتمُّ بيانُ أحوالِ مَن اهتدى بهُداه على أوضحِ وجهٍ وأجلاه هذا، وقد قيل: قوله تعالى: {فِى بُيُوتٍ} الخ، من تتمة التَّمثيلِ وكلمةُ في متعلَّقةٌ بمحذوفٍ هي صفة لمشكاةٍ أي كائنةٍ في بيوتٍ، وقيل: لمصباح، وقيل: لزجاجة، وقيل: متعلِّقةٌ بيُوقَد والكلُّ مما لا يليقُ بشأن التَّنزيلِ الجليلِ كيف لا وأنَّ ما بعد قولِه تعالى: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} على ما هو الحقُّ أو ما بعد قوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} على ما قيل إلى قولِه تعالى: {بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} كلامٌ متعلِّقٌ بالمُمَثَّل قطعاً فتوسيطُه بين أجزاءِ التَّمثيل مع كونِه من قبيل الفصل بين الشَّجر ولحائِه بالأجنبيِّ يؤدِّي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتَّمثيلِ المهديِّينَ بنور القُرآن الكريم بطريق الاستتباعِ والاستطرادِ مع كون بيانِ أضدادِهم مقصوداً بالذَّاتِ، ومثلُ هذا ممَّا لا عهدَ به في كلام النَّاسِ فضلاً أنْ يُحملَ عليه الكلامُ المعجِزُ.

.تفسير الآية رقم (39):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)}
{والذين كَفَرُواْ} عطف على ما ينساق إليه ما قبله كأنَّه قيل: الذين أمنُوا أعمالُهم حالاً ومآلاً كما وُصفَ والذين كفرُوا {أعمالهم} أي أعمالُهم التي هي من أبواب البِرِّ كصلةِ الأرحامِ وفكِّ العُناةِ وسقاية الحاجِّ وعمارة البيت وإغاثة الملهُوفين وقِرى الأضيافِ ونحوِ ذلك ممَّا لو قارنَه الإيمانُ لاستتبعَ الثوابَ كما في قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} الآيةَ {كَسَرَابٍ} وهو ما يُرى في الفَلَوات من لمَعَانِ الشَّمسِ عليها وقتَ الظَّهيرةِ فيُظنُّ أنه ماءٌ يسرُب أو يجري {بِقِيعَةٍ} متعلِّق بمحذوف هو صفةٌ لسرابٍ أي كائن في قاعٍ وهي الأرضُ المنبسِطةُ المستويةُ، وقيل: هي جمعُ قاعٍ كجيرة جمعُ جارٍ. وقرئ: {بقيعاتٍ} بتاء ممدودةٍ كديماتٍ إمَّا على أنَّها جمعُ قيعةٍ أو على أنَّ الأصلَ قيعة قد أُشبعت فتحةُ العينِ فتولَّد منها ألِفٌ {يَحْسَبُهُ الظمان مَاء} صفةٌ أخرى لسرابٍ وتخصيص الحسبان بالظَّمآن مع شموله لكلِّ مَن يراه كائناً من كان من العطشانِ والريَّانِ لتكميل التَّشبيهِ بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشَّبهِ الذي هو المطلعُ المطمع والمقطعُ المؤنِسُ {حتى إِذَا جَاء} أي إذا جاءَ العطشانُ ما حَسِبَه ماءً، وقيل: موضعَه {لَمْ يَجِدْهُ} أي ما حسبَه ماءً وعلَّق به رجاءَهُ {شَيْئاً} أصلاً لا محقَّقاً، ولا متوهَّماً كما كان يراهُ من قبلُ فضلاً عن وجدانه ماء وبه تمَّ بيانُ أحوالِ الكفرِ بطريق التَّمثيل وقوله تعالى: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فوفاه حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} بيانٌ لبقيَّة أحوالِهم العارضة لهم بعد ذلك بطريقِ التَّكملة لئلاَّ يتوَّهم أنَّ قُصارى أمرِهم هو الخيبةُ والقُنوط كما هو شأنُ الظَّمآنِ ويظهر أنَّه يعتريهم بعد ذلك من سوءِ الحالِ ما لا قدرَ عنده للخيبةِ أصلاً فليستِ الجملةُ معطوفةً على لم يجدْهُ شيئاً بل على ما يُفهم منه بطريقِ التَّمثيل من عدمِ وجدان الكَفَرةِ من أعمالِهم المذكُورةِ عيناً ولا أثراً كما في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} كيف لا وأنَّ الحكم بأنَّ أعمالَ الكَفَرة كسرابٍ يحسبه الظمآنُ ماء حتَّى إذا جاءه لم يجدُه شيئاً حكمٌ بأنَّها بحيث يحسبونَها في الدُّنيا نافعةً لهم في الآخرة حتَّى إذا جاءوها لم يجدُوها شيئاً كأنَّه قيل: حتَّى إذا جاء الكَفَرةُ يومَ القيامةِ أعمالَهم التي كانُوا في الدُّنيا يحسبونها نافعةً لهم في الآخرةِ لم يجدُوها شيئاً ووجدُوا الله أي حكمَهُ وقضاءَهُ عند المجيءِ وقيل: عند العملِ فوفَّاهم أي أعطاهُم وافياً كاملاً حسابَهم أي حسابَ أعمالِهم المذكورةِ وجزاءها فإنَّ اعتقادَهم لنفعها بغير إيمانٍ وعملهم بموجبه كفرٌ على كفرٍ موجب للعقاب قطعاً وإفرادُ الضَّميرينِ الرَّاجعينِ إلى الذين كفروا إمَّا لإرادة الجنس كالظَّمآنِ الواقع في التَّمثيلِ وإمَّا للحملِ على كلِّ واحدٍ منهم وكذا إفرادُ ما يرجع إلى أعمالِهم، هذا وقد قيل: نزلتْ في عُتبةَ بنِ أبي ربيعةَ بنِ أُميَّة كان قد تعبَّد في الجاهليَّةِ ولبس المسوحَ والتمسَ الدِّينَ فلمَّا جاء الإسلامُ كفرَ.

.تفسير الآية رقم (40):

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}
{أَوْ كظلمات} عطفٌ على كسرابٍ وكلمةُ أو للتَّنويع إثرَ ما مُثِّلت أعمالُهم التي كانُوا يعتمدونَ عليها أقوى اعتمادٍ ويفتخرون بها في كلِّ وادٍ ونادٍ بما ذُكر من حال السَّرابِ مع زيادةِ حسابٍ وعقابٍ مُثِّلتْ أعمالُهم القبيحةُ التي ليس فيها شائبةٌ خيريَّةٌ يغترُّ بها المغترُّون بظلماتٍ كائنة {فِى بَحْرٍ لُّجّىّ} أي عميقٍ كثيرِ الماءِ منسوبٍ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ ماءِ البحرِ وقيل: إلى اللُّجَّةِ وهي أيضاً معظمُه {يغشاه} صفة أُخرى للبحر أي يسترُه ويُغطِّيه بالكُلِّية {مَوْجٍ} وقولُه تعالى: {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} جملةٌ مِن مبتدأ وخبرٍ محلُّها الرَّفعُ على أنَّها صفةٌ لموجٌ أو الصِّفةُ هي الجارُّ والمجرورُ وموجٌ الثَّانِي فاعلٌ له لاعتمادِه على الموصوفِ والكلامُ فيهِ كما مرَّ في قولِه تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} أي يغشاهُ أمواجٌ متراكمةٌ متراكبةٌ بعضُها على بعضٍ، وقوله تعالى: {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} صفةٌ لموجٌ الثَّاني على أحد الوجهينِ المذكُورينِ أي من فوق ذلك الموجِ سحابٌ ظلمانيٌّ ستَر أضواءَ النُّجومِ وفيه إيماءٌ إلى غايةِ تراكم الأمواجِ وتضاعفُها حتَّى كأنَّها بلغت السَّحابَ {ظلمات} خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي هي ظلماتٌ {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي متكاثفة متراكمة وهذا بيان لكمال شدَّةِ الظُّلماتِ كما أنَّ قوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} بيانٌ لغاية قُوَّةِ النُّورِ خلا أنَّ ذلك متعلِّق بالمشبَّهِ وهذا بالمشبَّه به كما يُعرِبُ عنه ما بعده. وقرئ بالجرِّ على الإبدالِ من الأُولى، وقرئ بإضافةِ السَّحابِ إليها {إِذَا أَخْرَجَ} أي مَن ابتُليَ بها. وإضمارُه من غير ذكرِه لدلالة المَعْنى عليه دلالةً واضحة {يَدَهُ} وجعلها بمرأى منه قريبةً من عينه لينظرَ إليها {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} وهي أقربُ شيءٍ منه فضلاً عن أنْ يراها {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً} الخ، اعتراضٌ تذييليٌّ جيء به لتقرير ما أفاده التَّمثيلُ من كون أعمالِ الكَفَرةِ كما فُصِّل، وتحقيق أنَّ ذلك لعدمِ هدايتِه تعالى إيَّاهم لنورِه، وإيرادُ الموصولِ للإشارة بما في حيِّزِ الصِّلةِ إلى علَّة الحُكم وأنَّهم ممَّن لم يشأ الله تعالى هدايتَهم أي ومَن لم يشأ الله أنْ يهديَه لنوره الذي هُو القرآنُ هدايةً خاصَّةً مستتبعة للاهتداء حتماً ولم يُوفقه للإيمان به {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} أي فما له هدايةٌ ما من أحدٍ أصلاً.

.تفسير الآية رقم (41):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)}
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} الخ، استئنافٌ خُوطب به النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ بأنَّه تعالى قد أفاضَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أعلى مراتب النُّور وأجلاها وبيَّن له من أسرار المُلكِ والمَلَكُوت أدقَّها وأخفَاها. والهمزةُ للتَّقرير أي قد علمتَ علماً يقينيّاً شبيهاً بالمشاهدة في القوَّة والرَّصانةِ بالوحي الصَّريحِ والاستدلالِ الصَّحيحِ {أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ} أي ينزهه تعالى على الدَّوام في ذاته وصفاتِه وأفعاله عن كلِّ ما لا يليقُ بشأنه الجليلِ من نقص أو خللٍ {مَن فِي السموات والأرض} أي ما فيهما إما بطريق الاستقرارِ فيهما من العُقلاء وغيرِهم كائناً ما كان أو بطريق الجُزئية منهما تنزيهاً معنويّاً تفهمه العقولُ السَّليمةُ فإنَّ كلَّ موجود من الموجوداتِ المُمكنة مُركبّاً كان أو بسيطاً فهو من حيثُ ماهيتُه ووجودُه وأحوالُه يدلُّ على وجود صانعٍ واجبِ الوجود متَّصفٌ بصفاتِ الكمال مقدَّسٌ عن كلِّ ما لا يليقُ بشأنٍ من شؤونِه الجليلةِ وقد نبَّه على كمالِ قُوَّةِ تلك الدِّلالةِ وغاية وضوحِها حيثُ عبَّر عنها بما يخصُّ العقلأَ من التَّسبيح الذي هو أقوى مراتب التَّنزيه وأظهرها تنزيلاً للسان الحالِ منزلةَ لسانِ المقالِ وأكَّدَ ذلك بإيثار كلمةِ مَن على مَا كأنَّ كلَّ شيءٍ ممَّا عزَّ وهان وكلَّ فردٍ من أفراد الأعراضِ والأعيان عاقلٌ ناطقٌ ومخبرٌ صادقٌ بعلُّوِ شأنِه تعالى وعزَّةِ سُلطانه، وتخصيصُ التَّنزيه بالذِّكر مع دلالةِ ما فيهما على اتِّصافِه تعالى بنعوتِ الكمالِ أيضاً لما أنَّ مساقَ الكلامِ لتقبيح حالِ الكَفَرة في إخلالهم بالتَّنزيه بجعلهم الجماداتِ شركاءَ له في الأُلوهيَّةِ ونسبتهم إيَّاه إلى اتخاذ الولد تعالى عن ذلك عُلُّواً كبيراً.
وحملُ التَّسبيح على ما يليقُ بكلِّ نوعٍ من أنواع المخلوقات بأنْ يُرادَ به معنى مجازيٌّ شاملٌ لتسبيحِ العُقلاءِ وغيرهم حسبما هو المتبادَرُ من قوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} يردُّه أنَّ بعضاً من العُقلاءِ وهم الكفرةُ من الثَّقلينِ لا يسبِّحونَهُ بذلك المعنى قطعاً وإنَّما تسبيحُهم ما ذُكر من الدِّلالةِ التي يُشاركهم فيها غيرُ العُقلاءِ أيضاً وفيه مزيدُ تخطئةٍ لهم وتعبيرٌ ببيان أنَّهم يسبِّحونه تعالى باعتبارِ أخسِّ جهاتهم التي هي الجماديَّةُ والجسميَّةُ والحيوانيَّةُ ولا يسبِّحونه باعتبارِ أشرفها التي هي الإنسانيَّةُ {والطير} بالرَّفعِ عطفاً على مَن وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها في جُملة ما في الأرضِ لعدم استمرارِ قرارها فيها واستقلالها بصنعٍ بارعٍ وإنشاءٍ رائعٍ قُصد بيانُ تسبيحها من تلك الجهةِ لوضوح إنبائِها عن كمال قُدرةِ صانعِها ولطفِ تدبير مُبدعِها حسبما يُعرب عنه التَّقييدُ بقوله تعالى: {صافات} أي تُسبِّحه تعالى حال كونِها صافاتٍ أجنحتَها فإنَّ إعطاءه تعالى للأجرام الثَّقيلةِ ما تتمكنُ به من الوقوف في الجوِّ والحركةِ كيف تشاءُ من الأجنحةِ والأذنابِ الخفيفةِ وإرشادها إلى كيفيَّةِ استعمالها بالقبضِ والبسط حجَّةٌ نيِّرةٌ واضحة المكنونِ وآيةٌ بيِّنة لقومٍ يعقلون دالَّةٌ على كمال قُدرة الصَّانعِ المجيد وغايةِ حكمةِ المبدىءِ المُعيدِ، وقولُه تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} بيانٌ لكمالِ عراقةِ كلِّ واحدٍ ممَّا ذُكر في التَّنزيه ورسوخ قدمِه فيه بتمثيل حالِه بحالِ مَن يَعلمُ ما يصدرُ عنه من الأفاعيلِ فيفعلها عن قصدٍ ونيَّةٍ لا عن اتفاقٍ بلا رويَّةٍ وقد أدمج في تضاعيفِه الإشارة إلى أنَّ لكلِّ واحدٍ من الأشياء المذكورةِ مع ما ذُكر من التَّنزيه حاجةً ذاتيَّةً إليه تعالى واستفاضة منه لما يهمه بلسان استعدادِه وتحقيقه أنَّ كلَّ واحدٍ من الموجُوداتِ الممكنةِ في حدِّ ذاته بمعزلٍ من استحقاق الوجود لكنَّه مستعدٌّ لأنْ يفيضَ عليه منه تعالى ما يليقُ بشأنه من الوجودِ وما يتبعه من الكمالاتِ ابتداءً وبقاء فهو مستفيضٌ منه تعالى على الاستمرار فيفيض عليه في كلِّ آنٍ من فيوض الفُنونِ المتعلِّقةِ بذاته وصفاته ما لا يحيطُ به نطاقُ البيانِ بحيث لو انقطعَ ما بينه وبين العناية الربَّانيَّةِ من العلاقة لانعدمَ بالمرَّة وقد عبَّر عن تلك الاستفاضةِ المعنويَّةِ بالصَّلاةِ التي هي الدُّعاءُ والابتهالُ لتكميل التَّمثيل وإفادة المزايا المذكُورة فيما مرَّ على التَّفصيلِ وتقديمها على التَّسبيحِ في الذِّكرِ لتقدمها عليه في الرُّتبةِ هذا ويجوز أنْ يكونَ العلمُ على حقيقتِه ويراد به مطلقُ الإدراكِ وبما ناب عنه التَّنوينُ في كلِّ أنواع الطَّيرِ وأفرادها وبالصَّلاة والتَّسبيح ما ألهمه الله تعالى كلَّ واحدٍ منها من الدُّعاءِ والتَّسبيحِ المخصوصينِ به لكن لا على أنْ يكونَ الطَّيرُ معطُوفاً على كلمة مَن مرفوعاً برافعِها فإنَّه يؤدِّي إلى أنْ يُرادَ بالتَّسبيح معنى مجازيٌّ شاملٌ للتَّسبيحِ المقاليِّ والحاليِّ من العُقلاءِ وغيرهم وقد عرفتَ ما فيه، بل بفعل مُضمرٍ أريد به التَّسبيحُ المخصوص بالطَّيرِ معطوف على المذكور كما مرَّ في قولِه تعالى: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} أي وتسبيحُ الطَّيرِ تسبيحاً خاصًّا بها حالَ كونِها صافاتٍ أجنحتَها وقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي دعاءَهُ وتسبيحَه اللَّذينِ ألهمهما الله عزَّ وجلَّ إيَّاه لبيان كمال رُسوخه فيهما وأنَّ صدورَهما عنه ليس بطريقِ الإنفاق بلا رويَّةٍ بل عن علمٍ وإيقانٍ من غير إخلالٍ بشيءٍ منهما حسبما ألهمَه الله تعالى فإنَّ إلهامَه تعالى لكلِّ نوعٍ من أنواعِ المخلوقاتِ علوماً دقيقةً لا يكادُ يهتدِي إليه جهابذةُ العُقلاءِ ممَّا لا سبيلَ إلى إنكاره أصلاً، كيف لا وإنَّ القُنفذَ مع كونه أبعدَ الأشياءِ من الإدراك قالُوا: إنَّه يحسُّ بالشَّمالِ والجَنوبِ قبل هبوبِها فيغير المدخلَ إلى جُحرِه حتَّى رُوي أنَّه كان بقُسطنطينيَّةَ قبل الفتحِ الإسلاميِّ رجلٌ قد أثرى بسببِ أنَّه كان يُنذر النَّاسَ بالرِّياحِ قبل هبوبِها وينتفعون بإنذارِه بتدارُكِ أمورِ سفائنِهم وغيرها وكانَ السَّببُ في ذلك أنَّه كان يقتنِي في دارِه قُنفذاً يستدلُّ بأحوالِه على ما ذُكر، وتخصيص تسبيحِ الطَّيرِ بهذا المَعْنى بالذِّكرِ لما أنَّ أصواتَها أظهرُ وجُوداً وأقربُ حملاً على التَّسبيحِ وقولُه تعالى: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي ما يفعلونَهُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمون ما قبله، وما على الوجه الأوَّل عبارةٌ عمَّا ذُكر من الدِّلالة الشَّاملةِ لجميع الموجُوداتِ من العُقلاءِ وغيرِهم والتَّعبيرُ عنها بالفعل مسنداً إلى ضميرِ العُقلاء لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ وعلى الثَّاني إمَّا عبارة عنها وعن التَّسبيح الخاصِّ بالطَّير معاً أو عن تسبيح الطَّيرِ فقط فالفعلُ على حقيقته وإسناده إلى ضميرِ العُقلاء لما مرَّ والاعتراضُ حينئذٍ مقررٌ لتسبيح الطَّيرِ فقط وعلى الأوَّلينِ لتسبيح الكلِّ.
هذا وقد قيل إنَّ الضَّمير في قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ} لله عزَّ وجلَّ وفي صلاته وتسبيحه لكلٌّ أي قد علَم الله تعالى صلاةَ كلِّ واحدٍ ممَّا في السَّمواتِ والأرضِ وتسبيحه فالاعتراضُ حينئذٍ مقررٌ لمضمونه على الوجهينِ لكن لا على أنْ تكونَ ما عبارةً عمَّا تعلَّق به علمُه تعالى من صلاتِه وتسبيحِه بل عن جميع أحوالِه العارضةِ له وأفعاله الصَّادرةِ عنه وهما داخلتانِ فيها دخولاً أوليًّا.