فصل: سورة يس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.سورة يس:

مكية. وعنه صلى الله عليه وسلم تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضى له كل حاجة وآياتها ثلاث وثمانون.

.تفسير الآيات (1- 3):

{يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)}
{يس} إمَّا مسرودٌ على نمطِ التَعديدِ فلا حظَّ له من الإعرابِ أو اسمٌ للسُّورةِ كما نصَّ عليه الخليلُ وسيبويةِ وعليه الأكثرُ فمحلُّه الرَّفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أو النَّصبُ على أنَّه مفعولٌ لفعلِ مضمرٍ. وعليهما مدارُ قراءةِ يسن بالرَّفع والنَّصبِ أي هَذه يسن أو اقرأْ يسن. ولا مساغَ للنَّصب بإضمارِ فعلِ القسمِ لأنَّ ما بعدَهُ مُقسمٌ بِه وقد أَبَوا الجمعَ بين قَسَمين على شيءٍ واحدٍ قبل انقضاءِ الأوَّلِ ولا مجالَ للعطفِ لاختلافِهما إعراباً. وقيل هو مجرورٌ بإضمارِ باءِ القسمِ مفتوحٌ لكونِه غيرَ منصرفٍ كما سلف في فاتحةِ سُورة البقرةِ من أنَّ ما كانتْ من هذه الفواتحِ مفردة مثلَ صاد وقاف ونون أو كانت موازنةً لمفردٍ نحوِ طس ويسن وحم الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ يتأتَّى فيها الإعرابُ اللَّفظيُّ ذكَره سبيويِه في بابِ أسماءِ السُّورِ من كتابِه. وقيل: هُما حركتا بناءٍ كما في حيثُ وأينَ حسَبما يشهدُ بذلك قراءةُ يسن بالكسر كجَيْرِ وقيل: الفتحُ والكسرُ تحريكٌ للجِدِّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أنَّ معناه يا إنسانُ في لغةِ طَيءٍ قالُوا المرادُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ولعلَّ أصلَه يا أُنيسين فاقتُصر على شطرِه كما قيل مَنُ الله في أيمَن الله {والقرءان} بالجرِّ على أنَّه مقسمٌ به ابتداءً وقد جُوِّز أنْ يكونَ عطفاً على يسن على تقديرِ كونِه مجروراً بإضمارِ باءِ القسمِ {الحكيم} أي المتضمِّنِ للحكمةِ أو النَّاطقِ بها بطريقِ الاستعارةِ أو المتَّصفِ بها على الإسنادِ المجازيِّ، وقد جُوِّز أنْ يكونَ الأصلُ الحكيمُ قائلُه فحذُف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامَه فبانقلابِه مرفوعاً بعد الجرِّ استكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ كما مرَّ في صدرِ سُورة لُقمانَ {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جوابٌ للقسم. والجملةُ لردِّ إنكار الكَفَرةِ بقولِهم في حقِّه عليه يالصَّلاةُ والسَّلامُ لستَ مُرسَلاً. وهذه الشَّهادةُ منه عزَّ وجلَّ من جملة ما أُشير إليه بقوله تعالى في جوابهم: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وفي تخصيص القُرآن بالإقسامِ به أَوَّلاً بوصفه بالحكيمِ ثانياً تنويهٌ بشأنه وتنبيهٌ على أنه كما يشهدُ برسالته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من حيث نظمُه المعجزُ المُنطوي على بدائعِ الحكم يشهدُ بها من هذه الحيثيَّةِ أيضاً لما أنَّ الإقسامَ بالشَّيءِ استشهاد به على تحقُّقِ مضمون الجملة القسميةِ وتقوية لثبوتِه فيكون شاهداً به ودليلاً عليه قَطْعاً.

.تفسير الآيات (4- 7):

{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)}
وقوله تعالى: {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} خبرٌ آخرُ لأنَّ أو حالٌ من المستكنِّ في الجارِّ والمجرور على أنَّه عبارة عن الشَّريعةِ الشَّريفةِ بكمالها لا عن التَّوحيدِ فقط وفائدتُه بيانُ أنَّ شريعتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أقوى الشَّرائعِ وأعدلُها كما يُعرب عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ والوصفُ إثرَ بيانِ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة المرسلين بالشَّرائعِ.
{تَنزِيلَ العزيز الرحيم} نصب على المدحِ. وقرئ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وبالجرِّ على أنه بدلٌ من القرآن وأيّاً ما كان فهو مصدرٌ بمعنى المفعولِ عبَّر به عن القرآنُ بياناً لكمال عراقتِه في كونه منزَّلاً من عند الله عزَّ وجلَّ كأنَّه نفس التَّنزيلِ وإظهار لفخامتِه الإضافية بعد بيان فخامتِه الذَّاتيَّةِ بوصفه بالحكمة وفي تخصيص الاسمينِ الكريمينِ المُعربينِ عن الغلبةِ التَّامةِ والرَّأفةِ العامَّةِ حثٌّ على الإيمانِ به ترهيباً وترغيباً وإشعارٌ بأنَّ تنزيلَه ناشيءٌ عن غايةِ الرَّحمةِ حسبما نطقَ به قولُه تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} وقيل: النَّصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المضمرِ أي نزل تنزيل العزيزِ الرَّحيمِ على أنَّه استئنافٌ مسوقٌ لبيان ما ذُكر من فخامةِ شأنِ القُرآن وعلى كلِّ تقديرٍ ففيهِ فضلُ تأكيدٍ لمضمونِ الجملة القسميةِ {لّتُنذِرَ} متعلِّقٌ بتنزيل على الوجوهِ الأُولِ وبعامله المضمرِ على الوجهِ الآخيرِ أي لتنذَر به كما في صدرِ الأعرافِ وقيل: هو متعلِّقٌ بما يدلُّ عليه لمن المرسلين أي إنَّك مرسلٌ لتنذرَ {قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} أي لم يُنذْر آباؤُهم الأقربون لتطاولِ مدَّة الفترةِ على أنَّ ما نافيةً فتكون صفةً مبيِّنةً لغاية احتياجهم إلى الإنذارِ أو الذي أنذره أو شيئاً أُنذره آباؤهم الأبعدون على أنَّها موصولةٌ أو موصوفة فيكون مفعولاً ثانياً لتنذرَ أو إنذار آبائِهم الأقدمين على أنَّها مصدريةٌ فيكون نعتاً لمصدرٍ مؤكَّدٍ أي لتنذرَ إنذاراً كائناً مثلَ إنذارِهم {فَهُمْ غافلون} على الوجهِ الأولِ متعلِّق بنفي الإنذارِ مترتِّب عليه والضَّميرُ للفريقينِ أي لم تُنذرْ آباؤهم جميعاً لأجلِه غافلون وعلى الوجوهِ الباقيةِ متعلِّقٌ بقوله تعالى: {لّتُنذِرَ} أو بما يفيده إنَّك لمن المُرسلين واردٌ لتعليل إنذارِه عليه السَّلامُ أو إرساله بغفلتهم المحوجةِ إليهما على أنَّ الضَّميرَ للقوم خاصَّةً فالمعنى فهم غافلُون عنه أي عمَّا أُنذر آباؤهم الأقدمونَ لامتدادِ المُدَّة. واللاَّمُ في قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} جوابُ القسمِ أي والله لقد ثبت وتحقَّقَ عليهم البتةَ لكن لا بطريق الجَبْرِ من غير أنْ يكون من قبلهم ما يقتضيِه بل بسبب إصرارِهم الاختياريِّ على الكُفر والإنكار وعدم تأثُّرهم من التَّذكيرِ والإنذار وغلوِّهم في العُتوِّ والطُّغيانِ وتماديهم في اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ بحيثُ لا يلويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ كيف لا والمرادُ بما حقَّ من القولِ قولُه تعالى لإبليسَ عند قوله لأغوينَّهم أجمعين. {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وهو المَعنيُّ بقوله تعالى: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} كما يُلوحُ به تقديمُ الجِنَّةِ على النَّاسِ فإنَّه كما ترى قد أوقع فيه الحكم بإدخال جهنَّم على مَن تبعَ إبليسَ وذلك تعليلٌ له بتبعيته قطعاً وثبوت القولِ على هؤلاء الذين عبَّر عنهم بأكثرِهم إنَّما هو لكونِهم من جملة أولئك المصرِّين على تبعيَّةِ إبليسَ أبداً وإذ قد تبيَّن أنَّ مناطَ ثبوتِ القول وتحقُّقهِ عليهم إصرارُهم على الكُفرِ إلى الموتِ ظهر أنَّ قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} متفرِّعٌ في الحقيقةِ على ذلك لا على ثُبوت القول.

.تفسير الآيات (8- 11):

{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أعناقهم أغلالا} تقريرٌ لتصميمهم على الكُفرِ وعدم ارعوائِهم عنه بتمثيلِ حالِهم بحال الذين غُلَّتْ أعناقُهم {فَهِىَ إِلَى الاذقان} أي فالأغلالُ منتهيةٌ إلى أذقانِهم فلا تدعُهم يلتفتونَ إلى الحقِّ ولاَ يَعطفونَ أعناقَهم نحوَه ولا يُطأطئونَ رؤوسَهم له {فَهُم مُّقْمَحُونَ} رافعونَ رؤوسَهم غاضُّون أبصارَهم بحيثُ لا يكادُون يَروَن الحقَّ أو ينظرُون إلى جهتِه {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} إمَّا تتَّمةٌ للتَّمثيل وتكميلٌ له أي تكميلٍ أي وجعلنا مع ما ذُكر من أمامهم سَدَّاً عظيماً ومن ورائهم سَدَّاً كذلك فغطَّينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرونَ على إبصارِ شيءٍ ما أصلاً وإمَّا تمثيلٌ مستقلٌّ فإنَّ ما ذُكر من جعلهم محصورينَ بين سَدَّينِ هائلين قد غطَّيا أبصارَهم بحيث لا يُبصرون شيئاً قطعاً كافٍ في الكشف عن كمال فظاعةِ حالِهم وكونِهم محبوسين في مطمورةِ الغيِّ والجهالاتِ محرومين عن النَّظرِ في الأدلَّةِ والآياتِ وقرئ: {سُدَّاً} بالضمِّ وهي لغةٌ فيه، وقيل ما كان من عمل النَّاسِ فهو بالفتحِ وما كان من خلقِ الله فبالضمِّ. وقرئ: {فأعشينَاهم} من العَشَا. وقيل الآيتانِ في بني مخزومٍ وذلك أنَّ أبا جهلٍ حلف لئِن رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي ليرضخنَّ رأسَه فأتاه وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُصلِّي ومعه حجرٌ ليدمغَه فلَّما رفع يدَه انثنتْ يدُه إلى عنقِه ولزق الحجرُ بيده حتَّى فكُّوه عنها بجهدٍ فرجع إلى قومه فأخبرَهم بذلك فقال مخزوميٌّ آخرُ أنا أقتلُه بهذا الحجرِ فذهب فأَعمى الله تعالى بصرَهُ.
{وَسَوَآء عَلَيْهِمْ أَءنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} بيانٌ لشأنِهم بطريق التَّصريحِ إثرَ بيانِه بطريق التَّميلِ أي مستوٍ عندهم إنذارُك إيَّاهم وعدمُه حسبما مرَّ تحقيقُه في سورةِ البقرةِ وقوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ} استئنافٌ مؤكِّدٌ لما قبله مبيِّنٌ لما فيه من إجمالِ ما فيه الاستواءُ أو حالٌ مؤكِّدةٌ له أو بدلٌ منه ولما بُيِّن كونَ الإنذارِ عندهم كعدمِه عقب ببيانِ من يتأثَّر منه فقيل {إِنَّمَا تُنذِرُ} أي إنذاراً مستتبعاً للأثر {مَنِ اتبع الذكر} أي القُرآنَ بالتَّامُّلِ فيه أو الوعظِ ولم يصرَّ على اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ {وَخشِىَ الرحمن بالغيب} أي خافَ عقابَه وهو غائبٌ عنه على أنَّه حالٌ من الفاعلِ أو المفعولِ أو خافَه في سريرتِه ولم يغترَّ برحمتِه فإنَّه منتقمٌ قهَّار كما أنَّه رحيمٌ غَفَّار كما نطق به قولُه تعالى: {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم} {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لا يُقادر قدرُه. والفاء لترتيب البشارةِ أو الأمرِ بها على ما قبلها من اتِّباعِ الذِّكرِ والخشيةِ.

.تفسير الآيات (12- 14):

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)}
{إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى} بيانٌ لشأنٍ عظيمٍ بنطوي على الإنذارِ والتَّبشيرِ انطواءً إجماليَّاً أي نبعثُهم بعد مماتِهم. وعن الحسنِ إحياؤهم إخراجُهم من الشِّركِ إلى الإيمانِ فهو حينئذٍ عدةٌ كريمةٌ بتحقيق المُبشَّر به {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} أي ما أسلفُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ وغيرِها {وَءاثَارَهُمْ} التي أبقوها من الحسناتِ كعلمٍ علمُوه أو كتابٍ ألَّفُوه أو حبيسٍ وقفُوه أو بناءٍ بنوَه من المساجدِ والرِّباطاتِ والقناطرِ وغيرِ ذلك من وجوهِ البرِّ ومن السَّيئاتِ كتأسيسِ قوانينِ الظُّلمِ والعُدوانِ وترتيبِ مبادئ الشَّرِّ والفسادِ فيما بين العبادِ وغيره ذلكَ من فُنون الشُّرور التي أحدثُوها وسنُّوها لمن بعدهم من المُفسدين. وقيل هي آثارُ إلى المشَّائينَ إلى المساجدِ ولعلَّ المرادَ أنَّها من جُملةِ الآثارِ. وقرئ: {ويُكتب} على البناء للمفعولِ ورفعِ آثارَهم.
{وَكُلَّ شىْء} من الأشياءِ كائناً ما كانَ {أحصيناه فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} أصلٍ عظيمِ الشَّأنِ مظهر لجميعِ الأشياءِ ممَّا كان وما سيكونُ وهو اللَّوحُ المحفوظُ. وقرئ: {كلُّ شيءٍ} بالرَّفعِ. {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية} ضربُ المَثَلِ يُستعملُ تارةً في تطبيقِ حالةٍ غريبةٍ بحالةٍ أُخرى مثلِها كما في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} وأخرى في ذكر حالةٍ غريبةٍ وبيانِها للنَّاس من غير قصدٍ إلى تطبيقِها بنظيرةِ لها كما في قوله تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال} على أحدِ الوجهينِ أي بيَّنا لكم أحوالاً بديعةً هي في الغرابةِ كالأمثالِ فالمَعْنى على الأوّلِ اجعلْ أصحابَ القريةِ مثلاً لهؤلاء في الغُلوِّ في الكفرِ والإصرارِ على تكذيبِ الرُّسلِ أي طبِّق حالَهم بحالهم على أنَّ مثلاً مفعولٌ ثانٍ لاضربْ وأصحابَ القريةِ مفعولُه الأوَّلَ أُخِّر عنه ليتَّصل به ما هو شرحُه وبيانُه وعلى الثَّاني اذكُر وبيِّن لهم قصَّةً هي في الغرابةِ كالمَثَل وقوله تعالى أصحابَ القريةِ بدلٌ منه بتقديرِ المضافِ أو بيانٌ له والقريةُ أنطاكيِّةُ {إِذْ جَاءهَا المرسلون} بدلُ اشتمالٍ من أصحابَ القريةِ وهم رُسلُ عيسى عليه السَّلامُ إلى أهلِها ونسبةُ إرسالِهم إليهِ تعالى في قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين} بناء على أنَّه كان بأمره تعالى لتكميلِ التَّمثيلِ وتتميم التَّسليةِ وهما يحيى وبُولس، وقيل غيرُهما {فَكَذَّبُوهُمَا} أي فأتياهم فدعواهم إلى الحقِّ فكذَّبوهما في الرِّسالةِ {فَعَزَّزْنَا} أي قوَّينا يقال عزَّز المطرُ الأرضَ إذا لبَّدها. وقرئ بالتَّخفيفِ من عزَّه إذا غلبَه وقهرَه. وحُذف المفعولُ لدلالة ما قبله عليه ولأنَّ المقصدَ ذكر المعزَّزِ به {بِثَالِثٍ} هو شَمعُون {فَقَالُواْ} أي جميعاً {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} مُؤكِّدين كلامَهم لسبق الإنكارِ لما أنَّ تكذيبَهما تكذيبٌ للثَّالثِ لاتِّحادِ كلمتهم، وذلك أنَّهم كانوا عَبَدَة أصنام فأَرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنينِ فلما قَرُبا من المدينة رأياً شيخاً يَرعى غُنيماتٍ له وهو حبيبٌ النَّجارُ صاحبُ يسن فسألهما فأخبراهُ قال أمعكما آيةٌ فقالا نشفي المريضَ ونُبرىء الأكْمَه والأبرصَ وكان له ولدٌ مريضٌ منذ سنتينِ فمسحاهُ فقام فآمن حبيبٌ وفشا الخبرُ وشُفي على أيديهما خلقٌ وبلغ حديثُهما إلى الملكِ وقال لهما ألنا إلهٌ سوى آلهتِنا قالا نعم من أوجدَك وآلهتَك فقال حتَّى أنظرَ في أمرِكما فتبعهما النَّاسُ، وقيل: ضربُوهما، وقيل: حُبسا.
ثمَّ بعث عيسى عليه السَّلامُ شَمعُون فدخلَ مُتنكِّرا وعاشر حاشيةَ الملك حتَّى استأنُسوا به ورفعوا خبرَه إلى الملكِ فأنسَ به فقالَ له يَوْماً بلغني أنَّك حبستَ رجلينِ فهل سمعتَ ما يقولانِه قال لاَ حال الغضبُ بيني وبينَ ذلكَ فدعاهُما فقال شَمعُون: مَن أرسلكُما قالا الله الذي خَلَق كلَّ شيءٍ وليسَ له شريكٌ فقال: صفاهُ وأَوْجِزا. قالاَ يفعلُ مَا يشاءُ ويحكمُ ما يريدُ قال وما آيتكُما قالا ما يتمنَّى الملكُ فَدَعا بغلامٍ مطمُوسِ العينينِ فدعَوَا الله تعالى حتَّى انشقَّ له بصرٌ فأخذا بُندقتينِ فوضعاهما في حدقتيهِ فصارتا مُقلتينِ ينظرُ بهما فقال له شَمعُون أرأيتَ لَو سألتَ إلهَك حتَّى يصنعَ مثلَ هذا فيكونَ لك وله الشَّرفُ قال ليس لي عنك سرٌّ إن إلهنَا لا يُبصر ولا يسمعُ ولا يضرُّ ولا ينفعُ. وكان شمعُون يدخلُ معهم على الصَّنمِ فيصلِّي ويتضرَّعُ وهم يحسبون أنَّه منهم ثم قال: إنْ قدر إلهُكما على إحياءِ ميِّتٍ آمنَّا به فدعَوا بغلامٍ ماتَ من سبعةِ أيامٍ فقامَ وقال إنِّي أُدخلت في سبعةِ أوديةٍ من النَّارِ وإنِّي أُحذركم ما أنتُم فيه فآمِنُوا وقال فُتحت أبوابُ السَّماء فرأيتُ شَاباً حسنَ الوجهِ يشفعُ لهولاءِ الثَّلاثةِ قال الملكُ من هُم قال شمعُونُ وهذانِ. فتعجَّبَ الملكُ فلمَّا رأى شمعُون أنَّ قولَه قد أثر فيه نصحَه فآمنَ وآمنَ قومٌ ومَن لم يُؤمن صاحَ عليهم جبريلُ عليه السَّلامُ فهلكُوا. هكذا قالُوا، ولكن لا يُساعده سياقُ النَّظمِ الكريمِ حيثُ اقُتصر فيه على حكايةِ تمادِيهم في العنادِ واللَّجاجِ وركوبِهم متنَ المُكابرةِ في الحِجاجِ ولم يُذكرْ فيه ممَّن يؤمن أحدٌ سوى حبيبٍ ولو أنَّ الملكَ وقوماً من حواشيه آمنُوا لكان الظَّاهرُ أنْ يُظاهروا الرُّسلَ ويساعدوهم قُبلوا في ذلك أو قُتلوا كدأب النَّجار الشهيد ولكان لهم فيه ذكرٌ ما بوجه من الوجوه، اللَّهم إلاَّ أن يكونَ إيمانُ الملكِ بطريق الخُفيةِ على خوفٍ من عُتاةِ ملئِه فيعتزلُ عنهم مُعتذراً بعذرٍ من الأعذارِ.

.تفسير الآيات (15- 17):

{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)}
{قَالُواْ} أي أهلُ أنطاكيَّةَ الذينَ لَم يُؤمنوا مُخاطبينَ للثَّلاثةِ {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} مِنْ غَيْرِ مزيةٍ لكُم عَلينا مُوجبةٍ لاختصاصكم بما تدعونَه. ورفعُ بشرٌ لانتقاضِ النَّفيِ المُقتضي لإعمالِ ما بإلاَّ. {وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء} ممَّا تدعُونه من الوحي والرِّسالةِ {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} في دَعْوى رسالتِه {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} اشتشهَدوا بعلمِ الله تعالى وهو يَجْري مجرى القسمِ مع ما فيه من تحذيرِهم معارضةَ علم الله تعالى وزادُوا الَّلامَ المؤكِّدةَ لِما شاهدُوا منُهم من شدَّةِ الإنكارِ {وَمَا عَلَيْنَا} أي من جهةِ ربِّنا {إِلاَّ البلاغ المبين} أي إلاَّ تبليغُ رسالتِه تبليغاً ظَاهِراً بيِّناً بالآياتِ الشَّاهدةِ بالصِّحَّةِ وقد خرجنا عن عُهدته فلا مؤاخذةَ لنا بعد ذلك من جهة ربِّنا أو ما علينا شيءٌ نُطالب به من جهتِكم إلا تبليغُ الرِّسالةِ على الوجهِ المذكورِ وقد فعلناه فأيُّ شيءٍ تطلبون منَّا حتَّى تُصدِّقوُنا بذلك.