فصل: تفسير الآيات (51- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (51- 53):

{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ} أي الأثرَ المدلُولَ عليه بالآثارِ فإنَّه اسمُ جنسٍ يعمُّ القليلَ والكثيرَ {مُصْفَرّاً} بعد خُضرتِه وقد جُوِّز أنْ يكونَ الضَّميرُ للسَّحابِ لأنَّه إذا كان مُصفرَّاً لم يُمطر ولا يخفى بعدُه. واللامُ في لئن موطِّئةٌ للقسمِ دخلتْ على حرفِ الشَّرطِ والفاءُ في فَرأَوه فصيحة واللامُ في قولِه تعالى: {لَّظَلُّواْ} لامُ جوابِ القسمِ السادِّ مسدَّ الجوابينِ أي وبالله لئنْ أرسلنا ريحاً حارةً أو باردةً فضربتْ زرْعَهُم بالصَّفارِ فرأَوَه مُصفرَّاً ليظلنَّ {مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} من غيرِ تلعثُمٍ وفيه منْ ذمِّهم بعد تثبيتِهم وسرعةِ تزلزلِهم بين طَرَفيْ الإفراطِ والتَّفريطِ ما لا يخفى حيثُ كان الواجبُ عليهم أن يتوكلوا على الله تعالى في كل حال ويلجؤوا إليه بالاستغفار إذا احتبسَ عنهم القطرُ ولا ييأسوا من رَوحِ الله تعالى ويبادرُوا إلى الشُّكرِ بالطَّاعةِ إذا أصابَهم برحمتِه ولا يفرِّطوا في الاستبشارِ وأنْ يصبرُوا على بلائِه إذا اعترى زرعَهم آفةٌ ولا يكفرُوا بنعمائِه فعكسُوا الأمرَ وأبَوا ما يُجديهم وأَتَوا بما يُرديهم {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} لما أنَّهم مثلُهم لا نسدادِ مشاعرِهم عن الحقِّ {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} تقييدُ الحكم بما ذُكر لبيانِ كمالِ سُوء حالِ الكفرةِ والتنبيه على أنَّهم جامعُون لخصلتي السُّوءِ نبوِّ أسماعِهم عن الحقَّ وإعراضِهم عن الإصغاءِ إليهِ ولو كانَ فيهم إحداهُما لكفاهُم ذلك فكيفَ وقد جمعُوهما فإنَّ الأصمَّ المقبلَ إلى المتكلِّمِ ربَّما يفطَنُ من أوضاعِه وحركاتِه لشىءٍ من كلامِه وإنْ لم يسمعْهُ أصلاً وأمَّا إذا كانَ مُعرضاً عنه فلا يكادُ يفهمُ منه شيئاً. وقرئ بالياءِ المفتوحةِ ورفعِ الصُّمِّ {وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} سمُّوا عُمياً إما لفقدِهم المقصودِ الحقيقيِّ من الإبصارِ أو لعَمَى قلوبِهم. وقرئ: {تهدِي العميَ} {إِن تُسْمِعُ} أي ما تُسمِعُ {إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} فإنَّ إيمانَهم يدعُوهم إلى التَّدبرِ فيها وتلقِّيها بالقَبُولِ إو إلاَّ من يُشارفُ الإيمانَ بها ويُقبل عليها إقبالاً لائقاً {فَهُم مُّسْلِمُونَ} مُنقادُون لما تأمرُهم به من الحقِّ.

.تفسير الآيات (54- 57):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}
{الله الذي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} مبتدأٌ وخبرٌ أي ابتدأكُم ضعفاءَ وجعلَ الضَّعفَ أساسَ أمرِكم كقولِه تعالى: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} أي خلقكُم من أصلٍ ضعيفٍ هو النُّطفة. {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} وذلك عند بلوغِكم الحُلُمَ أو تعلقِ الرُّوح بأبدانِكم {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} إذا أخذَ منكم السنُّ. وقرئ بضمِّ الضَّادِ في الكلِّ وهو أَقوى لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: قرأتها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأقرأنِي من ضُعفٍ. وهُما لغُتانِ كالفَقْرِ والفُقْرِ. والتَّنكيرُ معَ التَّكريرِ لأنَّ المتقدِّمَ غيرُ المتأخرِ. {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} من الأشياءَ التي من جُملتِها ما ذُكر من الضَّعفِ والقُوَّةِ والشَّيبةِ {وَهُوَ العليم القدير} المبالغُ في العلمِ والقدرةِ فإنَّ التَّرديدَ فيما ذُكر من الأطوارِ المختلفةِ من أوضحِ دلائلِ العلمِ والقدرةِ {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} أي القيامةُ سُمِّيتْ بها لأنَّها تقومُ من آخرِ ساعةٍ من ساعاتِ الدُّنيا أو لأنَّها تقعُ بغثةً وصارتْ عَلَماً لها كالنَّجمِ للثُّريَّا والكوكَبِ للزُّهْرةِ. {يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ} أي في القبُورِ أو في الدُّنيا. والأولُ هُو الأظهرُ لأنَّ لبثَهم مُغيَّا بيومِ البعثِ كما سيأتي وليسَ لبثُهم في الدُّنيا كذلكَ وقيلَ: فيما بين فناءِ الدُّنيا والبعثِ وانقطاع عذابِهم. وفي الحديثِ: «ما بينَ فناءِ الدُّنيا وَالبَعثِ أربعونَ» وهُو محتملٌ للسَّاعاتِ والأيَّامِ والأعوامِ وقيلَ: لا يعلم أهي أربعونَ سنة أو أربعونَ ألفِ سنة {غَيْرَ سَاعَةٍ} استقلُّوا مدَّة لبثهم نسياناً أو كذباً أو تخميناً {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} مثلَ ذلكَ الصَّرفِ كانوا يُصرفون في الدُّنيا عن الحقِّ والصِّدقِ.
{وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان} في الدُّنيا من الملائكةِ والإنسِ {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كتاب الله} في علمهِ أو قضائهِ أو ما كتبَه وعيَّنه أو في اللَّوحِ أو القرآنِ وهو قوله تعالى: {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} {إلى يَوْمِ البعث} ردُّوا بذلك ما قالُوه وأيَّدوه باليمين كأنَّهم من فرطِ حَيرتِهم لم يدرُوا أنَّ ذلك هو البعثُ الموعودُ الذي كانُوا ينكرونَه وكانُوا يسمعون أنَّه يكونُ بعد فناءِ الخلقِ كافَّة ويقدرون لذلك زماناً مديداً وإنْ لم يعتقدُوا تحقُّقه فردَّ العالِمونَ مقالتَهم ونبَّهوهم على أنَّهم لبثُوا إلى غايةٍ بعيدةٍ كانُوا يسمعونَها وينكرونَها وبكَّتوهم بالإخبارِ بوقوعِها حيثُ قالُوا {فهذا يَوْمُ البعث} الذي كنتُم تُوعدون في الدُّنيا {ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أنَّه حقٌّ فتستعجلون به استهزاءً والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ كما في قول مَن قالَ:
قالُوا خراسانُ أقْصَى ما يُرادُ بنا ** ثمَّ القُفولُ، فقد جِئنا خُراساناً

{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} أي عذرُهم. وقرئ: {تنفعُ} بالتاء محافظةً على ظاهرِ اللفظِ وإنْ توسط بينهما فاصلٌ {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لا يُدعون إلى ما يقتضِي إعتابَهم أي إزالةَ عَتْبِهم من التَّوبة والطَّاعةِ كما دُعوا إليه في الدُّنيا من قولِهم استعتبني فلانٌ فاعتبتُه أي استرضانِي فأرضيته.

.تفسير الآيات (58- 60):

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ} أي وبالله لقد بينَّا لهم كلَّ حالٍ ووصفنا لهم كلَّ صفةٍ كأنَّها في غرابتها مَثَلٌ وقصصنا عليهم كلَّ قصَّةٍ عجيبةِ الشَّأنِ كصفةِ المبعوثينَ يومَ القيامةِ وقصتهم وما يقولُونَ وما يُقال لهم ويفعلُ بهم من ردِّ اعتذارِهم {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ} من آياتِ القُرآنِ النَّاطقةِ بأمثالِ ذلك {لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ} لفرطِ عتوِّهم وعنادِهم وقساوةِ قلوبِهم مخاطبينَ للنبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنين {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي مزوِّرون {كذلك} مثلَ ذلك الطَّبعِ الفظيعِ {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَّ يَعْلَمُونَ} لا يطلبونَ العلمَ ولا يتحرَّون الحقَّ بل يُصرُّون على خرافاتٍ اعتقدوها وتُرَّهاتٍ ابتدعُوها فإن الجهلَ المركَّبَ يمنعُ إدراكُ الحقِّ ويوجبُ تكذيبَ المُحقِّ.
{فاصبر} على ما تُشاهد منهم من الأقوالِ الباطلةِ والأفعالِ السئيةِ {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} وقد وعدك بالنُّصرةِ وإظهارِ الدِّينِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ ولابد من إنجازِه والوفاءِ به لا محالةَ {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ} لا يحملنَّك على الخفَّةِ والقلقِ {الذين لاَ يُوقِنُونَ} بما تتلُو عليهم من الآياتِ البيِّنةِ بتكذيبِهم إيَّاها وإيذائِهم لك بأباطِيلِهم التي مِنْ جُملتها قولُهم إنْ أنتُم إلا مُبطلون فإنَّهم شاكُّون ضالُّون ولا يُستبعد منهم أمثالُ ذلك. وقرئ بالنُّون المخففةِ وقرئ: {ولا يستحقنَّك} من الاستحقاقِ أي لا يفتُننَّك فيملكوكَ ويكونُوا أحقَّ بك من المؤمنينَ. وأياً ما كان فظاهرُ النَّظمِ الكريمِ وإنْ كانِ نهياً للكَفَرةِ عن استخفافِه عليه السَّلامُ عن التَّاثرِ من استخفافِهم والافتنانِ بفتنتِهم على طريقِ الكنايةِ كما في قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَن لا تَعْدِلُواْ} عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ الرُّوم كانَ له مِن الأجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ كلِّ مَلَكٍ يُسبِّحُ الله تعالى بينَ السَّماءِ والأرضِ وأدركَ ما ضيَّع في يومِه وليلتهِ».

.سورة لقمان:

مكية وقيل {إلا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} فإن وجوبهما في المدينة وهو ضعيف لأنه ينافى شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثاً من قوله: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} وهي أربع وثلاثون آية.

.تفسير الآيات (1- 6):

{الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)}
{الم تِلْكَ ءايات الكتاب} سلفَ بيانُه في نظائرِه {الحكيم} أي ذي الحكمةِ لاشتماله عليها أو هو وصفٌ له بنعته تعالى أو أصلُه الحكيمُ منزلُه أو قائلُه فخُذفَ المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليهِ مُقامَه فانقلبَ مرفُوعاً فاستكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ. وقيل الحكيمُ فعيلٌ بمعنى مُفْعَلٍ كما قالُوا أعقدتُ اللَّبنَ فهو عَقِيدٌ أي مُعْقَدٌ وهو قليلٌ وقيلَ بمعنى فاعلٍ {هُدًى وَرَحْمَةً} بالنَّصبِ على الحاليَّةِ من الآياتٍ والعاملُ فيهما معنى الإشارةِ. وقُرئا بالرَّفعِ على أنَّهما خبرانِ آخرانِ لاسمِ الإشارة أو لمبتدأ محذوف {لّلْمُحْسِنِينَ} أي العاملين للحسنات فإن أريد بها مشاهيرُها المعهودةُ في الدِّينِ فقولُه تعالى: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُم بالاخرة هُمْ يُوقِنُونَ} بيانٌ لما عملوها من الحسناتِ على طريقةِ قولِه:
الأَلْمعيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّن ** كَأَنْ قَد رَأَى وقَدْ سَمِعا

وإنْ أُريد بها جميعُ الحسناتِ فهو تخصيصٌ لهذه الثلاثِ بالذكرِ من بين سائر شُعبِها لإظهارِ فضلِها وإنافتِها على غيرِها، وتخصيصُ الوجهِ الأولِ بصورةِ كونِ الموصولِ صفةً للمحسنين والوجهِ الآخيرِ بصورةِ كونِه مبتدأً مما لا وجَه له. {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} الفائزون بكلِّ مطلوبٍ والنَّاجُون من كلِّ مهروبٍ لحيازتِهم قُطريْ العلمِ والعملِ وقد مرَّ فيه من المقالِ في مطلع سورةِ البقرةِ بما لا مزيدَ عليهِ. {وَمِنَ الناس} محله الرَّفعُ على الابتداءِ باعتبارِ مضمونِه أو بتقديرِ الموصوفِ. ومَن في قولِه تعالى: {مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث} موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُّها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضُ النَّاسِ، أو وبعضٌ مِن النَّاسِ الذي يشترِي أو فريقٌ يشتِري على أنَّ مناطَ الإفادةِ والمقصودَ بالأصالةِ هو اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتَ أولئك المذكورينَ كما مرَّ في قولِه تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر} الآياتِ ولهوُ الحديثِ ما يُلهى عمَّا يُعنى من المهمَّاتِ كالأحاديثِ التي لا أصلَ لها والأساطير التي لا اعتدادَ بها والمضاحكِ وسائرِ ما لا خيرَ فيه من فضُولِ الكلامِ. والإضافةُ بمعنى من التبيينيةِ إنْ أُريد بالحديثِ المنكرُ وبمعنى التبعيضيةِ إن أُريد به الأعمُّ مِن ذلكَ. وقيلَ نزلتِ الآيةُ في النَّضرِ بنِ الحارث اشترى كتبَ الأعاجمِ وكان يُحدِّثُ بها قُريشاً ويقولُ إنْ كان محمدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام يُحدِّثكم بحديثِ عادٍ وثمودٍ فأَنا أُحدِّثكم بحديثِ رُسْتُمَ واسفِنْدِيارَ والأكاسرةِ. وقيلَ كان يشترِي القيانَ ويحملهنَّ على مُعاشرةِ مَن أرادَ الإسلامَ ومنعِه عنْهُ {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} أي دينِه الحقِّ الموصِّلِ إليهِ تعالى أو عن قراءةِ كتابِه الهادِي إليه تعالى.
وقرئ: {ليَضلَّ} بفتح الياء أي ليثبُتَ ويستمرَّ على ضلالِه أو ليزدادَ فيه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بحالِ ما يشتريِه أو بالتِّجارةِ حيثُ استبدلَ الشرَّ البَحتَ بالخيرِ المحضِ. {وَيَتَّخِذَهَا} بالنَّصبِ عطفاً على يُضلَّ. والضَّميرُ للسَّبيلِ فإنَّه ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو دينُ الإسلامِ أو القُرآنِ أي ويتخذَها {هُزُواً} مَهزُواً بهِ. وقرئ: {ويتخذُها} بالرَّفعِ عطفاً على (يشترِي). وقوله تعالى: {أولئك} إشارةٌ إلى مَن. والجمعُ باعتبارِ معناها كما أنَّ الإفرادَ في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها، وما فيه منْ مَعنْى البُعد مع قُربِ العهدِ بذكرِ المُشارِ إليهِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشَّرارةِ أي أولئكَ الموصُوفون بما ذُكر من الاشتراءِ للإضلالِ {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} لما اتَّصفُوا به من إهانتِهم الحقِّ بإيثارِ الباطلِ عليهِ وترغيبِ النَّاس فيه.

.تفسير الآيات (7- 8):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)}
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ} أي على المُشتري، أُفرد الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه كالضَّمائرِ الثلاثةِ الأولِ باعتبارِ لفظةِ مَن بعدَ ما جُمع فيما بينهما باعتبارِ معناها. {ءاياتنا} التي هي آياتُ الكتابِ الحكيمِ وهدى ورحمةٌ للمحسنين {وَلَّى} أعرض عنها غيرَ معتدَ بها {مُسْتَكْبِراً} مبالغاً في التَّكَبُّر {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} حالٌ من ضمير ولَّى أو من ضميرٍ مستكبراً. والأصلُ كأنَّه فحذف ضميرُ الشَّأنِ وخُفِّفتْ المُثقَّلةُ أي مشبهاً حاله حالَ مَن لم يسمعها وهو سامعٌ وفيه رمزٌ إلى أنَّ مَن سمعها لا يُتصوَّرُ منه التَّوليةُ والاستكبارُ لما فيها من الأمورِ الموجبةِ للإقبالِ عليها والخضوعِ لها على طريقةِ قولِ مَن قال:
كأنَّك لم تَجْزَعْ على ابنِ طَرِيْفِ

{كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} حال من ضميرِ لم يسمعْها أي مُشبِهاً حالُه حالَ من في أذينه ثقَلٌ مانع من السَّماعِ ويجوز أنْ يكونا استئنافين. وقرئ: {في أُذْنيهِ} بسكونِ الذَّالِ. {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فأعلمه بأنَّ العذابَ المفرط في الإيلام لاحقٌ به لا محالة، وذكرُ البشارةِ للتَّهكمِ {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} بيانٌ لحالِ المُؤمنين بآياتِه تعالى إثرَ بيانِ حالِ الكافرينَ بها أي الذين آمنُوا بآياتِه تعالى وعملُوا بموجبِها {لَهُمْ} بمقابلة ما ذُكر من إيمانِهم وأعمالِم {جنات النعيم} أي نعيمُ جنَّاتٍ فعكسَ للمُبالغةِ والجملة خبرُ أنَّ والأحسن أنْ يجعلَ لَهمُ هو الخبرَ لأنَّ وجنَّاتُ النَّعيمِ مرتفعاً به على الفاعليَّةِ.

.تفسير الآيات (9- 11):

{خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)}
وقولُه تعالى: {خالدين فِيهَا} حال من الضَّميرِ في لهم أو مِن جنَّاتِ النَّعيمِ لاشتماله على ضميريهِما والعاملُ ما تعلَّق به اللامُ {وَعْدَ الله حَقّا} مصدرانِ مؤكِّدانِ، والأول لنفسه والثَّاني لغيرهِ لأنَّ قولَه تعالى لهم جنَّاتُ النَّعيمِ في معنى وعَدَهم الله جنَّاتِ النَّعيمِ. {وَهُوَ العزيز} الذي لا يغلبه ليمنعه من إنجازِ وعدِه أو تحقيقِ وعيدِه {الحكيم} الذي لا يفعلُ إلا ما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحةُ.
{خَلَقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ} إلخ استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ بما فُصِّل فيه على عزَّتِه تعالى التي هي كمالُ القدرةِ وحكمتِه التي هي كمالُ العلمِ وتمهيدُ قاعدةِ التوحيد وتقريرُه وإبطالُ أمرِ الإشراكِ وتبكيتُ أهلِه. والعَمَدُ جمعُ عمادٍ كأَهبٍ جمعُ إهابٍ وهو ما يُعمَّدُ به أي يُسندُ. يُقال عمَّدتُ الحائطَ إذا دعَّمتُه أي بغيرِ دعائم، على أنَّ الجمعَ لتعددِ السَّمواتِ. وقولُه تعالى: {تَرَوْنَهَا} استئنافٌ جِيءَ بهِ للاستشهادِ على ما ذُكر من خلقِه تعالى لها غيرَ معمودةٍ بمُشاهدتِهم لها كذلك، أو صفةٌ لعَمَدٍ أي خلقَها بغيرِ عمدٍ مرئيَّةٍ على أنَّ التَّقييدَ للرَّمزِ إلى أنَّه تعالى عمَّدها بعَمدٍ لا تَرَونها هي عَمَدُ القُدرةِ {وألقى فِي الارض رَوَاسِىَ} بيانٌ لصُنعه البديعِ في قرارِ الأرض إثرَ بيانِ صُنعه الحكيمِ في قرارٍ السَّمواتِ والأرضِ أي ألقى فيها جبالاً ثوابتَ. وقد مرَّ ما فيه من الكلامِ في سُورة الرَّعدِ {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} كراهةَ أنْ تميلَ بكم فإنَّ بساطةَ أجزائِها تقتضِي تبدُّلَ أحيازِها وأوضاعِها لامتناعِ اختصاصِ كلَ منها لذاتِه أو لشيءٍ من لوازمِه بحيِّزٍ معيَّنٍ ووضعٍ مخصوصٍ {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ} من كلِّ نوعٍ من أنواعِها {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً} هو المطرُ {فَأَنبَتْنَا فِيهَا} بسببٍ ذلك الماءِ {مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} من كلِّ صنفٍ كثيرِ المنافعِ. والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في الفعلينِ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها {هذا} أي ما ذُكر من السَّمواتِ والأرضِ وما تعلَّق بهما من الأمورِ المعدودةِ {خَلَقَ الله} أي مخلوقُه {فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} ممَّا اتخذتُموهم شركاءً له سبحانه في العبادةِ حتَّى استحقُّوا به المعبوديَّةَ. وماذا نُصب بخَلْقُ، أو مَا مرتفعٌ بالابتداءِ وخبرُه ذَا بصلتِه، وأرُوني متعلِّقٌ به. وقولُه تعالى: {بَلِ الظالمون فِي ضلال مُّبِينٍ} إضرابٌ عن تبكيتِهم بما ذُكر إلى التَّسجيلِ عليهم بالضَّلالِ البيِّنِ المُستدعي للإعراضِ عن مخاطبتِهم بالمقدِّماتِ المعقولةِ الحقَّةِ لاستحالة أنْ يفهمُوا منها شيئاً فيهتدوا به إلى العلمِ ببطلانِ ما هُم عليه أو يتأثَّروا من الإلزامِ والتَّبكيتِ فينزجُروا عنه. ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم للدِّلالةِ على أنَّهم بإشراكِهم واضعون للشَّيءِ في غيرِ موضعِه ومتعدُّون عن الحدودِ وظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ.