فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (59):

{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}
{وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} لمَّا بيِّن فيما مرَّ آنفاً حكمَ الأطفالِ في أنَّه لا جناح عليهم في ترك الاستئذانِ فيما عدا الأوقاتِ الثلاثة عقب ببيان حالِهم بعد البلوغِ دفعاً لمَا عسى يُتوهم أنَّهم وإنْ كانُوا أجانبَ ليسُوا كسائرِ الأجانبِ بسببِ اعتيادهم الدُّخولَ أي إذا بلغَ الأطفالُ الأحرارُ الأجانبُ {فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} إذا أرادُوا الدخولَ عليكم وقوله تعالى: {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} في حيِّز النَّصبِ على أنَّه نعتٌ لمصدر مؤكِّد للفعل السَّابقِ والموصول عبارةٌ عمَّن قيل لهم: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} الآية، ووصفهم بكونِهم قبل هؤلاء باعتبار ذكرِهم قبل ذكرِهم لا باعتبار بلوغِهم قبل بلوغِهم كما قيل لما أنَّ المقصودَ بالتشبيه بيانُ كيفيَّةِ استئذان هؤلاءِ وزيادةُ إيضاحِه ولا يتسنَّى ذلك إلا بتشبيهِه باستئذانِ المعهودين عند السَّامعِ ولا ريبَ في أنَّ بلوغهم قبلَ بلوغِ هؤلاءِ مما لا يخطُر ببال أحدٍ وإنْ كان الأمرُ كذلك في الواقع وإنَّما المعهودُ المعروفُ ذكرهم قبلَ ذكرِهم أي فليستأذنُوا استئذاناً كائناً مثل استئذانِ المذكورينَ قبلهم بأنْ يستأذنُوا في جميع الأوقاتِ ويرجعُوا إنْ قيل لهم: ارجعُوا حسبما فُصِّل فيما سلف {كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الكلامُ فيه كالذي سبقَ والتَّكريرُ للتأكيد والمبالغةِ في الأمر بالاستئذانِ، وإضافةُ الآياتِ إلى ضمير الجلالةِ لتشريفها.

.تفسير الآيات (60- 61):

{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}
{والقواعد مِنَ النساء} أي العجائزُ اللاتي قعدنَ عن الحيض والحملِ {اللاتى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} أي لا يطمعنَ فيه لكبرهنَّ {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي الثيابَ الظَّاهرةَ كالجلباب ونحوِه، والفاءُ فيه لأن اللاَّمَ في القواعدِ بمعنى اللاَّتِي أو للوصفِ بها {غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} غير مظهراتٍ لزينةٍ ممَّا أمر بإخفائِه في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} وأصلُ التَّبرجِ التَّكلُّفُ في إظهارِ ما يَخْفى من قولِهم: سفينةٌ بارجةٌ لا غطاءَ عليها والبَرَجُ سعةُ العينِ بحيث يُرى بياضُها محيطاً بسوادِها كلِّه إلا أنَّه خُصَّ بكشفِ المرأةِ زينتَها ومحاسنَها للرِّجال {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} بترك الوضعِ {خَيْرٌ لَّهُنَّ} من الوضعِ لبُعده من التُّهمَة {والله سَمِيعٌ} مبالغٌ في سمعِ جميعِ ما يُسمع فيسمعُ ما يَجري بينهنَّ وبين الرِّجالِ من المقاولةِ {عَلِيمٌ} فيعلم مقاصدهنَّ وفيه من التَّرهيبِ ما لا يخفى.
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} كانت هؤلاء الطوائفُ يتحرَّجُون من مؤاكلةِ الأصحَّاءِ حِذاراً من استقذارِهم إيَّاهم وخَوفاً من تأذِّيهم بأفعالِهم وأوضاعِهم فإنَّ الأعمى رُبَّما سبقتَ يدُه إلى ما سبقتْ إليه عينُ أكيلِه وهو لا يشعرُ به والأعرجُ يتفسَّح في مجلسِه فيأخذُ أكثرَ من موضعِه فيضيقُ على جليسِه والمريضُ لا يخلُو عن حالةٍ تُؤذي قرينَه. وقيل: كانُوا يدخلُون على الرَّجل لطلبِ العلمِ فإذا لم يكُن عنده ما يُطعمهم ذهبَ بهم إلى بيوتِ آبائِهم وأمَّهاتِهم أو إلى بعضِ مَن سمَّاهم الله عزَّ وجلَّ في الآيةِ الكريمةِ فكانُوا يتحرَّجون من ذلكَ ويقولُون: ذهبَ بنا إلى بيتِ غيرِه ولعلَّ أهلَه كارهون لذلكَ وكذا كانُوا يتحرَّجُون من الأكلِ من أموالِ الذينَ كانُوا إذا خرجُوا إلى الغزوِ خلَّفوا هؤلاءِ الضُّعفاءَ في بيوتِهم ودفعُوا إليهم مفاتيحَها وأذنُوا لهم أنْ يأكلُوا مما فيها مخافةَ أنْ لا يكون إذنُهم عن طيبِ نفسٍ منهم وكانَ غيرُ هؤلاء أيضاً يتحرَّجون من الأكلِ في بيوتِ غيرِهم فقيل لهم: ليسَ على الطوائفِ المعدودةِ {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} أي عليكم وعلى مَن يُماثلكم في الأحوالِ من المؤمنينَ حرجٌ {أَن تَأْكُلُواْ} أي تأكلُوا أنتُم وهم معكم. وتعميمُ الخطابِ للطَّوائفِ المذكورةِ أيضاً يأباهُ ما قبله وما بعدَه فإنَّ الخطابَ فيهما لغير أولئكَ الطَّوائفِ حتماً {مِن بُيُوتِكُمْ} أي البيوتِ التي فيها أزواجُكم وعيالُكم فيدخل فيها بيوتُ الأولادِ لأنَّ بيتَهم كبيتِه لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنتَ ومالُكَ لأبيكَ» وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «إنَّ أطيبَ مالِ الرَّجلِ من كسبِه وإنَّ ولدَه من كسبِه» {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} وقرئ بكسرِ الهمزةِ والميمِ وبكسرِ الأُولى وفتحِ الثَّانيةِ {أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} من البيوتِ التي تملكُون التَّصرفَ فيها بإذنِ أربابِها على الوجهِ الذي مرَّ بيانُه، وقيل: هي بيوتُ المماليكِ، والمفاتحُ جمع مِفْتحٍ وجمعُ المفتاحِ مفاتيحُ.
وقرئ: {مُفتاحَه} {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي أو بيوتِ صديقِكم وإنْ لم يكُن بينكم وبينهم قرابةٌ نَسَبيةٌ فإنَّهم أرضى بالتَّبسطِ وأسرُّ به من كثيرٍ من الأقرباءِ. رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أنَّ الصَّديقَ أكبرُ من الوالدينِ إن الجهنميين لمَّا استغاثُوا لم يستغيثوا بالآباءِ والأمَّهاتِ بل قالُوا: فما لنا من شافعينَ ولا صديقٍ حميم، والصَّديقُ يقعُ على الواحدِ والجمعِ كالخَليط والقَطينِ وأضرابِهما وهذا فيما إذا عَلم رضَا صاحبِ البيتِ بصريحِ الإذنِ أو بقرينةٍ دالَّةٍ عليه ولذلكَ خُصص هؤلاءِ بالذِّكرِ لاعتيادِهم التَّبسطَ فيما بينُهم وقولُه تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} كلامٌ مستأنفٌ مسوق لبيانِ حكمٍ آخرَ من جنسِ ما بُيِّن قبله حيثُ كان فريقٌ من المؤمنينَ كبني ليثِ بنِ عمروٍ من كِنانةَ يتحرَّجون أنْ يأكلُوا طعامَهم مُنفردين وكانَ الرَّجلُ منهم لا يأكلُ ويمكثُ يومَه حتَّى يجدَ ضيفاً يأكلُ معه فإنْ لم يجدْ من يُؤاكله لم يأكلْ شيئاً ورُبَّما قعدَ الرَّجلُ والطَّعامُ بين يديهِ لا يتناولُه من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ ورُبَّما كانتْ معه الإبلُ الحُفّلِ فلا يشربُ من ألبانِها حتَّى يجدَ مَن يُشاربه فإذا أمسى ولم يجدْ أحداً أكلَ، وقيل: كان الغنيُّ منهم يدخلُ على الفقيرِ من ذوي قرابته وصداقتِه فيدعُوه إلى طعامِه فيقول: إنِّي أتحرَّجُ أنْ آكلَ معك وأنا غنيٌّ وأنت فقيرٌ، وقيل: كان قومٌ من الأنصار لا يأكلون إذا نزلَ بهم ضيفٌ إلا مع ضيفِهم فرُخِّص لهم في أن يأكلُوا كيف شاءوا، وقيل: كانوا إذا اجتمعُوا ليأكلوا طعاماً عزلُوا للأعمى وأشباهِه طعاماً على حدةٍ فبيَّن الله تعالى أن ذلك ليس بواجبٍ وقوله تعالى: {جَمِيعاً} حالٌ من فاعلِ تأكلوا وأشتاتاً عطفٌ عليه داخلٌ في حُكمه وهو جمعُ شَتَ على أنَّه صفةٌ كالحقِّ يقال: أمر شتٌّ أي متفرِّقٌ أو على أنه في الأصلِ مصدرٌ وصف به مبالغةً أي ليس عليكم جناحٌ أنْ تأكلوا مجتمعين أو متفرِّقين {فَإِذَا دَخَلْتُمْ} شروع في بيان الآدابِ التي تجب رعايتها عند مباشرةِ ما رُخِّص فيه إثرَ بيان الرُّخصةِ فيه {بُيُوتًا} أي من البيوتِ المذكورة {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} أي على أهلِها الذين بمنزلة أنفسِكم لما بينكم وبينهُم من القرابة الدِّينيةِ والنَّسبيةِ الموجبة لذلك {تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله} أي ثابتةً بأمره مشروعةً من لدنه ويجوزُ أنْ يكون صلةً للتَّحية فإنَّها طلبُ الحياة التي هي من عنده تعالى وانتصابُها على المصدريَّةِ لأنَّها بمعنى التَّسليمِ {مباركة} مستتبعة لزيادة الخيرِ والثَّواب ودوامها {طَيّبَةً} تطيبُ بها نفسُ المستمع.
وعن أنس رضي الله عنه أنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: «متى لقيتَ أحداً من أمَّتي فسلِّم عليه يطُلْ عمرُك وإذا دخلتَ بيتَك فسلِّم عليهم يكثُر خيرُ بيتك وصلِّ صلاةَ الضُّحى فإنَّها صلاةُ الأبرارِ الأوَّابينَ» {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} تكرير لتأكيد الأحكامِ المختتمةِ به وتفخيمها {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي ما في تضاعيفها من الشَّرائعِ والأحكامِ وتعملون بموجبها وتحوزُون بذلك سعادةَ الدَّارين، وفي تعليل هذا التَّبيينِ بهذه الغاية القُصوى بعد تذييل الأولين بما يُوجبهما من الجَزَالةِ ما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (62):

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)}
{إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} استئنافٌ جيء به في أواخر الأحكام السَّابقةِ تقريراً لها وتأكيداً لوجوب مراعاتِها وتكميلاً لها ببيانِ بعضٍ آخرَ من جنسها وإنَّما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيِّز الصِّلةِ للموصولِ الواقع خبراً للمبتدأ مع تضمُّنِه له قطعاً تغيراً لما قبله وتمهيداً لما بعده وإيذاناً بأنه حفيفٌ بأن يجعل قريناً للإيمان بهما مُنتظماً في سلكه فقوله تعالى: {وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ} معطوفٌ على آمنُوا داخلٌ معه في حيِّز الصِّلةِ أي إنَّما الكاملون في الإيمانِ الذين آمنُوا بالله ورسولِه عن صميم قلوبهم وأطاعوهُما في جميع الأحكامِ التي من جُملتها ما فُصِّل من قبل من الأحكامِ المتعلِّقةِ بعامة أحوالِهم المطَّردة في الوقوع وأحوالِهم الواقعة بحسب الاتِّفاقِ كما إذا كانُوا معه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أمر مهمَ يجب اجتماعُهم في شأنه كالجمعةِ والأعيادِ والحروبِ وغيرِها من الأمور الدَّاعيةِ إلى اجتماع أولي الآراءِ والتَّجارِب، ووصف الأمر بالجمعِ للمبالغة وقرئ: {أمرٍ جميعٍ} {لَّمْ يَذْهَبُواْ} أي من المجمعِ مع كون ذلك الأمرِ مما لا يوجبُ حضورَهم لا محالةَ كما عند إقامة الجمعةِ ولقاء العدوِّ بل يسوِّغ التَّخلفَ عنه {حتى يَسْتَئذِنُوهُ} عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الذهابِ لا على أنَّ نفسَ الاستئذانِ غايةٌ لعدم الذَّهاب بل الغاية هي الإذنُ المنوط برأيِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والاقتصار على ذكرِه لأنَّه الذي يتمُّ من قبلهم وهو المعتبرُ في كمال الإيمانِ لا الإذنُ ولا الذهابُ المترتِّبُ عليه، واعتبارُه في ذلك لِما أنَّه كالمصداقِ لصحَّتِه والمميِّز للمخلصِ فيه عن المنافق فإنَّ ديدنه التَّسللُ للفرار ولتعظيم ما في الذهابِ بغير إذنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الجنايةِ وللتَّنبيهِ على ذلك عقب بقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَئْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} فقَضَى بأنَّ المستأذنينَ هم المؤمنون بالله ورسولِه كما حكم في الأول بأنَّ الكاملينَ في الإيمان هم الجامعونَ بين الإيمانِ بهما وبين الاستئذانِ وفي أولئك من تفخيم شأنِ المستأذنينَ ما لا يخفى {فَإِذَا استئذنوك} بيانٌ لما هو وظيفتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذا البابِ إثرَ بيانِ ما هو وظيفةُ المؤمنينَ وأن الإذن عند الاستئذانِ ليس بأمرٍ محتومٍ بل هو مفوَّض إلى رأيِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقَّق أنَّ الكاملين في الإيمان هم المستأذنُون فإذا استأذنوك {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي لبعضِ أمرِهم المهم وخَطبهم المُلِّمِ {فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} لما علمتَ في ذلك من حكمةٍ ومصلحةٍ {واستغفر لَهُمُ الله} فإنَّ الاستئذانَ وإنْ كان لعذرٍ قويَ لا يخلُو عن شائبةِ تقديمِ أمرِ الدُّنيا على أمرِ الآخرةِ {أَنَّ الله غَفُورٌ} مبالغ في مغفرةِ فرطاتِ العبادِ {رَّحِيمٌ} مبالغ في إفاضةِ آثار الرَّحمةِ عليهم. والجملةُ تعليلٌ للمغفرة الموعودةِ في ضمن الأمرِ بالاستغفار لهم.

.تفسير الآية رقم (63):

{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}
{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ} استئنافٌ مقرر لمضمون ما قبله والالتفاتُ لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأنه أي لا تجعلُوا دعوتَه عليه الصلاة والسلام إيَّاكم في الاعتقاد والعملِ بها {كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أي لا تقيسُوا دعاءَه عليه الصَّلاة والسَّلام إيَّاكُم على دعاء بعضِكم بعضاً في حالٍ من الأحوال وأمرٍ من الأمور التي من جُملتها المساهلةُ فيه والرُّجوعُ عن مجلسه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بغير استئذانٍ فإنَّ ذلكَ من المحرَّماتِ وقيل: لا تجعلُوا دعاءَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ربَّه كدعاءِ صغيرِكم كبيرَكم يجيبه مرَّةً ويردُّه أُخرى فإنَّ دعاءَه مستجابٌ لا مردَّ له عند الله عزَّ وجلَّ وتقريرُ الجملةِ حينئذٍ لما قبلها أما من حيثُ إنَّ استجابتَه تعالى لدعائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا يُوجب امتثالَهم بأوامره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومتابعتَهم له في الورود والصُّدورِ أكملَ إيجابٍ وأما من حيثُ إنها موجبةٌ للاحتراز عن التَّعرض لسخطه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المؤدِّي إلى ما يُوجبُ هلاكَهم من دعائه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عليهم، وأمَّا ما قيل من أنَّ المعنى لا تجعلُوا نداءَه عليه الصَّلاةُ والسلام كنداءِ بعضِكم بعضاً باسمِه ورفع الصَّوتِ والنِّداءِ من وراء الحجراتِ ولكن بلقبِه المعظَّم مثل: يا رسولَ الله يا نبيَّ الله، مع غايةِ التَّوقيرِ والتَّفخيمِ والتَّواضعِ وخفضِ الصَّوتِ فلا يناسب المقامَ فإن قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ} الخ، وعيدٌ لمخالفي أمرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما ذُكر من قبل فتوسيطُ ما ذكر بينهما ممَّا لا وجهَ له، والتَّسللُ الخروجُ من البين على التَّدريجِ والخفيةِ وقد للتَّحقيق كما أنَّ رُبَّ تجيء للتَّكثير حسبما بُيِّن في مطلع سورةِ الحجرِ أي يعلمُ الله الذين يخرجُون من الجماعة قليلاٌ قليلاً على خُفيةٍ {لِوَاذاً} أي مُلاوذةً بأن يستترَ بعضُهم ببعضٍ حتَّى يخرجَ أو بأن يلوذَ بمن يخرجُ بالإذنِ إراءةً أنَّه من أتباعِه. وقرئ بفتحِ اللاَّمِ وانتصابِه على الحاليةِ من ضمير يتسللون أي مُلاوذين أو على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد لفعل مضمرٍ هو الحالُ في الحقيقة أي يلوذُون لِواذاً، والفاء في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ} لترتيب الحذرِ أو الأمر به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنَّه ممَّا يُوجب الحذرَ البتةَ أي يخالفون أمرَه بترك مقتضاه ويذهبونَ سمتاً خلافَ سمتِه إما لتضمُّنه معنى الإعراضِ أو حملِه على معنى يصدُّون على أمره دُون المؤمنين من خالفَه عن الأمر إذا صدَّ عنه دونه، وحذفُ المفعولِ لما أنَّ المقصودَ بيانُ المُخالِفِ والمُخالَفَ عنه. والضَّميرُ لله تعالى لأنَّه الآمرُ حقيقةً أو للرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأنَّه المقصودُ بالذِّكر {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي محنةٌ في الدُّنيا {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الآخرةِ وكلمةُ أَوْ لمنع الخلوِّ دون الجمعِ وإعادة الفعلِ صريحاً للاعتناء بالتَّهديد والتَّحذيرِ واستُدلَّ به على أنَّ الأمرَ للإيجاب فإنَّ ترتيب العذابينِ على مخالفته كما يُعرب عنه التَّحذيرُ عن إصابتهما يوجبُ وجوبَ الامتثالِ به حتماً.

.تفسير الآية رقم (64):

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات والأرض} من الموجوداتِ بأسرِها خَلْقاً ومُلْكاً وتَصرُّفاً وإيجاداً وإعدَاماً بَدْءاً وإعادةً {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} أيُّها المُكلَّفون من الأحوالِ والأوضاعِ التي من جُملتها الموافقةُ والمخالفةُ والإخلاصُ والنِّفاقُ {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} عطفٌ على ما أنتُم عليه أي يعلمُ يومَ يُرجع المنافقون المخالفون للأمرِ إليه تعالى للجزاءِ والعقابِ وتعليقُ علمِه تعالى بيومِ رجوعِهم لا يرجعهم لزيادةِ تحقيق علمِه تعالى بذلك. وغايةُ تقريرِه لما أنَّ العلمَ بوقت وقوع الشيء مستلزمٌ للعلم بوقوعِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وفيه إشعارٌ بأنَّ علمَه تعالى لنفسِ رجوعِهم من الظُّهور بحيثُ لا يحتاجُ إلى البيانِ قطعاً. ويجوزُ أن يكونَ الخطابُ أيضاً خاصّاً بالمنافقين على طريقةِ الالتفاتِ. وقرئ: {يَرجعون} مبنيّاً للفاعلِ {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} من الأعمال السَّيئةِ التي من جُملتها مخالفةُ الأمر فيرتِّب عليه ما يليقُ به من التَّوبيخ والجزاء، وقد مرَّ وجهُ التَّعبيرِ عن الجزاء بالتنبئة في قوله تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} الآيةَ {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لا يعزبُ عنه مثقالُ ذَرَّةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأَ سُورةَ النُّور أُعطي من الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ فيما مَضَى وفيما بَقِي» والله سبحانَهُ وتعالَى أعلمُ.