فصل: تفسير الآيات (51- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (51- 53):

{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)}
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} نبيَّاً يُنذرُ أهلَها فيخفف عليك أعباءَ النبوةِ لكن لم نشأْ ذلك فلم نفعلْه بل قصرنا الأمرَ عليك حسبما ينطقُ به قوله تعالى: {لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً} إجلالاً لك وتعظيماً وتفضيلاً لك على سائر الرُّسلِ {فَلاَ تُطِعِ الكافرين} أي فقابل ذلك بالثَّباتِ والاجتهاد في الدَّعوةِ وإظهار الحقِّ والتَّشددِ معهم كأنَّه نهيٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن المُداراة معهم والتَّلطفِ في الدَّعوةِ لما أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يودُّ أنْ يدخلُوا في الإسلام ويجتهدُ في ذلك بتأليفِ قلوبهم أشدَّ الاجتهاد {وجاهدهم بِهِ} أي بالقُرآن بتلاوةِ ما في تضاعيفِه من القوارع والزَّواجرِ والمَواعظِ وتذكير أحوال الأممِ المكذِّبةِ {جِهَاداً كَبيراً} فإنَّ دعوةَ كلِّ العالمينَ على الوجهِ المذكورِ جهادٌ كبيرٌ لا يُقادرُ قدرُه كمًّا وكيفاً وقيل: الضَّميرُ المجرورُ لتِركِ الطَّاعةِ المفهوم من النَّهي عن الطَّاعةِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ مجرَّد تركِ الطَّاعةِ يتحقَّقُ بلا دعوةٍ أصلاً وليس فيه شائبةُ الجهادِ فضلاً عن الجهاد الكبيرِ اللهمَّ إلاَّ أنْ تجعلَ الباء للملابسةِ ليكون المعنى وجاهِدْهم بما ذُكر من أحكامِ القُرآن الكريم ملابَساً بتركِ طاعتِهم كأنَّه قيل: فجاهدْهم بالشِّدَّةِ والعُنفِ لا بالمُلاءمةِ والمُداراةِ كما في قوله تعالى: {ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} وقد جُعل الضَّميرُ لما دلَّ عليه قولُه تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} من كونه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نذيرَ كافَّةِ القُرى لأنَّه لو بُعث في كلِّ قرية نذيراً لوجبَ على كلِّ نذير مجاهدةُ قريتِه فاجتمعتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهداتُ كلُّها فكبُر من أجلِ ذلك جهادُه وعظُم فقيل له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وجاهدْهم بسببِ كونِك نذيرَ كافَّةِ القُرى جهاداً كبيراً جامعاً لكلِّ مُجاهدةٍ. وأنت خبيرٌ بأنَّ بيانَ سبب كِبَرِ المُجاهدةِ بحسب الكميَّةِ ليس فيه مزيدُ فائدةٍ فإنَّه بيِّنٌ بنفسِه وإنَّما اللائقُ بالمقامِ بيانُ سببِ كبرِها وعظمِها في الكيفيَّةِ.
{وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين} أي خلاَّهما متجاورينِ مُتلاصقين بحيثُ لا يتمازجانِ، من مَرَجَ دابَّته إذا خلاَّها {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} قامعٌ للعطشِ لغايةِ عذوبتِه {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} بليغُ المُلوحةِ. وقرئ: {مَلْحٌ} فلعلَّه تخفيفُ مالحٍ كبَرْدٍ في باردٍ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} حاجزاً غيرَ مرئيَ من قُدرتِه كما في قولِه تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} وتنافراً مُفرِطاً كأنَّ كلاًّ منهما يتعوَّذُ من الآخرِ بتلك المقالِة وقيل: حَدَّاً محدُوداً وذلك كدجلةَ تدخلُ البحرَ وتشقُّه وتجري في خلالِه فراسخَ لا يتغيَّرُ طعمُها، وقيل: المرادُ بالبحرِ العذبِ النَّهرُ العظيمُ وبالمالحِ البحرُ الكبيرُ وبالبرزخ ما بينهما من الأرضِ فيكون أثرُ القُدرة في الفصلِ واختلافِ الصِّفةِ، مع أنَّ مُقتضى طبيعةِ كلِّ عُنصرٍ التَّضامُّ والتَّلاصقُ والتَّشابهُ في الكيفيَّةِ.

.تفسير الآيات (54- 59):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)}
{وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً} هو الماءُ الذي خمَّر به طينة آدمَ عليه السَّلامُ أو جعله جُزءاً من مادَّةِ البشر ليجتمع ويسلسَ ويستعدَّ لقبول الأشكال والهيئاتِ بسهولة أو هو النُّطفةُ {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} أي قسمه قسمينِ ذوَيْ نسبٍ أي ذكوراً يُنتسبُ إليهم وذوات صهر أي أناثاً يُصاهرُ بهنَّ كقولهِ تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى} {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} مبالغاً في القُدرة حيث قدرَ على أنْ يخلقَ من مادَّةٍ واحدةٍ بشراً ذَا أعضاءٍ مختلفةٍ وطباعٍ مُتباعدةٍ وجعله قسمينِ مُتقابلينِ ورُبَّما يخلق من نُطفةٍ واحدةٍ تَوأمين ذَكراً وأُثنى.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الذي شأنُه ما ذُكر {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} أي ما ليس من شأنِه النَّفعُ والضُّرُّ أصلاً وهو الأصنامُ أو كلُّ ما يُعبدُ من دُنه تعالى إذْ ما من مخلوقٍ يستقلُّ بالنَّفع والضُّرُّ {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ} الذي ذُكرتْ آثارُ ربوبَّيتهِ {ظَهِيرًا} يُظاهر الشَّيطانَ بالعداوةِ والشركِ. والمرادُ بالكافر الجنسُ أو أبُو جهلٍ وقيل: هيِّناً مهيناً لا اعتدادَ به عندَه تعالى من قولِهم ظهرتَ به إذا نبدتَه خلفَ ظهرِك فيكون كقولِه تعالى: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا} للمؤمنين {وَنَذِيرًا} للكافرين {قُلْ} لهم {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على تبليغِ الرَّسالةِ الذي ينبىءُ عنه الإرسالُ {مِنْ أَجْرٍ} من جهتكم {إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} أي إلاَّ فعلَ من يُريد أنْ يتقرَّبَ إليه تعالى ويطلبَ الزُّلْفى عندَه بالإيمانِ والطَّاعةِ حسبَما أدعُوهم إليهما فصوَّرَ ذلك بصورةِ الأجرِ من حيثُ إنَّه مقصودُ الإتيانِ به واستثنى منه قلعاً كلَّياً لشائبةِ الطَّمعِ وإظهاراً لغاية الشَّفقةِ عليهم حيثُ جعلَ ذلك مع كونِ نفعِه عائداً إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل الاستثناءُ منقطعٌ أي لكن منَ شاء أنْ يتَّخذَ إلى ربَّه سبيلاً فليفعلْ.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذي لاَ يَمُوتُ} في الاستكفاءِ عن شرورِهم والإغناءِ عن أجورِهم فإنَّه الحقيقُ بأنْ يُتوكَّل عليه دون الأحياء الذين من شأنِهم الموتُ فإنَّهم إذا ماتُوا ضاعَ مَن توكَّل عليهم. {وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ} ونزَّهه عن صفاتِ النُّقصانِ مُثنياً عليه بنعوتِ الكمالِ طالباً لمزيدِ الإنعامِ بالشُّكرِ على سوابغِه {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} ما ظهرَ منها وما بطنَ {خَبِيراً} أي مُطَّلِعاً عليها بحيثُ لا يخفى عليه شيءٌ منها فيجزيهم جزاءً وفيَّا.
{الذى خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} قد سلفَ تفسيرُه. ومحلُّ الموصولِ الجرُّ على أنَّه صفة أُخرى للحيِّ وصف بالصِّفةِ الفعلية بعد وصفهِ بالأبديَّةِ التي هي من الصَّفاتِ الذَّاتيةِ، والإشارةُ إلى اتَّصافه بالعلمِ الشَّاملِ لتقريرِ وجوبِ التَّوكلِ عليه تعالى وتأكيده فإنَّ من أنشأَ هذه الأجرامَ العظامَ على هذا النمطِ الفائقِ والنَّسقِ الرَّائقِ بتدبيرٍ متينٍ وترتيبٍ رصينٍ في أوقاتٍ معيَّنة مع كمال قُدرتِه على إبداعها دفعةً لحكمِ جليلةٍ وغاياتٍ جميلةٍ لا تقف على تفاصيلِها العقولُ أحقُّ مَن يُتوكَّل عليه وأَولى من يُفوَّضُ الأمرُ إليه {الرحمن} مرفوعٌ على المدحِ أي هو الرحمنُ وهو في الحقيقةِ وصفٌ آخرُ للحيِّ كما قرئ بالجرِّ مفيد لزيادة تأكيد ما ذُكر من وجوب التَّوكلِ عليه تعالى وإنْ لم يتبْعه في الإعرابِ لما تقرَّر من أنَّ المنصوبَ والمرفوعَ مَدحاً وإنْ خرجَا عن التَّبعيةِ لما قبلهما صورةً حيثُ لم يتبعاهُ في الإعرابِ وبذلك سُمِّيا قطعاً لكنَّهما تابعانِ له حقيقةً، أَلاَ يُرى كيفَ التزمُوا حذفَ الفعلِ والمبتدأ في النَّصبِ والرَّفعِ رَوْماً لتصوير كلَ منهما بصورةِ متعلَّق من متعلَّقات ما قبلَه وتنبيهاً على شدَّةِ الاتِّصالِ بينهما وقد مرَّ تمامُ التَّحقيق في تفسير قولِه عز وجل: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} الآيةَ وقيل: الموصولُ مبتدأٌ والرَّحمنُ خبرُه وقيل: الرَّحمنُ بدلٌ من المستكنِّ في استوى {فَاسْأَلْ بِهِ} أي بتفاصيلِ ما ذُكر إجمالاً من الخَلْقِ والاستواءِ لا بنفسِهما فقط إذْ بعد بيانِهما لا يبقى إلى السُّؤالِ حاجةٌ ولا في تعديتهِ بالباءِ فائدةٌ فإنَّها مبنيَّةٌ على تضمينهِ معنى الاعتناءِ المستدعِي لكون المسؤولِ أمراً خطيراً مهتمًّا بشأنِه غيرَ حاصلٍ للسَّائلِ. وظاهرٌ أنَّ نفسَ الخلقِ والاستواءِ بعد الذِّكرِ ليس كذلكَ. وما قيل من أنَّ التَّقديرَ: إنْ شككتَ فيه فاسألْ به خَبيراً على أنَّ الخطابَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمرادَ غيرُه بمعزلٍ من السَّدادِ، بل التَّقديرُ: إنْ شئتَ تحقيقَ ما ذُكر أو تفصيلَ ما ذُكر فاسألْ معنيًّا بهِ {خَبِيراً} عظيمَ الشَّأنِ محيطاً بظواهرِ الأمورِ وبواطِنها وهو الله سبحانَه يُطلعك على جليَّةِ الأمرِ. وقيل: فاسألْ به مَن وجدَهُ في الكتبِ المتقدِّمةِ ليصدُقكَ فيه فلا حاجةَ حينئذٍ إلى ما ذَكرنا. وقيل: الضَّميرُ للرَّحمنِ، والمعنى إنْ أنكرُوا إطلاقَه على الله تعالى فاسألْ عنه مَن يُخبرك من أهلِ الكتابِ ليعرفُوا مجىءَ ما يُرادفه في كتبِهم، وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكونَ الرَّحمنُ مُبتدأً وما بعدَهُ خَبَراً. وقرئ: {فَسَلْ}.

.تفسير الآيات (60- 61):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن} قالُوه لما أنَّهم ما كانُوا يُطلقونَهُ على الله تعالى، أو لأنَّهم ظنُّوا أنَّ المرادَ به غيرُه تعالى ولذلك قالُوا {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي للذي تأمرُنا بسجودِه أو لأمرِك إيَّانا من غيرِ أنْ نعرفَ أنَّ المسجودَ ماذا. وقيل: لأنَّه كانَ مُعرَّباً لم يسمعُوه. وقرئ: {يأْمُرنا} بياءِ الغَيبةِ على أنَّه قولُ بعضِهم لبعضٍ {وَزَادَهُمْ} أي الأمرُ بسجودِ الرَّحمنِ {نُفُورًا} عن الإيمانِ.
{تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجاً} هي البروجُ الاثنا عشرَ، سُّمِّيتْ به، وهي القُصور العاليةُ لأنَّها للكواكبِ السَّيارةِ كالمنازلِ الرَّفيعةِ لسُكَّانِها. واشتقاقُه من البُرجِ لظهورِه {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} هي الشَّمسُ لقولِه تَعالَى وجعل الشَّمسَ سراجاً. وقرئ: {سُرُجاً} وهي الشَّمسُ والكواكبُ الكبارُ {وَقَمَراً مُّنِيراً} مُضيئاً بالليَّل وقرئ: {قُمْراً} أي ذات قمرٍ وهي جمعُ قَمراءَ ولما أنَّ اللَّياليَ بالقمرِ تكونُ قمراءَ أُضيف إليها ثمَّ حُذفَ وأُجريَ حكمُه على المضافِ إليهِ القائمِ مقامَهُ كما في قولِ حسَّانَ رضَي الله عنْهُ:
بردى يُصفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلسلِ

أي ماءُ بَردى ويُحتمل أنَّ يكونَ بمعنى القمرِ كالرَّشدِ والرُّشدِ والعَرَبِ والعُرْبِ.

.تفسير الآيات (62- 65):

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)}
{وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً} أي ذَوَي خلفةٍ يخلفُ كلٌّ منهما الآخرَ بأنْ يقومَ مقامَه فيما ينبغي أنْ يَعملَ فيه أو بأنْ يَعتِقبا كقولِه تعالى: {واختلاف اليل والنهار} وهي اسمٌ للحالةِ من خلفَ كالرِّكبةِ والجِلسةِ من رَكِبَ وجَلَس. {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي يتذكَّر آلاءَ الله عزَّ وجلَّ ويتفكَّر في بدائعِ صُنَعهِ فيعلم أنَّه لابد لها من صانعٍ حكيمٍ واجبِ الذَّاتِ رحيمٍ للعبادِ {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي أنْ يشكَر الله تعالى على ما فيهما من النِّعمِ أو ليكونا وقتينٍ للذَّاكرينَ مَن فاتَهُ وِرْدُه في أحدِهما تدارَكه في الآخرةِ. وقرئ: {أنْ يذكُرَ} من ذَكَر بمعنى تذكَّر.
{وَعِبَادُ الرحمن} كلامٌ مستأنف مسوقٌ لبيانِ أوصافِ خلَّصِ عبادِ الرَّحمنِ وأحوالِهم الدَّنيويةِ والأخُروَّيةِ بعد بيان حال النَّافرين عن عبادتِه والسُّجودِ له. والإضافةُ للتَّشريفِ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعدَهُ من الموصولِ وما عُطف عليه، وقيلَ: هو ما في آخرِ السُّورةِ الكريمةِ من الجُملةِ المصدَّرةِ باسمِ الإشارةِ. وقرئ: {عبادُ الرَّحمنِ} أي عبادُه المقبُولونَ {الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً} أي بسكينةٍ وتواضعٍ. وهَوْناً مصدرٌ وُصف به. ونصبُه إمَّا على أنَّه حال من فاعلِ يمشُون أو على أنَّه نعتٌ لمصدرِه أي يمشُون هيِّنين ليِّنيِ الجانبِ من غيرِ فظاظةٍ أو مشياً هيِّنا. وقولُه تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون} أي السُّفهاءُ كما في قولِ من قال:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَينا ** فَنَجْهَل فوقَ جهلِ الجَاهِلِيْنا

{قَالُواْ سَلاَماً} بيانٌ لحالِهم في المُعاملة مع غيرِهم إثرَ بيانِ حالِهم في أنفسِهم أي إذا خاطبُوهم بالسُّوءِ قالوا تسليماً منكمُ ومتاركةً لا خيرَ بيننا وبينَكمُ ولا شرَّ. وقيل: سَداداً من القولِ يسلمُون به من الأذيَّةِ والإثمِ، وليسَ فيه تعرُّضٌ لمعاملتِهم مع الكَفَرةِ حتَّى يُقالَ نسختها آيةُ القتالِ كما نُقل عن أبي العاليةِ.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما} بيانٌ لحالِهم في معاملتِهم مع ربِّهم أي يكونون ساجدين لربِّهم وقائمين أي يُحيون اللَّيلَ كُلاًّ أو بعضاً بالصَّلاةِ. وقيل: من قرأ شيئاً من القُرآنِ في صلاةٍ وإنْ قلَّ فقد باتَ ساجداً وقائماً. وقيل هُما الرَّكعتانِ بعد المغربِ والرَّكعتانِ بعد العشاءِ. وتقديمُ السُّجودِ على القيامِ لرعايةِ الفواصلِ.
{والذين يَقُولُونَ} أي في أعقابِ صلواتِهم أو في عامَّةِ أوقاتِهم {رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي شراً دائماً وهلاكاً لازماً وفيه مزيدُ مدحٍ لهم ببيان أنَّهم مع حُسن معاملتِهم مع الخلقِ واجتهادِهم في عبادةِ الحقِّ يخافُون العذابَ ويبتهلون إلى الله تعالى في صرفِه عنهم غيرَ محتفلين بأعمالِهم كقوله تعالى: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون}

.تفسير الآيات (66- 68):

{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)}
{إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} تعليلٌ لاستدعائِهم المذكورِ بسوءِ حالِها في نفسها إثرَ تعليلهِ بسوء حالِ عذابِها، وقد جُوِّز أن يكون تعليلاً للأُولى وليس بذاك. وساءتْ في حكم بئستُ وفيها ضميرٌ مبهمٌ يفسِّره مستقرَّاً. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ معناه ساءتْ مستقرَّاً ومقاماً هَي وهذا الضَّميرُ هو الذي ربطَ الجملة باسمِ إنَّ وجعلَها خبراً لها. قيلَ: ويجوزُ أنْ يكونَ ساءتْ بمعنى أحزنتْ وفيها ضميرُ اسم إنَّ. ومستقرَّاً حالٌ أو تمييزٌ وهو بعيدٌ خالٍ عَّما في الأولِ من المبالغةِ في بيانِ سوءِ حالِها وكذا جعل التعليلينِ من جهتِه تعالى.
{والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} لم يجاوزُوا حدَّ الكرمِ {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} ولم يضيِّقُوا تضييقَ الشَّحيحِ وقيل: الإسرافُ هو الانفاقُ في المعاصِي والقترُ منعُ الواجباتِ والقُربِ. وقرئ بكسرِ التَّاءِ مع فتحِ الياءِ وبكسرِها مخفَّفةً ومشدَّدةً مع ضمِّ الياءِ {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ} أي بين ما ذُكر من الإسرافِ والقَترِ {قَوَاماً} وسطاً وعدلاً سُمِّي به لاستقامةِ الطَّرفينِ كما سُمِّيَ به سواءً لاستوائِهما وقرئ بالكسرِ وهو ما يُقام به الحاجةُ لا يفضلُ عنها ولا ينقصُ وهو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ مؤكِّدة أو هو الخبرُ وبين ذلك لغوٌ وقد جُوِّز أنْ يكونَ اسمَ كانَ على أنَّه مبنيٌّ لأضافتِه إلى غيرِ متمكِّن ولا يَخْفى ضعفُه فإنَّه بمعنى القوام فيكون كالإخبارِ بشيءِ عن نفسِه.
{والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} شروعٌ في بيان اجتنابِهم عن المعاصي بعد بيانِ إتيانِهم بالطَّاعات. وذكرُ نفيِ الإسرافِ والقَتْرِ لتحقيقِ معنى الاقتصادِ والتَّصريحُ بوصفِهم بنفيِ الإشراكِ مع ظهورِ إيمانِهم لإظهارِ كمالِ الاعتناء بالتَّوحيدِ والإخلاصِ وتهويلِ أمرِ القتلِ والزِّنا بنظمِهما في سلكِه وللتَّعريضِ بما كانَ عليه الكَفَرةُ من قُريشٍ وغيرِهم أي لا يعبدونَ معه تعالى إلهاً آخرَ.
{وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله} أي حرَّمها بمعنى حرَّم قتلَها فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليهِ مقامَه مبالغةً في التَّحريمِ {إِلاَّ بالحق} أي لا يقتلونَها بسببٍ من الأسبابِ إلا بسببِ الحقِّ المزيلِ لحُرمتِها وعصمتِها أو لا يقتلون قتلاً ما إلا قتلاً ملتبساً بالحقِّ أو لا يقتلونها في حالٍ من الأحوال إلا حالً كونِهم ملتبسين بالحقِّ {وَلاَ يَزْنُونَ} أي الذين لا يفعلُون شيئاً من هذه العظائمِ القبيحةِ التي جمعهنَّ الكفرةُ حيث كانُوا مع إشراكِهم به سبحانه مداومين على قتلِ النُّفوسِ المحرَّمةِ التي من جُملتها الموءودةُ مكبِّين على الزِّنا لا يرعُوون عنه أصلاً {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي ما ذُكر كما هو دأبُ الكَفرةِ المذكُورين {يَلْقَ} في الآخرةِ. وقرئ: {يلقَّى} وقرئ: {يلقَّ} بالتَّشديدِ مجزوماً {أَثَاماً} وهو جزاءُ الإثمِ كالوبال والنِّكال وزناً ومعنى. وقيل: هو الإثم أبي يلقَ جزاءُ الإثم والتَّنوينُ على التَّقديرين للتفخيم. وقرئ: {أيَّاماً} أي شدائدَ يقال يومٌ ذُو أيَّام لليومِ الصَّعبِ.