فصل: تفسير الآيات (20- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (20- 21):

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي حقَّق عليهم ظنَّه أو وجده صادقاً. وقرئ بالتَّخفيف أي صدَق في ظنِّه أو صدَقَ بظنَ ظنُّه ويجوز تعدية الفعل إليه بنفسه لأنَّه نوع من القول وقرئ بنصب إبليسَ ورفعِ الظَّنِّ مع التَّشديدِ بمعنى وجدَه ظنُّه صادقاً ومع التَّخفيف بمعنى قال له الصِّدقُ حين خيَّل له إغواءَهم وبرفعهما والتحفيف على الإبدال. وذلك إما ظنّه بسيأ حين رأى انهماكهم في الشَّهواتِ أو ببني آدمَ حين شاهدَ آدمَ عليه السَّلامُ قد أصغى إلى وسوسته قال إنَّ ذُريَّتَه أضعفُ منه عزماً وقيل ظنَّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكةَ أنَّه يجعلُ فيها مَن يفسد فيهاويسفكُ الدِّماءَ وقال لأضلنَّهم ولأغوينَّهم {فاتبعوه} أي أهلُ سبأٍ أو النَّاسُ {إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتَّبعوه على أنَّ مِن بيانيةٌ. وتقليلُهم بالإضافة إلى الكُفَّارِ أو إلا فريقاً من فِرقِ المؤمنين لم يتَّبعوه وهم المُخلَصون {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان} أي تسلُّطٌ واستيلاءٌ بالوسوسةِ والاستغواءِ وقوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالاخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكّ} استثناء مفرَّغٌ من أعمِّ العللِ ومَن موصولةٌ أي وما كان تسلُّطُه عليهم إلا ليتعلَّقَ علمُنا بمَنْ يُؤمن بالآخرةِ متميِّزاً ممَّن هو في شكَ منها تعلُّقاً حالياً يترتَّب عليه الجزاءُ أو إلا ليتمَّيزَ المؤمنُ من الشَّاكِّ أو إلا ليؤمنَ من قُدِّر إيمانُه ويشكُّ من قُدِّر ضلالُه والمراد من حصول العلم حصول متعلَّقه مبالغةً {وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شيء حَفُيظٌ} أي محافظ عليه فإنَّ فَعيلاً ومُفاعِلاً صيغتانِ متآخيتانِ.

.تفسير الآيات (22- 23):

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}
{قُلْ} أي للمشركين إظهاراً لبُطلان ما هُم عليه وتَبكيتاً لهم {ادعوا الذين زَعَمْتُمْ} أي عمتمُوهم آلهةً وهما مفعولا زعمَ ثم حُذف الأوَّلُ تخفيفاً لطول الموصول بصلتِه والثَّاني لقيام صفتِه أعني قوله تعالى: {مِن دُونِ الله} مقامه ولا سبيل إلى جعله مفعولاً ثانياً لأنَّه لا يلتئمُ مع الضَّميرِ كلاماً وكذا لا يملكُون لأنَّهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمُّكم من جَلْبِ نفعٍ أو دفعِ ضُرَ لعلَّهم يستجيبون لكُم إنْ صح دعواكم ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعيُّن الجوابِ وأنَّه لا يقبلُ المكابرةَ فقال: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ} من خير وشرَ ونفع وضرَ {فِي السموات وَلاَ فِي الارض} أي في أمرٍ ما من الأمور. وذكرُهما للتَّعميمِ عُرفاً، أو لأنَّ آلهتَهم بعضُها سماويةٌ كالملائكةِ والكواكبِ وبعضُها أرضية كالأصنامِ أو لأنَّ الأسباب القريبة للخيرِ والشرِّ سماويةٌ وأرضيةٌ والجملة استئنافٌ لبيانِ حالِهم. {وَمَا لَهُمْ} أي لآلهتِهم {فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي شَركةٍ لا خلقاً ولا مُلكاً ولا تصرُّفاً {وَمَا لَهُ} أي لله تعالى {مِنْهُمْ} من آلهتِهم {مّن ظَهِيرٍ} يُعينه في تدبير أمرِهما.
{وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ} أي لا توُجد رأساً كما في قوله:
وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بها ينجحِرُ

لقوله تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وإنَّما علَّق النَّفيَ بنفعها لا بوقوعِها تصريحاً بنفي ما هو غرضُهم من وقوعها وقوله تعالى: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} استئناءٌ مفرَّعٌ من أعمِّ الأحوال أي لا تقع الشَّفاعةُ في حال من الأحوالِ إلا كائنةً لمن أذنَ له في الشَّفاعةِ من النبيِّين والملائكةِ ونحوِهم من المستأهلين لمقام الشَّفاعةِ فتبيَّن حرمانُ الكَفرَة منها بالكُلِّية، أما من جهةِ أصنامِهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورةَ استحالةِ الإذنِ في الشفاعة لجمادٍ لا يعقلُ ولا ينطق وأمَّا من جهةِ مَن يعبدونَهُ من الملائكةِ فلأنَّ إذنَهم مقصورٌ على الشَّفاعةِ للمستحقِّين لها لقوله تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} ومن البيِّن أنَّ الشَّفاعةَ للكفرةِ بمعزل من الصَّوابِ أو لا تنفع الشَّفاعةُ من الشُّفعاءِ المستأهلين لها في حالً من الأحوال إلا كائنةً لمن إذِن له أي لأجلهِ وفي شأنِه من المستحقِّين للشَّفَّاعة وأمَّا مَن عداهم من غيرِ المستحقِّين لها فلا تنفعُهم أصلاً وإنْ فُرض وقوعُها وصدورُها عن الشُّفعاءِ إذ لم يؤذَن لهم في شفاعتهم بل شفاعة غيرِهم، فعلى هذا يثبتُ حرمانُهم من شفاعة هؤلاء بعبارة النَّصِّ ومن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حيثُ حُرموها من جهةِ القادرين على شفاعة بعض المحتاحين إليها فلأنْ يُحرموها من جهة العَجَزةِ عنها أولى. وقرئ: {أُذِنَ له} مبنيّاً للمفعولِ.
{حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي قلوب الشُّفعاءِ والمشفوعِ لهم من المؤمنين وأمَّا الكَفَرةُ فهم من موقف الاستشفاع بمعزلٍ وعن التَّفزيعِ عن قلوبهم بألفِ منزلٍ والتفزيع إزالةُ الفزعِ ثمَّ ترك ذكر الفزع وأسند الفعل إلى الجارِّ والجرور وحتَّى غاية لما ينبىء عنه ما قبلها من الإشعار بوقوع الإذنِ لمن أذن له فإنَّه مسبوق بالاستئذان المستدعِي للتَّرقبِ والانتظارِ للجواب كأنَّه سُئل كيف يُؤذن لهم فقيل يتربَّصون في موقف الاستئذانِ والاستدعاءِ ويتوقَّفون على وَجَلٍ وفَزَعٍ مليّاً حتَّى إذا أُزيلَ الفزعُ عن قلوبهم بعد اللَّتيا والَّتي وظهرتْ لهم تباشيرُ الإجابةِ {قَالُواْ} أي المشفوعُ لهم إذْ هم المحتاجون إلى الإذنِ والمهتمُّون بأمره {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أي في شأنِ الإذنِ {قَالُواْ} أي الشُّفعاءُ لأنَّهم المُباشرون للاستئذان بالذَّاتِ المتوسِّطُون بينهم وبينه عزَّ وجلَّ بالشَّفاعةِ {الحق} أي قال ربُّنا القول الحقَّ وهو الإذن في الشفاعةِ للمستحقَّين لها وقرئ: {الحقُّ} مرفوعاً أي ما قاله الحقُّ {وَهُوَ العلى الكبير} من تمام كلام الشُّفعاء قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب العزَّةِ عزَّ وجلَّ وقصور شأنِ كلِّ مَن سواه أي هو المتفرِّدُ بالعلوِّ والكبرياءِ ليس لأحدٍ من أشراف الخلائقِ أنْ يتكلَّم إلا بإذنه.
وقرئ: {فُزع} مخفَّفاً بمعنى فزع وقرئ: {فَزِع} على البناء للفاعل وهو الله وحدَه وقرئ: {فَرغَ} بالراء المهلمة والغين المعجمة أي نفي الوجلٍ عنها وأفنى، من فرغَ الزَّادُ إذا لم يبقَ منه شيءٌ وهو من الإسنادِ المجازيِّ لأنَّ الفراغَ وهو الخلوُّ حال ظرفه عند نفادِه فأُسند إليه على عكسِ قولِهم جَرَى النَّهر وعن الحسن تخفيفُ الرَّاءِ وأصله فَرغ الوجلُ عنها أي انتفى عنها وفني ثم حُذف وأُسند إلى الجارِّ والمجرور وبه يُعرف حال التَّفريغِ. وقرئ: {ارتفعَ عن قلوبِهم} بمعنى انكشفَ عنها.

.تفسير الآية رقم (24):

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السموات والارض} أمرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتبكيتِ المشركين بحملهم على الإقرارِ بأنَّ آلهتَهم لا يملكونَ مثقالَ ذَرَّةِ فيهما وأنَّ الرَّازقَ هو الله تعالى فإنَّهم لا ينكرونه كما ينطقُ به قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض أَمَّن يَمْلِكُ السمع والابصار وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى وَمَن يُدَبّرُ الامر فَسَيَقُولُونَ الله} وحيث كانُوا يتلعثمُون أحياناً في الجواب مخافةَ الإلزامِ قيل له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {قُلِ الله} إذ لا جوابَ سواهُ عندهم أيضاً {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضلال مُّبِينٍ} أي وإنَّ أحدَ الفريقينِ من الذين يوحِّدون المتوحِّدَ بالرِّزقِ والقُدرة الذَّاتيةِ ويخصونه بالعبادة والذين يُشركون به في العبادةِ الجمادَ النَّازلَ في أدنى المراتبِ الإمكانية لعلى أحدِ الأمرينِ من الهُدى والضَّلالِ المُبين وهذا بعد ما سبق من التَّقرير البليغ النَّاطقِ بتعيين من هُو على الهدى ومن هو في الضَّلالِ أبلغ من التَّصريحِ بذلك لجريانه على سَننِ الإنصاف المُسكتِ للخَصمِ الألدِّ. وقرئ: {وأنَا أو إيَّاكم إما على هُدى أو في ضلال مبين}، واختلافُ الجارِين للإيذان بأنَّ الهاديَ كمن استعلى مناراً ينظرُ الأشياءَ ويتطلَّع عليها والضَّالُّ كأنَّه منغمسٌ في ظلامٍ لا يَرى شيئاً أو محبوسٌ في مطمورةٍ لا يستطيعُ الخروجَ منها.

.تفسير الآيات (25- 30):

{قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}
{قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وهذا أبلغُ في الإنصافِ وأبعدُ من الجَدَلِ والاعتسافِ حيثُ أسند فيه الإجرامُ وإنْ أُريد به الزَّلَّةُ وتركُ الأولى إلى أنفسهم، ومطلقُ العمل إلى المخاطبين مع أنَّ أعمالهم أكبرُ الكبائرِ {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يومَ القيامةِ عند الحشرِ والحسابِ {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق} أي يحكمُ بيننا ويفصلُ بعد ظهورِ حالِ كلَ منّا ومنكم بأن يدخل المحقِّين الجنة والمبطلين النار. {وَهُوَ الفتاح} الحاكم الفيصلُ في القضايا المتعلِّقةِ {العليم} بما ينبغي أنْ يُقضى به {قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ} أي ألحقتمُوهم {بِهِ شُرَكَاء} أُريد بأمرهم بإراءةِ الأصنامِ مع كونها بمرأى منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إظهار خطئِهم العظيمِ وإطلاعهم على بُطلانِ رأيهم أي أَرُونيها لأنظرَ بأيِّ صفةٍ ألحقتُموها بالله الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في استحقاقِ العبادةِ، وفيه مزيدُ تبكيتٍ لهم بعد إلزامِ الحجَّةِ عليهم {كَلاَّ} ردعٌ لهم عن المشاركةِ بعد إبطالِ المقايسةِ {بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم} أي الموصوفُ بالغلبةِ القاهرةِ والحكمةِ الباهرةِ فأينَ شركاؤكم التي هي أخسُّ الأشياءِ وأذلُّها من هذه الرُّتبةِ العاليةِ، والضَّميرُ إمَّا لله عزَّ وعَلاَ أو للشَّأنِ كما في {قُلْ هُو الله أحدٌ} {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} أي إلا إرسالةً عامَّةً لهم فإنَّها إذا عمَّتهم فقد كفتْهمِ أنْ يخرجَ منها أحدٌ منهم أو إلا جامعاً لهم في الإبلاغِ فهو حالٌ من الكافِ والتَّاءِ للمُبالغةِ ولا سبيلَ إلى جعلِها حالاً من النَّاسِ لاستحالةِ تقدُّمِ الحالِ على صاحبها المجرورِ {بَشِيراً وَنَذِيراً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك فيحملُهم جهلُهم على ما هُم عليهِ من الغيِّ والضَّلالِ {وَيَقُولُونَ} من فرطِ جهلِهم وغايةِ غيِّهم {متى هذا الوعد} بطريقِ الاستهزاءِ يعنون به المبشَّر به والمنذَر عنه أو الموعود بقوله تعالى: {يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} {إِن كُنتُمْ صادقين} مخاطِبين لرَّسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به {قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ} أي وعدُ يومٍ أو زمانٍ وعدٍ والإضافة للتبيِّينِ وقرئ: {ميعادٌ يومٌ} منَّونينِ على البدل ويوماً بإضمارِ أعني للتَّعظيم {لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ} عند مفاجأتِه {سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} صفةً لميعادُ وفي هذا الجواب من المبالغةِ في التَّهديدِ ما لا يخفى حيثُ جعل الاستئخارَ في الاستحالةِ كالاستقدامِ الممتنعِ عقلاً وقد مرَّ بيانُه مراراً ويجوزُ أنْ يكونَ نفيُ الاستئخار والاستقدامِ غيرَ مقيَّدٍ بالمُفاجأة فيكون وصفُ الميعادِ بذلك لتحقيقِه وتقريرِه.

.تفسير الآيات (31- 33):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتبِ القديمةِ الدَّالَّةِ على البعث وقيل: إنَّ كُفَّار مكَّةَ سألُوا أهلَ الكتابِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرُوهم أنَّهم يجدون نعتَهُ في كتبهم فغضبُوا فقالُوا ذلكَ وقيل: الذي بين يديه القيامة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} المنكرون للبعث {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ} أي في موقفِ المحاسبة {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} أي يتحاورونَ ويتراجعون القولَ {يَقُولُ الذين استضعفوا} بدل من يرجع إلخ أي يقول الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} في الدُّنيا واستتبعوهم في الغيِّ والضَّلالِ {لَوْلاَ أَنتُمْ} أي لولا إضلالُكم وصدُّكم لنا عن الإيمانِ {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} باتباع الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا} استئنافٌ مبنيٌّ على السُّؤال كأنَّه قيل: فماذا قال الذين استكبرُوا في الجواب فقيل قالُوا: {أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} مُنكرين لكونهم هم الصَّادِّين لهم عن الإيمانِ مُثبتين أنَّهم هم الصَّادُّون بأنفسهم بسبب كونِهم راسخين في الإجرام {وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا} إضراباً على إضرابِهم وإبطالاً له {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} أي بل صدَّنا مكرُكم بنا باللَّيلِ والنَّهارِ فحُذف المضافُ إليه وأقيم مقامَه الظَّرفُ اتَّساعاً أو جُعل ليلُهم ونهارُهم ماكريْنِ على الإسناد المجازي. وقرئ: {بل مكرٌ اللَّيلَ والنَّهارَ} بالتَّنوينِ ونصب الظَّرفينِ أي بل صدَّنا مكرُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ على أنَّ التَّنوينَ عوضٌ عن المُضافِ إليه أو مكرٌ عظيمٌ على أنَّه للتَّفخيمِ. وقرئ: {بل مكرٌ اللَّيلِ والنَّهارِ} بالرَّفعِ والنَّصبِ أي تمكرون الاغواء مكراً دائباً لا تفترون عنه فالرفع على الفاعلية أي بل صدَّنا مكركم الإغواء في اللَّيل والنَّهارِ على ما سبق من الاتِّساع في الظَّرفِ بإقامتِه مقامَ المضافِ إليه والنَّصبِ على المصدرية أي بل تمكرون الإغواءِ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ أي مكراً دائماً قوله تعالى: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} ظرفٌ للمكرِ أي بل مكرُكم الدَّائمُ وقتَ أمرِكم لنا {أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} على أنَّ المرادَ بمكرِهم إمَّا نفسُ أمرِهم بما ذُكر كما في قولِه تعالى: {لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} فإنَّ الجعلينِ المذكورينِ نعمةٌ من الله تعالى وأيُّ نعمةٍ، وإما أمورٌ أُخَرُ مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من التَّرغيب والتَّرهيبِ وغير ذلك {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي أضمرَ الفريقانِ الندامة على ما فَعَلا من الضَّلالِ والإضلالِ وأخفاها كلٌّ منهما عن الآخرِ مخافةَ التَّعييرِ أو أظهرُوها فإنَّه من الأضدادِ وهو المناسب لحالِهم {وَجَعَلْنَا الاغلال فِي أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} أي في أعناقِهم. والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للتَّنويهِ بذمِّهم والتنَّبيهِ على موجب أغلالِهم {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لا يُجزون إلاَّ جزاءَ ما كانُوا يعملون أو إلاَّ بما كانُوا يعملونه على نزعِ الجارِّ.

.تفسير الآيات (34- 37):

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} من القُرى {مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} تسليةً لرَّسولِ الله صلى الله عليه وسلم ممَّا مُنِّيَ به من قومِه من التَّكذيبِ والكُفرِ بما جاء به والمنافسة بكثرةِ الأموالِ والأولادِ والمفاخرةِ بحظوظِ الدُّنيا وزخارفِها والتَّكبرِ بذلك على المُؤمنين والاستهانةِ بهم من أجلِه وقولهم: {أي الفريقين خيرٌ مقاماً وأحسنُ نَديَّاً} بأنَّه لم يُرسلْ قط إلى أهل قريةٍ من نذيرٍ إلاَّ قال مُترفوهم مثلَ ما قال مُترفو أهلِ مكَّةَ في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وكادُوا به نحوَ ما كادُوا به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقاسوا أمورَ الآخرةِ الموهومةِ والمفروضةِ عندهم على أمورِ الدُّنيا وزعموا أنَّهم لو لم يَكْرُموا على الله تعالى لمَا رَزَقهم طييِّاتِ الدُّنيا ولولا أنَّ المؤمنينَ هانُوا عليهِ تعالى لمَا حرُمهموها وعلى ذلك الرأيِّ الرَّكيكِ بنَوَا أحكامَهم.
{وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} إمَّا بناءً على انتفاءِ العذابِ الأُخرويِّ رأساً أو على اعتقادِ أنَّه تعالى أكرمَهم في الدُّنيا فلا يُهينهم في الآخرةِ على تقديرِ وقوعِها {قُلْ} رَدَّاً عليهم وحسماً لمادَّةِ طمعِهم الفارغِ وتحقيقاً للحقِّ الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكوين {إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أنْ يبسطَه له {وَيَقْدِرُ} على مَن يشاءُ أنْ يقدرَه عليه من غيرِ أنْ يكونَ لأحدِ الفريقينِ داعٍ إلى ما فُعل به من البسطِ والقَدْرِ فربُّما يُوسِّعُ على العاصِي ويُضيِّقُ على المطيعِ وربَّما يُعكس الأمرُ ورُبَّما يُوسِّع عليهما معاً وقد يُضيَّق عليهما وقد يُوسِّع على شخصٍ تارةً ويُضيِّق عليه أخرى يفعلُ كُلاًّ من ذلك حسبما تقتضيهِ مشيئته المبنيّة على الحِكَمِ البالغةِ فلا يُقاس على ذلك أمرُ الثَّوابِ والعذابِ اللَّذينِ مناطُهما الطَّاعةُ وعدمُها وقرئ: {ويُقدِّر} بالتَّشديدِ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك فيزعمون أنَّ مدارَ البسطِ هو الشَّرفُ والكرامةُ ومدارَ القَدْرِ هو الهوانُ ولا يدرون أنَّ الأوَّلَ كثيراً ما يكونُ بطريقِ الاستدراجِ والثَّاني بطريقِ الابتلاءِ ورفعِ الدَّرجاتِ {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} كلام مستأنفٌ من جهته عزَّ وعلا خُوطب به النَّاسُ بطريقِ التَّلوينِ والالتفاتِ مبالغةً في تحقيقِ الحقِّ وتقريرِ ما سبق أي وما جماعةُ أموالِكم وأولادِكم بالجماعةِ التي تُقربكم عندنا قُربةً فإنَّ الجمعَ المكسَّر عقلاؤُه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث أو بالخصلة التي تقرِّبكم. وقرئ: {بالَّذِي} أيْ بالشِّيءِ الَّذِي {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} استثناءٌ من مفعول تقربكم أي وما الأموالُ والأولادُ تقرِّبُ أحداً إلا المؤمنَ الصَّالحَ الذي أنفقَ أموالَه في سبيلِ الله تعالى وعلَّم أولادَه الخيرَ ورَبَّاهم على الصَّلاح ورشَّحهم للطَّاعةِ وقيل: من أموالِكم وأولادِكم على حذفِ المضافِ أي إلاَّ أموالَ من إلخ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَن والجمعُ باعتبارِ معناها كما أنَّ الإفرادَ في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها، وما فيه من معنى البُعد مع قُرب العهد بالمشارِ إليه للإيذانِ بعلوِّ رتبتِهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي فأولئكَ المنعوتُون بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ {لَهُمْ جَزَاء الضعف} أي ثابتٌ لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لما بعده والجملةَ خبرٌ لأولئك وفيه تأكيدٌ لتكررِ الإسنادِ أو يثبت لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لأولئك وما بعدَهُ مرتفعٌ على الفاعليةِ وإضافة الجزاءِ إلى الضِّعفِ من إضافة المصدرِ إلى المفعولِ أصله فأولئك لهم أنْ يجازوا الضِّعفَ ثم جزاءَ الضِّعفِ ثمَّ جزاءَ الضِّعفِ ومعناه أنَّ تضاعفَ لهم حسناتُهم الواحدةُ عشراً فما فوقَها وقرئ: {جزاءً الضِّعفُ} أي فأولئك لهم الضِّعفُ جزاءً وجزاءٌ الضِّعفَ على أنْ يجازوا الضِّعفَ وجزاءٌ الضِّعفُ بالرفع على أنَّ الضِّعفُ بدلٌ من جزاءٌ {بِمَا عَمِلُواْ} من الصَّالحاتِ {وَهُمْ فِي الغرفات} أي غرفات الجنَّة {ءامِنُونَ} من جميع المكارِه.
وقرئ بفتح الرَّاءِ وسكونِها. وقرئ: {في الغُرفةِ} على إرادةِ الجنسِ.