فصل: تفسير الآيات (24- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (24- 29):

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)}
{أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ} إلخ استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليقِ لما قبلَه من تباينِ حالَيْ المُهتدي والضَّالَّ. والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ وحذفِ الخبرِ كالذي مرَّ في نظيريهِ. والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فمَن شأنُه أنَّه يقِي نفسَه بوجههِ الذي هو أشرفُ أعضائِه {سُوء العذاب} أي العذابَ السَّيءِ الشَّديدَ {يَوْمُ القيامة} لكون يدهِ التي بها كان يتَّقي المكارَه والمخاوفَ مغلولةً إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتّقاء بوجهٍ من الوجوهِ. وقيل نزلتْ في أبي جهلٍ {وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ} عطفٌ على يتَّقي أي ويقالُ لهم من جهةِ خَزَنةِ النَّارِ. وصيغةُ الماضِي للدِّلالةِ على التَّحقُّقِ والتَّقررِ وقيل: هو حالٌ من ضميرِ يتَّقي بإضمارِ قَدْ، ووضع المُظهر في مقام المُضمرِ للتَّسجيلِ عليهم بالظُّلم والإشعار بعلَّةِ الأمرِ في قوله تعالى: {ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي وبالَ ما كنتُم تكسبونَه في الدُّنيا على الدَّوامِ من الكفرِ والمعاصي. {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أصابَ بعضَ الكفرةِ من العذابِ الدنيويِّ إثرَ بيانِ ما يُصيب الكلَّ من العذابِ الأخرويِّ. أي كذَّب الذين من قبلِهم من الأممِ السَّالفةِ. {فأتاهم العذاب} المقدَّرُ لكلَّ أمَّةٍ منهم {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} من الجهةِ التي لا يحتسبونَ ولا يخطرُ ببالِهم إتيانُ الشَّرِّ منها. {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى} أي الذُّلَّ والصَّغارَ {فِى الحياة الدنيا} كالمسخِ والخسفِ والقتلِ والسَّبي والإجلاءِ ونحوِ ذلك من فنون النَّكالِ. {وَلَعَذَابُ الأخرة} المعدِّ لهم {أَكْبَرَ} لشدَّتِه وسرمدَّيتهِ {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي لو كانَ من شأنِهم أنْ يعلمُوا شيئاً لعلمُوا ذلكَ واعتبرُوا به. {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ} يحتاجُ إليه النَّاظرُ في أمورِ دينِه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} كي يتذكَّروا به ويتعَّظوا. {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} حالٌ مؤكَّدةٌ من هذا على أنَّ مدارَ التَّأكيدِ هو الوصفُ كقولِك جاءني زيدٌ رَجُلاً صالِحاً أو مدحٌ له {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} لا اختلافَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ فهو أبلغُ من المستقيمِ وأخصُّ بالمعانِي. وقيل: المرادُ بالعوجِ الشَّكُّ. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علَّة أُخرى مترتِّبةٌ على الأولى. {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون} إيرادٌ لمثلٍ من الأمثالِ القُرآنيةِ بعد بيانِ أنَّ الحكمةَ في ضربِها هو التَّذكُّر والاتِّعاظُ بها وتحصيلُ التَّقوى. والمرادُ بضربِ المثل هاهنا تطبيقُ حالةٍ عجيبةٍ بأُخرى مثلِها وجعلِها مثلَها كما مرَّ في سُورة بس ومثلاً مفعولٌ ثانٍ لضربَ ورجلاً مفعولُه الأوَّلُ أُخِّر عن الثَّانِي للتَّشويقِ إليه وليتَّصلَ به ما هُو من تتمتِه التي هي العُمدةُ في التَّمثيلِ وفيه ليسَ بصلةٍ لشركاءِ كما قيل بل هُو خبرٌ له وبيانُ أنَّه في الأصلِ كذلكَ مَّما لا حاجةَ إليهِ.
والجملةُ في حيِّزِ النَّصبِ على أنَّه وصفٌ لرجلاً أو الوصفُ هو الجارُّ والمجرورُ وشركاء مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتمادِه على الموصوفِ فالمعنى جعلَ الله تعالى مثلاً للمشركِ حسبَما يقودُ إليهِ مذهبُه من ادَّعاءِ كلَ من معبوديه عبوديتَه عبداً يتشاركُ فيه جماعة يتجاذبونه ويتعاورُونه في مهمَّاتهم المتباينةِ في تحيُّرِه وتوزُّعِ قلبه {وَرَجُلاً} أي وجعل للموحِّد مثلاً رجلاً {سلاما} أي خالصاً {لِرَجُلٍ} فردٍ ليس لغيره عليه سبيل أصلاً. وقرئ: {سَلْماً} و{سِلْماً} بفتح السين وكسرِها مع سكون الَّلامِ. والكُلُّ مصادرٌ من سَلم له كذا أي خلُص نُعتَ به مبالغةً أو حُذف منها ذُو. وقرئ: {سالماً} و{سالم}، أي وهناك رجلٌ سالم. وتخصيصُ الرَّجُلِ لأنَّه أفطن لما يجري عليه من الضُّرِّ والنَّفعِ. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} إنكارٌ واستبعاد لاستوائِهما ونفيٌ له على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وإيذانٌ بأنَّ ذلك من الجلاء والظُّهور بحيث لا يقدرُ أحدٌ أنْ يتفوَّه باستوائِهما أو يتلعثم في الحُكم بتباينهما ضرورةَ أنَّ أحدهما في أعلى عِلِّيِّينَ والآخرُ في أسفلِ سافلينَ. وهو السِّرُّ في إبهام الفاضلِ والمفضولِ وانتصاب مثلاً على التَّمييزِ أي هل يستوي حالاهُما وصفتاهُما. والاقتصارُ في التَّمييزِ على الواحد لبيان الجنسِ. وقرئ: {مَثَلين}. كقوله تعالى: {وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا} للإشعارِ باختلاف النَّوعِ أو لأنَّ المرادَ هل يستويانِ في الوصفين على أنَّ الضَّميرَ للمثلينِ، لأنَّ التَّقديرَ مَثَلُ رجلٍ فيه إلخ ومَثَلُ رجلٍ الخ. وقوله تعالى: {الحمد للَّهِ} تقريرٌ لما قبله من نفيِ الاستواءِ بطريقِ الاعتراضِ وتنبيهٌ للموحِّدين على أنَّ ما لهُم من المزَّيةِ بتوفيقِ الله تعالى وأنَّها نعمةٌ جليلةٌ موجبةٌ عليهم أنْ يداومُوا على حمدِه وعبادتِه أو على أنَّ بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السَّوء صنعٌ جميلٌ ولطفٌ تامٌّ منه عزَّ وجلَّ مستوجبٌ لحمدِه وعبادتِه. وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} إضرابٌ وانتقالٌ من بيان عدمِ الاستواءِ على الوجهِ المذكورِ إلى بيانِ أنَّ أكثرَ النَّاسِ وهو المُشركون لايعلمونَ ذلك مع كمالِ ظُهورِه فيبقون في ورطةِ الشِّركِ والضَّلالِ.

.تفسير الآيات (30- 31):

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}
وقولُه تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} تمهيدٌ لما يعقبُه من الاختصامِ يوم القيامةِ. وقرئ: {مائتٌ} و{مائتونَ}. وقيل: كانُوا يتربَّصون برسولِ الله صلى الله عليه وسلم موتَه أي إنَّكم جميعاً بصددِ الموتِ. {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ} أي مالكِ أمورِكم {تَخْتَصِمُونَ} فتحتجُّ أنتَ عليهم بأنَّك بلَّغتهم ما أُرسلتَ به من الأحكام والمواعظ التي من جُملتها ما في تضاعيف هذه الآياتِ واجتهدتَ في الدَّعوةِ إلى الحقَّ حقَّ الاجتهادِ وهم قد لجُّوا في المُكابرة والعناد. وقيل: المرادُ به الاختصامُ العامُّ الجاري في الدُّنيا بين الأنامِ. والأوَّلُ هو الأظهرُ الأنسبُ بقوله تعالى.

.تفسير الآيات (32- 35):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)}
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} فإنَّه إلى آخرهِ مسوقٌ لبيانِ حال كلَ من طرفَيْ الاختصامِ الجاري في شأن الكفرِ والإيمانِ لا غيرُ. أي أظلمُ من كلِّ ظالمٍ مَنِ افترى على الله سبحانه وتعالى بأنْ أضافَ إليه الشَّريكَ والولد {وَكَذَّبَ بالصدق} أي بالأمرِ الذي هو عينُ الحقِّ ونفسُ الصِّدقِ وهو ما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم. {إِذْ جَاءهُ} أي في أوَّلِ مجيئهِ من غير تدبُّرٍ فيه ولا تأمُّلٍ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} أي لهؤلاءِ الذين افترَوا على الله سبحانه وسارعُوا إلى التَّكذيبِ بالصَّدقِ من أوَّلِ الأمرِ. والجمعُ باعتبار معنى مَن كما أنَّ الإفراد في الضَّمائرِ السَّابقةِ باعتبار لفظها. أو لجنسِ الكَفَرةِ وهم داخلون في الحُكمِ أوَّليَّاً.
33
{والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} الموصولُ عبارةٌ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومَن تبعه كما أنَّ المرادَ في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} هو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقومه، وقيل عن الجنس المُتناول للرُّسلِ والمؤمنين بهم. ويؤيِّدُه قراءةُ ابن مسعودِ رضي الله عنه: «والذين جَاءُوا بالصَّدقِ وصدَّقُوا به» وقيل: هو صفة لموصوفٍ محذوف هو الفَوجُ والفَرِيقُ {أولئك} الموصُوفون لما ذُكر من المجيء بالصَّدقِ والتصديق به {هُمُ المتقون} المنعوتُون بالتَّقوى التي هي أجلُّ الرَّغائبِ. وقرئ: {وصدَق به} بالتَّخفيفِ، أي صدَقَ بهِ النّاسَ فأدَّاه إليهم كما نزلَ من غيرِ تغيير، وقيل: وصارَ صادقاً به أي بسببهِ، لأنَّ ما جاء به من القرآنُ معجزةٌ دالَّةٌ على صدقه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقرئ: {صُدِّق به} على البناء للمفعول.
34
{لَهُمْ مَّا يَشآءُونَ عِندَ رَبّهِمْ} بيانٌ لما لهمُ في الآخرةِ من حسنِ المآبِ بعد بيانِ ما لُهم في الدنيا من محاسنِ الأعمالِ، أي لهم كلُّ ما يشاؤونه من جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ في الآخرةِ لا في الجنَّةِ فقط، لِما أنَّ بعضَ ما يشاؤونه من تكفير السَّيئاتِ والأمن من الفَزَع الأكبرِ وسائرِ أهوال القيامةِ إنَّما يقع قبل دخولِ الجنَّةِ {ذلك} الذي ذُكر من حصول كلِّ ما يشاؤونه {جَزَاء المحسنين} أي الذينَ أحسنُوا أعمالَهم وقد مرَّ تفسيرُ الإحسان غيرَ مرَّةٍ.
وقوله تعالى: {لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ} إلخ متعلِّقٌ بقوله تعالى لهم ما يشاؤون لكن لا باعتبارِ منطوقِه ضرورةَ أنَّ التَّفكيرَ المذكور لا يُتصوَّرُ كونُه غايةً لثبُوتِ ما يشاؤون لهم في الآخرةِ، كيف لا وهو بعضُ ما سيثبُتُ لهم فيها بل باعتبارِ فحواه فإنَّه حيثُ لم يكن إخباراً بما ثبت لهم فيما مَضَى بل بما سيثبت لهم فيا سيأتِي كان في معنى الوعدِ به كما مرَّ في قوله تعالى وَعْد الله فإنه مصدر مؤكَّدٌ لما قبله من قولِه تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} فإنَّه في معنى وَعَدَهم الله غُرفاً فانتصبَ به وعد الله كأنَّه قيل: وَعَدَهم الله جميعَ ما يشاءونه من زوالِ المضارِّ وحصول المسارِّ ليكفِّرَ عنهم بموجب ذلك الوعدِ أسوأَ الذي عملوا دفعاً لمضارِّهم.
{وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إعطاء لمنافِعهم. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ. وإضافةُ الأسوأِ والأحسنِ إلى ما بعدهما ليستْ من قبيل إضافةِ المفضَّلِ إلى المفضَّل عليه بل من إضافةِ الشَّيءِ إلى بعضِه للقصد إلى التَّحقيقِ والتَّوضيحِ من غير اعتبارِ تفضيلِه عليه، وإنَّما المُعتبر فيهما مطلقُ الفضلِ والزَّيادةِ لا على المضاف إليه المعيِّنِ بخصوصه كما في قوله: «النَّاقصُ والأَشَجُّ أعْدَلاَ بني مَرْوانَ» خلا أنَّ الزِّيادة المعتبرةَ فيهما ليست بطريقِ الحقيقةِ بل هي في الأوَّلِ بالنَّظرِ إلى ما يليقُ بحالِهم من استعظامِ سيِّئاتِهم وإن قلَّتْ واستصغارِ حسناتِهم وإنْ جلَّتْ. والثَّاني بالنَّظرِ إلى لُطفِ أكرمِ الأكرمينَ من استكثارِ الحسنةِ اليسيرةِ ومقابلتها بالمثُوباتِ الكثيرةِ وحمل الزيادة على الحقيقةِ وإن أمكنَ في الأوَّلِ بناءً على أنَّ تخصيصَ الأسوأِ بالذَّكرِ لبيان تكفيرِ ما دُونَه بطريقِ الأولويَّةِ ضرورةَ استلزامِ تكفيرِ الأسوأ لتكفير السَّيِّءِ لكن لمَّا لم يكُن ذلك في الأحسنِ كان الأحسنُ نظمَهما في سلكٍ واحدٍ من الاعتبار. والجمعُ بين صيغتَيْ الماضِي والمستقبلِ في صلةِ الموصولِ الثَّاني دون الأوَّلِ للإيذانِ باستمرارهم على الأعمالِ الصَّالحةِ بخلاف السَّيئةِ.

.تفسير الآيات (36- 37):

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}
{أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} إنكارٌ ونفيٌ لعدم كفايته تعالى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأن الكفاية من التَّحقُّقِ والظُّهورِ بحيثُ لا يقدر أحدٌ على أنْ يتفوَّه بعدمِها أو يتلعثم في الجوابِ بوجودِها. والمرادُ بالعبدِ إمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو الجنسُ المنتظمُ له عليه السَّلامُ انتظاماً أوَّلياً. ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ عبادَهُ، وفُسِّر بالأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ. وكذا قراءةُ من قرأ بكافي عبادِه على صيغة المُغالبةِ إمَّا من الكِفايةِ لإفادة المبالغة فيها، وإمَّا من المُكافأةِ بمعنى المُجازاة وهذه تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمَّا قالت له قُريشٌ إنَّا نخاف أنْ تخبلَك آلهتُنا ويصيبَك مضرَّتُها لعيبكِ إيَّاها وفي روايةٍ قالُوا لتكُفَنَّ عن شتمِ آلهتِنا أو ليصيبنَّكَ منهم خَبَلٌ أو جنونٌ كما قال قومُ هودٍ {إنْ نقولُ إلاَّ اعتراك بعضُ آلهتِنا بسوءٍ} وذلك قوله تعالى: {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} أي الأوثانِ التي اتَّخذوها آلهةً من دونه تعالى. والجملةُ استئنافٌ وقيل: حالٌ {وَمَن يُضْلِلِ الله} حتَّى غفل عن كفايتِه تعالى وعصمتِه له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وخوَّفه بما لا ينفعُ ولا يضرُّ أصلاً {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى خيرٍ ما. {وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ} يصرفُه عن مقصدِه أو يُصيبه بسوءٍ يخلُّ بسلوكِه إذ لا رادَّ لفعلِه ولا معارضَ لإرادتِه كما ينطقُ به قوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ} غالبٍ لا يُغالبُ منيعٍ لا يُمانعُ ولا يُنازعُ. {ذِى انتقام} ينتقمُ من أعدائِه لأوليائِه. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتحقيقِ مضمونِ الكلامِ وتربيةِ المهابةِ.

.تفسير الآيات (38- 42):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)}
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} لوضوحِ الدَّليلِ وسنوح السَّبيلِ {قُلْ} تبكيتاً لهُم {أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ} أي بعد ما تحقَّقتُم أنَّ خالق العالم العلويَّ والسُّفليِّ هو الله عزَّ وجلَّ فأخبروني أن آلهتَكم إنْ أرادني الله بضرَ هل يكشفنَ عنِّي ذلك الضُّرِّ {أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ} أي أو أرادني بنفعٍ {هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} فيمنعنها عنِّي. وقرئ: {كاشفاتٌ ضرَّه} و{ممسكاتٌ رحمتَه} بالتَّنوينِ فيهما ونصبِ ضُرِّه ورحمته. وتعليق إرادة الضُّرَّ والرَّحمةِ بنفسه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للردِّ في نحورِهم حيث كانُوا خوّفوه معرَّةَ الأوثانِ ولما فيه من الإيذانِ بإمحاضٍ النَّصيحةِ. {قُلْ حَسْبِىَ الله} أي في جميعِ أموري من إصابةِ الخير ودفعِ الشَّرِّ. رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا سألهم سكتُوا فنزلَ ذلك {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} لا على غيرِه أصلاً لعلمهم بأنَّ كلَّ ما سواه تحت ملكوتِه تعالى: {قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالتِكم التي أنتمُ عليها من العداوة التي تمكَّنتُم فيها فإنَّ المكانة تُستعار من العَين للمعنى كما تُستعار هُنا وحَيثُ للزَّمانِ مع كونِهما للمكانِ. وقرئ: {على مكاناتِكم} {إِنّى عامل} أي على مكانتِي فحذف اللاختصارِ والمبالغةِ في الوعيدِ والاشعارِ بأنَّ حالَه لا تزال تزداد قوَّةً بنصر الله عزَّ وجلَّ وتأييدِه ولذلك توعَّدهم بكونه منصُوراً عليهم في الدَّارينِ بقوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} فإنَّ خِزي أعدائِه دليلُ غلبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقد عذَّبهم الله تعالى وأخزاهم يومَ بدرٍ. {وَيَحِلُّ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي دائمٌ هو عذابُ النَّارِ.
{إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ} لأجلِهم فإنَّه مناطُ مصالحِهم في المعاشِ والمعادِ {بالحق} حال من فاعل أنزلَنا أو من مفعولِه {فَمَنُ اهتدى} بأنْ عملَ بما فيه {فَلِنَفْسِهِ} أي إنَّما نفعَ به نَفسه {وَمَن ضَلَّ} بأنْ لم يعمل بموجبِه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لما أنَّ وبالَ ضلاله مقصورٌ عليها.
{وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} لتُجبرَهم على الهُدى، وما وضيفتُك إلاَّ البلاغُ وقد بلَّغت أيَّ بلاغٍ {الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي يقبضِها من الأبدانِ بأنْ يقطع تعلُّقها عنها وتصرُّفها فيها إمَّا ظاهراً وباطناً كما عند الموتِ أو ظاهراً فقط كما عند النَّومِ {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت} ولا يردُّها إلى البدنِ. وقرئ: {قُضِيَ} على البناءِ للمفعولِ ورفعِ الموتَ. {وَيُرْسِلُ الاخرى} أي النَّائمةَ إلى بدنها عند التَّيقظِ {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الوقتُ المضربُ لموتِه وهو غاية لجنس الإرسال الواقعِ بعد الإمساكِ لا لفردٍ منه فإنَّ ذلك مَّما لا امتدادَ فيه ولا كميَّة.
وما رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ في ابنِ آدمَ نَفساً ورُوحاً بينهما مثلُ مثل الشَّمسِ فالنفسُ هي التي بها العقلُ والتَّمييزُ والرُّوحُ هي التي بها النَّفَسُ والتَّحركُ فتتوفيان عند الموتِ وتُتوفى النَّفسُ وحدَها عند النَّوم قريبٌ مَّما ذُكر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من التَّوفِّي على الوجهينِ والإمساكِ في أحدِهما والإرسالِ في الآخرِ {لاَيَاتٍ} عجيبةً دالَّةً على كمال قُدرته تعالى وحكمته وشمول رحمتِه {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في كيفَّيةِ تعلُّقِها بالإبدان وتوفِّيها عنها تارة بالكُلَّيةِ كما عند الموت وإمساكها باقيةً لا تفنى بفنائِها وما يعتريها من السَّعادةِ والشَّقاوةِ وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النَّومِ وإرسالها حيناً بعد حينٍ إلى انقضاءِ آجالِها.