فصل: تفسير الآية رقم (178):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (178):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}
{يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا} شروعٌ في بيان بعض الأحكامِ الشرعية على وجه التلافي لما فرَط من المُخِلّين بما ذكر من أصول الدين وقواعدِه التي عليها بُنيَ أساسُ المَعاش والمَعاد {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أي فُرض وأُلزم عند مطالبةِ صاحبِ الحق فلا يقدَحُ فيه قدرةُ الوليِّ على العفو، فإن الوجوبَ إنما اعتُبر بالنسبة إلى الحكّام أو القاتلين {القصاص فِي القتلى} أي بسبب قتلِهم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن امرأةً دخلت النارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْها» أي بسبب ربطها إياها {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى} كان في الجاهلية بين حيَّيْنِ من أَحياء العربِ دماءٌ وكان لأحدهما طَوْلٌ على الآخر فأقسموا لنقتُلَنَّ الحرَّ منكم بالعبد والذكرَ بالأنثى فلما جاء الإسلامُ تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. فأمرهم أن يتباوَؤُا وليس فيها دِلالةٌ على عدم قتل الحرِّ بالعبد عند الشافعي أيضاً لأن اعتبارَ المفهومِ حيث لم يظهر للتخصيص بالذكر وجهٌ سوى اختصاصِ الحُكم بالمنطوقِ. وقد رأيتَ الوجهَ هاهنا وإنما يتمسك في ذلك هو ومالكٌ رحمهما الله بما روى عليٌ رضي الله عنه أن رجلاً قتل عبدَه فجلده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونفاه سنةً ولم يُقِدْه، وبما رُوي عنه رضي الله عنه أنه قال: من السنة أن لا يُقتلَ مسلمٌ بذي عهدٍ ولا حرٌّ بعبد، وبأن أبا بكر وعمرَ رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكيرٍ، وبالقياس على الأطراف، وعندنا يُقتل الحرُّ بالعبد لقوله تعالى: {أَنَّ النفس بالنفس} فإن شريعة مَنْ قبلَنا إذا قُصَّتْ علينا من غير دلالة على نسخها فالعملُ بها واجبٌ على أنها شريعةٌ لنا ولأن القصاصَ يعتمدُ المساواةُ في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سِيّانِ فيهما وقرئ {كَتب} على البناء للفاعل ونصْبِ القصاص {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء} أي شيء من العفو لأن عفا لازمٌ وفائدتُه الإشعار بأن بعض العفو بمنزلة كلّه في إسقاط القصاصِ وهو الواقع أيضاً في العادة إذ كثيراً ما يقعُ العفوُ من بعض الأولياءِ فهو شيءٌ من العفو وقيل: معنى عُفي تُرك وشيء مفعولٌ به وهو ضعيف إذ لم يثبُتْ عفاه بمعنى تركه بل أعفاه، وحُمل العفو على المحو كما في قول من قال:
ديارٌ عفاها جَوْرُ كل معاندِ

وقوله:
عفاها كلُّ هتان ** كثيرِ الوبل هَطّالِ

فيكونُ المعنى فمن مُحيَ له من أخيه شيءٌ صرفاً للعبارة المتداولة في الكتاب والسنةِ عن معناها المشهور المعهودِ إلى ما ليس بمعهود فيهما وفي استعمال الناس، فإنهم لا يستعملون العفوَ في باب الجنايات إلا فيما ذكرَ من قبلُ. وعفا يُعدَّى بعن إلى الجاني والذنب قال تعالى: {عَفَا الله عَنْكُمْ} وقال: {عَفَا الله عَنْهَا} فإذا تعدَّى إلى الذنب قيل: عفوْتُ لفلان عما جنى كأنه قيل: فمن عُفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليَّ الدم، وإيرادُه بعنوان الأخوّة الثابتةِ بينهما بحكم كونِهما من بني آدمَ عليه السلام لتحريك سلسلة الرقةِ والعطف عليه {فاتباع بالمعروف} فالأمرُ اتباعٌ أو فليكُنِ اتباعٌ، والمرادُ وصيةُ العافي بالمسامحة ومطالبتُه بالديَة بالمعروف من غير تعسفٍ، وقوله عز وجل: {وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان} حثٌّ للمعفوِّ عنه على أن يؤدِّيَها بإحسانٍ من غير مماطلةٍ ولا بخس {ذلك} أي ما ذكر من الحُكم {تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ} لما فيه من التسهيل والنفعِ وقيل: كُتب على اليهود القصاصُ وحده وحرِّم عليهم العفوُ والدية، وعلى النصارى العفوُ على الإطلاق وحرِّم عليهم القصاصُ والدية، وخُيِّرت هذه الأمةُ بين الثلاث تيسيراً عليهم وتنزيلاً للحُكم على حسَب المنازل {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} بأن قتلَ غيرَ القاتل بعد ورود هذا الحُكم أو قتلَ القاتلَ بعد العفو أو أخذِ الدية {فَلَهُ} باعتدائه {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أما في الدنيا فبالاقتصاص لما قتله بغير حقَ وأما في الآخرة فبالنار.

.تفسير الآيات (179- 180):

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}
{وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} بيانٌ لمحاسِنِ الحُكم المذكور على وجهٍ بديعٍ لا تُنال غايتُه حيث جُعل الشيءُ محلاً لضِدِّه، وعُرِّف القصاص ونُكِّر الحياةُ ليدل على أن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلُغه الوصفُ وذلك لأن العلمَ به يردَعُ القاتلَ عن القتل فيتسبَّب لحياةِ نفسَيْن، ولأنهم كانوا يقتُلون غيرَ القاتل والجماعةَ بالواحد فتثورُ الفتنةُ بينهم، فإذا اقتُصَّ من القاتل سلِم الباقون فيكون ذلك سبباً لحياتهم، وعلى الأول فيه إضمارٌ وعلى الثاني تخصيصٌ وقيل: المرادُ بالحياة هي الأُخروية فإن القاتلَ إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤخَذْ به في الآخرة، والظَّرْفان إما خبرانِ لـ {حياةٌ} أو أحدُهما خبرٌ والآخَرُ صِلةٌ له أو حالٌ من المستكنِّ فيه وقرئ {في القَصَصِ} أي فيما قُصَّ عليكم من حُكم القتل حياةٌ أو في القرآن حياة أو في القرآنِ حياةٌ للقلوب {يأُوْلِي الالباب} أي ذوي العقولِ الخالصةِ عن شَوْب الأوهام، خوطبوا بذلك بعد ما خُوطبوا بعنوان الإيمان تنشيطاً لهم إلى التأمل في حِكمة القصاص {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي تتقون أنفسَكم من المساهلة في أمره والإهمالِ في المحافظة عليه والحُكمِ به والإذعانِ له، أو في القصاص فتكُفّوا عن القتل المؤدِّي إليه {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} بيانٌ لحكمٍ آخَرَ من الأحكام المذكورة {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} أي حضر أسبابُه وظهرَ أماراتُه أو دنا نفسُه من الحضور، وتقديمُ المفعول لإفادة كمال تمكنِ الفاعلِ عند النفسِ وقت ورودِه عليها {إِن تَرَكَ خَيْرًا} أي مالاً وقيل: مالاً كثيراً لما رُوي عن علي رضي الله عنه أن مولىً له أراد أن يوصِيَ وله سبعُمائة درهمٍ فمنعه وقال: قال الله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وإن هذا لشيء يسيرٌ فاترُكْه لعيالك. وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً أراد الوصيةَ وله عيالٌ وأربعُمائة دينارٍ فقالت: ما أرى فيه فضلاً. وأراد آخرُ أن يوصِيَ فسألته كم مالُك؟ فقال: ثلاثةُ آلافِ درهم قالت: كم عيالُك؟ قال: أربعة قالت: إنما قال الله تعالى: إنْ ترك خيراً وإن هذا لشيءٌ يسيرٌ فاترُكْه لعيالك {الوصية للوالدين والاقربين} مرفوعٌ بكُتِبَ، أُخِّر عما بينهما لما مر مراراً، وإيثارُ تذكيرِ الفعلِ مع جواز تأنيثِه أيضاً للفصل أو على تأويل أن يوصِيَ، أو الإيصاءُ، ولذلك ذُكّر الضميرُ في قوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} وإذا ظرفٌ محضٌ والعاملُ فيه كُتب لكن لا من حيث صدورُ الكتْب عنه تعالى بل من حيث تعلُّقُه بهم تعلقاً فِعلياً مستتبِعاً لوجوب الأداءِ كما يُنبىء عنه البناءُ للمفعول وكلمةُ الإيجاب، ولا مساغَ لجعل العامل هو الوصيةُ لتقدّمه عليها، وقيل: هو مبتدأ خبرُه للوالدين، والجملةُ جوابُ الشرط بإضمار الفاءِ كما في قوله:
مَنْ يفعلِ الحسناتِ الله يشكُرُها

ورد بأنه صحّ فمن ضرورةِ الشعر ومعنى كُتب فُرض، وكان هذا الحكمُ في بدء الإسلام ثم نسخ عند نزول آيةِ المواريثِ، بقوله عليه السلام: «إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقَّه ألا لا وصيةَ لوارثٍ» فإنه وإن كان من أخبار الآحادِ لكن حيثُ تلقته الأمةُ بالقَبول انتظم في سلك المتواتِر في صلاحيته للنسخ عند الحنفيةِ على أن التحقيقَ أن الناسخَ حقيقةً هي آيةُ المواريث، وإنما الحديثُ مُبيّنٌ لجهة نسخِها ببيانِ أنه تعالى كان قد كتب عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربين حقوقَهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقِهم ولا تعيين لمقادير أنصبائِهم بل فوض ذلك إلى آرائكم حيث قال: {بالمعروف} أي بالعدْل، فالآن قد رَفَعَ ذلك الحُكمَ عنكم لتبيين طبقاتِ استحقاقِ كلِّ واحدٍ منهم وتعيينِ مقاديرِ حقوقِهم بالذات وأعطى كلَّ ذي حق منهم حقه الذي يستحقه بحكم القرابة من غير نقصٍ ولا زيادة ولم يدَعْ ثمةَ شيئاً فيه مدخلٌ لرأيكم أصلاً حسبما تُعرِب عنه الجملةُ المنفيَّةُ بلا النافية للجنس وتصديرُها بكلمة التنبيه، إذا تحققتَ هذا ظهر لك أن ما قيل مِنْ أن آيةَ المواريثِ لا تعارضُه بل تحقِّقه وتؤكّدُه من حيث إنها تدلُ على تقديمِ الوصيةِ مطلقاً والحديثُ من الآحاد، وتلقّي الأمةِ إياه بالقَبول لا يُلحِقُه بالمتواتر ولعله احترَز عنه مَنْ فسَّر الوصيةَ بما أوصى به الله عز وجل من توريثِ الوالدَيْن والأقرَبين بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله} أو بإيصاءِ المُحتَضَرِ لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم بمعزلٍ من التحقيق وكذا ما قيل من أن الوصيةَ للوارث كانت واجبةً بهذه الآية من غير تعيينٍ لأنصبائهم فلما نزلت آيةُ المواريثِ بياناً للأنصباء بلفظ الإيصاءِ فُهم منها بتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم أن المرادَ منه هذه الوصيةُ التي كانت واجبة، كأنه قيل: إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصيةَ ولم يُفَوِّضْها إليكم فقام الميراثُ مقامَ الوصيةِ فكان هذا معنى النسخِ لا أن فيها دلالةً على رفع ذلك الحُكمِ، فإن مدلولَ آيةِ الوصيةِ حيث كان تفويضاً للأمر إلى آراء المكلَّفين على الإطلاق وتسنّي الخروجِ عن عُهدة التكليف بأداءِ ما أدَّى إليه آراؤُهم بالمعروف، فتكون آيةُ المواريثِ الناطقةِ بمراتب الاستحقاقِ وتفاصيل مقاديرِ الحقوقِ القاطعةِ بامتناعِ الزيادةِ والنقصِ بقوله تعالى: {فَرِيضَةً مّنَ الله} ناسخةً لها رافعةً لحُكمها مما لا يَشتبهُ على أحد، وقولُه تعالى: {حَقّا عَلَى المتقين} مصدرٌ مؤكد أي حَقَّ ذلك حقاً.

.تفسير الآية رقم (181):

{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}
{فَمَن بَدَّلَهُ} أي غيَّره من الأوصياء والشهود {بَعْدِ مَا سَمِعَهُ} أي بعد ما وصل إليه وتحقّق لديه {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} أي إثمُ الإيصاءِ المُغيِّر أو إثمُ التبديل {عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ} لأنهم خانوا وخالفوا حكمَ الشرعِ، ووضعُ الموصولِ في موضع الضميرِ الراجعِ إلى (مَنْ) لتأكيد الإيذان بعِلّية ما في حيز الصلة الأولى، وإيثارُ الجمعِ للإشعار بتعدُّد المبدّلين أنواعاً أو كثرتِهم أفراداً والإيذانِ بشمول الإثمِ لجميع الأفراد {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وعيدٌ شديد للمبدلين.

.تفسير الآيات (182- 184):

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}
{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} أي توقعَ وعلِم من قولهم أخاف أن يُرسِلَ السماءَ وقرئ {من مُوَصَ} {جَنَفًا} أي ميلاً بالخطأ في الوصية {أَوْ إِثْماً} أي تعمداً للجنف {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} أي بين الموصى لهم بإجرائهم على منهاج الشريعةِ الشريفةِ {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي في هذا التبديل لأنه تبديلُ باطلٍ إلى حق بخلاف الأول {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعدٌ للمُصْلِح، وذكرُ المغفرة لمطابقة ذكرِ الإثم وكونِ الفعل من جنس ما يُؤثِم {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} بيان لحكمٍ آخرَ من الأحكام الشرعية وتكريرُ النداء لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ، والصيامُ والصومُ في اللغة الإمساك عما تُنازِعُ إليه النفسُ ومنه قوله تعالى: {إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ} الآية، وقيل: هو الإمساك عن الشيء مطلقاً ومنه صامت الريحُ إذا أمسكت عن الهبوب، والفرسُ إذا أمسكت عن العدْو قال:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة ** تحت العَجاجِ وأُخرى تعلِكُ اللُّجُما

وفي الشريعة هو الإمساكُ نهاراً مع النية عن المفطِرات المعهودة التي هي معظمُ ما تشتهيه الأنفس {كَمَا كُتِبَ} في حيِّز النصبِ على أنه نعتٌ للمصدر المؤكَّد أي كتاباً كائناً كما كُتب أو على أنه حالٌ من المصدر المعْرِفة أي كتب عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبَهاً بما كُتب فما على الوجهين مصدريةٌ أو على أنه نعتٌ لمصدر من لفظ الصيام أي صوماً مماثلاً للصوم المكتوبِ على مَنْ قبلَكم فما موصولةٌ أو على أنه حال من الصيام أي حالَ كونِه مماثلاً لما كتِب {عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأممِ من لدُنْ آدمَ عليه السلام وفيه تأكيدٌ للحكم وترغيبٌ فيه وتطييبٌ لأنفس المخاطبين به فإن الشاقَّ إذا عمّ سهُل عملُه، والمرادُ بالمماثلة إما المماثلةُ في أصل الوجوب، وإما في الوقت والمقدار كما رُوي أن صومَ رمضانَ كان مكتوباً على اليهود والنصارى، أما اليهودُ فقد تركتْه وصامَتْ يوماً من السنة زعَموا أنه يومَ غرِقَ فرعونُ وكذبوا في ذلك فإنه كان يومَ عاشورا، وأما النصارى فإنهم صاموا رمضانَ حتى صادفوا حرّاً شديداً فاجتمعت آراءُ علمائهم على تعيين فصلٍ واحدٍ بين الصيف والشتاء فجعلوه في الربيع وزادوا عليه عشَرةَ أيامِ كفارةً لما صنعوا فصار أربعين ثم مرِضَ ملكُهم أو وقع فيهم موتٌ فزادوا عشرةَ أيامٍ فصار خمسين {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي المعاصيَ فإن الصومَ يكسِرُ الشهوةَ الداعيةَ إليها كما قال عليه الصلاة والسلام: «فعليه بالصومِ فإنَّهُ لَهُ وِجاءٌ» أو تتقون الإخلالَ بأدائه لأصالته أو تصِلون بذلك إلى رتبة التقوى.
{أَيَّامًا معدودات} مؤقتاتٍ بعدد معلومٍ أو قلائلَ فإن القليلَ من المال يُعدّ عداً والكثير يُهال هَيْلاً والمرادُ بها إما رمضانُ أو ما وجب في بدء الإسلام ثم نُسخ به من صوم عاشوراءَ وثلاثةِ أيامٍ من كل شهر، وانتصابُه ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصلِ بينهما بأجنبي، بل بمضمرٍ دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعاً وقيل: بقوله تعالى: {كتاب} على أحد الوجهين وفيه أن الأيامَ ليست محلاً له بل للمكتوب فلا تتحققُ الظرفيةُ ولا المفعولية المتفرِّعةُ عليها اتساعاً {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} أي مرَضاً يضُره الصومُ أو يعسُر معه {أَوْ على سَفَرٍ} مستمرّين عليه، وفيه تلويحٌ ورمزٌ إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يُفطر {فَعِدَّةٌ} أي فعليه صومُ عدةِ أيامِ المرضِ والسفر {مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إن أفطر، فحُذِفَ الشرطُ والمضافُ ثقةً بالظهور، وقرئ بالنصب أي فليصُم عِدةً وهذا على سبيل الرخصة وقيل: على وجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أي وعلى المُطيقين للصيام إن أفطروا {فِدْيَةٌ} أي إعطاءَ فديةٍ وهي {طَعَامُ مساكين} وهو نصفُ صاعٍ من بُرِّ أو صاعٌ من غيره عند أهل العراق، ومُدٌّ عند أهل الحجاز وكان ذلك في بدء الإسلامِ لما أنه قد فُرض عليهم الصومُ وما كانوا متعوِّدين له فاشتد عليهم فرُخِّص لهم في الإفطار والفِدية، وقرئ {يطوقونه} أي يكلَّفونه أو يُقلَّدونه ويتطوَّقونه ويطَّوَقونه بإدغام التاء في الطاء ويَطَّيّقونه ويطوقونه بمعنى يتطيقونه وأصلهما يطَّيْوَقونه ويتطوَّقونه من فيعل وتفيعل من الطوْق فأُدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء كقولهم: تدبّر المكان وما بها ديّار، وفيه وجهان أحدُهما نحوُ معنى يُطيقونه والثاني يكلَّفونه أو يَتَكلفونه على جهدٍ منهم وعُسر وهم الشيوخُ والعجائزُ وحكمُ هؤلاءِ الإفطارُ والفديةُ وهو حينئذ غيرُ منسوخٍ، ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أو يصومونه جهدَهم وطاقتَهم ومبلغَ وسعهم {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} فزاد في الفدية {فَهُوَ} أي التطوُّعُ أو الخيرُ الذي تطوَّعه {خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ} أيها المُطيقون أو المُطوِّقون وتحمِلوا على أنفسكم وتجهَدوا طاقتَكم أو المرَخَّصون في الإفطار من المرضى والمسافرين {خَيْرٌ لَّكُمْ} من الفدية أو من تطوُّعَ الخير أو منهما أو من التأخير إلى أيام أُخَرَ، والالتفاتُ إلى الخطاب للهز والتنشيط {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما في صومِكم مع تحقّق المبيحِ للإفطار من الفضيلة، والجوابُ محذوفٌ ثقةً بظهوره أي اخترتموه أو سارعتم إليه وقيل: معناه إن كنتم من أهلِ العلمِ والتدبُّر علمتم أن الصومَ خيرٌ من ذلك.