فصل: تفسير الآيات (169- 170):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (169- 170):

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء} استئنافٌ لبيان كيفيةِ عداوتِه وتفصيلٌ لفنون شرِّه وإفسادِه وانحصارِ معاملتِه معهم في ذلك، والسوءُ في الأصل مصدرُ ساءه يسوؤُه سُوءاً ومَساءةً إذا أحزنه يُطلقُ على جميع المعاصي سواءٌ كانت من أعمال الجوارحِ أو أفعالِ القلوب، لاشتراك كلِّها في أنها تسوءُ صاحبَها، والفحشاءُ أقبحُ أنواعِها وأعظمُها مساءةً {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عطفٌ على الفحشاء، أي وبأن تفتروا على الله بأنه حرّم هذا وذاك، ومعنى ما لا تعلمون أن الله تعالى أمرَ به، وتعليقُ أمرِه بتقوُّلِهم على الله تعالى ما لا يعلمون وقوعَه منه تعالى لا بتقوُّلهم عليه ما يعلمون عدمَ وقوعِه منه تعالى، مع أن حالَهم ذلك للمبالغة في الزجر، فإن التحذيرَ من الأول مع كونه في القُبْحِ والشناعةِ دون الثاني تحذيرٌ عن الثاني على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه وللإيذان بأن العاقلَ يجب عليه ألا يقولَ على الله تعالى ما لا يعلم وقوعَه منه تعالى مع الاحتمال فضلاً عن أن يقول عليه ما يعلم عدمَ وقوعِه منه تعالى، قالوا: وفيه دليلٌ على المنع من اتباع الظنِّ رأساً، وأما اتباعُ المجتهدِ لما أدَّى إليه ظنُّه فمستنِدٌ إلى مَدْرَكٍ شرعيَ فوجوبُه قطعيٌّ والظنُّ في طريقه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله} التفاتٌ إلى الغَيْبة تسجيلاً بكمال ضلالِهم وإيذاناً بإيجاب تعدادِ ما ذُكر من جناياتهن لصرف العذابِ عنهم وتوجيهِه إلى العقلاء، وتفصيلُ مساوي أحوالِهم لهم على نهج المَبائةِ أي إذا قيل لهم على وجه النصيحةِ والإرشادِ: اتبعوا كتاب الله الذي أنزله {قَالُواْ} لا نتبعه {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} أي وجدناهم عليه، إما على أن الظرفَ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آباءَنا وألفَيْنا متعدَ إلى واحد، وإما على أنه مفعولٌ ثانٍ له مقدمٌ على الأول. نزلت في المشركين أُمروا باتباع القرآنِ وسائرِ ما أنزل الله تعالى من الحجج الظاهرةِ والبينات الباهرةِ فجنحوا للتقليد، والموصولُ إما عبارةٌ عما سبق من اتخاذ الأندادِ وتحريمِ الطيبات ونحوِ ذلك وإما باقٍ على عمومه، وما ذُكر داخلٌ فيه دخولاً أولياً وقيل: نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا: بل نتبعُ ما وجدْنا عليه آباءَنا لأنهم كانوا خيراً منا وأعلم، فعلى هذا يعُمّ ما أنزل الله تعالى التوراةَ لأنها أيضاً تدعو إلى الإسلام، وقوله عز وجل: {أولو كانَ آبَاؤهُمْ لاَ يَعْقِلُون شَيئاً وَلاَ يَهْتَدُون} استئنافٌ مَسوقٌ من جهته تعالى رداً لمقالتهم الحمقاءِ وإظهاراً لبطلان آرائِهم، والهمزة لإنكار الواقعِ واستقباحِهِ والتعجبِ منه، لا لإنكار الوقوعِ كالتي في قوله تعالى: {أَوَلَوْ كُنَّا كارهين} وكلمة لو في أمثال هذا المقامِ ليست لبيان انتفاءِ الشيءِ في الزمان الماضي لانتفاء غيرِه فيه، فلا يلاحَظُ لها جوابٌ قد حُذف ثقةً بدلالة ما قبلها عليه بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابقُ بالذات أو بالواسطة من الحُكم الموجَبِ أو المنفيّ على كل حالٍ مفروضٍ من الأحوال المقارِنةِ له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولية، لما أن الشيءَ متى تحقّق مع المنافي القويِّ فَلأَنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ من سائر الأحوال، ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلةِ لها المتناولةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها، وهذا معنى قولِهم إنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيل الإجمال، وهذا المعنى ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي، كما في قولك: فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً، وبخيلٌ لا يعطي ولو كان غنياً، وقولِك: أحسنْ إليه ولو أساءَ إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك، لبقائه على حاله، وأما فيما نحن فيه ففيه نوعُ خفاءٍ ناشىءٍ من ورود الإنكارِ عليه لكن الأصلَ في الكل واحدٌ إلا أن كلمةَ {لو} في الصور المذكورة متعلقةٌ بنفس الفعل المذكورِ قبلها وأن ما يُقصدُ بيانُ تحققِه على كل حالٍ هو نفسُ مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلّق به، وأن ما في حيِّز {لو} باقٍ على ما هو عليه من الاستبعاد غالباً بخلاف ما نحن فيه، لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حالٍ مدلولُه لا مدلولُ المذكور من حيث هو مدلولُه، وأن الجملةَ حالٌ مما يتعلّق به لا مما يتعلق بالمذكور من حيث هو متعلِّقٌ به وأن المقصودَ الأصليَّ إنكارُ مدلولِه باعتبار مقارنته للحالة المذكورة، وأما تقديراً لمقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرة وأن ما في حيز {لو} لا يُقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ بأنه أَمْرٌ محقَّق إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ معاملةً مع المخاطَبين على معتقدهم لئلا يلبَسوا من التصريح بنسبة آبائهم إلى كمال الجهالةِ والضلالةِ جلدَ النَّمِرِ فيركبوا متنَ العِناد، ومبالغةً في الإنكار من جهة اتباعهم لآبائهم حيث كان منكراً مستقبحاً عند احتمالِ كونِ آبائهم كما ذُكر احتمالاً بعيداً فلأَنْ يكونَ مُنْكراً عند تحققِ ذلك أولى، والتقديرُ أيتبعون ذلك لو لم يكن آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب، ولو كانوا كذلك فالجملةُ في حيز النصب على الحالية من آبائهم على طريقة قوله تعالى: {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} كأنه قيل: أيتبعون دين آبائهم حالَ كونِهم غافلين وجاهلين ضالّين إنكاراً لما أفاده كلامُهم من الاتّباع على أيّ حالةٍ كانت من الحالتين غير أنه اكتُفيَ بذكر الحالةِ الثانية تنبيهاً على أنها هي الواقعةُ في نفس الأمرِ وتعويلاً على اقتضائها للحالة الأولى اقتضاءً بيّناً، فإن اتباعهم الذي تعلق به الإنكارُ حيث تحقق مع كون آبائِهم جاهلين ضالين فلأَنْ يتحقّقَ مع كونهم عاقلين ومُهتدين أوْلى.
إن قلتَ: الإنكارُ المستفادُ من الاستفهام الإنكاريِّ بمنزلة النفي ولا ريب في أن الأولويةَ في صورة النفي معتبرةٌ بالنسبة إلى النفي ألا يرى أن الأولى بالتحقق فيما ذكر من مثال النفي عند الحالة المسكوتِ عنها أعني عدمَ الغنى هو عدمُ الإعطاء لا نفسُه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند الحالةِ المسكوتِ عنها وهي حالة كونِ آبائهم عاقلين ومهتدين إنكارُ الاتباعِ لا نفسُه إذ هو الذي يدل عليه أيتبعون إلخ فلم اختلفت الحالُ بينهما؟ قلت: لما أن مناطَ الأولوية هو الحكمُ الذي إريد بيانُ تحققه على كل حال، وذلك في مثال النفي عدمُ الإعطاء المستفادِ من الفعل المنفيِّ المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفسُ الاتباعِ المستفاد من الفعل المقدر إذ هو الذي يقتضيه الكلامُ السابقُ أعني قولَهم بل نتبعُ إلخ وأما الاستفهامُ فخارجٌ عنه واردٌ عليه لإنكار ما يُفيدُه واستقباحِ ما يقتضيه لا أنه من تمامه كما في صورة النفي وكذا الحالُ فيما إذا كانت الهمزةُ لإنكار الوقوعِ ونفْيِه مع كونه بمنزلة صريح النفي كما سيأتي تحقيقُه في قوله تعالى: {أَوَلَوْ كُنَّا كارهين} وقيل: الواوُ حالية، ولكن التحقيقَ أن المعنى يدور على معنى العطفِ في سائر اللغات أيضاً.

.تفسير الآيات (171- 172):

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}
{وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ} جملةٌ ابتدائيةٌ واردة لتقرير ما قبلها بطريق التصوير، وفيها مضافٌ قد حُذف لدِلالة مَثَلُ عليه، ووضعُ الموصول موضعَ الراجع إلى ما ترجِعُ إليه الضمائر السابقةُ لذمهم بما في حيز الصلة، وللإشعار بعِلّة ما أثبت لهم من الحُكم، والتقديرُ مثلُ ذلك القائلِ وحالِه الحقيقةِ لغرابتها بأن تسمَّى مَثَلاً وتسير في الآفاق فيما ذُكر من دعوته إياهم إلى اتباع الحقِّ وعدمِ رفعِهم إليه رأساً لانهماكهم في التقليد وإخلادِهم إلى ما هم عليه من الضلال وعدمِ فهمهم من جهة الداعي إلى الدعاء من غير أن يُلقوا أذهانَهم إلى ما يلقى عليهم {كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوتَ الراعي وهَتفَه بها من غير فهم لكلامه أصلاً، وقيل: إنما حُذف المضافُ من الموصول الثاني لدلالة كلمة ما عليه فإنها عبارةٌ عنه مُشعِرَةٌ مع ما في حيز الصلة بما هو مدارُ التمثيل أي مَثَلُ الذين كفروا فيما ذُكر من انهماكهم فيما هم فيه وعدمِ التدبر فيما أُلقيَ إليهم من الآيات كمثل بهائمِ الذي ينعِق بها وهي لا تسمع منه إلا جرسَ النغمة ودويَّ الصوت، وقيل: المرادُ تمثيلُهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه، وهو تصويتُه على البهائم وهذا غنيٌّ عن الإضمار لكن لا يساعدُه قولُه: {إلا دعاءً ونداءً} فإن الأصنام بمعزلٍ من ذلك وقد عرفتَ أن حسنَ التمثيل فيما تشابه أفرادُ الطرفين {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} بالرفع على الذم أي هم صمّ إلخ {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} شيئاً لأن طريقَ التعقل هو التدبّر في مبادي الأمورِ المعقولة والتأمل في ترتيبها وذلك إنما يحصُلُ باستماعِ آياتِ الله ومشاهدةِ حُججِه الواضحةِ والمفاوضة مع من يؤخَذ منه العُلوم، فإذا كانوا صماً بكماً عمياً فقد انسدّ عليهم أبوابُ التعقل وطرُقُ الفهم بالكلية {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} أي مستلَذّاتِه {واشكروا للَّهِ} الذي رزقَكُموها، والالتفاتُ لتربية المهابة {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن عبادتَه تعالى لا تتِمّ إلا بالشكر له. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل إني والإنسُ والجنُ في نبإٍ عظيمٍ أخلُقُ ويُعبد غيري وأرزُقُ ويُشكَر غيري».

.تفسير الآيات (173- 174):

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} أي أكلها والانتفاعَ بها وهي التي ماتت على غير ذَكاةٍ، والسمكُ والجرادُ خارجان عنها بالعُرف أو باستثناء الشرعِ كخروج الطحال من الدم {والدم وَلَحْمَ الخنزير} إنما خُصّ لحمُه مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه لأنه معظمُ ما يؤكل من الحيوان، وسائرُ أجزائِه بمنزلة التابع له {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} أي رُفِعَ به الصوتُ عند ذبحه للصنم، والإهلالُ أصلُه رؤيةُ الهلالِ لكن لما جرت العادةُ برفع الصوتِ بالتكبير عندها سمِّي ذلك إهلالاً ثم قيل: لرفع الصوت وإن كان لغيره {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ} بالاستئثار على مضطر آخرَ {وَلاَ عَادٍ} سدَّ الرمق والجَوْعة وقيل: غير باغ على الوالي ولا عادٍ بقطع الطريق وعلى هذا لا يُباح للعاصي بالسفر وهو ظاهرُ مذهب الشافعي وقولُ أحمدَ رحمهما الله {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في تناوله {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بالرخصة، إن قيل كلمة إنما تفيد قصرَ الحُكمِ على ما ذُكر وكم من حرام لم يُذكَرْ قلنا: المرادُ قصرُ الحرمة على ما ذُكر مما استحلوه لا مطلقاً، أو قصرُ حرمتِه على حالة الاختيارِ كأنه قيل: إنما حُرِّم عليكم هذه الأشياءُ ما لم تضطروا إليها.
{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب} المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكامُ المحلَّلات والمحرَّمات حسبما ذكر آنفاً. وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما: نزلت في رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبي صلى الله عليه وسلم {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي يأخذون بدلَه {ثَمَناً قَلِيلاً} عِوَضاً حقيراً، وقد مر سرُّ التعبير عن ذلك بالثمن الذي هو وسيلة في عود المعاوضة، وقولُه تعالى: {أولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلة من الوصفَين الشنيعين المميَّزين لهم عمن عداهم أكملَ تمييز الجاعلَيْن إياهم بحيث كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ما هم عليه، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بغاية بُعدِ منزلتِهم في الشر والفساد، وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى: {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} والجملةُ خبرٌ لإن، أو اسمُ الإشارة مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول والخبر ما يأكلون إلخ ومعنى أكلِهم النارَ أنهم يأكلون في الحال ما يستتبِعُ النار ويستلزمُها فكأنه عينُ النار، وأكلُه أكلُها كقوله:
أكلتُ دماً إن لم أَرُعْكِ بضَرَّة ** بعيدةِ مهوى القُرط طيّبةِ النشْرِ

أو يأكلون في المآل يوم القيامة عينَ النار عقوبةً على أكلهم الرِّشا في الدنيا و{في بطونهم} متعلقٌ بيأكلون وفائدتُه تأكيدُ الأكلِ وتقريرُه ببيان مقرِّ المأكول، وقيل: معناه ملءَ بطونهم كما في قولهم: أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه ومنه «كُلوا في بعض بطنِكم تعفّوا» فلابد من الالتجاء إلى تعليقه بمحذوف وقعَ حالاً مقدّرة من النار مع تقديمه على حرف الاستثناء وإلا فتعليقُه بيأكلون يؤدّي إلى قصْر ما يأكلونه إلى الشبع على النار والمقصود قصرُ ما يأكلونه مطلقاً عليها {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} عبارة عن غضبه العظيم عليهم وتعريضٌ بحرمانهم ما أتيح للمؤمنين من فنون الكرامات السنية والزلفى {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} لا يُثني عليهم {وَلَهُمْ} مع ما ذكر {عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم.

.تفسير الآيات (175- 177):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
{أولئك} إشارة إلى ما أشير إليه بنظيره بالاعتبار المذكور خاصة لا مع ما يتلوه من أحوالهم الفظيعةِ إذ لا دخل لها في الحكم الذي يراد إثباتُه هاهنا فإن المقصود تصويرُ ما باشروه من المعاملة بصورة قبيحة تنفِر منها الطباعُ ولا يتعاطاها عاقلٌ أصلاً ببيان حقيقةِ ما نبذوه وإظهار كُنهِ ما أخذوهُ وإبداءِ فظاعة تِبعاتِه، وهو مبتدأ خبرُه الموصولُ أي أولئك المشترون بكتاب الله عز وجل ثمناً قليلاً ليسوا بمشترين للثمن وإن قل، بل هم {الذين اشتروا} بالنسبة إلى الدنيا {الضلالة} التي ليست مما يمكن أن يشترى قطعاً {بالهدى} الذي ليس من قبيل ما يُبذل بمقابلة شيء وإن جل {والعذاب} أي اشتروا بالنظر إلى الآخرة العذاب الذي لا يُتوَهَّم كونُه مما يشترى {بالمغفرة} التي يتنافس فيها المتنافسون {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} تعجيبٌ من حالهم الهائلة التي هي ملابستُهم بما يوجب النارَ إيجاباً قطعياً كأنه عينها و{ما} عند سيبويهِ نكرةٌ تامة مفيدة لمعنى التعجيب مرفوعةٌ بالابتداء وتخصيصُها كتخصُّص شرَ في شرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ خبرُها ما بعدها أي شيءٌ ما عظيم جعلهم صابرين على النار، وعند الفراء استفهامية وما بعدها خبرها أي أيُّ شيءٍ أصبرَهم على النار وقيل: هي موصولة وقيل: موصوفة بما بعدها والخبر محذوف أي الذي أصبرهم على النار أو شيءٌ أصبرهم على النار أمرٌ فظيع {ذلك} العذاب {بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب} أي جنس الكتاب {بالحق} أي ملتبساً به فلا جرم أن يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متنَ الجهل والغَواية مُبتلىً بمثل هذا من أفانينِ العذاب {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب} أي في جنس الكتابِ الإلهي بأن آمنوا ببعض كتبِ الله تعالى وكفروا ببعضها أو اختلفوا في التوراة بأن آمنوا ببعض آياتِها وكفروا ببعضٍ كالآيات المُغيَّرة المشتملةِ على أمر بِعثةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ونعوته الكريمة فمعنى الاختلافِ التخلفُ عن الطريق الحق أو الاختلافُ في تأويلها أو في القرآن بأن قال بعضهم أنه سحرٌ وبعضُهم أنه شعرٌ وبعضهم أساطيرُ الأولين كما حكى عن المفسرين {لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} عن الحق والصواب مستوجب لأشد العذاب {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب} البِرُّ اسمٌ جامع لمراضِي الخصالِ، والخطابُ لأهل الكتابين فإنهم كانوا أكثروا الخوضَ في أمر القِبلة حين حُوِّلت إلى الكعبة وكان كلُّ فريقٍ يدّعي خيريةَ التوجُّه إلى قبلته من القُطرين المذكورين، وتقديمُ المشرق على المغرب مع تأخر زمانِ الملّةِ النصرانية إما لرعاية ما بينهما من الترتيب المتفرِّع على ترتيب الشروق والغروب وإما لأن توجّه اليهودِ إلى المغرب ليس لكونه مَغرِباً بل لكون بيتِ المقدس من المدينة المنورة واقعاً في جانب فقيل لهم: ليس البر ما ذكرتم من التوجه إلى تينك الجهتين، على أن البر خبرُ ليس مقدم على اسمها كما في قوله:
سلي إن جهِلتِ عني وعنهم ** فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ

وقوله:
أليس عظيماً أن تُلمَّ مُلِمَّة ** وليس علينا في الخطوب مقولُ

وإنما أخر ذلك لما أن المصدرَ المؤولَ أعرفُ من المحلَّى باللام لأنه يُشبهُ الضمير من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرفُ أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولاً فلو روعيَ الترتيبُ المعهود لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم وقرئ برفع البرُّ على أنه اسمها وهو أقوى بحسب المعنى لأن كل فريق يدعي أن البرَّ هذا فيجب أن يكون الردُّ موافقاً لدعواهم وما ذلك إلا بكَوْن البِرِّ اسماً كما يُفصح عنه جعلُه مُخْبَراً عنه في الاستدراك بقوله عز وجل: {ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله} وهو تحقيقٌ للحق بعد بيانِ الباطلِ وتفصيلٌ لخِصال البِر مما لا يختلف باختلاف الشرائعِ وما يختلف باختلافها، أي ولكن البِرَّ المعهود الذي يحِقّ أن يُهتَمَّ بشأنه ويُجَدَّ في تحصيله بِرُّ مَنْ آمن بالله وحده إيماناً بريئاً من شائبة الإشراكِ لا كإيمان اليهودِ والنصارى المشركين بقولهم عزيرٌ ابنُ الله وقولِهم المسيحُ ابن الله {واليوم الاخر} أي على ما هو عليه لا كما يزعُمون من أن النارَ لن تمسَّهم إلا أياماً معدوداتٍ وأن آباءَهم الأنبياءَ يشفعون لهم، ففيه تعريضٌ بأن إيمانَ أهلِ الكتابين حيث لم يكن كما ذكر من الوجه الصحيحِ لم يكن إيماناً، وفي تعليق البِرِّ بهما من أول الأمر عَقيبَ نفيه عن التوجُّه إلى المشرق والمغرب من الجزالة ما لا يخفى، كأنه قيل: ولكن البِر هو التوجُّه إلى المبدأ والمَعاد اللذيْن هما المشرِقُ والمغرِب في الحقيقة {والملئكة} أي وآمن بهم وبأنهم عبادٌ مُكْرَمون متوسِّطون بينه تعالى وبين أنبيائِه بإلقاء الوحي وإنزالِ الكتب {والكتاب} أي بجنس الكتابِ الذي من أفراده الفرقانُ الذي نبذوه وراءَ ظهورِهم، وفيه تعريضٌ بكِتمانهم نعوتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم واشترائِهم بما أنزل الله تعالى ثمناً قليلاً {والنبيين} جميعاً من غير تفرقةٍ بين أحدٍ منهم كما فعل أهلُ الكتابَيْن، ووجهُ توسيط الكتابِ بين حَمَلةِ الوحي وبين النبيين واضحٌ وسيأتي في قوله تعالى: {كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} {وآتى المالَ عَلَى حُبِّه} حالٌ من الضمير في آتى، والضميرُ المجرورُ راجعٌ للمال أي آتاه كائناً على حب المالِ كما في قوله صلى الله عليه وسلم حين سُئِل: أيُّ الصدقةِ أفضلُ؟: «أن تُؤتِيَه وأنت صحيحٌ شحيحٌ» وقولِ ابن مسعود رضي الله عنه: أن تؤتيَه وأنت صحيحٌ شحيحٌ تأمُلُ العيشَ وتخشى الفقرَ ولا تُمهِلَ حتى إذا بلغت الحُلقومَ قلت لفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا، وقيل: الضمير لله تعالى أي آتاه كائناً على محبته تعالى لا على قصد الشرِّ والفساد، ففيه نوعُ تعريضٍ لباذلي الرِّشا وآخذيها لتغيير التوراة، وقيل: للمصدر أي كائناً على حب الإيتاء {ذَوِى القربى} مفعولٌ أولٌ لآتى قُدِّم عليه مفعولُه الثاني أعني المالَ للاهتمام به أو لأن في الثاني مع ما عُطف عليه طُولاً لو رُوعي الترتيبُ لفات تجاوبُ الأطرافِ في الكلام وهو الذي اقتضى تقديمَ الحال أيضاً وقيل: هو المفعولُ الثاني {واليتامى} أي المحاويجَ منهم على ما يدل عليه الحال وتقديمُ ذوي القربى عليهم لما أن إيتاءَهم صدقةٌ وصِلَة {والمساكين} جمعُ مِسكينٍ وهو الدائمُ السُكون لما أن الخَلّة أسكنَتْهُ بحيث لا حَراكَ به أو دائمُ السكون إلى الناس {وابن السبيل} أي المسافرَ سُمي به لملازمته إياه كما سمِّي القاطِعُ ابنَ الطريق وقيل: الضيف {والسائلين} الذين أَلْجأتهم الحاجةُ والضرورةُ إلى السؤال قال عليه الصلاة والسلام:
«أعطُوا السائلَ ولو جاء على فرَسٍ» {وَفِي الرقاب} أي وضَعَه في فكّ الرقابِ بمعاونة المكاتَبين حتى يفُكّوا رِقابَهم وقيل: في فك الأُسارى وقيل: في ابتياع الرقابِ وإعتاقِها وأياً ما كان فالعدولُ عن ذكرهم بعنوان مُصححٍ للمالكية كالذين من قبلهم إما للإيذان بعدم قرارِ مِلكِهم فيما أوتوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوتِه رأساً كما في الوجه الأخير وإما للإشعار برسوخهم في الاستحقاق والحاجةِ لما أن {في} للظرفية المُنْبئة عن محلِّيتهم لما يؤتى {وأقامَ الصَّلاَةَ} أي المفروضةَ منها {وآتَى الزَّكَاةَ} أي المفروضة على أن المرادَ بما مرَّ من إيتاءِ المالِ التنفّلُ بالصدقات قُدِّم على الفريضة مبالغةً في الحثِّ عليه أو المرادُ بهما المفروضةُ، والأول لبيان المصارفِ والثاني لبيان وجوب الأداءِ {والموفون بِعَهْدِهِمْ} عطفٌ على مَنْ آمن فإنه في قوة أن يقال ومَنْ أوفَوْا بعهدهم، وإيثارُ صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاءِ والمرادُ بالعهد ما لا يحرِّم حلالاً ولا يُحلِّل حَراماً من العهود الجارية فيما بين الناس، وقولُه تعالى: {إِذَا عاهدوا} للإيذان بعدمِ كونِه من ضروريات الدين {والصابرين} نُصب على الاختصاص، غُيِّر سبكُه عما قبله تنبيهاً على فضيلة الصبر ومزِيَّتِه وهو في الحقيقة معطوفٌ على ما قبله. قال أبو علي: إذا ذُكرتْ صفاتٌ للمدح أو الذمِّ فخولفَ في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان ويسمَّى ذلك قطعاً، لأن تغييرَ المألوفِ يدل على زيادة ترغيبٍ في استماع المذكورِ ومزيدِ اهتمامٍ بشأنه كما مر في صدر السورة، وقد قرئ الصابرون كما قرئ والموفين {فِى البأساء} أي في الفقر والشدة {والضراء} أي المرض والزَّمانة {وَحِينَ البأس} أي وقتَ مجاهدةِ العدوِّ في مواطن الحرب، وزيادةُ الحينِ للإشعار بوقوعه أحياناً وسرعةِ انقضائِه {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتّصافِهم بالنعوت الجميلةِ المعدودة، وما فيه من معنى البُعد لما مر مراراً من التنبيه عن علوِّ طبقتِهم وسُموِّ رُتبتِهم {الذين صَدَقُوا} أي في الدين واتباعِ الحقِّ وتحرَّى البِرِّ حيث لم تغيِّرْهم الأحوالُ ولم تُزلزلهم الأهوال {وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون} عن الكفر وسائرِ الرذائلِ وتكريرُ الإشارة لزيادة تنويهِ شأنِهم، وتوسيطُ الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم والآيةُ الكريمة كما ترى حاويةٌ لجميع الكمالات البشرية برُمَّتها تصريحاً أو تلويحاً لما أنها مع تكثُّر فنونها وتشعُّب شجونِها منحصرةٌ في خِلالِ ثلاث: صحةِ الاعتقاد وحسنِ المعاشرة مع العباد وتهذيبِ النفس، وقد أشير إلى الأولى بالإيمان بما فُصِّل وإلى الثانية بإيتاء المالِ وإلى الثالثة بإقامة الصلاة إلخ ولذلك وُصف الحائزون لها بالصدق نظراً إلى إيمانهم واعتقادِهم وبالتقوى اعتباراً بمعاشرتهم مع الخلق ومعاملتهم مع الحق وإليه يشير قولُه صلى الله عليه وسلم...