فصل: تفسير الآيات (52- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (52- 56):

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)}
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} معَ هذه المملكةِ والبسطةِ {مّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ} ضعيفٌ حقيرٌ من المهانةِ، وهي القلةُ. {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} أي الكلامَ قالَه افتراءً عليهِ عليه السَّلامُ تنقيصاً له عليهِ السَّلامُ في أعينِ النَّاسِ باعتبارِ ما كانَ في لسانِه عليهِ السَّلامُ من نوعِ رتةٍ وقد كانتْ ذهبتْ عنْهُ لقولِه تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} وأمْ إمَّا منقطعةٌ والهمزةُ للتقريرِ كأنَّه قالَ إثرَ ما عدَّدَ أسبابَ فضلِه ومبادِي خيريتِه أثبتَ عندكُم واستقرَّ لديكُم أنِّي أنَا خيرٌ وهذه حالِي منْ هَذا إلخ وإمَّا متصلةٌ فالمَعْنى أفلاَ تْبصرونَ أمْ تبصرونَ خلا أنه وضعَ قولُه: {أَنَا خَيْرٌ} موضعَ تبصرونَ لأنَّهم إذا قالُوا له أنتَ خيرٌ فهُو عندَهُ بُصَراءُ، وهذا من بابِ تنزيلِ السبب منزلة المسبب، ويجوز أن يجعل من تنزيل المسبَّب منزلة السبب فإن إبصارِهم لما ذُكرَ من أسبابِ فضله سببٌ على زعمِه لحُكمِهم بخيريتهِ. {فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ} أي فهلاَّ أُلقي إليهِ مقاليدُ الملكِ إنْ كانَ صادقاً، لما أنَّهم كانُوا إذَا سوَّدُوا رجلاً سوَّرُوه وطوَّقُوه بطوقٍ من ذهبٍ. وأَسُوِرةٌ جمعُ سوارِ. وقرئ: {أَساورُ} جمعُ أسورةٍ، وقرئ: {أساورةٌ} جمعُ أسوارٍ بمعنى السِّوارِ على تعويضِ التاءِ من ياءِ {أساويرَ}، وقد قرئ كذلكَ، وقرئ عليه: {أسورةً} و{أساورَ}، على البناءِ للفاعلِ وهُو الله تعالَى: {أَوْ جَاء مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} مقرونينَ يعينونَهُ أو يصدقونَهُ من قرنتُه به فاقترنَ أو متقارنينَ من اقترنَ بمعنى تقارنَ. {فاستخف قَوْمَهُ} فاستفزَّهُم وطلبَ منهُم الخفةَ في مطاوعتِه، أو فاستخفَّ أحلامَهُم. {فَأَطَاعُوهُ} فيما أمرَهُم به {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} فلذلكَ سارعُوا إلى طاعةِ ذلكَ الفاسقِ الغويِّ.
{فَلَمَّا ءاسَفُونَا} أي أغضبونا أشدَّ الغضبِ، منقولٌ منْ أَسِفَ إذا اشتدَّ غضبُه. {انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} في اليمِّ. {فجعلناهم سَلَفاً} قدوةً لمن بعدَهُم من الكُفَّارِ يسلكونَ مسلكَهُم في استيجابِ مثلِ ما حلَّ بهم من العذابِ، وهُو إما مصدرٌ نُعتَ بهِ أو جمعُ سالفٍ كخَدَمٍ جمعُ خادمٍ. وقرئ بضمِّ السينِ واللامِ، على أنَّه جمعُ سليفٍ أي فريقٍ قد سلفَ كرُغُفٍ أو سَالِفٍ كصُبُرٍ أو سَلَفٍ كأسدٍ. وقرئ: {سُلَفاً} بإبدالِ ضمةِ اللامِ فتحةً أو على أنَّه جمعُ سُلْفةٍ أي ثُلَّةٍ قد سلفتْ. {وَمَثَلاً لّلأَخِرِينَ} أي عظةً لهم أو قصةً عجيبةً تسيرُ مسيرَ الأمثالِ لَهُم فيقالُ: مثلُكم مثلُ قومِ فرعونَ.

.تفسير الآيات (57- 58):

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً} أي ضربَهُ ابنُ الزِّبَعْرَى حينَ جادلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قولِه تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} حيثُ قالَ أهذَا لنَا ولآلهتِنا أو لجميعِ الأممِ. فقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: هو لكمُ ولآلهتِكم ولجميعِ الأممِ. فقالَ اللعينُ: خصمتُكَ وربِّ لكعبةِ، أليسَ النَّصارى يعبُدونَ المسيحَ واليهودَ عزيراً وبنوُ مُلَيحٍ الملائكةَ فإنْ كانَ هؤلاءِ في النَّارِ فقد رضينا أن نكونَ نحنُ وآلهتُنا معهُم. ففرِحَ به قومُه وضحِكُوا وارتفعتْ أصواتُهم. وذلكَ قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ} أي منْ ذلكَ المثلِ {يَصِدُّونَ} أي يرتفعُ لهم جلبةٌ وضجيجٌ فرحاً وجذلاً. وقرئ: {يَصُدُّونَ} أيْ من أجلِ ذلكَ المثلِ يُعرضُونَ عنِ الحقِّ أي يثبُتونَ على ما كانُوا عليهِ من الإعراضِ أو يزدادونَ فيهِ، وقيلَ: هو أيضاً من الصديدِ، وهما لغتانِ فيه نحوُ يَعْكُفُ ويَعْكِفُ وهو الأنسبُ بمَعْنى المفاجأةِ. {وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} حكايةٌ لطرفٍ من المثلِ المضروبِ، قالُوه تمهيداً لما بَنَوا عليهِ من الباطلِ المُموَّهِ بَما يغترُّ به السُّفهاءُ، أي ظاهرٌ أنَّ عيسَى خيرٌ من آلهتِنا فحيثُ كانَ هُو في النَّارِ فلا بأسَ بكونِنا مع آلهتِنا فيَها. واعلمُ أنَّ ما نُقلَ عنهم من الفرحِ ورفعِ الأصواتِ لم يكُن لما قيلَ: من أنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سكتَ عندَ ذلكَ إلى أنْ نزلَ قولُه تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} الآيةَ. فإنَّ ذلكَ معَ إيهامِه لما يجبُ تنزيه ساحتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنْهُ من شائبةِ الإفحامِ من أولِ الأمرِ خلافُ الواقعِ كيفَ لاَ وقد رُويَ أن قولَ ابنِ الزَّبعرَى: خصمتُكَ وربُّ الكعبةِ صدرَ عنْهُ من أولِ الأمرِ عند سماعِ الآيةِ الكريمةِ بلغةِ قومِك أما فهمتَ أنَّ مَا لَما لا يعقلُ. وإنَّما لم يخصَّ عليهِ السَّلامُ هذا الحكمَ بآلهتِهم حينَ سألَ الفاجرُ عن الخصوصِ والعمومِ عملاً بما ذُكرَ من اختصاصِ كلمةِ مَا بغيرِ العُقلاءِ لأنَّ إخراجَ بعضِ المعبودينَ عنْهُ عند المحاجَّةِ موهمٌ للرخصةِ في عبادتِه في الجملةِ فعمَّمَهُ عليه السَّلامُ للكلِّ لكنْ لا بطريقِ عبارةِ النصِّ بل بطريقِ الدلالة بجامعِ الاشتراكِ في المعبوديةِ من دونِ الله تعالى، ثمَّ بينَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه بل هُم عبدُوا الشياطينَ التي أمرتْهُم بذلكَ أن الملائكةَ والمسيحَ بمعزلٍ من أنْ يكونُوا معبوديهم كما نطقَ به قولُه تعالى: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} الآيةَ وقد مرَّ تحقيقُ المقامِ عند قولِه تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} الآيةَ. بلْ إنَّما كانَ ما أظهرُوه من الأحوالِ المنكرةِ لمحضِ وقاحتِهم وتهالُكِهم على المكابرةِ والعنادِ كما ينطقُ به قولُه تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ} أي ما ضَربُوا لكَ ذلكَ المثلَ إلا لأجلِ الجدالِ والخصامِ لا لطلبِ الحقِّ حتَّى يذعنُوا له عندَ ظهورِه ببيانكَ.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي لُدٌّ شدادُ الخصومةِ مجبولونَ على المحْكِ واللَّجاجِ. وقيلَ: لمَّا سمعُوا قولَه تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} قالُوا نحنُ أهدَى من النَّصارى لأنَّهم عبدُوا آدمياً ونحنُ نعبدُ الملائكةَ فنزلتْ، فقولُهم: {أَألِهْتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} حينئذٍ تفصيلٌ لآلهتِهم عَلَى عيسَى عليهِ السَّلامُ؛ لأنَّ المرادَ بهم الملائكةُ، ومَعْنى ما ضربُوه إلخ ما قالُوا هذا القولَ إلا للجدلِ، وقيلَ: لمَّا نزلتْ {إِنَّ مَثَلَ عيسى} الآيةَ قالُوا ما يريدُ محمدٌ بهذَا إلا أنْ نعبدَهُ وأنه يستأهلُ أنْ يعبدَ وإنْ كانَ بشراً كما عبدتِ النَّصارى المسيحَ وهو بشرٌ. ومَعْنى يَصِدُّونَ يَضجُّونَ ويضجرونَ. والضميرُ في أمْ هُو لمحمدٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وغرضُهم بالموازنةِ بينَهُ عليهِ السَّلامُ وبين آلهتِهم الاستهزاءُ به، وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ مرادُهم التنصلَ عمَّا أُنكرَ عليهم من قولِهم: الملائكةُ بناتُ الله تعالَى. ومن عبادتِهم لهم كأنَّهم قالُوا ما قُلنا بدعاً من القولِ ولا فعلنَا مُنكراً من الفعلِ فإنَّ النَّصارَى جعلُوا المسيحَ ابنَ الله وعبدُوه فنحنُ أشفُّ منُهم قولاً وفعلاً حيثُ نسبنَا إليهِ الملائكةَ وهُم نسبُوا إليهِ الأنَاسِيّ.

.تفسير الآيات (59- 61):

{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}
فقولُه تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي بالنبوةِ {وجعلناه مَثَلاً لّبَنِى} أي أمراً عجيباً حقيقاً بأن يسيرَ ذكرُه كالأمثالِ السائرةِ. على الوجهِ الأولِ استئنافٌ مسوقٌ لتنزيههِ عليهِ السَّلامُ عن أنْ يُنسبَ إليه ما نُسبَ إلى الأصنامِ بطريقِ الرمزِ كما نطقَ به صريحاً قولُه تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} الآيةَ وفيه تنبيهٌ على بُطلانِ رأي من رفعَهُ عن رُتبةِ العبوديةِ وتعريضٌ بفسادِ رأي مَنْ يَرَى رأيَهم في شأنِ الملائكةِ وعلى الثانِي والرابعِ لبيانِ أنَّه قياسُ باطلٍ بباطلٍ أو بأبطلَ على زعمِهم وما عيسَى إلا عبدٌ كسائر العبيدِ قُصَارى أمرِه أنَّه ممن أنعمَنا عليهم بالنبوةِ وخصصنَاهُ ببعضِ الخواصِّ البديعةِ بأنْ خلقناهُ بوجهٍ بديعٍ وقد خلقَنا آدمَ بوجهٍ أبدعَ منْهُ فأينَ هُو من رُتبةِ الربوبيةِ، ومن أينَ يتوهمُ صحةُ مذهبِ عبدتِه حتَّى يفتخرَ عبدةُ الملائكةِ بكونِهم أهْدَى منهُم أو يعتذرُوا بأنَّ حالَهم أشفُّ أو أخفُّ من حالِهم، وأمَّا على الوجهِ الثَّالثِ فهو لردِّهم وتكذيبِهم في افترائِهم عَلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ أنَّ عيسَى في الحقيقةِ وفيما أُوحيَ إلى الرسولِ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ ليسَ إلاَّ أنُّه عبدٌ منعمٌ عليهِ كما ذُكِرَ فكيفَ يرضى عليهِ السَّلامُ بمعبوديتِه أو كيفَ يُتوهُم الرضَا بمعبوديةِ نفسهِ. وقولُه تعالَى: {وَلَوْ نَشَاء} إلخ لتحقيقِ أنَّ مثلَ عيسَى عليهِ السلامُ ليسَ ببدعٍ من قدرةِ الله وأنَّه تعالَى قادرٌ على أبدعَ منْ ذلكَ وأبرعَ، مع التنبيهِ على سقوطِ الملائكةِ أيضاً من درجةِ المعبوديةِ أي قدرتُنا بحيثُ لو نشاءُ {لَّجَعَلْنَا} أي لخلقَنا بطريقِ التوالدِ {مّنكُمْ} وأنتمُ رجالٌ ليسَ من شأنِكم الولادةُ {مَلَائِكَةٌ} كما خلقناهُم بطريقِ الإبداعِ {فِى الأرض} مستقرينَ فيها كما جعلناهُم مستقرينَ في السماءِ {يَخْلُفُونَ} أي يخلُفونكُم مثلَ أولادِكم فيمَا تأتونَ وما تذرونَ ويُباشرونَ الأفاعيلَ المنوطةَ بمباشرتِكم مع أنَّ شأنَهُم التسبيحُ والتقديسُ في السماءِ فمَنْ شأنُهم بهذه المثابةِ بالنسبةِ إلى القدرةِ الربانيةِ كيفَ يُتوهمُ استحقاقُهم للمعبوديةِ أو انتسابُهم إليهِ تعالَى عن ذلكَ عُلواً كبيراً.
{وَأَنَّهُ} وإنَّ عيسَى {لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ} أي إنَّه بنزولِه شرطٌ من أشراطِها، وتسميتُه عِلماً لحصولِه به أو بحدوثِه بغيرِ أبٍ، أو بإحيائِه المَوْتى دليلٌ على صحةِ البعثِ الذي هو معظمُ ما ينكرهُ الكفرةُ من الأمورِ الواقعة في الساعةِ وقرئ: {لَعَلمٌ} أي علامةٌ وقرئ: {للعِلْم} وقرئ: {لذِكرٌ} على تسميةِ ما يُذكرُ بهِ ذكراً كتسميةَ ما يُعلمُ بهِ علماً. وفي الحديثِ: «إنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ ينزلُ على ثنيةٍ بالأرضِ المقدسةِ يقالُ لها أفيقُ وعليهِ مُمصَّرتانِ وبيدِه حَرْبةٌ وبها يقتلُ الدجَّالَ فيأتِي بيتَ المقدسِ، والنَّاسُ في صلاةِ الصُّبحِ فيتأخرُ الإمامُ فيُقدِّمُهُ عيسَى عليهِ السَّلامُ ويُصلِّي خلفَهُ على شريعةِ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلَّم ثم يقتلُ الخنازيرَ ويكسرُ الصليبَ ويُخرِّبُ البِيعَ والكنائسَ ويقتلُ النَّصارَى إلا منْ آمنَ به». وقيلَ: الضميرُ للقُرآنِ لِما أنَّ فيهِ الإعلامَ بالسَّاعةِ {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكُنَّ في وقوعِها {واتبعون} أيْ واتبعُوا هُدايَ أو شَرْعي أو رَسُولى، وقيلَ: هُو قولُ الرسولِ مأموراً من جهتِه تعالَى {هذا} أي الذي أدعُوكم إليهِ أو القُرآنُ على أنَّ الضميرَ في إنَّه لهُ {صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٌ إلى الحقِّ.

.تفسير الآيات (62- 66):

{وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)}
{وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان} عن اتِّباعِي {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} بيِّنُ العداوةِ حيثُ أخرجَ أباكُم من الجنةِ وعرَّضكُم للبليةِ.
{وَلَمَّا جَاء عيسى بالبينات} أي بالمعجزاتِ أو بآياتِ الإنجيلِ أو بالشرائعِ الواضحاتِ {قَالَ} لبني إسرائيلَ {قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} أى الإنجيل أو الشريعة {وَلأبَيّنَ لَكُم} عطف على مقدر ينبىء عنه المجيء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة لأعلِّمَكُم إيَّاها ولأبين لكم {بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهُو ما يتعلقُ بأمورِ الدِّينِ، وأما ما يتعلقُ بأمورِ الدُّنيا فليسَ بيانُه من وظائفِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ كما قالَ عليهِ السَّلامُ: «أنتمُ أعلمُ بأمورِ دُنياكُم». {فاتقوا الله} في مُخَالفتِي {وَأَطِيعُونِ} فيما أبلِّغُه عنْهُ تعالى {إِنَّ الله هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} بيانٌ لما أمرَهُم بالطاعةِ فيهِ، وهُو اعتقادُ التَّوحيدِ والتَّعبدُ بالشرائعِ {هذا} أي التوحيدُ والتَّعبدُ بالشرائعِ {صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضِلّ سالِكُه وهُو إمَّا من تتمة كلامِه عليه السَّلامُ أو استئنافٌ من جهتِه تعالى مقررٌ لمقالةِ عيسَى عليه السَّلامُ. {فاختلف الأحزاب} الفِرقُ المتحزبةُ {مِن بَيْنِهِمْ} أي مِن بينِ مَنْ بُعثَ إليهم من اليهَّودِ والنصَّارَى. {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ} من المختلفينَ {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هو يومُ القيامةِ. {هَلْ يَنظُرُونَ} أيْ ما ينتظرُ النَّاسُ {إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ} أي إلا إتيانَ الساعةِ. {بَغْتَةً} أيْ فجأةً لكنْ لا عندَ كونِهم مترقبينَ لها بل غافلينَ عنها مشتغلينَ بأمورِ الدُّنيا منكرينَ لها وذلكَ قولُه تعالى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.

.تفسير الآيات (67- 73):

{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)}
{الأخلاء} المتحابُّون في الدُّنيا على الإطلاقِ أو في الأمورِ الدُّنيويةِ {يَوْمَئِذٍ} يومَ إذْ تأتيهُم الساعةُ {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} لانقطاعِ ما بينَهم منْ علائقِ الخُلَّةِ والتَّحابِّ لظهورِ كونِها أسباباً للعذابِ. {إِلاَّ المتقين} فإنَّ خُلَّتَهم في الدُّنيا لمَّا كانتْ في الله تبقَى على حالِها بل تزدادُ بمشاهدةِ كلَ منهُم آثارَ خُلَّتِهم من الثوابِ ورفعِ الدَّرجاتِ، والاستثناءُ على الأولِ متصلٌ وعلى الثَّانِي منقطِعٌ {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} حكايةٌ لما يُنادَى به المتقونَ المتحابونَ في الله يومئذٍ تشريفاً لهم وتطييباً لقلوبِهم. {الذين ءامَنُواْ بئاياتنا} صفةٌ للمُنادَى أو نُصب على المدحِ. {وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} أي مُخلصينَ وجوهَهُم لنَا جاعلينَ أنفسَهُم سالمةً لطاعتِنا، وهو حالٌ من واوِ آمنُوا. عن مقاتلٍ: إذَا بعثَ الله النَّاسَ فزعَ كلُّ أحدٍ فُينادِي منادٍ يا عبادِي فيرفعُ الخلائقُ رؤوسَهُم على الرجاءِ ثم يتبعُها الذينَ آمنُوا الآيةَ فينكِّسُ أهلْ الأديانِ الباطلةِ رؤوسَهُم. {ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم} نساؤُكم المؤمناتُ. {تُحْبَرُونَ} تُسرُّون سروراً يظهرُ حَبارُه أي أثرُه على وجوهِكم، أو تُزينونَ من الحَبَرةِ وهو حُسن الهيئةِ، أو تُكرمونَ إكراماً بليغاً. والحَبْرةُ المبالغةُ فيما وصفَ بجميلٍ. {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} بعدَ دخولِهم الجنَّةَ حسبَما أُمرِوا بهِ. {بصحاف مّن ذَهَبٍ وأكواب} كذلك. والصِّحافُ جمعُ صَحْفةٍ، قيلَ: هيَ كالقصعَةِ، وقيلَ: أعظمُ القِصَاعِ الجفنةُ ثم القصعةُ ثم الصحفةُ ثم المكيلةُ. والأكوابُ جمعُ كوبٍ وهو كوزٌ لا عُروةَ لَهُ. {وَفِيهَا} أي في الجَّنةِ {مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} من فُنونِ الملاذِّ. وقرئ: {ما تَشْتَهي}. {وَتَلَذُّ الأعين} أي تستلذُّه وتقرُّ بمشاهدتِه، وقرئ: {وتلذُّهُ} {وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون} إتمامٌ للنعمةِ وإكمالٌ للسرورِ، فإنَّ كلَّ نعيمٍ له زوالٌ بالآخرةِ مقارن لخوفِه لا محالةَ. والالتفاتُ للتشريفِ.
{وَتِلْكَ الجنة} مبتدأٌ وخبرٌ {التى أُورِثْتُمُوهَا} وقرئ: {وُرِّثتمُوهَا} {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُنيا الأعمالِ الصالحةِ، شبَّه جزاءَ العملِ بالميراثِ لأنَّه يخلُفه العامل عليه، وقيلَ تلكَ الجنةُ مبتدأٌ وصفةٌ والموصولُ مع صلتِه خبرُهُ، وقيلَ: هو صفةُ الجنةُ كالوجهِ الأولِ والخبرُ بما كنتُم تعملُون فتتعلقُ الباءُ بمحذوفٍ لا بأُورثتمُوها كما في الأولَينِ. {لَكُمْ فِيهَا فاكهة كَثِيرَةٌ} بحسبِ الأنواعِ والأصنافِ لا بحسبِ الأفرادِ فقطْ {مّنْهَا تَأْكُلُونَ} أي بعضَها تأكلونَ في كلِّ نوبةٍ، وأمَّا الباقِي فَعَلى الأشجارِ على الدوامِ لا ترى فيها شجرةً خلتْ عن ثمرِهَا لحظةً فهي مزينةٌ بالثمارِ أبداً مُوقَرةٌ بَها. وعنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا ينزعُ رجلٌ من الجنَّةِ من ثمرِها إلا نبتَ مثلاَها مكانَها».

.تفسير الآيات (74- 79):

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)}
{إِنَّ المجرمين} أي الراسخينَ في الإجرامِ وهم الكفارُ حسبَما نبىءُ عنْهُ إيرادُهم في مقابلةِ المؤمنينَ بالآياتِ {فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون} خبرُ إنَّ، أو خالدونَ هُو الخبرُ، وفي متعلقةٌ بهِ. {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخففُ العذابُ عنُهم، من قولِهم فَتَرتْ عنْهُ الحُمَّى إذا سكنِتْ قليلاً، والتركيبُ للضعفِ. {وَهُمْ فِيهِ} أي في العذابِ. وقرئ: {فيَها} أي في النَّارِ {مُّبْلِسُونَ} آيسونَ منَ النَّجاةِ. {وَمَا ظلمناهم} بذلكَ {ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} لتعريضِهم أنفسَهُم للعذابِ الخالدِ. {وَنَادَوْاْ} خازنَ النَّارِ {يا مالك} وقرئ: {يا مَالِ} على التَّرخيمِ بالضمِّ والكسرِ، ولعلَّه رمزٌ إلى ضعفِهم وعجزِهِم عن تأديةِ اللفظِ بتمامِه. {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي لِيُمتنا حتَّى نستريحَ من قضَى عليه إذا أماتَهُ والمعنى سَلْ ربَّك أنْ يقضي علينا، وهَذا لا يُنافِي ما ذُكرَ من إبلاسِهم لأنَّه جؤارٌ وتمنَ للموتِ لفرطِ الشدَّةِ {قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون} أيْ فِي العذابِ أبداً لا خلاصَ لكُم منْهُ بموتٍ ولا بغيرِه، عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُما: أنَّه لا يُجيبُهم إلا بعدَ ألفِ سنةٍ، وقيلَ: بعد مائةٍ، وقيلَ: بعدَ أربعينَ سنةً.
{لَقَدْ جئناكم بالحق} في الدُّنيا بإرسالِ الرُّسلِ وإنزال الكتبِ وهو خِطَابُ توبيخٍ وتقريعٍ من جهةِ الله تعالَى مقررٌ لجوابِ مالكٍ ومبينٌ لسببِ مكثِهم، وقيلَ: في قالَ ضميرُ الله تعالَى: {ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ} أي حقَ كانَ {كارهون} لا يقبلونَهُ وينفرونَ عنْهُ، وأما الحقُّ المعهودُ الذي هو التوحيدُ أو القرآنُ فكلُّهم كارهونَ له مشمئزّونَ منْهُ {أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً} كلامٌ مبتدأٌ ناعٍ على المشركينَ ما فعلُوا من الكيدِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وأمْ منقطعةٌ وما فَيها من مَعنْى بلْ للانتقالِ من توبيخِ أهلِ النَّارِ إلى حكايةِ جنايةِ هؤلاءِ، والهمزةُ للإنكارِ، فإنْ أُريدَ بالإبرامِ الإحكامُ حقيقةً فهيَ لإنكارِ الوقوعِ واستبعادِه، وإنْ أُريدَ الإحكامُ صورةً فهيَ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه أيْ أأبرمَ مشركُو مكَة أمراً من كيدِهم ومكرِهم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم. {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} كيدنَا حقيقةً لا همُ أو فإنَّا مبرمونَ كيدنَا بهم خقيقةً كما أبرمُوا كيدَهُم صورةً كقولِه تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون} وكانُوا يتناجَون في أنديتِهم ويتشاورُون في أمورِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.