فصل: تفسير الآيات (7- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (7- 9):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)}
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ} الكفرَ بالإيمانِ والمعاصيَ بما يتبعُها من الطَّاعاتِ {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي أحسنَ جزاءِ أعمالِهم لا جزاءَ أحسنِ أعمالِهم فقط.
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} أي بإتياء والديهِ وإيلائهما فعلاً ذا حُسنٍ أو ما هو في حدِّ ذاته حسنٌ لفرطِ حُسنِه كقولِه تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} ووصَّى يجري مجرى أمرَ معنى وتصرُّفاً غيرَ أنَّه يُستعمل فيما كان في المأمورِ به نفعٌ عائدٌ إلى المأمورِ أو غيرِه. وقيل هُو بمعنى قال فالمعنى وقلنا أحسِنْ بوالديك حُسنا. وقيل: انتصابُ حُسنا بمضمرٍ على تقدير قولٍ مفسِّرٍ للتَّوصيةِ أي وقُلنا أوْلِهما أو افعلْ بهما حُسنا وهو أوفق لما بعدَه وعليه يحسنُ الوقفُ على بوالديهِ وقرئ: {حسناً} و{إحساناً}. {وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي بالهيئةِ عبَّر عن نفيها بنفيِ العلمِ بها للإيذان بأنَّ ما لا يعلم صحته لا يجوزُ اتِّباعُه وإنْ لم يُعلم بطلانُه فكيف بما عُلم بطلانُه {فَلاَ تُطِعْهُمَا} في ذلك فإنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ ولابد من إضمارِ القولِ إن لم يُضمر فيما قبل. وفي تعليقِ النَّهي عن طاعتِهما بمجاهدتِهما في التَّكليف إشعارٌ بأنَّ موجبَ النَّهي فيما دونها من التَّكليفِ ثابت بطريقِ الأولويَّةِ. {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مرجعُ مَن آمن منكُم ومَن أشركَ ومن برَّ بوالديِه ومن عقَّ {فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بأنْ أجازيَ كلاَّ منكم بعملِه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرَّا فشرٌّ. والآيةُ نزلتْ في سعدٍ بن أبي وقَّاص رضي الله تعالى عنه عند إسلامِه حيثُ حلفت أمُّه حمنهُ بنتُ أبي سفيانَ بنِ أُميَّة أن لا تنتقلَ من الضحِّ إلى الظلِّ ولا تَطعمُ ولا تشربُ حتَّى يرتدَّ فلبثتْ ثلاثةَ أيامٍ كذلك، وكذا التي في سُورة لقمانَ وسورةِ الأحقافِ. وقيل: نزلتْ في عيَّاش بن أبي ربيعة المخزُومي وذلك أنه هاجر مع عمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه حتَّى نزلا المدينةَ فخرجَ أبوُ جهلٍ والحارث أخواه لأمِّه أسماء فنزلا بعيَّاش وقالا له إن من دين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم صلةَ الأرحامِ وبرَّ الوالدينِ وقد تركتَ أمَّك لا تطعمُ ولا تشربُ ولا تأوي بيتاً حتَّى تراك فاخرجْ معنا وفتلا منه في الذِّروة والغاربِ واستشار عمرَ رضي الله عنه فقال هُما يخدعانِك ولك على أنْ أقسمَ مالي بيني وبينك فما زالا به حتَّى أطاعهما وعصى عمرَ رضي الله عنه فقال عمرُ رضي الله عنه: أمَّا إذا عصيتني فخُذْ ناقتي فليس في الدُّنيا بعيرٌ بلحقها فإنْ رابك منهما ريبٌ فارجع فلمَّا انتهَوا إلى البيداءِ قال أبوُ جهل إنُّ ناقتي كلَّت فاحملني معك فنزل ليوطىءَ لنفسِه وله فأخذاه فشدَّاه وثاقاً وجلده كلُّ واحدٍ مائةَ جلدةٍ وذهبا به إلى أمِّه فقالت لا تزالُ في عذاب حتَّى ترجعَ عن دينِ محمَّدٍ.
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} أي في زُمرةِ الرَّاسخينَ في الصَّلاحَ. والكمالُ في الصَّلاحِ مِنتهى درجاتِ المؤمنينَ وغايةُ مأمولِ أنبياءِ الله المُرسلين. قال الله تعالى حكايةً عن سُليمانَ عليه السَّلام: {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} وقال في حقِّ إبراهيمَ عليه السَّلام: {وَإِنَّهُ فِي الاخرة لَمِنَ الصالحين} أو في مدخلِ الصَّالحين وهو الجنَّة.

.تفسير الآيات (10- 12):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)}
{وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِي الله} أي في شأنِه تعالى بأنْ عذَّبهم الكفرةُ على الإيمان {جَعَلَ فِتْنَةَ الناس} أي ما يصيبُه من أذيتَّهم {كَعَذَابِ الله} في الشدَّة والهولِ فيرتدَّ عن الدِّين مع أنَّه لا قدرَ لها عند نفحةٍ من عذابِ تعالى أصلاً. {وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ} أي فتحٌ وغنيمةٌ {لَّيَقُولَنَّ} بضمِّ اللامِ نظراً إلى معنى مَن كما أنَّ الإفراد فيما سبق بالنَّظرِ إلى لفظها. وقرئ بالفتحِ {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي مشايعينَ لكم في الدِّينِ فاشركونا في المغنمِ وهم ناسٌ من ضَعَفةِ المُسلمين كانُوا إذا مسَّهم أذى من الكفَّارِ وافقُوهم وكانُوا يكتمونَهُ من المسلمينَ فردَّ عليهم ذلك بقولِه تعالى: {أَوَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين} أي بأعلم منهم بما في صدورهم من الإخلاصِ والنِّفاقِ حتَّى يفعلون من الارتدادِ والاخفاءِ عن المسلمين وإدِّعاءِ كونِهم منهم لنيلِ الغنيمةِ. وهذا هو الأوفقُ لما سبقَ ولما لحقَ من قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين ءامَنُواْ} أي بالإخلاصِ {وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} سواء كان كفرُهم بإذية الكفرة أوْ لاَ أي ليجزينَّهم بما لهم من الإيمان والنِّفاقِ {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} بيانٌ لحملهم للمؤمنين على الكفرِ بالاستمالةِ بعد حملِهم لهم عليه بالأذيَّةِ والوعيدِ. ووصفُهم بالكفرِ هاهنا دونَ ما سبق لما أنَّ مساقَ الكلامِ لبيان جنايتِهم وفيما سبق لبيانِ جنايةِ من أضلُّوه. واللامُ للتَّبليغِ أي قالُوا مخاطبينَ لهم {اتبعوا سَبِيلَنَا} أي اسلكُوا طريقنَا التي نسلكُها في الدِّينِ، عبَّر عن ذلكَ بالاتباعِ الذي هو المشيُ خلفَ ماشٍ آخرَ تنزيلاً للمسلك منزلةَ السَّالكِ فيه أو اتبعونا في طريقتنا في {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} أي إنْ ذلك خطيئةً يُؤاخذ عليها بالبعثِ كما تقُولونَ وإنَّما أَمروا أنفسَهم بالحمل عاطفين له على أمرِهم بالأتَّباعِ للمبالغة في تعليق الحملِ بالاتِّباع والوعدِ بتخفيفِ الأوزار عنهم إن كان ثمَةَ وزرٌ فردَّ عليهم بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء} وقرئ: {من خطيآتِهم} أي وما هم بحاملين شيئاً مِن خطاياهم التي التزمُوا أنْ يحملُوا كلَّها على أن مِن الأُولي للتبيين والثانية مزيدةٌ للاستغراق. والجملةُ اعتراضٌ أو حالٌ. {إِنَّهُمْ لكاذبون} حيث أخبروا في ضمنِ وعدِهم بالحمل بأنَّهم قادرون على إنحازِ ما وعدوا فإنَّ الكذبَ كما يتطَّرقُ إلى الكلامِ باعتبار منطوقِه يتطرَّقُ إليه باعتبارِ ما يلزمُ مدلوله كما مرَّ في قوله تعالى: {أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين}

.تفسير الآيات (13- 16):

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)}
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} بيانٌ لما يستتبعه قولُهم ذلك في الآخرةِ من المضرة لأنفسِهم بعد بيانِ عدم منفعتِه لمخاطبيهم أصلاً، والتَّعبيرُ عن الخطايا بالأثقالِ للإيذانِ بغابة ثقلِها وكونِها فادحةً. واللامُ جوابّ قَسَمٍ مضمرٍ، أي وبالله ليحملنَّ أثقالَ أنفسِهم كاملةً {وَأَثْقَالاً} أُخرَ {مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} لمَّا تسببُوا بالاضلالِ، والحملُ على الكفرِ والمَعاصي من غيرِ أنْ ينتقص من أثقالِ من أضلُّوه شيءٌ ما أصلاً {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً} سؤالَ تقريعٍ وتبكيتٍ {عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي يختلقونَه في الدُّنيا من الأكاذيبِ والأباطيلِ التي من جملتها كذبُهم هذا.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} شروعٌ في بيان افتتانِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام بأذية أممهم إثرَ بيانِ افتتانِ المؤمنين بأذيةِ الكفَّارِ تأكيداً للإنكارِ على الذين يحسبُون أنْ يُتركوا بمجرَّدِ الإيمان بلا ابتلاءٍ وحثًّا لهم على الصَّبرِ فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاة والسَّلام حيث ابتُلوا بما أصابَهم من جهةِ أُممهم من فنونِ المكارِه وصبرُوا عليها فَلأن يصبرَ هؤلاءِ أولى وأحرى. قالُوا كان عمرُ نوحٍ عليه السَّلام ألفاً وخمسين عاماً بعث على رأس أربعين سنةٍ ودعا قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعائ بعد الطُّوفانِ ستين سنة، وعن وهبٍ أنَّه عاشَ ألفاً وأربعمائة سنة ولعلَّ ما عليه النَّظمُ الكريمُ للدِّلالةِ على كمال العددِ فإن تسعمائة وخمسين قد بُطلق على ما يقرُب منه. ولَما في ذكرِ الألفِ من تخييلِ طولِ المدَّةِ فإنَّ المقصودَ من القصة تسليةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مُكابدةِ ما يناله من الكفرةِ. وإظهارُ ركاكةِ رأي الذين يحسبونَ أنَّهم يُتركون بلا ابتلاءٍ واختلافُ المميزِ لما في التَّكريرِ من نوع بشاعةٍ. {فَأَخَذَهُمُ الطوفان} أي عقيبِ تمامِ المَّدةِ المذكورةِ. والطُّوفان يطلقُ على كلِّ ما يطوفُ بالشيء على كثرةٍ وشدَّةٍ من السَّيلِ والرَّيحِ والظَّلامِ وقد غلب على طُوفانِ الماءِ {وَهُمْ ظالمون} أي والحالُ أنَّهم مستمرُّون على الظُّلمِ لم يتأثَّروا بما سمعُوا من نوحٍ عليه السَّلام من الآياتِ ولم يَرعُووا أعماهُم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدَّة المتماديةِ.
{فأنجيناه} أي نوحاً عليه السَّلام {وأصحاب السفينة} أي ومَن ركب فيها معه من أولادِه وأتباعِه وكانُوا ثمانين وقيل: ثمانيةً وسبعين وقيل: عشرةً وقيل ثمانيةً نصفُهم ذكورٌ ونصفُهم إناثٌ {وجعلناها} أيِ السَّفينةَ أو الحادثةَ والقصَّةَ {آيَةً للعالمين} يتَّعظِون بها. {{وإبراهيم} نُصب بالعطفِ على نوحاً، وقيل: بإضمارِ أذكُر. وقرئ بالرَّفع على تقديرِ ومن المرسلينَ إبراهيمُ {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} على الأولِ ظرفٌ للإرسالِ أي أرسلناه حينَ تكامل عقلُه وقدر على النَّظرِ والاستدلال وترقى من رُتبة الكمال إلى درجة التَّكميلِ حيث تصدَّى لإرشادِ الخلقِ إلى طريق الحقِّ. وعلى الثَّاني بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ {اعبدوا الله} أي وحدَه {واتقوه} أن تُشركُوا به شيئاً {ذلكم} أي ما ذُكر من العبادةِ والتَّقوى {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي ممَّا أنتُم عليه. ومعنى التَّفضيل مع أنَّه لا خيريةَ فيه قطعاً باعتبارِ زعمِهم الباطلِ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي الخيرَ والشرَّ وتُميزون أحدَهما من الآخرِ أو إنْ كنتُم تعلمون شيئاً من الأشياءِ بوجهٍ من الوجوهِ فإنَّ ذلك كافٍ في الحكمِ بخيريةِ ما ذُكر من العبادةِ والتَّقوى.

.تفسير الآيات (17- 19):

{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)}
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا} بيانٌ لبطلانِ دينِهم وشرِّيته في نفسِه بعد بيانِ شرِّيته بالنَّسبةِ إلى الدِّينِ الحقِّ أي إنَّما تعبدونَ من دُونه تعالى أوثاناً هي في نفسِها تماثيلُ مصنوعةٌ لكم ليس فيها وصفٌ غير ذلك {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي وتكذبون كذباً حيثُ تسمُّونها آلهةً وتدَّعون أنَّها شفعاؤكم عندَ الله تعالى أو تعملونَها وتنحتونَها للإفكِ. وقرئ: {تخلقُون} بالتَّشديدِ للتكثيرِ في الخلقِ بمعنى الكذبِ والافتراءِ وتخلقُون بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تخلَّق بمعنى تكذَّبَ وتخرَّص. وقرئ: {أَفِكاً} على أنَّه مصدرٌ كالكذِب واللَّعِب. أو نعتٌ بمعنى خلقاً ذا إفكٍ {إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} بيانٌ لشرِّيةِ ما يعبدونَه من حيثُ إنَّه لا يكادُ يجُديهم نفعاً {لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} أي لا يقدرونَ على أنْ يرزقوكَم شيئاً من الرِّزقِ {فابتغوا عِندَ الله الرزق} كلَّه فإنَّه هو الرزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المتينِ {واعبدوه} وحدَهُ {واشكروا لَهُ} على نعمائِه متوسِّلين إلى مطالبِكم بعبادتِه مقيدين بالشُّكرِ للعتيدِ ومستجلبينَ للمزيدِ. {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالموتِ ثمَّ بالبعثِ لا إلى غيرِه فافعلُوا ما أمرتُكم به. وقرئ: {تَرجعون} من رَجَع رُجوعاً. {وَإِن تُكَذّبُواْ} أي تكذِّبُوني فيما أخبرتُكم به من أنَّكم إليه تُرجعون بالبعثِ {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ} تعليلٌ للجوابِ أي فلا تضرونني بتكذيبكم فإنَّ من قبلكم من الأممِ قد كذَّبوا من قبلى من الرُّسلِ وهم شيثُ وإدريُس ونوحٌ عليهم السَّلام فلم يضرَّهم تكذيبهم شيئاً وإنمَّا ضرَّ أنفسَهم حيثُ تسبَّب لما حلَّ بهم من العذاب فكذا تكذيُبكم {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} أي التَّبليغُ الذي لا يبقى معه شكٌّ وما عليه أنْ يُصدِّقَه قومُه البتةَ وقد خرجتُ عن عُهدةِ التَّبليغِ بما لا مزيدَ عليه فلا يضرُّني تكذيُبكم بعد ذلك أصلاً.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء الله الخلق} كلامٌ مُستأنفٌ مسوقٌ من جهتِه للإنكارِ على تكذيبهم بالبعث معَ وضوحِ دليلِه وسنوحِ سبيلِه. والهمزةُ لإنكارِ عدمِ رؤيتهم الموجبِ لتقريرها والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي ألم ينظروا ولم يعلموا علماً جارياً مجرى الرؤيةِ في الجلاءِ والظُّهور كيفيةَ خلقِ الله تعالى الخلقَ ابتداءً من مادَّةٍ ومن غير مادَّةٍ أي قد علموا ذلك. وقرئ بصيغةِ الخطابِ لتشديدِ الإنكارِ وتأكيدِه. وقرئ: {يبدأُ} وقوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} عطفٌ على أو لم يَروا لا على يُبدىء لعدمِ وقوعِ الرُّؤية عليه فهو إخبارٌ بأنَّه تعالى يعيد الخلقَ قياساً على الإبداءِ، وقد جُوِّز العطفُ على يُبدىء بتأويلها الإعادةِ بإنشائِه تعالى كل سنة مثلَ ما أنشأه في السَّنةِ السَّابقةِ من النبات والثمار وغيرِهما فإنَّ ذلك ممَّا يُستدلُّ به على صِحَّة البعثِ ووقوعه من غير رَيبٍ {إِنَّ ذلك} أي ما ذُكر من الإعادة {عَلَى الله يَسِيرٌ} إذ لا يفتقر فعلُه إلى شيءٍ أصلاً.

.تفسير الآيات (20- 22):

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)}
{قُلْ سِيرُواْ فِي الارض} أمرٌ لإبراهيمَ عليه السَّلام أنْ يقولَ لهم ذلك أي سِيروا فيها {فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق} أي كيف خلقَهم ابتداءً على أطوارٍ مختلفةٍ وطبائعَ متغايرةٍ وأخلاقٍ شتَّى فإنَّ ترتيبَ النَّظر على السَّيرِ في الأرضِ مؤذنٌ بتتبعِ أحوالِ أصنافِ الخلق القاطنينَ في أقطارِها {ثُمَّ الله يُنشِىء النشأة الاخرة} بعدَ النَّشأةِ الأُولى التي شاهدتُموها. والتَّعبيرُ عن الإعادةِ التي هي محلُّ النزاعِ بالنَّشأةِ الآخرةِ المشعرةِ بكون البدِء نشأةً أولى للتَّنبيهِ على أنَّهما شأنٌ واحدٌ من شؤونِ الله تعالى حقيقةً وإسماً من حيثُ إنَّ كلاًّ منهما اختراعٌ وإخراجٌ من العدمِ إلى الوجودِ ولا فرقَ بينَهما إلا بالأوليةِ والآخريةِ. وقرئ: {النَّشاءَة} بالمدِّ وهما لُغتانِ كالرَّأفةِ والرَّآفةِ ومحلها النَّصبُ على أنَّها مصدرٌ مؤكِّدٌ ليُنشىء بحذف الزَّوائد والأصلُ الإنشاءةِ أو بحذف العاملِ أي ينشىء فيشأون النَّشأةَ الآخرةَ كما في قوله تعالى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} والجملةُ معطوفةٌ على جُملةِ سيروا في الارض داخلةٌ معها في حيِّز القول. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ وإيقاعُه مبتدأً مع إضمارِه في بدأ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ ببيانِ تحقُّق الإعادةِ بالإشارة إلى عِلَّة الحُكم وتكريرِ الإسنادِ. وقولُه تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} تعليلٌ لما قبله بطريقِ التَّحقيق فإنَّ من علِم قدرتَهُ تعالى على جميعِ الأشياءِ التي من جُملتِها الإعادةُ لا يتصوَّر أنْ يترددَ في قدرتِه عليها ولا في وقوعِها بعد ما أخبر به {يُعَذّبُ} أي بعد النَّشأةِ الآخرةِ {مَن يَشَآء} أن يعذبه وهم المنكرون لها حَتماً {وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء} أنْ يرحمَه وهم المصدِّقُون بها والجملةُ تكملة لما قبلها. وتقديمُ التَّعذيبِ لما أنَّ التَّرهيبَ أنسبُ بالمقام من الترَّغيبِ {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} عند ذلك لا إلى غيرهِ فيفعلُ بكم ما يشاءُ من التَّعديبِ والرَّحمةِ {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} له تعالى عن إجراءِ حُكمه وقَضائه عليكم {فِي الارض وَلاَ فِي السماء} أي بالتَّواري في الأرضِ أو الهبوطِ في مَهَاويها ولا بالتَّحصُّنِ في السَّماءِ التي هي أفسحُ منها لو استطعتُم الرُّقيَّ فيها كما في قولِه تعالى: {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والارض فانفذوا} أو القلاعِ الذَّاهبةِ فيها وقيل في السَّماء صفةٌ لمحذوفٍ معطوفٍ على أنتُم أي ولا من في السَّماءِ {وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} يحرسكم ممَّا يُصيبكم من بلاءٍ يظهرُ من الأرضِ أو ينزلُ من السَّماءِ ويدفعُه عنكم.