فصل: تفسير الآيات (28- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (28- 29):

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}
{ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً} يتبيَّن به بطلانُ الشِّركِ {مّنْ أَنفُسِكُمْ} أي مُنتزعاً من أحوالِها التي هي أقربُ الأمورِ إليكم وأعرفُها عندكم وأظهرُها دلالةً على ما ذُكر من بطلان الشِّرك لكونها بطريقِ الأولوية. وقوله تعالى: {هَلْ لَّكُمْ} إلخ تصوير للمثلِ أي هل لكم {مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} من العبيدِ والإماءِ {مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم} من الأموالِ وما يجري مجراها مَّما تتصرَّفون فيها. فمِن الأُولى ابتدائيةٌ، والثَّانيةُ تبعيضيةٌ، والثَّالثةُ مزيدةٌ لتأكيدِ النَّفيِ المُستفادِ من الاستفهامِ. فقوله تعالى: {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} تحقيقٌ لمعنى الشركة وبيانٌ لكونِهم وشركانِهم متساوين في التَّصرف فيما ذُكر من غير مزيَّةِ لهم عليها على أنَّ هناك محذوفاً معطوفاً على أنتُم لا أنَّه عامٌّ للفريقين بطريق التَّغليب أي هل ترضَون لأنفسكم والحالُ أنَّ عبيدَكم أمثالُكم في البشريةِ وأحكامِها أنْ يشاركوكم فيما رزقناكم وهو مستعارٌ لكم فأنتم وهم فيه سواءٌ يتصرَّفون فيه كتصرُّفكم من غير فرقٍ بينكم وبينهم.
{تَخَافُونَهُمْ} خبرٌ آخرُ لأنتم أو حالٌ من ضميرِ الفاعل في سواءٌ أي تهابون أنْ تستبدُّوا بالتَّصرُّف فيه بدون رأيهم {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي خيفةً كائنةً مثلَ خيفتِكم من الأحرارِ المساهيمنَ لكم فيما ذُكر والمعنى نفيُ مضمونٍ ما فصَّل من الجملةِ الاستفهامَّيةِ أي لا ترضَون بأنْ يشاركَكم فيما هو معارٌ لكم مماليكُكم وهم أمثالُكم في البشريةِ غيرُ مخلوقين لكُم بل لله تعالى فكيف تُشركون به سبحانه في المعبوديةِ التي هي من خصائصِه الذاتيةِ مخلوقَه بل مصنوعَ مخلوقِه حيثُ تصنعونَه بأيديكم ثم تعبدونَه.
{كذلك} أي مثلَ ذلك التَّفصيلِ الواضح {نُفَصّلُ الآيات} أي نبيِّنها ونوضِّحها لا تفصيلاً أدنى منه فإنَّ التَّمثيل تصويرٌ للمعاني المعقولة بصورةِ المحسوس وإبراز لأوابدِ المُدركاتِ على هيئة المأنوسِ فيكون في غايةِ الإيضاحِ والبيان {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي يستعملون عقولَهم في تدبُّرِ الأمور، وتخصيصُهم بالذِّكرِ مع عموم تفصيلِ الآياتِ للكلِّ لأنَّهم المتنفعون بها {بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ} إعراضٌ عن مخاطبتهم ومحاولةُ إرشادِهم إلى الحقِّ بضربِ المثلِ وتفصيلِ الآياتِ واستعمالِ المقدِّماتِ الحقَّةِ المعقولةِ وبيانٌ لاستحالةِ تبعيتهم للحقِّ كأنَّه قيل لم يعقلوا شيئاً من الأياتِ المُفصَّلةِ با اتَّبعوا {أَهْوَاءهُمْ} الزائغةَ. ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بأنَّهم في ذلك الاتباعِ ظالمون واضعون للشيءِ في غيرِ موضعهِ أو ظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي جاهلين ببطلانِ ما أتَوَا مكبِّين عليه لا يلويهم عنه صارفٌ حسبما يصرِّف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله} أي خلقَ فيه الضَّلالَ بصرفِ اختيارِه إلى كسبِه أي لا يقدرُ على هدايتِه أحدٌ {وَمَا لَهُمْ} أي لمن أضلَّه الله تعالى والجمعُ باعتبارِ المعنى {مّن ناصرين} يُخلَّصونهم من الضَّلالِ ويحفظونهم من تبعاته وآفاتِه على معنى ليس لواحدٍ منهم ناصرٌ واحدٌ على ما هو قاعدةُ مقابلةِ الجمعِ بالجمعِ.

.تفسير الآيات (30- 32):

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} تمثيلٌ لإقباله على الدِّين واستقامتهِ وثباتِه عليه واهتمامِه بترتيبِ أسبابِه فإنَّ من اهتمَّ بشيءٍ محسوسٍ بالبصر عقدَ عليه طرفَه وسدَّد إليه نظرَهُ وقوَّم له وحهَه مُقبلاً به عليه أي فقوِّم وجهَك له وعُدْ له غيرَ ملتفتٍ يميناً وشمالاً. وقوله تعالى: {حَنِيفاً} حالٌ من المأمورِ أو من الدِّين {فِطْرَةَ الله} الفطرةُ الخلِقةُ. وانتصابُها على الإغراءِ أي الزمُوا أو عليكم فطرةَ الله فإنَّ الخطابَ لكلِّ كما يُفصح عنه قولُه تعالى منيبين، والإفراد في أقِم لما أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاة والسَّلام إمامُ الأمَّةِ فأمره عليه السَّلامُ مستتبع لأمرِهم، والمرادُ بلزومِها الجريانُ على موجبِها وعدمُ الإخلالِ به باتباعِ الهَوَى وتسويلِ الشَّياطينِ، وقيل على المصدرِ أي فطرَ الله فطرةً. وقولُه تعالى: {التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} صفةٌ لفطرةَ الله مؤكدةٌ لوجوبِ الامتثالِ بالأمرِ فإنَّ خلقَ الله النَّاسَ على فطرتِه التي هي عبارةٌ عن قبولِهم للحقَّ وتمكُّنُهم من إدراكِه أو عن ملَّة الإسلامِ من موجباتِ لزومِها والتمسُّك بها قطعاً فإنَّهم لو خُلُّوا وما خُلقوا عليه أدَّى بهم إليها وما اختاروا عليها ديناً آخر ومن غَوى منهم فبإغواءِ شياطين الإنسِ والجنِّ ومنه قولُه عليها الصَّلاة والسَّلام حكايةٌ عن ربَّ العِزَّةِ: «كلَّ عبادِي خلقتُ حنفاءَ فاجتالتْهُم الشياطينُ عن ديِنهم وأمرُوهم أنْ يُشركوا بي غيري» وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ حتَّى يكونَ أَبَواه هُما اللذانِ يهوِّدانه ويُنصِّرانِه» وقولُه تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} تعليلٌ للأمرِ بلزومِ فطرتِه تعالى أو لوجوبِ الامتثالِ به أي لا صَّحةَ ولا استقامةَ لتبديلةِ بالإخلالِ بموجبِه وعدمِ ترتيبِ مقتضاهُ عليه باتِّباعِ الهَوَى وقبولِ وسوسةِ الشَّيطانِ وقيل لا يقدرُ أحدٌ على أنْ يُغيره فلابد حينئذٍ من حملِ التَّبديلِ على تبديلِ نفسِ الفطرةِ بإزالتِها رأساً ووضعِ فطرةٍ أُخرى مكانَها غيرِ مصححةٍ لقبولِ الحقِّ والتمكنِ من إدراكِه ضرورةَ أنَّ التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعاً فالتعليل حينئذ من جهة أنَّ سلامة الفطرةِ متحققةٌ في كلِّ أحدٍ فلابد من لزومِها بترتيبِ مُقتضاها عليها وعدمُ الإخلالِ به بما ذُكر من اتِّباعِ الهوى وخطواتِ الشَّيطانِ {ذلك} إشارةٌ إلى الدِّين المأمورِ بإقامةِ الوجهِ له أو إلى لزومِ فطرةِ الله المستفادِ من الاغراءِ أو إلى الفطرةِ إنْ فسِّرت بالملَّة. والتَّذكيرُ بتأويلِ المذكورِ أو باعتبارِ الخبرِ {الدين القيم} المُستوِي الذي لا عِوَجَ فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلكَ فيصدُّون عنه صُدوداً {ءاوى إِلَيْهِ} حالٌ من الضَّميرِ في النَّاصبِ المقدَّرِ لفطره الله أو في أقِم لعمومِه للأمَّةِ حسبما أُشير إليه وما بينَهما اعتراضٌ أي راجعين إليه من أنابَ إذَا رجعَ مرَّةً بعدَ أُخرى. وقوله تعالى: {واتقوه} أي من مخالفةِ أمرهِ.
عطفٌ على المقدَّرِ المذكورِ. وكذا قولُه تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} المبدِّلين لفطرةِ الله تعالى تبديلاً {مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} بدلٌ من المشركينَ بإعادةِ الجارِّ. وتفريقُهم لدينهم اختلافُهم فيما يعبدونَه على اختلافِ أهوائِهم. وفائدةُ الإبدالِ التَّحذيرُ عن الانتماءِ إلى حزبٍ من أحزابِ المشركينَ ببيان أنَّ الكلَّ على الضَّلالِ المبينِ وقرئ: {فارقُوا} أي تركُوا دينَهم الذي أُمروا به {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي فِرقاً تشايعُ كلٌّ منها إمامَها الذي أضلَّها {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدينِ المعوجِ المؤسَّس على الرَّأيِ الزَّائغِ والزَّعمِ الباطلِ {فَرِحُونَ} مسرورون ظنَّاً منهم أنَّه حقٌّ وأَنَّى له ذلك. فالجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله من تفريقِ دينِهم وكونِهم شيعاً وقد جُوِّز أنْ أن يكونَ فرحون صفةً لكلُّ على أنَّ الخبرَ هو الظرفُ المقدَّمُ أعني من الذين فرَّقُوا ولا يخفى بعدُه.

.تفسير الآيات (33- 37):

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)}
{وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} أي شدَّةٌ {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعينَ إليه من دعاءِ غيرِه {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} خلاصاً من تلك الشدَّة {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ} الذي كانُوا دَعَوه منيبين إليه {يُشْرِكُونَ} أي فاجأ فريقٌ منهم الإشراكَ وتخصيصُ هذا الفعلِ ببعضِهم لما أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك كما في قولِه تعالى: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} أي مقيمٌ على الطَّريقِ القصدِ أو متوسطٌ في الكفرِ لانزجارهِ في الجُملة {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم} اللامُ فيه للعاقبةِ وقيل للأمرِ التَّهديديِّ كقولِه تعالى: {فَتَمَتَّعُواْ} غيرَ أنَّه التفتَ فيه للمبالغةِ وقرئ: {وليتمتَّعوا} {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ تمتُّعِكم. وقرئ بالياءِ، على أنَّ تمتَّعوا ماضٍ والالتفاتُ إلى الغَيبةِ في قوله تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ} للإيذان بالإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرِهم بطريقِ المُباثّةِ {سلطانا} أي حجَّةً واضحةً وقيل: ذا سلطانٍ أي مَلَكاً معه برهانٌ {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} تكلُّمَ دلالةٍ كما في قولِه تعالى: {هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أو تكلُّمَ نطقٍ {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} بإشراكهم به تعالى أو بالأمر الذي بسببه يُشركون. {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} أي نعمة من صَّحةٍ وسَعَةٍ {فَرِحُواْ بِهَا} بَطَراً وأشَراً لا حَمْداً وشُكْراً {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} شدَّةٌ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بشؤمِ معاصِيهم {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فاجؤوا القُنوطَ من رحمتهِ تعالى وقرئ بكسرِ النُّونِ.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا {أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} فما لهم لم يشكرُوا ولم يحتسبُوا في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ كالمؤمنينَ {إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلُّون بها على كمالِ القدرةِ والحكمةِ.

.تفسير الآيات (38- 41):

{فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}
{فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} من الصلةِ والصدقةِ وسائرِ المَبَرَّاتِ {والمساكين وابن السبيل} ما يستحقَّانِه والخطابُ للنبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أو لمن بُسط له كما تُؤذن به الفاءُ {ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} ذاتَه أو جهتَه ويقصدون بمعروفهم إيَّاه تعالى خالصاً أو جهةَ التقربِ إليه لا جهةً أُخرى {وأولئك هُمُ المفلحون} حيث حصَّلْوا بما بُسط لهم النَّعيمَ المُقيمَ {وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً} زيادةٌ خاليةٌ عن العوضِ عند المعاملةِ وقرئ: {أتيتُم} بالقصرِ أي غشيتمُوه أو رهقتمُوه من إعطاءِ رباً {لّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس} ليزيدَ ويزكو في أموالِهم {فَلاَ يَرْبُواْ عَندَ الله} أي لا يُبارك فيه وقرئ: {لتربُوا} أي لتزيدُوا أو لتصيرُوا ذوي رِبا {وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} أي تبتغُون به وجهَه تعالى خالِصاً {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون} أي ذُوو الأضعافِ من الثَّوابِ ونظيرُ المُضْعف المُقْوى والموسر لذي القوة واليسارِ أو الذين ضعّفوا ثوابَهم وأموالَهم بالبركةِ. وقرئ بفتحِ العينِ، وفي تغييرِ النَّظمِ الكريمِ والالتفاتِ من الجَزَالةِ ما لا يَخْفى.
{الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء} أثبت له تعالى لوازمَ الأُلوهيَّةِ وخواصَّها ونفاها رأساً عَّما اتخذوه شركاء له تعالى من الأصنامِ وغيرِها مؤكِّداً بالإنكارِ على ما دلَّ عليه البرهانُ والعيانُ ووقع عليه الوفاقُ ثم استنتج منه تنزهه عن الشُّركاءِ بقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقد جُوِّز أن يكونَ الموصولُ صفةً والخبرُ هل من شركائِكم والرابطُ قولُه تعالى مِن ذلِكم لأنه بمعنى من أفعاله ومن الأولى والثانية تفيدانِ شيوعَ الحُكمِ في جنسِ الشُّركاءِ والأفعالِ والثَّالثة مزيدةٌ لتعميمِ المنفيِّ وكل منها مستقلة بالتأكيدِ وقرئ: {تُشرِكون} بصيغةِ الخطابِ {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} كالجدبِ والمَوَتانِ وكثرةِ الحَرَقِ والغَرَقِ وإخفاقِ الغاصةِ ومحقِ البركاتِ وكثرةِ المضارِّ أو الضَّلالةِ والظُّلمِ، وقيل المرادُ بالبحرِ قُرى السَّواحلِ وقُرى البحورِ {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس} بشؤمِ مَعَاصيهم أو بكسبِهم إيَّاها. وقيل ظهر الفسادُ في البرَّ بقتلِ قابيلَ أخاهُ هابيلَ وفي البحرِ بأنَّ جَلَندى كانَ يأخذُ كلَّ سفينةٍ غَصْباً {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} أي بعضَ جزائِه فإنَّ تمامَه في الآخرةِ واللامُ للعلَّةِ أو للعاقبةِ وقرئ: {لنُذيقهم} بالنَّونِ. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عمَّا كانُوا عليه.

.تفسير الآيات (42- 46):

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)}
{قُلْ سِيرُواْ فِي الارض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ} ليشاهدُوا آثارَهم {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} استئنافٌ للدَّلالة على أنَّ ما أصابَهم لفشوِّ الشركِ فيما بينَهم أو كان الشركُ في أكثرِهم وما دونه من المَعاصي في قليلٍ منهم {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم} أي البليغِ الاستقامة {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} لا يقدرُ أحدٌ على ردِّه {مِنَ الله} متعلق بيأتِى أو بمردِّ لأنه مصدرٌ والمعنى لا يردُّه الله تعالى لتعلُّقِ إرادتِه القديمةِ بمجيئِه {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدَّعون أي يتفرَّقُون فريقٌ في الجَّنةِ وفريقٌ في السَّعيرِ.
{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وبالُ كفرِه وهو النَّارُ المؤبَّدة {وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يسوون منزلاً في الجنَّة وتقديمُ الظَّرفِ في الموضعينِ للدِّلالة على الاختصاصِ {لِيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ} متلق بيصدَّعُون وقيل: بيمهدون أي يتفرَّقون بتفريقِ الله تعالى فريقينِ ليُجزي كلاً منهما بحسبِ أعمالِهم، وحيث كان جزاءُ المؤمنين هو المقصودَ بالذَّاتِ أُبرز ذلك في معرضِ الغايةِ وعبر عنه بالفضلِ لما أَنَّ الإثابةَ بطريق التفضيل لا الوجوبِ وأُشير إلى جزاءِ الفريقِ الآخرِ بقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} فإنَّ عدمَ محبتهِ تعالى كنايةٌ عن بُغضهِ الموجبِ لغضبهِ المستتبعِ للعقوبةِ لا محالةَ {وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح} أي الشَّمالَ والصَّبَا والجَنوبَ فإنَّها رياحُ الرَّحمةِ وأما الدَّبُورُ فريحُ العذابِ ومنه قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام: «اللهمَّ اجعلْهَا رياحاً ولا تجعلْها ريحاً» وقرئ: {الرِّيحَ} على إرادةِ الجنسِ {مبشرات} بالمطرِ {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} وهي المنافعُ التَّابعةُ لها وقيل: الخصبُ التَّابعُ لنزولِ المطرِ المسبَّبِ عنها أو الرَّوح الذي هو مع هبُوبِها. واللامُ متعلقةٌ بيرسل والجملةُ معطوفةٌ على مبشِّراتٍ على المعنى كأنَّه قيل ليبشركم بها وليذيقَكم أو بمحذوفٍ يُفهم من ذكرِ الإرسالِ تقديرُه وليذيقكم وليكون كذا وكذا يُرسلها لا لأمرٍ آخرَ لا تعلق له بمنافعِكم {وَلِتَجْرِىَ الفلك} بسوقِها {بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بتجارةِ البحرِ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمةَ الله فيما ذُكر من الغاياتِ الجليلةِ.

.تفسير الآيات (47- 50):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} كما أرسلناك إلى قومِك {فَجَاؤُهُم بالبينات} أي جاء كلُّ رسول قومَه بما يخصُّه من البيِّنات كما جئتَ قومَك ببيِّناتك. والفاءُ في قولِه تعالى: {فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ} فصيحةٌ، أي فكذَّبُوهم فانتقمنَا منهم وإنَّما وضعَ موضعَ ضميرِهم الموصولُ للتنبيه على مكانِ المحذوفِ والإشعارِ بكونِه علَّةً للانتقامِ وفي قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} مزيدُ تشريفٍ وتكرمةٍ للمؤمنينَ حيثُ جُعلوا مستحقِّين على الله تعالى أنْ ينصرَهم، وإشعارٌ بأنَّ الانتقامَ من الكفرةِ لأجلهِ وقد يُوقف على حقَّاً على أنَّه متعلق بالانتقامِ، ولعلَّ توسيط الآيةِ الكريمةِ بطريقِ الاعتراضِ بين ما سبقَ وما لحقَ من أحوالِ الرِّياحِ وأحكامِها لإنذارِ الكَفَرةِ وتحذيرِهم عن الإخلالِ بمواجبِ الشُّكرِ المطلوبِ بقولِه تعالى لعلَّكم تشكرُون بمقابلةِ النعمِ المعدودةِ المنوطةِ بإرسالِها كيلا يحلَّ بهم مثلُ ما حلَّ بأولئك الأممِ من الانتقامِ.
{الله الذي يُرْسِلُ الرياح} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ ما أُجمل فيما سبقَ من أحوالِ الرِّياحِ {فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ} متصلاً تارةً {فِى السماء} في جوِّها {كَيْفَ يَشَاء} سائراً وواقفاً مُطبقاً وغيرَ مطبقٍ من جانبٍ دون جانبٍ إلى غيرِ ذلك. {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} تارةً أُخرى أي قِطعاً. وقرئ بسكونِ السِّينِ على أنَّه مخففٌ، جمعُ كِسْفة أو مصدرٌ وصفَ به {فَتَرَى الودق} المطرَ {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} في التارتين. {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي بلادَهم وأراضيَهم {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} فاجؤا الاستبشارَ بمجيء الخِصْبِ {وَإِن كَانُواْ} إنْ مخففة من إنَّ وضميرُ الشَّأنِ الذي هُو اسمُها محذوفٌ أي وإنَّ الشَّأنَ كانَوا {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي المطرُ {مِن قَبْلِهِ} تكريرٌ للتَّأكيدِ والإيذانِ بطولِ عهدِهم بالمطرِ واستحكامِ يأسِهم منه، وقيل الضَّميرُ للمطرِ أو السَّحابِ أو الإرسالِ وقيل: للكسف على القراءةِ بالسكون وليس بواضحٍ وأقربُ من ذلك أنْ يكونَ الضَّميرُ للاستبشارِ، ومن متعلقة بينزل لتفيد سرعةَ تقَلبِ قلوبِهم من اليأسِ إلى الاستبشار بالإشارةِ إلى غايةِ تقاربِ زمانيهما ببيانِ اتصالِ اليأسِ بالتنزيلِ المتصلِ بالاستبشارِ وبشهادةِ إذا الفجائية {لَمُبْلِسِينَ} خبرُ كانُوا، واللامُ فارقةٌ، أي آيسينَ {فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ الله} المترتبةِ على تنزيلِ المطرِ من النباتِ والأشجارِ وأنواعِ الثمارِ. والفاءُ للدِّلالةِ على سرعةِ ترتبها عليهِ. وقرئ: {أثرِ} بالتوَّحيدِ. وقولُه تعالى: {كَيْفَ يُحْىِ} أي الله تعالى {الارض بَعْدَ مَوْتِهَا} في حيِّزِ النِّصبِ بنزعِ الخافضِ. وكيفَ معلِّقٌ لانظرْ أي فانظُرْ إلى إحيائِه البديعِ للأرضِ بعد موتِها وقيلَ: على الحاليَّةِ بالتَّأويلِ وأيَّاً ما كان فالمُرادُ بالأمرِ بالنَّظرِ التنبيهُ عَلَى عظمِ قُدرتِه تعالى وسَعَةِ رحمتِه مع ما فيه من التَّمهيدِ لما يعقبُه مِنْ أمرِ البعثِ، وقرئ: {تُحيي} بالتَّأنيثِ على الإسنادِ إلى ضميرِ الرَّحمةِ {إِنَّ ذلك} العظيمَ الشَّأنِ الذي ذُكر بعضُ شؤونه {لَمُحْيِى الموتى} لقادرٌ على إحيائِهم فإنَّه إحداثٌ لمثلِ ما كانَ في موادِّ أبدانِهم من القُوى الحَيَوانيَّةِ كما أنَّ إحياءَ الأرضِ إحداثٌ لمثلِ ما كانَ فيها منَ القُوى النباتيَّةِ أو لمحييهم البتةَ. وقوله تعالى: {وَهُوَ على كُلّ شيء قَدِيرٌ} تذييلٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبلَه أي مبالغٌ في القُدرةِ على جميعِ الأشياءِ التي من جملتها إحياؤُهم لما أنَّ نسبةَ قُدرتِه إلى الكُلِّ سواءٌ.