فصل: تفسير الآية رقم (54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (54):

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}
{قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} كرَّر الأمرَ بالقول لإبراز كمالِ العنايةِ به والإشعارِ باختلافهما من حيثُ أنَّ المقولَ في الأوَّلِ نهيٌ بطريق الردِّ والتَّقريعِ كما في قولِه تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} وفي الثَّاني أمرٌ بطريقِ التَّكليفِ والتَّشريعِ، وإطلاقُ الطَّاعة المأمورِ بها عن وصفِ الصحَّةِ والإخلاصِ ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما ذُكر للتَّنبيه على أنَّها ليستْ من الطَّاعةِ في شيءٍ أصلاً. وقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} خطابٌ للمأمورين بالطَّاعةِ من جهتِه تعالى واردٌ لتأكيد الأمر بها والمبالغةِ في إيجاب الامتثال به والحملِ عليه بالتَّرهيب والتَّرغيبِ لما أنَّ تغييرَ الكلامِ المسوقِ لمعنى من المعاني وصرفِه عن سَننِه المسلوكِ ينبىءُ عن اهتمامٍ جديدٍ بشأنه من المتكلِّم ويستجلبُ مزيدَ رغبةٍ فيه من السَّامعِ كما أُشير إليه في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} لاسيما إذا كان ذلك بتغيير الخطابِ بالواسطةِ إلى الخطابِ بالذَّاتِ فإنَّ في خطابِه تعالى إيَّاهم بالذَّات بعد أمرِه تعالى إيَّاهم بوساطتِه عليه السَّلامُ وتصدِّيه لبيان حُكمِ الامتثالِ بالأمر والتولِّي عنه إجمالاً وتفصيلاً من إفادةِ ما ذُكر من التَّأكيدِ والمُبالغةِ ما لا غايةَ وراءَهُ وتَوهُّم أنَّه داخل تحت القولِ المأمور بحكايتِه من جهته تعالى وأنَّه أبلغُ في التَّبكيتِ تعكيسٌ للأمرِ والفاء لترتيبِ ما بعدها على تبليغِه عليه السَّلامُ للمأمور به إليهم، وعدمُ التَّصريحِ به للإيذانِ بغاية ظهورِ مسارعتِه عليه السَّلامُ إلى تبليغ ما أُمرَ به وعدم الحاجةِ إلى الذِّكرِ أي إنْ تتولَّوا عن الطَّاعةِ إثرَ ما أُمرتم بهَا {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} أي فاعلمُوا أنَّما عليه عليه السَّلام {مَا حُمّلَ} أي أُمر به من التَّبليغِ وقد شاهدتمُوه عند قوله: أطيعوا الله والرسول {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ} أي ما أُمرتم به من الطَّاعة، ولعلَّ التَّعبيرَ عنه بالتَّحميل للإشعارِ بثقله وكونِه مُؤنةً باقيةً في عهدتِهم بعدُ، كأنَّه قيل: وحيثُ توليتُم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحملِ الثَّقيلِ. وقولُه تعالى: {مَا حُمّلَ} محمولٌ على المُشاكلة {وَإِن تُطِيعُوهُ} أي فيما أَمركم به من الطَّاعةِ {تَهْتَدُواْ} إلى الحقِّ الذي هو المقصدُ الأصليُّ المُوصلُ إلى كلِّ خيرٍ والمُنجِّي من كلِّ شرَ، وتأخيرُه عن بيانِ حكم التَّولِّي لما في تقديم التَّرهيبِ من تأكيد التَّرغيبِ وتقريبه ممَّا هو من بابه من الوعد الكريمِ. وقولُه تعالى: {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله من أنَّ غائلةَ التولِّي وفائدة الإطاعةِ مقصورتانِ عليهم واللامُ إمَّا للجنسِ المُنتظمِ له عليه السَّلامُ انتظاماً أوليًّا أو للعهد أي ما على جنس الرَّسولِ كائناً مَن كان أو ما عليه عليه السَّلامُ إلاَّ التَّبليغُ الموضِّحُ لكلِّ ما يَحتاج إلى الإيضاحِ، أو الواضحُ على أنَّ المُبينَ مِن أبانَ بمعنى بانَ وقد علمتُم أنَّه قد فعله بما لا مزيدَ عليه وإنما بقيَ ما حُمِّلتم.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)}
وقوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ} استئنافٌ مقرِّرٌ لما في قوله تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} من الوعد الكريمِ ومُعربٌ عنه بطريق التَّصريحِ ومبينٌ لتفاصيلِ ما أُجمل فيه من فنون السَّعاداتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّة التي هي من آثار الاهتداءِ ومتضمِّنٌ لما هو المرادُ بالطَّاعة التي نيطَ بها الاهتداءُ والمرادُ بالذين آمنُوا كلُّ من اتَّصف بالإيمان بعد الكُفر على الإطلاق من أيِّ طائفةٍ كان وفي أيِّ وقتٍ كان لا مَن آمنَ من طائفةِ المُنافقين فقط ولا مَن آمنَ بعد نزولِ الآيةِ الكريمةِ فحسب ضرورةَ عمومِ الوعد الكريم للكلِّ كافَّةً فالخطاب في منكم لعامَّةِ الكَفَرةِ لا للمنافقين خاصَّةً ومِن تبعيضيَّةٌ.
{وَعَمِلُواْ الصالحات} عطفٌ على آمنُوا داخلٌ معه في حيِّزِ الصِّلةِ وبه يتمُّ تفسيرُ الطَّاعةِ التي أُمر بها ورُتِّب عليها ما نُظم في سلك الوعدِ الكريمِ كما أُشير إليه. وتوسيطُ الظَّرف بين المعطُوفينِ لإظهار أصالةِ الإيمانِ وعراقتِه في استتباع الآثارِ والأحكامِ وللإيذانِ بكونِه أوَّلَ ما يُطلب منهم وأهمَّ ما يجبُ عليهم، وأمَّا تأخيرُه عنهما في قولِه تعالى: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} فلأنَّ مِن هناك بيانيَّةٌ والضَّميرُ للذين معه عليه السَّلامُ من خُلَّصِّ المؤمنين ولا ريبَ في أنَّهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصَّالحةِ مثابرون عليهما فلابد من ورود بيانِهم بعد ذكر نُعوتهم الجليلة بكمالِها، هذا ومَن جعلَ الخطابَ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللأُمةِ عُموماً على أنَّ مِن تبعيضيَّةٌ أوْ له عليهِ السَّلامُ ولمن معه من المُؤمنينَ خُصوصاً على أنَّها بيانيَّةٌ فقد نَأَى عمَّا يقتضيهِ سباقُ النَّظمِ الكريمِ وسياقُه بمنازلَ، وأبعدَ عمَّا يليقُ بشأنه عليه السَّلامُ بمراحلَ {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} جوابٌ للقسم إمَّا بالإضمار أو بتنزيل وعدِه تعالى منزلةَ القسمِ لتحقُّق إنجازِه لا محالةَ أي ليجعلنَّهم خلفاءَ مُتصرِّفين فيها تصرُّفَ الملوكِ في ممالكهم أو خَلَفاً من الذين لم يكونُوا على حالهم من الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ.
{كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} هم بنوُ إسرائيلَ استخلفهم عزَّ وجلَّ في مصرَ والشَّامَ بعد إهلاكِ فرعونَ والجبابرةِ أو هُم ومَن قبلهم من الأمم المؤمنةِ التي أُشير إليهم في قولِه تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ} إلى قوله تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ} ومحلُّ الكافِ النَّصبُ على أنَّه مصدرٌ تشبيهيٌّ مؤكِّدٌ للفعل بعد تأكيدِه بالقسم وما مصدريةٌ أي ليستخلفنَّهم استخلافاً كائناً كاستخلافِه للذينَ من قبلِهم. وقرئ: {كما استُخلفَ} على البناء للمفعول فليس العاملُ في الكاف حينئذٍ الفعل المذكور بل ما يدلُّ هو عليه من فعلٍ مبنيَ هو للمفعول جارٍ منه مجرى المطاوعِ فإنَّ استخلافَه تعالى إيَّاهم مستلزمٌ لكونِهم مستخلَفين لا محالة كأنَّه قيل: ليستخلفنَّهم في الأرض فيُستخلفُنَّ فيها استخلافاً أيْ مستخلفيَّةً كائنةً كمستخلفيَّةِ مَن قبلهم وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى: {كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ} ومن هذا القَبيلِ قوله تعالى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} على أحدِ الوجهينِ أي فنبتتْ نباتاً حسناً وعليه قولُ مَن قال:
وعضَّةُ دَهْرٍ يا ابنَ مَرْوَانَ لَم تَدَع ** مِن المَالِ إلا مُسحَتٌ أو مُجلَّفُ

أي فلم يبق إلا مُسحتٌ إلخ {وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ} عطفٌ على ليستخلفنَّهم منتظم معه في سلك الجوابِ وتأخيرُه عنه مع كونه أجلَّ الرَّغائبِ الموعودة وأعظمها لما أنَّ النُّفوسَ إلى الحظوظِ العاجلة أميلُ فتصدير المواعيد بها في الاستمالةِ أدخلُ والمعنى ليجعلنَّ دينَهم ثابتاً مُقرَّراً بحيثُ يستمرُّون على العمل بأحكامِه ويرجعون إليهِ في كلِّ ما يأتُون وما يذرُون والتَّعبيرُ عن ذلك بالتَّمكينِ الذي هو جُعل الشَّيءِ مكاناً لآخرَ يُقال: مكَّن له في الأرضِ أي جعلها مقرًّا له ومنه قولُه تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} ونظائرُه، وكلمة في للإيذانِ بأنَّ ما جُعل مقرًّا له قطعةٌ منها لا كلُّها للدِّلالةِ على كمال ثبات الدِّين ورصانةِ أحكامِه وسلامتِه من التَّغييرِ والتَّبديلِ لابتنائه على تشبيهِه بالأرض في الثَّبات والقرار مع ما فيه من مُراعاةِ المُناسبة بينه وبين الاستخلافِ في الأرضِ. وتقديمُ صلةِ التَّمكينِ على مفعوله الصَّريحِ للمُسارعةِ إلى بيان كونِ الموعودِ من منافعِهم تشويقاً لهم إليه وترغيباً لهم في قبوله عند ورودِه ولأنَّ في توسيطها بينَهُ وبينَ وصفِه أعني قوله تعالى: {الذى ارتضى لَهُمْ} وفي تأخيرِها عنه من الإخلالِ بجَزَالةِ النَّظمِ الكريم ما لا يَخْفى وفي إضافة الدِّين إليهم وهو دينُ الإسلامِ ثم وصفُه بارتضائه لهم تأليفٌ لقلوبِهم ومزيدُ ترغيبٍ فيه وفضلُ تثبيتٍ عليه.
{وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ} بالتَّشديدِ وقرئ بالتَّخفيفِ من الإبدالِ {مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ} أي من الأعداءِ {مِنَ} حيثُ كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل الهجرةِ عشرَ سنين بل أكثرَ خائفين ثم هاجرُوا إلى المدينةِ وكانوا يُصبحون في السِّلاحِ ويُمسون كذلك حتى قالَ رجلٌ منهم: ما يأتي علينا يومٌ نأمنُ فيه؟ فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لا تعبُرون إلاَّ يسيراً حتى يجلسَ الرَّجلُ منكم في الملإِ العظيمِ مُحتبياً ليس معه حديدةٌ» فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ وأنجز وعدَه وأظهرَهم على جزيرةِ العربِ وفتح لهم بلادَ الشَّرقِ والغربِ وصاروا إلى حالٍ يخافُهم كلُّ مَن عداهُم. وفيه من الدِّلالةِ على صحَّة النُّبوةِ للإخبارِ بالغيبِ على ما هُو عليه قبل وقوعِه ما لا يخفى. وقيل: المرادُ الخوفُ من العذابِ والأمنُ منه في الآخرةِ {يَعْبُدُونَنِى} حالٌ من الموصول الأوَّلِ مفيدةٌ لتقييد الوعد بالثَّباتِ على التَّوحيدِ، أو استئنافٌ ببيانِ المُقتضي للاستخلافِ وما انتظم معه في سلكِ الوعدِ {لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً} حالٌ من الواوِ أي يعبدوننِي غيرَ مشركين بي في العبادة شيئاً {وَمَن كَفَرَ} أي اتَّصف بالكُفر بأنْ ثبتَ واستمرَّ عليه ولم يتأثَّر بما مرَّ من التَّرهيب والتَّرغيبِ فإنَّ الإصرارَ عليه بعد مُشاهدةِ دلائلِ التَّوحيدِ كفرٌ مستأنفٌ زائدٌ على الأصل، وقيل: كفرَ بعد الإيمانِ وقيل: كفرَ هذه النِّعمةَ العظيمةَ، والأوَّلُ هو الأنسبُ بالمقامِ {بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد ذلك الوعدِ الكريمِ بما فُصِّل من المطالب العاليةِ المستوجبةِ لغاية الاهتمامِ بتحصيلها والسعيِ الجميلِ في حيازتِها {فَأُوْلَئِكَ} البُعداءُ عن الحقِّ التائهون في تيهِ الغَواية والضَّلال {هُمُ الفاسقون} الكاملون في الفِسق والخروجِ عن حُدودِ الكُفر والطُّغيانِ.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)}
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيهِ النِّظامُ فإنَّ خطابَه تعالى للمأمورينَ بالطَّاعةِ على طريقِ التَّرهيبِ من التَّولِّي بقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} الخ، وترغيبَه تعالى إيَّاهم في الطَّاعة بقوله تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} الخ، ووعدَه تعالى إيَّاهم على الإيمان والعملِ الصَّالحِ بما فُصِّل من الاستخلافِ وما يتلُوه من الرَّغائبِ الموعُودةِ ووعيدَه على الكفرِ ممَّا يوجبُ الأمرَ بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ والنَّهيِ عن الكُفر فكأنَّه قيل: فآمِنُوا واعملُوا صالحاً وأقيمُوا أو فلا تكفرُوا وأقيمُوا، وعطفُه على أطيعُوا الله مما لا يليقُ بجزالةِ النَّظمِ الكريمِ {وَأَطِيعُواْ الرسول} أمرهم الله سبحانه وتعالى بالذَّاتِ بما أمرَهم به بواسطة الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من طاعتِه التي هي طاعتُه تعالى في الحقيقة تأكيداً للأمرِ السَّابقِ وتقريراٌ لمضمونه على أنَّ المرادَ بالمُطاع فيه جميعُ الأحكامِ الشَّرعيةِ المنتظمةِ للآداب المرضيَّةِ أيضاً أي وأطيعُوه في كلِّ ما يأمرُكم به وينهاكم عنه أو تكميلاً لما قبله من الأمرينِ الخاصَّينِ المتعلِّقينِ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ على أنَّ المرادَ بما ذُكر ما عداهما من الشَّرائعِ أي وأطيعُوه في سائر ما يأمرُكم به الخ، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} متعلِّقٌ على الأوَّلِ بالأمرِ الأخيرِ المُشتمل على جميعِ الأوامرِ وعلى الثَّانِي بالأوامرِ الثَّلاثةِ أي افعلُوا ما ذُكر من الإقامةِ والإيتاءِ والإطاعةِ راجينَ أنْ تُرحموا.

.تفسير الآية رقم (57):

{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}
{لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ} لمَّا بُيِّن حالَ من أطاعَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُشير إلى فوزِه بالرَّحمةِ المُطلقة المستتبعةِ لسعادةِ الدَّارينِ عُقّب ذلك ببيانِ حالِ مَن عصاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومآلِ أمرِه في الدُّنيا والآخرةِ بعد بيانِ تناهيهِ في الفسقِ تكميلاً لأمرِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ والخطاب إما لكلِّ أحد ممَّن يصلح له كائناً من كانَ وإمَّا للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على منهاج قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} ونظائرِه للإيذانِ بأنَّ الحُسبانَ المذكورَ من القُبحِ والمحذوريَّةِ بحيث يُنهى عنه مَن يمتنعُ صدورُه عنه فكيف بمَن يمكن ذلك منه؟ ومحلُّ الموصولِ النَّصبُ على أنَّه مفعولٌ أوَّلٌ للحُسبانِ وقوله تعالى: {معاجزين} ثانيهما وقوله تعالى: {فِى الأرض} ظرفٌ لمعجزين لكن لا لإفادةِ كون الإعجاز المنفيّ فيها لا في غيرها فإن ذلك مما لا تحتاج إلى البيان بل لإفادة شمولِ عدم الإعجازِ بجميعِ أجزائِها أي لا تحسبنَّهم مُعجزين الله عزَّ وجلَّ عن إدراكِهم وإهلاكِهم في قطرٍ من أقطارِ الأرضِ بما رحُبتْ وإنْ هربُوا منها كلَّ مهربٍ. وقرئ: {لا يَحسَبنَّ} بياءِ الغَيبةِ على أنَّ الفاعلَ كلُّ أحدٍ والمعنى كما ذُكر أي لا يَحسبنَّ أحدٌ الكافرينَ معجزين له سبحانَهُ في الأرضِ أو هو الموصولُ والمفعولُ الأوَّلُ محذوفٌ لكونه عبارةً عن أنفسِهم كأنَّه قيل: لا يحسبنَّ الكافرونَ أنفسَهم مُعجزين في الأرضِ وأما جعلُ معجزين مفعولاً أوَّلَ وفي الأرضِ مفعولاً ثانياً فبمعزلٍ من المُطابقة لمقتضى المقامِ ضرورةَ أنَّ مصبَّ الفائدةِ هو المفعولُ الثَّاني ولا فائدةَ في بيانِ كونِ المُعجزين في الأرضِ وقد مرَّ في قولِه تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} وقولِه تعالى: {وَمَأْوَاهُمُ النار} معطوفٌ على جملة النَّهيِ بتأويلِها بجُملةٍ خبريَّةٍ لأنَّ المقصودَ بالنَّهيِ عن الحُسبان تحقيقُ نفيِ الحُسبانِ كأنَّه قيل: ليسَ الذين كفرُوا مُعجزين ومأواهم الخ، أو على جملةٍ مقدَّرةٍ وقعتْ تعليلاً للنَّهيِ كأنَّه قيل: لا تحسبنَّ الذين كفرُوا معجزين في الأرضِ فإنَّهم مُدرَكُونَ ومأواهم الخ، وقيل: الجملةُ المقدَّرةُ بل هم مقهورون فتدبَّرْ {وَلَبِئْسَ المصير} جوابٌ لقسمٍ مقدَّرٍ والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ أي وبالله لبئسَ المصيرُ هي أي النَّارُ والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله وفي إيراد النَّارِ بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم إثرَ نفيِ فَوتِهم بالهرب في الأرض كلَّ مهرَبٍ من الجَزَالة ما لا غايةَ وراءَهُ فللَّه درُّ شأنِ التَّنزيلِ.

.تفسير الآية رقم (58):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)}
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ} رجوع إلى بيان تتمةِ الأحكامِ السَّابقةِ بعد تمهيدِ ما يُوجب الامتثالَ بالأوامر والنَّواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاَّحقةِ من التمثيلات والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ والوعدِ والوعيدِ. والخطابُ إمَّا للرِّجالِ خاصَّةً، والنِّساءُ داخلاتٌ في الحكم بدلالة النَّصِّ أو للفريقينِ جميعاً بطريقِ التَّغليبِ. رُوي أنَّ غلاماً لأسماءَ بنتِ أبي مَرْثَدٍ دخل عليها في وقتٍ كرهتْهُ فنزلتْ، وقيلَ: أرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِدْلَجَ بنَ عمروٍ الأنصاريَّ وكان غُلاماً وقتَ الظَّهيرةِ ليدعوَ عُمرَ رضي الله عنه فدخلَ عليه وهو نائمٌ قد انكشفَ عنه ثوبُه، فقال عمرُ رضي الله عنه: لوددتُ أنَّ الله تعالى نَهَى آباءَنا وأبناءَنا وخدمَنا أنْ لا يدخلوا علينا هذه السَّاعاتِ إلا بإذنٍ ثمَّ انطلقَ معه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فوجدَه وقد أُنزلتْ عليه هذه الآيةُ.
{لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} من العبيدِ والجَوَاري {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم} أي الصِّبيانُ القاصرُون عن درجة البلوغِ المعهود. والتَّعبيرُ عنه بالحُلُم لكونِه أظهرَ دلائلِه {مّنكُمْ} أي من الأحرارِ {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} أي ثلاثةَ أوقاتٍ في اليَّومِ واللَّيلةِ. والتَّعبيرُ عنها بالمرَّات للإيذانِ بأنَّ مدارَ وجوبِ الاستئذانِ مقارنةُ تلك الأوقاتِ لمرور المستأذنينَ بالمخاطبينَ لا أنفسِها {مّن قَبْلِ صلاة الفجر} لظهورِ أنَّه وقتُ القيامِ من المضاجعِ وطرحِ ثيابِ النَّومِ ولبسِ ثيابِ اليقظةِ، ومحلُّه النَّصبُ على أنَّه بدلٌ من ثلاثَ مرَّاتٍ أو الرَّفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي أحدُها من قبل إلخ {وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم} أي ثيابَكم التي تلبسونَها في النَّهارِ وتخلعونَها لأجل القَيلولةِ وقوله تعالى: {مّنَ الظهيرة} وهي شدَّةُ الحرِّ عند انتصافِ النَّهارِ بيانٌ للحينِ. والتَّصريحُ بمدارِ الأمرِ أعني وضعَ الثِّيابِ في هذا الحينِ دُون الأوَّلِ والآخرِ لما أنَّ التَّجردَ عن الثِّيابِ فيه لأجل القيلولةِ لقلَّة زمانِها كما ينبىءُ عنها إيرادُ الحين مُضافاً إلى فعلٍ حادثٍ منقضَ ووقوعُها في النَّهارِ الذي هُو مَئِنَّةٌ لكثرةِ الورودِ والصُّدورِ ومَظِنَّةٌ لظهورِ الأحوالِ وبروزِ الأمورِ ليسَ من التَّحقُّقِ والاطرادِ بمنزلةِ ما في الوقتينِ المذكورينِ فإنَّ تحقُّقَ التَّجردِ واطِّرادَه فيهما أمرٌ معروفٌ لا يحتاجُ إلى التَّصريحِ به {وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء} ضرورةَ أنَّه وقتُ التَّجردِ عن اللِّباسِ والالتحافِ باللِّحافِ وليسَ المرادُ بالقبليَّةِ والبعديَّةِ المذكورتينِ مطلقَهُما المتحقِّقَ في الوقتِ الممتدِّ المتخللِ بينَ الصَّلاتينِ كما في قوله تعالى: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} بل ما يعرض منهما لطرفي ذلك الوقتِ الممتدِّ المتصلين بالصَّلاتينِ المذكورتينِ اتِّصالاً عاديّاً. وقولُه تعالى: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ. وقولُه تعالى: {لَكُمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لثلاثُ عوراتٍ أي كائنةٌ لكم والجملةُ استئنافٌ مسوقٌ لبيان علَّةِ وجوبِ الاستئذانِ أي هنَّ ثلاثةُ أوقاتٍ يختلُّ فيها التَّستُّر عادةً.
والعورةُ في الأصلِ هو الخللُ غلبَ في الخللِ الواقعِ فيما يهمُّ حفظُه ويُعتنى بسترِه. أُطلقتْ على الأوقاتِ المُشتملةِ عليها مبالغةً كأنَّها نفسُ العورةِ. وقرئ: {ثلاثَ عوراتٍ} بالنَّصبِ بدلاً من ثلاثَ مرَّاتٍ.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ} أي على المماليكِ والصِّبيانِ {جُنَاحٌ} أي إثمٌ في الدُّخولِ بغيرِ استئذانٍ لعدمِ ما يُوجبه من مخالفةِ الأمرِ والاطِّلاعِ على العوراتِ {بَعْدَهُنَّ} أي بعد كلِّ واحدةٍ من تلك العوراتِ الثَّلاثِ وهي الأوقاتُ المتخلِّلةُ بين كلِّ اثنتينِ منهنَّ وإيرادُها بعُنوان البعديَّةِ مع أنَّ كلَّ وقتٍ من تلكَ الأوقاتِ قبل عورةٍ من العَورات كما أنَّها بعد أخرى منهنَّ لتوفيةِ حقِّ التَّكليفِ والتَّرخيصِ الذي هو عبارةٌ عن رفعه إذ الرُّخصةُ إنَّما تتصور في فعل يقعُ بعد زمان وقوعِ الفعلِ المكلَّف، والجملة على القراءتينِ مستأنفةٌ مسوقة لتقرير ما قبلها بالطَّردِ والعكس وقد جُوِّز على القراءة الأولى كونُها في محلِّ رفعٍ على أنَّها صفة أخرى لثلاثُ عوراتٍ وأمَّا على القراءة الثَّانيةِ فهي مستأنفةٌ لا غير إذ لو جُعلت صفةً لثلاثُ عورات وهي بدلٌ من ثلاثَ مرَّاتٍ لكانَ التَّقديرُ ليستأذنكم هؤلاءِ في ثلاث عورات لا إثمَ في ترك الاستئذانِ بعدهنَّ وحيثُ كان انتفاءُ الإثمِ حينئذٍ ممَّا لم يعلمه السَّامعُ إلا بهذا الكلامِ لم يتسنَّ إبرازُه في معرض الصِّفةِ بخلافِ قراءة الرَّفع فإنَّ انتفاءَ الإثمِ حينئذٍ معلومٌ من صدر الكلام وقوله تعالى: {طوافون عَلَيْكُمْ} استئنافٌ ببيان العذر المرخَّص في ترك الاستئذان وهي المخالطةُ الضَّروريةُ وكثرةُ المداخلةِ وفيه دليلٌ على تعليل الأحكامِ وكذا في الفرق بين الأوقات الثَّلاثةِ وبين غيرِها بكونها عَورات.
{بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} أي بعضكم طائفٌ على بعضٍ طوافاً كثيراً أو بعضُكم يطوفُ على بعضٍ {كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ الفعلِ الذي بعدَه، وما فيه من معنى البُعد لما مرَّ مراراً من تفخيم شأنِ المشار إليهِ حسّاً أي مثلَ ذلك التَّبيين {يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} الدَّالة على الأحكامِ أي ينزلها بينةً واضحة الدلالاتِ عليها لا أنَّه تعالى يبينها بعد أنْ لم تكن كذلك والكافُ مقحمةٌ وقد مرَّ تفصيلُه في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} ولكم متعلِّق بيبين وتقديمُه على المفعول الصَّريحِ لما مرَّ مراراً من الاهتمام بالمقدَّم والتَّشويقِ إلى المؤخَّر وقيل: يبين عللَ الأحكامِ وليس بواضحٍ مع أنَّه مؤدٍ إلى تخصيص الآياتِ مما ذُكر هاهنا {والله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ بجميع المعلوماتِ فيعلم أحوالَكم {حَكِيمٌ} في جميع أفاعيلِه فيشرع لكُم ما فيه صلاحُ أمرِكم معاشاً ومعاداً.