فصل: تفسير الآيات (8- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (8- 10):

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} إشارةٌ إلى مصدرِ أنبتنا أو إلى كلِّ واحدٍ من تلك الأزواجٍ، وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببُعد منزلتِه في الفضلِ {لآيَةً} أي آيةً عظيمةً دالَّةً على كمالِ قُدرةِ مُنبتها وغايةِ وفُورِ علمهِ وحكمتِه ونهايةِ سعَةِ رحمتِه موجبةً للإيمانِ وازعةً عن الكُفرِ.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثرُ قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {مُّؤْمِنِينَ} قيل أي في علم الله تعالى وقضائِه حيثُ علم أزلاً أنَّهم سيُصرفون فيما لا يزالُ اختيارُهم الذي عليه يدورُ أمر التَّكليفِ إلى جانب الشَّرِّ ولا يتدبَّرون في هذه الآياتِ العظامِ. وقال سيبويِه: كانَ صلةٌ، والمعنى وما أكثرُهم مؤمنين وهو الأنسبُ بمقامِ بيانِ عُتوِّهم وغلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ مع تعاضدِ موجباتِ الإيمانِ من جهتِه تعالى. وأما نسبةُ كفرِهم إلى علمهِ تعالى وقضائِه فرُبَّما يتُوهَّم منها كونُهم معذورينَ فيه بحسبِ الظَّاهرِ لأنَّ ما أُشير إليه من التَّحقيقِ ممَّا خفيَ على مَهَرةِ العُلماء المُتقنين، كأنَّه قيل: إنَّ في ذلك لآيةً باهرةً موجبةً للإيمانِ وما أكثرُهم مُؤمنين مع ذلكَ لغايةِ تمادِيهم في الكُفرِ والضَّلالةِ وانهماكِهم في الغِيِّ والجَهَالةِ. ونسبةُ عدمِ الإيمانِ إلى أكثرِهم لأنَّ منهم مَن سُيؤمن.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يُريده من الأمورِ التي من جُملتِها الانتقامُ من هؤلاءِ {الرحيم} المبالغُ في الرَّحمةِ ولذلك يُمهلهم ولا يُؤاخذهم بغتةً بما اجتزؤُا عليهِ من العظائمِ المُوجبةِ لفُنون العُقُوباتِ، وفي التَّعرضِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من تشريفهِ والعِدَةِ الخفيَّةِ بالانتقامِ من الكَفَرةِ ما لا يَخفْى {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} كلامٌ مستأنف مسوق لتقريرِ ما قبله من إعراضِهم عن كلِّ ما يأتيهم من الآيات التنَّزيليةِ وتكذيبِهم بما إثرَ بيانِ إعراضهم عمَّا يُشاهدونه من الآيات التَّكوينَّيةِ. وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أي وأذكرُ لأولئك المعرضين المكذِّبين وقت ندائه تعالى إيَّاه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وذكِّرهم بما جَرى على قوم فرعونَ بسبب تكذيبِهم إيَّاه زجراً لهم عمَّا هم عليه من التَّكذيبِ وتحذيراً من أنْ يحيقَ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم المكذِّبين الظَّالمين حتَّى يتَّضحَ لك أنَّهم لا يُؤمنون بما يأتيهم من الآيات، لكنْ لا بقياس حالِ هؤلاء بحالِ أُولئك فقط بل بمشاهدةِ إصرارهم على ما هُم عليه بعد سماع الوحي النَّاطقِ بقصَّتِهم وعدم اتِّعاظِهم بذلك كما يُلوِّحُ به تكريرُ قولِه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} عقيب كلِّ قصَّةٍ، وتوجيهُ الأمر بالذِّكرِ إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مرَّ سردُه مراراً {أَنِ ائت} بمعنى أي ائت على أنّ أنْ مفسِّرة أو بأن ائت على أنَّها مصدريةٌ حُذف منها الجارُّ {القوم الظالمين} أي بالكُفر والمعاصي واستعبادِ بني إسرائيلَ وذبحِ أبنائِهم وليس هذا مطلعَ ما ورد في حيِّزِ النَّداءِ وإنَّما هو ما فُصِّل في سورةِ طه من قوله تعالى: {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} إلى قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى} وإيراد ما جرى في قصَّةٍ واحدةٍ من المقالاتِ بعباراتٍ شَتَّى وأساليبَ مختلفةٍ قد مرَّ تحقيقُه في أوائل سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِى}

.تفسير الآيات (11- 13):

{قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)}
{قَوْمِ فِرْعَونَ} بدلٌ من الأَوَّلِ، أو عطفٌ بيانٍ له جيء به للإيذانِ بأنَّهم عَلَمٌ في الظُّلم كأنَّ معنى القومِ الظَّالمينَ وترجمتَهُ قومُ فرعونَ. والاقتصارُ على ذكرِ قومِه للإيذانِ بشهرةِ أنَّ نفسَه أَوَّلُ داخلٍ في الحُكم {أَلا يَتَّقُونَ} استئنافٌ جيء به إثرَ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليهم للإنذارِ تعجيباً من غُلوِّهم في الظُّلم وإفراطِهم في العُدوان. وقرئ بتاء الخطابِ على طريقة الالتفاتِ المنبىءِ عن زيادة الغَضَبِ عليهم كأنَّ ذكرَ ظُلمِهم أدَّى إلى مشافهتِهم بذلك وهُم وإن كانُوا حينئذٍ غُيّباً لكنَّهم قد أُجروا مجرى الحاضرين في كلام المُرسل إليهم من حيثُ إنَّه مبلغه إليهم وإسماعُه مبتدأُ إسماعِهم مع ما فيه من مزيد الحثِّ على التقوى لمن تدبَّر وتأمَّل. وقرئ بكسرِ النُّونِ اكتفاءً به عن ياء المتكلِّم وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ بمعنى ألا يا ناسُ اتقَّون نحو ألاّ يسجدُوا.
{قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكاية ما مَضَى كأنَّه قيل: فماذا قال مُوسى عليه السَّلامُ فقيل قال متضرِّعاً إلى الله عزَّ وجلَّ {رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} من أوَّلِ الأمرِ {وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى} معطوفانِ على أخافُ {فَأَرْسِلْ} أي جبريلَ عليه السَّلامُ {إِلَىَّ هارون} ليكونَ معي وأتعاضدُ به في تبليغِ الرِّسالة رتَّب عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ استدعاءَه ذلك على الأمورِ الثَّلاثةِ: خوفُ التَّكذيبِ وضيقُ الصَّدرِ وازديادُ ما كان فيه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من حَبسةِ اللِّسان بانقباضِ الرُّوحِ إلى باطنِ القلبِ عند ضيقِه بحيث لا ينطقُ لأنَّها إذا اجتمعتْ تمسُّ الحاجةُ إلى معينٍ يُقوِّي قلبه وينوبُ منابَه إذا اعتراهُ حبسةٌ حتَّى لا تختلَّ دعوتُه ولا تنقطعَ حجَّتُه، وليس هذا من التَّعلل والتَّوقف في تلقِّي الأمرِ في شيءٍ وإنَّما هو استدعاءٌ لما يُعينه على الامتثالِ به وتمهيدُ عذرٍ فيه. وقرئ: {ويضيقَ} ولا ينطلقَ بالنَّصبِ عطفاً على يكذِّبون فيكونانِ من جملةً ما يَخافُ منه.

.تفسير الآيات (14- 18):

{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)}
{وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ} أي تبعةُ ذنبٍ فحُذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامَه أو سمِّي باسمِه. والمرادُ به قتلُ القِبْطيِّ وتسميتُه ذنباً بحسبِ زعمِهم كما ينبىءُ عنه قولُه لهم وهذا إشارةٌ إلى قصَّةٍ مبسوطةٍ في غيرِ موضعٍ {فَأَخَافُ} أي إنْ أتيتهم وحدي {أَن يَقْتُلُونِ} بمقابلتِه قبل أداءِ الرِّسالةِ كما ينبِغي وليس هذا أيضاً تعلُّلاً وإنما هو استدفاعٌ للبليَّةِ المتوقّعةِ قبل وقوعِها.
وقوله تعالى: {قَالَ كَلاَّ فاذهبا بئاياتنا} حكايةٌ لإجابتِه تعالى إلى الطِّلبتينِ: الدَّفعِ المفهومِ من الرَّدعِ عن الخوفِ وضمِّ أخيهِ المفهومِ من توجيهِ الخطابِ إليهما بطريقِ التَّغليبِ فإنَّه معطوفٌ على مضميرٍ ينبىءُ عنه الرَّدعُ كأنَّه قيل: ارتدِع يا موسى عمَّا تظنُّ فاذهب أنت ومن استدعيته. وفي قوله بآياتنا رمزٌ إلى أنَّها تدفع ما يخافه. وقوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} تعليلٌ للرَّدعِ عن الخوفِ ومزيد تسلية لهما بضمانِ كمالِ الحفظِ والنُّضرةِ كقولِه تعالى: {إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى} وحيثُ كان الموعودُ بمحضرٍ من فرعونَ اعتبر هاهنا في المعيَّةِ وقيل: أجريا مجرى الجماعةِ ويأباهُ ما قبله وما بعده من ضميرٍ التَّثنية أي سامعون ما يجري بينكما وبينه فنظهركما عليه، مثَّل حالَه تعالى بحالِ ذِي شَوكةٍ قد حضَر مجادلَة قومٍ يستمعُ ما يجري بينَهم ليمدَّ أولياءَهُ ويُظهرهم على أعدائِهم مبالغةً في الوعدِ بالإعانةِ أو استعير الاستماع الذي هو بمعنى الإصغاءِ للسَّمعِ الذي هو العلمُ بالحروفِ والأصواتِ وهو خبرٌ ثانٍ أو خبرٌ وحدَهُ ومعكم ظرفُ لغوٍ، والفاءُ في قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها من الوعدِ الكريمِ، وليس هَذا مجرَّدَ تأكيدٍ للأمرِ بالذِّهابِ لأنَّ معناهُ الوصولُ إلى المأتيِّ لا مجرَّدَ التَّوجهِ إليه كالذِّهابِ، وإفراد الرَّسول إمَّا باعتبارِ رسالةِ كلَ منهُمَا أو لاتِّحادِ مطلبهما أو لأنَّه مصدرٌ وُصفَ به وأنْ في قولِه تعالى: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل} مفسِّرةٌ لتضمن الإرسالِ المفهومِ من الرَّسولِ معنى القولِ ومعنى إرسالِهم تخليتُهم وشأنَهم ليذهبُوا معهما إلى الشَّامِ.
{قَالَ} أي فرعونُ لموسى عليه السَّلامُ بعد ما أتياهُ وقالا له ما أُمرا به، يُروى أنَّهما انطلقا إلى بابِ فرعونَ فلم يُؤذن لهما سنةً حتَّى قال البَّوابُ إنَّ هاهنا إنساناً يزعمُ أنَّه رسولُ ربِّ العالمين فقال ائذنْ له لعلَّنا نضحكُ فأدَّيا إليه الرِّسالةَ فعرفَ مُوسى عليه السَّلامُ فقال عند ذلك: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا} في حِجرِنا ومنازلِنا {وَلِيداً} أي طِفلاً عبر عنه بذلك لقُرب عهده بالولادة {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} قيل لبثَ فيهم ثلاثين سنةً ثم خرجَ إلى مدينَ وأقام بها عشرَ سنين ثمَّ عاد إليهم يدعُوهم إلى الله عزَّ وجلَّ ثلاثينَ سنة ثم بقي بعدَ الغرقِ خمسينَ سنة وقيل وكز القبطيَّ وهو ابنُ اثنتي عشرةَ سنة وفرَّ منهم على أثرِ ذلك، والله أعلم.

.تفسير الآيات (19- 22):

{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)}
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} يعني قتلَ القبطيِّ بعد ما عدَّد عليه نعمتَهُ من تربيته وتبليغِه مبلغَ الرِّجالِ وبَّخه بَما جَرَى عليه من قتلِ خبَّازِه وعظَّم ذلك وفظَّعه. وقرئ: {فِعلتك} بكسر الفاء لأنَّها كانتْ نَوْعاً من القتل {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} أي بنعمتي حيثُ عمدتَ إلى قتلِ رجلٍ من خواصّي أو أنت حينئذٍ ممَّن تكفِّرهم الآنَ وقد افترى عليهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو جهلَ أمره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ كان يُعايشهم بالتَّقيةِ وإلا فأينَ هُو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من مشاركتِهم في الدِّينِ فالجملةُ حينئذٍ حالٌ من إحدى التَّاءينِ ويجوزُ أنْ يكونَ حُكماً. مُبتدأ عليه بأنَّه من الكافرينَ بإلهيته أو ممَّن يكفرُون في دينِهم حيثُ كانتْ لهم آلهةٌ يعبدونها أو من الكافرين بالنِّعم المعتادين لغمطها ومنِ اعتادَ ذلك لا يكونُ مثلُ هذه الجنايةِ بدعاً منْهُ.
{قَالَ} مجُيباً له مصدِّقاً له في القتلِ ومكذِّباً فما نسبه إليه من الكفر {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي {من الجاهلينَ} وقد قرئ كذلك لا من الكافرينَ كما زعمت افتراءً أي من الفاعلين فعلَ الجهالةِ والسُّفهاءِ أو من المخطئين لأنَّه لم يتعمَّد قتلَه بل أرادَ تأديبَه أو الذَّاهبين عمَّا يُؤدِّي إليه الوكز أو الناسين كقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ} إلى ربيِّ {لَمَّا خِفْتُكُمْ} أنْ تُصيبوني بمضمرةٍ وتؤاخذوني بما لا أستحقُّه بجنايتي من العقابِ {فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً} أي حكمةً أو نبُّوةً {وَجَعَلَنِى مِنَ المرسلين} رد أولاً بذلك ما وبَّخه به قدحاً في نبُّوته ثم كرَّ على ما عده عليه من النِّعمةِ ولم يصرِّحْ بردِّه حيثُ كان صدقاً غيرَ قادحٍ في دعواه بل نبَّه على أنَّ ذلك كان في الحقيقةِ نعمةً فقال: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إسراءيل} أي تلك التربيةُ نعمةٌ تمنُّ بها عليَّ ظاهراً وهي في الحقيقةِ تعبيدُك بني إسرائيلَ وقصدُك إيَّاهم بذبحِ أبنائِهم فإنَّه السببُ في وقوعي عندكَ وحصولي في تربيتِك وقيل: إنه مقدَّرٌ بهمزةِ الإنكار أي: أوَ تلك نعمة تمنُّها عليَّ وهي أنْ عبَّدتَ بني إسرائيلَ ومحلُّ أنْ عبَّدتَ الرُّفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٌ أو بدلٌ من نعمةٌ، أو الجرُّ بإضمارِ الباءِ، أو النَّصبُ بحذفهِا وقيل: تلك إشارةٌ إلى خصلةٍ شنعاءَ مبهمةٍ وأنْ عبَّدتَ عطفُ بيانٍ لها والمعنى تعبيدُك بني إسرائيلَ نعمةٌ تمنُّها عليَّ. وتوحيدُ الخطابِ في تمنُّها وجمعه فيما قبلَه لأن المنة منه خاصَّة والخوفُ والفرارُ منه ومن ملئِه.

.تفسير الآيات (23- 28):

{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)}
{قَالَ فِرْعَوْنُ} لمَّا سمعَ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تلك المقالةَ المتينةَ وشاهد تصلُّبهَ في أمرِه وعدمَ تأثُّرِه بما قدَّمه من الإبراقِ والإرعاد شرعَ في الاعتراض على دعواهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فبدأ بالاستفسارِ عن المُرْسِل فقال: {وَمَا رَبُّ العالمين} حكايةٌ لما وقع في عبارته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أيْ أيُّ شيءٍ رب العالمينَ الذي أدَّعيتَ أنَّك رسولُه منكراً لأنْ يكون للعالمين ربٌّ سواه حسبما يُعرب عنه قولُه: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} وينطق به وعيدُه عند تمام أجوبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {قَالَ} موسى عليه السَّلامُ مُجيباً له {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بتعيين ما أراد بالعالمين وتفصيله لزيادةِ التَّحقيقِ والتَّقريرِ وحسم مادَّةِ تزويرِ اللَّعينِ وتشكيكهِ بحملِ العالمينَ على ما تحت مملكتِه {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إنْ كنتُم موقنين بالأشياءِ محقِّقين لها علمتُم ذلك، أو إنْ كنتُم موقنين بشيءٍ من الأشياءِ فهذا أولى بالإيقانِ لظهورِه وإنارةِ دليله.
{قَالَ} أي فرعونُ عند سماع جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خوفاً من تأثيرِه في قلوبِ قومِه وإذعانِهم له {لِمَنْ حَوْلَهُ} من أشراف قومه قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: خمُسمائة عليهم الأساورُ وكانت للملوك خاصَّةً {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} مرائياً لهمَّ أنَّ ما سمعُوه من جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كونِه ممَّا لا يليقُ بأنْ يتُعجَّب منه كأنَّه قال ألا تستمعُون ما يقولُه فاستمعُوه وتعجَّبوا منه حيثُ يدَّعي خلافَ أمرٍ محقَّقٍ لا اشتباه فيه يُريد به ربوبيةَ نفسِه.
{قَالَ} عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تصريحاً بما كان مُندرجاً تحت جوابيِه السَّابقينِ {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين} وحطّاً له من ادِّعاءِ الرُّبوبيَّةِ إلى مرتبةِ المربُوبَّيةِ.
{قَالَ} أي فرعونُ لمَّا واجهه مُوسى عليه السَّلامُ بما ذُكر غاظه ذلك وخافَ من تأثُّر قومِه منه فأراهُم أنَّ ما قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا لا يصدرُ عن العُقلاء صدَّاً لهمُ عن قبولِه فقال مؤكِّداً لمقالتِه الشَّنعاءِ بحرفَيْ التَّأكيدِ: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ليفتنهم بذلَك ويصرفهم عن قبولِ الحقِّ وسَّماهُ رسولاً بطريقِ الاستهزاءِ وأضافه إلى مُخاطبيه ترفُّعاً من أنْ يكونَ مُرْسَلاً إلى نفسِه.
{قَالَ} عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا} قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تكميلاً لجوابه الأوَّلِ وتفسيراً له وتنبيهاً على جهلِهم وعدمِ فهمِهم لمعنى مقالتِه فإنَّ بيانَ ربوبيَّتهِ تعالى للسَّموات والأرضِ وما بينَهما وإنْ كان متضمِّناً لبيانِ ربوبيَّتِه تعالى للخافقينِ وما بينَهُما لكن لمَّا لم يكُن فيه تصريحٌ بإستناد حركات السَّمواتِ وما فيها وتغيُّراتِ أحوالِها وأوضاعِها وكون الأرض تارةً مظلمةً وأخرى منورةً إلى الله تعالى أرشدَهُم إلى طريقِ معرفةِ ربوبيته تعالى لمَّا ذكر فإن ذكر المشرقِ والمغربِ منبىءٌ عن شروقِ الشَّمسِ وغروبِها المنُوطينَ بحركاتِ السَّمواتِ وما فيها على نمطٍ بديعٍ يترتَّب عليه هذه الأضاعُ الرَّصينةُ، وكلُّ ذلك أمورٌ حادثةٌ مفتقرةٌ إلى محدثٍ قادرٍ عليمٍ حكيمٍ لا كذواتِ السَّمواتِ والأرضِ التي يتوهَّم جهلةُ المُتوهمينَ باستمرارِها استغناءها عن الموحِّدِ المُتصرِّفِ {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إنْ كنتُم تعقلون شيئاً من الأشياءِ أو إنْ كنتُم من أهلِ العقلِ علمتُم أنَّ الأمرَ كما قُلته، وفيه إيذانٌ بغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيثُ لا يشتبه على مَن له عقلٌ في الجُملةِ، وتلويحٌ بأنَّهم بمعزلٍ من دائرةِ العقلِ وأنَّهم المتَّصفون بما رَمَوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ به من الجنونِ.